الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السياسة السوفيتية والأحزاب الشيوعية العربية/ ج2- لقاء صحفي مع الدكتور خليل عبد العزيز

فرات المحسن

2016 / 10 / 29
مقابلات و حوارات


السياسة السوفيتية والأحزاب الشيوعية العربية/ ج2



أجرى الحوار فرات المحسن



ــ هناك الكثير من المؤشرات حول طريقة تعامل السوفييت و تغيير إستراتيجياتهم في التعامل مع الأحزاب الشيوعية العربية. هل من الممكن الحديث عن هذا؟

تغيير النهج أو طرح رؤية إستراتيجية جديدة للتعامل مع تركيبة تلك الأحزاب ودورها في عمليات التغيير داخل بلدانها، ظهر بشكل تصاعدي بداية سنوات الستينات من القرن العشرين، حين ظهرت بين أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي، وبالذات داخل لجنة العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفيتي التي كان يرأسها وقتذاك الرفيق بوناماريوف، ظهرت أراء جديدة حول العلاقة بالأحزاب الشيوعية في البلدان النامية وهوية العمل من أجل تحقيق الاشتراكية في تلك البلدان.
كان رأي الرفيق بوناماريوف والرفاق المحيطين به حول طبيعة الثورة الاشتراكية وطرق إنضاجها أو القيام بها في البلدان النامية، يحمل الكثير من التشاؤم والتطير، لا بل كان مفرطا باليأس ويستكثر على الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان القدرة على تحريك الجماهير أو قيادتها للقيام بمهام الثورة، وإن التفكير بمثل هذا الأمر يبدو ضربا من الخيال يستحيل تحقيقه. وكانت هناك أيضا معاهد دراسات وقيادات حزبية تؤيده في نهجه هذا، بالرغم من إن أغلب هؤلاء لا يتطرقون للأمر سلبا كان أم إيجابا. ومثل هذا الموقف يأتي ضمن سياق الهيكلة الحزبية والموقف النظري الأيدلوجي الذي اعتاد على تقديم الحزب الشيوعي السوفيتي ككتلة متجانسة متراصة لا يوجد داخلها خلاف أو اختلاف. وفي ذات الوقت، فالموقف الرسمي كان دائما يحمل بين طياته ازدواجية في المعايير، فيحرص في خطابه السياسي، وضمن سياسة مواجهة الخصوم ،على تغيير تركيبة هذا الخطاب بتقديم صورة أخرى تظهر الأحزاب السياسية في البلدان النامية على إنها أحزاب ثورية قادرة على إجراء التغيير الاشتراكي في بلدانها عن طريق الثورة، وكان هذا الموقف الرسمي الذي يعرض أمام الرأي العام وتختفي دونه باقي المواقف.
بعد فترة من الزمن وضمن حملة ممنهجة، ظهر رأي بوناماريوف إلى العلن، وبدأ الترويج له داخل أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي. وأخذت حملة التنظير تتسع بعرض الفكرة القائلة عن إمكانية تحقيق الاشتراكية عبر النضال السلمي والطريق اللارأسمالي، والتخلي عن التفكير بركوب موجة الثورات وضرورة قيادة الأحزاب الشيوعية لعملية تغيير أنظمة الحكم .وأخذت تطفو إلى السطح وبشكل واسع فكرة الضغط على الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية للأخذ بهذا التوجه دون سواه،رغم وجود آراء مخالفة لذلك عند العديد من السياسيين والباحثين السوفييت.***وعبر موجة من التنظير داخل الأوساط القيادية السوفيتية، طرحت فكرة التعامل الايجابي مع السلطات الحاكمة وأحزابها، التي تتبنى فكرا اشتراكيا مهما كانت طبيعته،وتستند على بعض قوى الجماهير،والأهم في الآمر أن تكون في مسيرتها بعيدة عن آليات وهياكل الاقتصاد الرأسمالي.

ــ وكيف نفذت مفاهيم ورؤى الرفيق بوناماريوف ؟


كان حقل التجارب الأول في مصر بقيادة جمال عبد الناصر. فقد كانت هناك داخل القيادة السوفيتية رؤية خاصة ايجابية عن شخصية الرئيس عبد الناصر، ولقيت خطواته التي اتخذها في طريق بناء مصر واستقلالها تقيما إيجابيا، وبالذات حين رفع شعار الطريق نحو الاشتراكية العربية والتزامه بالنهج الثوري لتحقيق ذلك. وهذا ما أغرى البعض في القيادة السوفيتية، بالرغم من كون خطوات عبد الناصر في تطبيقه للاشتراكية كانت غامضة لا بل متقلبة بين العروبة والإسلام والطوباوية، وكانت لا تعدو سوى خطوات لا ترقى حتى للمربع ألأول في طريق بناء الاشتراكية. وكان واضحا بأن ليس هناك في وارد تفكير عبد الناصر السير في خط بناء الاشتراكية العلمية على أسس النظرية الماركسية، ولكن لم يكن هذا ليثني البعض في القيادة السوفيتية، ومثلهم في بعض معاهد الدراسات والصحف، التي راحت بجهود استثنائية تكيل المديح وتشيد بسلطة عبد الناصر واعتبرت اتخاذه قرار السير نحو الاشتراكية بداية جيدة ممكن أن تفضي في النهاية لبناء الاشتراكية العلمية، وكان من أكثر المتحمسين لهذا الرأي الرفيق بوناماريوف ويشاطره في هذا السيد يفغيني بريماكوف والسيد أيكربلاييف، وهؤلاء كانوا مقتنعين بشكل ناجز بأن مصر تحت قيادة عبد الناصر تسير في الاتجاه الصحيح، وليس المهم التسميات إن كانت اشتراكية إسلامية أم عربية وإنما المهم هو الابتعاد عن سياسة السوق الرأسمالية وبناء الاشتراكية المفضي إلى ما تعتقد به القيادة السوفيتية .

في ذلك الوقت وجهت إلى جمال عبد الناصر نصائح عديدة لتشكيل حزب يقود مرحلة البناء الاشتراكي إن رغب فعلا في اتخاذ هذا الطريق،وجاءت هذه النصائح من بعض القيادات المصرية ومن الخارج أيضا، وكذلك من شخصيات سوفيتية مرموقة، وكانت جميعها تشير إلى إن التوجه لبناء الاشتراكية لا يمكن له أن يتم فقط بالاعتماد على أجهزة الأمن والجيش، وبدوره فقد أقتنع جمال عبد الناصر بالفكرة وأعلن عن تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي . ففي شهر تموز من عام 1962 عقدت اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية في مصر مؤتمرها، وفي هذا المؤتمر أكد جمال عبد الناصر التزامه بالخط الثوري ومسيرة الاشتراكية العربية، وأعلن عن تأسيس الاتحاد الاشتراكي العربي، فصدر عنه قرار تشكيل الأمانة العامة للاتحاد،وكان جل أعضائها من القيادات العسكرية التي شاركت عبد الناصر الإطاحة بالملكية. ونص دستور الاتحاد الاشتراكي على كونه تنظيم سياسي طليعي يمثل رأس الرمح في التحول نحو الاشتراكية، وهو الذي يقود الجماهير ويعبر عن إرادتها ويوجه سياسة الدولة والعمل الوطني.

ــ وما كان موقف الحزب الشيوعي المصري من كل هذا، وما كانت طبيعة علاقته بعبد الناصر ؟

ما كان جمال عبد الناصر ليعطي اهتماما أو أية قيمة معنوية للحزب الشيوعي المصري ويهمل وجودهم إهمالا كبيرا ومتعمدا.وحين طرح مشروع الاتحاد الاشتراكي أراد من الشيوعيين أن يتوافقوا كليا مع رأي وتوجهات السوفييت في البناء السلمي للاشتراكية، ولذا عليهم أن يدخلوا طوعيا ومن ثم الذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي. فقد كان جمال عبد الناصر يحذر حذرا شديدا من وجود الحزب الشيوعي وكذلك من تنظيم الأخوان المسلمين، ويجد في هذين التنظيمين ما يهدد جمهوريته ووجوده الشخصي، وكان ذلك أحد أهم الحوافز التي دفعته لقبول فكرة بناء تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي، ليكون هذا التنظيم في النهاية الإطار الذي يضم بين أروقته جميع المصريين بعد أن يتخلوا عن انتماءاتهم الأخرى. وبدورهم كان الشيوعيون المصريون لا يميلون لرأي القيادة السوفيتية ويترددون في تأييد جمال عبد الناصر، لا بل إن أغلب قواعد الحزب الشيوعي المصري والكثير من قيادته، يعتقدون بأن حكم عبد الناصر كان حكما عسكريا دكتاتوريا، ودليلهم على ذلك تفرده بالقرار وتضيقه المستمر على حزبهم وحملات الاعتقال المستمرة لأعضائهم من قبل أجهزة سلطته.

ــ كيف تمت موافقة الحزب الشيوعي المصري الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي؟

وجهت للحزب الشيوعي المصري ضغوط كبيرة من جهات عديدة على رأسها الرفاق السوفييت للدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي تحت قيادة جمال عبد الناصر، وبحجة أن يكون هذا الدخول مقدمة للعمل على تسريع وتيرة التغييرات والتصعيد من أجل بناء خطوات اشتراكية صحيحة. فبعد فترة صعبة واجهت الشيوعيين المصريين، قررت قيادتهم الدخول في الاتحاد الاشتراكي، ولكن طموح ورغبة جمال عبد الناصر ومعه القيادة السوفيتية كان ابعد من ذلك، ولم يتوقف عند هذا الحد بل ذهب بعيدا، حين وجهت ضغوط هائلة على الشيوعيين المصريين لإقناعهم بضرورة حل حزبهم ككيان قائم، وإن لا حاجة لوجوده بعد أن ثبت دخوله الطوعي ووجوده كفصيل داخل الاتحاد الاشتراكي العربي.
لاقى الضغط السوفيتي بادئ الآمر صعوبة كبيرة في أقناع الشيوعيين المصرين بحل حزبهم . فقد كانت أعداد ليست بالقليلة من قواعد وكوادر الحزب تقف بالضد من مثل هذا التوجه . وبدوره كان موقف القيادة السوفيتية يزداد تعنتا وإلحاحا،وكان موقفها ذلك يأتي بناءا على ما يقدم لها من تقارير وتحقيقات صحفية عن أوضاع مصر وقواها السياسية، كانت تأتيها عبر تقارير يقدمها مراسلو صحيفتي أزفستيا وبرافدا في مصر وهما السيدان يفغيني بريماكوف وبيلاييف. لذا لم يستطع الحزب الشيوعي المصري الاستمرار في العنت والممانعة، وفي نهاية المطاف فرض عليه حل نفسه والذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد الناصر. وقد حدثني عن ذلك الرفيق ميشيل كامل الذي كان قياديا في الحزب الشيوعي المصري في مرحلة حله، ثم أصبح سكرتيرا للحزب الشيوعي المصري بعد إعادة تشكيله اثر موت جمال عبد الناصر وحل الاتحاد الاشتراكي العربي على عهد الرئيس أنور السادات. وقد عمل السيد ميشيل كامل أثناء الانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي العربي في إحدى اللجان كداعية للاشتراكية وعين مديرا لتحرير مجلة الطليعة وبدوره فأن سكرتير الحزب الشيوعي وقتذاك السيد ابو سيف يوسف قد أعطي أيضا عملا في مؤسسة الأهرام الإعلامية كترضية له.

ــ وهل عمم هذا النهج على بلدان أخرى ؟

تبني هذا النهج كان يدفع بعض القادة السوفييت للاعتقاد بأن مثل هذا الاتجاه ممكن له أن يتطور وينجح مستقبلا لتحقيق الاشتراكية العلمية. لذا بذلت القيادة جهود كبيرة في تطوير هذه الرؤية وذهبت بعيدا لتنفيذها في العديد من البلدان، منها غانا بقيادة كوامي نكروما وغينيا بقيادة أحمد سيكوتوري وأثيوبيا بقيادة منغستو هيلي ميريام والصومال على عهد محمد زياد بري.ففي تلك البلدان أنشأت حكوماتها بمساعدة الحزب الشيوعي السوفيتي مدارس حزبية لأعداد كوادر وطنية وفق النظرية الماركسية اللينينية وكانت تقدم لهذه المدارس مساعدات كبيرة لغرض تطوير الدارسين فيها وبناء قاعدة واسعة منهم تقود بلدانها مستقبلا نحو الشيوعية.
من الطرائف التي أتذكرها والتي تدل على عقم ذلك التفكير وعدم حكمة النهج الذي تتخذه القيادة السوفيتية. ففي عام 1976 كنت في زيارة إلى أثيوبيا، وفي إحدى جولاتي في العاصمة أديس أبابا وصلت إلى الساحة الرئيسية فيها حيث وضع هناك تمثالين ضخمين أحدهم لكارل ماركس والأخر للينين. وقفت جوار التمثالين ورحت أطالعهما، ثم أردت بشيء من الفضول اختبار بعض أبناء الشعب الأثيوبي حول علاقتهم بهذين التمثالين، ومقدار معرفتهم بالشخصين، فسألت فتاة كانت تمر بقربي عن معرفتها بشخصية لينين أو ماركس من بين هذين التمثالين، فحارت الفتاة الجواب ثم اعتذرت عن عدم قدرتها التمييز بينهما، ثم سألت رجل مر من هناك فحار بالجواب أيضا وأعتذر. ثم جاء رجل كان يرتدي بذلة طيار ويحمل حقيبة وبعض كتب، فطلبت منه ذات الآمر فأجاب بشكل صحيح، فسألته كيف تسنى له معرفة ذلك، فأجابني بأنه تعلمه في المدرسة الحزبية وهو الآن في طريقه أليها.

ــ تطرقت إلى تجربتين الأولى تمثلت بإجبار الحزب الشيوعي المصري على الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد الناصر والأخرى بناء أحزاب أو كوادر وفق مناهج الماركسية اللينينية في بعض البلدان الأفريقية، ما هي طبيعة التجربة المتعلقة بالعراق والتي حاولت فيها القيادة السوفيتية تطبيق نهج الاحتواء مرة أخرى؟

نهاية عام 1963 أطيح بحكم حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق من قبل حليفهم في انقلاب شباط عام 1963 الرئيس عبد السلام محمد عارف، في حركة انقلابية سميت حركة 18 تشرين الثاني عام 1963ايضا. كانت ميول عبد السلام عارف عروبية إسلامية وكان صديقا مقربا من عبد الناصر حسب إدعائه. وسبق له أن زار القاهرة ووقع مع جمال عبد الناصر والرئيس السوري اتفاق الوحدة الثلاثية بين هذه البلدان في شهر ابريل من عام 1963 الذي احتوى كمشروع وحدوي على عدة مجالات فصلت فيها غاية الاتحاد وتوجهاته السياسية والاقتصادية ومقوماته وتشكيلاته الإدارية.وإثر ذلك الاتفاق وحد شكل العلم للبلدان الثلاثة ووضعت ثلاث نجوم تتوسط ألوانه الخضراء والبيضاء والحمراء. ولكن هذا الاتحاد لم يستمر بل لم تنفذ من بنوده غير ادعاءات عروبية فارغة، وقضي عليه بعد ثلاثة أشهر من التوقيع.
بعد الإطاحة بحكم حزب البعث في العراق قام عبد السلام بزيارة القاهرة في نفس الوقت الذي استقبلت فيه القاهرة السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي السيد نيكيتا خروشوف ، استطاع عبد الناصر أن يجمعهما على متن أحدى البواخر المصرية.
لذا تمت هناك مقابلة للرئيسين ودار فيها حديث غير ودي وشاب اللقاء بعض التوتر. وحول هذا اللقاء ذكرت صحيفة أركَومنت أي فاكت الروسية في عددها المرقم 41 الصادر عام 1997 وضمن مقال للكاتب الكسندر موروزوف ما حدث في ذلك اللقاء ومن ثم بعده. يقول الكاتب إن من بين المدعوين بمناسبة انتهاء المرحلة الأولى من بناء السد العالي الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف والرئيس العراقي عبد السلام عارف والرئيس اليماني عبد الله السلال. أراد الرئيس عبد الناصر أن يجعل لقاء الرئيس السوفيتي خوشوف وعبد السلام تقاربا يزيل الكره والجفوة بينهما ولكن جهوده باءت بالفشل. فالسيد نيكيتا خروشوف لم يكن يحمل غير الكره لشخصية عبد السلام، ويتهمه بأنه رجل سخيف نزق، لا بل قاتل ويداه ملطختان بدماء أبناء الشعب العراقي وبالذات الشيوعيين منهم.ولعبت المصادفة دورها فجلس الرئيس العراقي عبد السلام عارف جوار السيد أوليغ كفتونوفيش المترجم الخاص للزعيم السوفيتي السيد خروشوف. ابلغ الرئيس عبد السلام المترجم رغبته في الحديث إلى الزعيم السوفيتي، فتجاهل المترجم تلك الرغبة ولكن الزعيم السوفيتي أنتبه لذلك الحديث، وقال فجأة للمترجم، أليس هذا هو عارف الذي قتل الكثير من الشيوعيين في العراق؟.فأجابه المترجم أنه هو بعينه عندها قال خروشوف: إذن أبلغه بأني لست مستعدا للحديث معه فحسب، بل لو وجدت دورة مياه واحدة فسوف لن تجدني أدخلها إن كان عارف قد دخلها قبلي. قال هذا وراح يتفرس بشماتة وفضول في وجه عبد السلام عارف ليرى أثر ما قاله هذا منتظرا ردة فعله.كان ذلك بالنسبة للمترجم موقفا في غاية الإحراج، فلم تكن لديه الجرأة لنقل مثل هذا الحديث المهين لرئيس دولة أخرى، وفي النهاية قرر أن لا يفعل ذلك، وأن يغير الحديث بعبارات من عنده رسمت معها علامات ارتياح ورضا على وجه الرئيس العراقي، عند ذلك أدرك الزعيم السوفيتي خروشوف إن شيئا قد حصل وتغير خلاف كلامه فتوجه بالحديث إلى مترجمه متسائلا: هل نقلت كلامي بالنص؟ فأجابه المترجم ، لقد أبلغته بأنك مشغول ولا وقت لديك للحديث معه الآن.عند ذلك عصف الغضب بالزعيم السوفيتي وطرد مترجمه فورا.
ذات الحادثة تناولها الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه المطبوع باللغة الانكليزية ( ناصر وثائق القاهرة ) ذكر فيه أن خروشوف لم يتوقف عند ذلك الحد بل ألتفت إلى جمال عبد الناصر وهم في السيارة قائلا : ياصديقي الرئيس إلى متى ستحاول فرض هذه المعزة عليّ ؟ فسأله ناصر، أي معزة تقصد؟ أجابه خروشوف بصوت مرتفع : عارف ..عارف ..عارف ثم تناول صحيفة كانت فيها صورة عبد السلام عارف وقال .ألا يبدو شبيها بالمعزة ؟
كذلك رفض الرئيس السوفيتي الدعوة التي وجهت له من قبل عبد السلام لزيارة العراق بحدة وصلف فلاحي وقيل أنه وجه أهانه صريحة للرئيس عبد السلام عارف .
فالرئيس خروشوف كان يغلب على تصرفاته طابع الرجل الريفي، فهو فلاح بطبيعته ودائما ما كان سلوكه ينم عن هذا الطبع، وفي كثير من الأحيان لا يلتزم بالسلوك والأعراف الدبلوماسية .ففي بعض الاحتفالات والاجتماعات الرسمية والجماهيرية ، كانت من أعراف العمل السياسي السوفيتي أن يعد مسبقا خطاب مكتوب، وعلى الشخص مهما كانت درجته القيادية في الدولة، أن يقرأ النص المكتوب ، ولا يسمح له مطلقا الارتجال في تلك المناسبات. ولكن خروشوف دائما ما كان يشذ عن تلك القاعدة. فهو وبعد أن ينظر إلى المزاج العام في القاعة، تراه يقول وهو يرفع الورقة، هذا هو ما مدون هنا، وأنا سوف أتحدث لكم أيضا دونه.
في أحدى خطبه أشار إلى بناء الاشتراكية في الصين، حيث وجه سؤلا إلى الحضور( هل رأيتم شعبا لديهم جميعا لباس داخلي مشترك ) ضجت القاعة بالضحك واستمر هو بالإجابة على سؤاله( نعم، في الصين لديهم لباس داخلي واحد يداولونه بينهم ) ثم عاد إلى ورقة الخطاب الرسمي ليقرأها .وفي إحدى المرات وجه له سؤال عن فعلته في الأمم المتحدة حين خلع حذائه وراح يطرق به الطاولة، فأجاب بأنه فعل ذلك كون الجميع كانوا نياما، وقد قمت بإيقاظهم. وقد غرم الاتحاد السوفيتي وقتها بعشرة آلاف دولار باعتبار إن خروشوف قد أنتهك حرمة الأمم المتحدة.

ــ ولكن فيما بعد ظهر لدى القيادة السوفيتية ميل نحو عبد السلام عارف. كيف حدث ذلك؟

حين طرح عبد السلام عارف فكرة تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تقليدا لخطوة جمال عبد الناصر، شعرت القيادة السوفيتية بالكثير من الارتياح وكأنها وجدت في ذلك ما يشفع لها للذهاب بعيدا نحو خيار الطريق اللارأسمالي في بناء الاشتراكية، وعدت القيادة السوفيتية خطوة عبد السلام توجه سليم ومكسب كبير، ورموا بعيدا ما كان يمثله عبد السلام عارف من طبيعة دموية بعد مشاركته في قتل الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه وكذلك إيغاله ومشاركته في اغتيال قادة وأعضاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي في انقلاب شباط عام 1963 .وكان رأي مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية السيد بنماريوف قد لعب الدور الفاعل في رمي ذلك الانطباع عن عبد السلام بعيدا.
ورغم ظهور المشاكل العديدة في تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر وفشل الشيوعيين المصرين في اخذ زمام المبادرة، وترسخت دكتاتورية جمال عبد الناصر واستشراءها فإن القيادة السوفيتية كانت تلح بشكل غريب لأجل تكرار التجربة في العراق.
مع تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تصاعدت آمال السوفييت بالقدرة على إعادة تجربة ما حدث في مصر وتكرارها مع الحزب الشيوعي العراقي، لذا أخذوا بالضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي للتهيؤ بما يتناسب والاستعداد للدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي الذي أسس حديثا. وكانت حجج الجانب السوفيتي تركز على طبيعة الحزب الشيوعي وأعداده الغفيرة التي لو قيض لها الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي فأنها سوف تصبح القوة الرئيسية فيه، وعندها يمكن لها أخذ زمام المبادرة وتحويل مسيرة الاتحاد نحو الوجهة الصحيحة في السير قدما نحو بناء الاشتراكية. عملت قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي على توجيه ضغط هائل بدأته بين أوساط قيادة الحزب الشيوعي العراقي وكوادره وأعضاءه الموجودين في عموم الاتحاد السوفيتي، ومنهم حسب ما اذكر الرفيق عزيز محمد والرفيق سلام الناصري وغيرهم. وتوجهت حملة ممنهجة وواسعة عبر وسائل عديدة حزبية وإعلامية لدغدغة مشاعر الشيوعيين العراقيين ودفعهم للقبول بالدخول إلى الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد السلام عارف. وكانت هذه اللهجة ومثلها الضغوطات تعرض وتمارس في جميع اللقاءات والحوارات التي تتم بين الجانبين، وتوجهت في أساليبها نحو قيادات وكوادر الحزب الشيوعي العراقي في الداخل وكذلك مع الموجودين في أوربا وبالذات في براغ.
في هذا الأمر وتلك المرحلة، فإن التاريخ يسجل للحزب الشيوعي العراقي كقيادة وقواعد موقفا قويا وذكيا في القدرة على المراوغة وعدم الأخذ بالرأي غير الحكيم للأخ الأكبر . فموضوعة الانتماء إلى الاتحاد الاشتراكي لم يتم النظر لها داخل قيادة الحزب كقضية يمكن تداولها على نطاق واسع داخل التنظيمات، ولم تعط توجيهات حزبية للنقاش في موضوعها، ولذا لم يصدر عن اللجنة المركزية أي قرار لا بالموافقة على الدخول ولا بحل الحزب وفي ذات الوقت امتنع الحزب عن إصدار ما يفند الرغبة بذلك، ولم يكن هناك شيئا مكتوبا أو مدونا عن مجمل الموقف من رغبة الحزب الشيوعي السوفيتي ومحاولاته المستميتة لدفع الحزب الشيوعي العراقي للدخول في تنظيمات الاتحاد الاشتراكي العربي. ولا ينكر فإن بعض التوجيهات الشخصية صدرت من بعض الكوادر دعت للدخول إلى الاتحاد الاشتراكي ومن ضمن هؤلاء السيد باقر إبراهيم عضو الكتب السياسي واللجنة المركزية حينذاك، ولكن تلك الدعوات واجهت انتقادات حادة وهجمة شرسة من داخل الحزب أفشلتها وقضت على رغبة القيادة السوفيتية .كان موقف الحزب الشيوعي العراقي موقفا ثابتا ومبدئيا، فرغم عظمة الاتحاد السوفيتي ومكانة الحزب الشيوعي فيه، وقوة الضغط الهائلة التي مورست على الحزب الشيوعي العراقي، ولكنهم لم يستطيعوا تغيير موقف الشيوعيين العراقيين في أحد أهم المفاصل التاريخية في حياته كحزب شيوعي .وتلك كانت نقطة هامة وفعالة أثبتت صحة موقف قيادة الحزب وخياره في طريق إدارة شؤونه التنظيمية والعقائدية وبقائه ككيان مؤسساتي له ثقله الفعلي داخل الوطن العراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لاهتمام الرفيق فرات المحسن
محمود سلطان ( 2016 / 10 / 29 - 20:26 )
لينين حدد العمل الشيوعي بالنضال الطبقي في الدول الرأسمالية وبالعمل الوطني الذي تقوده البورجوازية الوطنية في الدول الستعمرة والتابعة
إنتقال الدول المستقلة حديثاً إلى الاشتراكية مرتبط إرتباطاً وثيقاً بتطور الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي
الاشتراكية بدأت بالتراجع في الاتحاد السوفياتي منذ العام1953 ولذلك لم تنجح بعض الدول التي تطورت فيها قوى اشتراكية كالصين وكوبا ومصر وفيتنام والعراق في الانتقال إلى الاشتراكية البروليتارية

اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي