الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة ( العائدون الى المنافي) وانتقالات الوجع الموفق

احسان العسكري

2016 / 10 / 31
الادب والفن


رحلة ( العائدون الى المنافي) وانتقالات الوجع الموفق
احسان العسكري
قراءة في المجموعة الشعرية (العائدون الى المنافي ) للشاعر السوري فريد ياغي الفائزة بمسابقة الشارقة للابداع (الدورة السابعة عشر )
عبر ((بطاقة تعريف)) ينعى بها ذاكرة وطن فارقه متألماً وادخره في نفسه حلماً مقترناً بحلم العودة ’ الشاعر فريد ياغي في ذمة الحياة فـ هو يخاطب ذات الوطن بضمير الشاعر
" في الغيب
كنت تداعيات مسرفات في النزيف
تهوي الى ماضيك اوراقاً يؤبنها الخريف
تأتيك من عرق الحقول ومن تجاعيد الرغيف"
* المجموعة الشعرية هذه ليست مجرد قصائد جمعها شاعر و ليس لأنها فازت في مسابقة الشارقة للإبداع وحسب بل ان فريد ياغي شاعرٌ كبير فعلاً لديه ذاكرة انتماء عميقة جداً ساهمت في انعاشها روحه الشابة فهو مختلفٌ عن الكثير من الشعراء بكونه مجازفٌ متمرس ينجحُ في كل مرة يخطو فيها خطوة نحو طريق ما نراهُ ينطلق بخطى واثقة وينجح وربما ساعده في ذلك تشّعب اجنحته فهو فريد الشاعر والكاتب والروائي و ذو الرؤيا السياسية الثاقبة والمحلل الناجح والمخرج السينمائي المتميز . وليس غريباً على مؤسسة عالمية كمؤسسة ((متحف السينما و التلفزيون في برلين)) ان تدعه يعمل فيها وهو ابن الـ 26 عاماً .
*ليتنا لم نلتقِ .. الكابوس حينما يغادرُ مخيلتك المتعبة ستكون هذه اخر الكلمات التي تتمنى ان تقولها في وجهه وانت تفتحُ عينيكَ على سقفٍ قد يبدو للوهلة الأولى غريباً عليها بعض الشيء ثم تنتفض لتنهض الى اقرب مصدر ماء توصله لشفتيك او لوجهك كإثباتٍ للسقف الغريب انكما صديقين كان هو آخر من فارقته وأول من ابتسم بوجهك . فريد ياغي شاعرٌ سوري ......
حينما تقرأُ له اي شيء يقع بين يديك ستشعرُ انك في حضرة شاعر مهم له رؤيته الخاصة واسلوبه الخاص في انتقاء المفردة وصياغة الجملة . غالباً يشعر البعض بشيء من التقليد حينما يقرأون شعراً (كلاسيكياً) – ان جاز لي التعبير لكن حينما تفتحُ مجموعة شعرية تجدُ في اشراقتها الأولى :
" من شاطيء الكلمات كنا نبداُ .... وصلت قصائدنا وضاع المرفأُ
لم نمنع الخطوات حين تجسدت ... درباً على كلل الهوى يتفياُ "
*هنا تقف قليلاً وتعيد القراءة مرة أخرى .. لعلك تنتقل من حالة الانبهار الى الهدوء المنشود , فانت بحاجة للهدوء حتى تتمكن من قراءة الشعر لأنه لغة الاحساس ولأن الأخير متسامقٌ مع الهدوء والسكينة . تجدُ من المهم جداً ان تهدأ قليلاً وتواصل على أمل ان تستمع وانت هاديء , لكن :
" لم نسأل الحناء
حين توردت في كفنا
اي الجراح سننكأُ "
* من اين آتي بالهدوء يا فريد فأنت تجعلني اتقافز وجعاً ولا أملك الا ان اتم ما بدأته وأنا انشد هدوءاً ما .
ان القاريء لشعر فريد ياغي يشم منه رائحة مألوفة ..! ربما هذه رائحة الحزن المتجذر في نفوسنا جميعاً حيث فرض القدر علينا شراكةً لم نكن راغبين بها وان كنا تنتوق لغيرها بنهم .
" كالصرخة العذراء
تُمضي ماءها فينا
وتصرخُ يا مجانين اظمئوا "
* هذا الظمأ المرتوي بأكاليل الجمال عالجه فريد ياغي باسلوب الشاميين الجميل فهم خير من يجيد المعالجة لجراح السنين .. هم الصابرون ولا عجب فـ حتى ((جراحات طوق الحمامة )) تجد عندهم طبيباً خبيراً بهكذا معالجات حين نرى الشاعر يزاول دوزنة ذاته :
" أمشي ...
وجرح الوالدين ينزُ من طوق الحمامة
واكتْاب الأولين
يئمن في عيني نايا في مهب الذكريات
كل الذي كان انتظراً مع قطار الريح ..
فات "
* المتتبع لخطوات هذا الشعر وهو ينتقل عبر هذا الديوان من شجرة الى نخلة ثم يعود ليحلق عبر آفاق تنتهي بالبحر ولا تقف عند حد .
ان ديوان (العائدون الى المنافي ) عبارة عن عدة انتقالات في اجواء مختلفة . تحتاج كل محطة منها لقراءة مستفيضة الا ان القاريء مهما كان مستبصراً بهذا ملاحم لا يجد ما يسعفه حتى يتماشى مع عمق انتماء شاعرنا هنا ولا يمكن ان يشعر بالالم الا صاحبه , فأينما تجد جمالاً مفرحاً في شطرٍ في هذه المجموعة الشعرية لابد لك ان تذوق مرارة الوجع الشامي المتجمل بحب الوطن والانسان فالشاعر هنا فوق العادة الجارية فكل ما في المجموعة متميز ابتداءاً من الصّوت، الموسيقى الشعرية . ووطن الشّاعر الذي يمتدّ عبر التّاريخ ويترامى إلى الآمال الغائبة ثم لا يكاد مستمراً الى ان تجده عائداً إلى النّور والجمال,
* تتميز اغلب قصائد فريد ياغي بالاصالة غير التقليدية . فنحن اذ نتحدث عن التزامٍ تقليدي بعروض وقواعد النص الشعري و البناء التكويني والفني للقصيدة ذات العمق التأريخي الموغل في الاصالة العربية الا إنه في ذات الوقت ذلك المبدع المجدد المتجدد جمالاً فالحداثوية الشعرية في (العائدون الى المنافي) عبارة عن مجموعة ثيمات مترابطة متباعدة تلتقي في الجمال و حب الوطن وتتباعد في الصور ثم تعود لتلقي في اطار الحنين له .
" ها انت تخرج هائماً من شامك الصغرى
الى شام الضياع
يا قلبُ زيتك ليس يعبرُ من قناديل الجياع "
وهكذا تستمر رحلة الحنين الى الوطن عبر غربة تطويها جمالية النص و حرفة الشاعر و انبهار المتلقي .
(( رمادٌ طاعنٌ في الروح )) هو ذلك الحنين يقول فريد ياغي :
" انا لستُ ازرعُ من بذار قصيدتي
الا رماداً طاعناً
في روحي
يشتقُ من لغة التعثر خطوة
ضاعت كناي في مهب الريح "
* غريب امر هذا الشاعر .! من اين يحظرٌ كل هذه البضاعة الجديدة ؟ وكيف للمتلقي ان يحتمل هذه الكتلة الهائلة من الجمال دفعة واحدة ؟ فهكذا شعر لايقبل القسمة على وقتين لأنه مكمل بعضه متصلٌ بعدة ابعاد ماضية وحاضرة ومستقبلية , مؤكد ان القاريء سيجد نفسه بين قصائد يراها ويقرؤها فتشعره بالتسمرّ في مكانه جاذبية للأذن والعين في آن، في انسياب موسيقي عذب على الرّغم من ثوريّة الخطاب الشّعري ولكنها ثورة من طراز فريد ابتدعه فريد فهو عبارة عن ((خليطٌ من اغنيات التشظي)) و الحان التوحد , ربما يعتقد الشاعر ان غربته فرقت شعوره بالحب عن نبظه العاشق لكن الحقيقة تقول غير ذلك , ففي اي مقاربة واقعية يحاول القاريء البحث عنها سيجد نفسه في وسطها دون ان يشعر ويتأكد انه امام نخلة فراتية سامقة متأصلة الجذور لم يشكل ارتفاعها عن سطح الارض الا انطلاقة نحو الافاق باعثة برسالة الحب الى الارجاء , نخلةٌ يخاطبها كل طائرٍ باحثٍ عن كرم نفسٍ تؤويه :
" طيري فإن الارض تخنقني
وغيبي في الرياح مع انعتاق الروح
من هذا المسجى
في ترابٍ من لهيب "
* لايمكن ايها الشاعر ان تتبنى مسألة طيران النخيل لأن عليك ان تتخيل ماذا سيحل بالعاقول الذي يعتقد ان له حقٌ في خلودٍ ما وبعض النفوس لاتزال تمارس التنافر بكل ما أؤتيت من (ريالٍ ودولار) ’ وهنا عليك ايها القاريء ان تدرك انك في حقيقة الأمر وسط مشهد مسرحي من لقاء حميميّ يغذّي روحك وينعش ذاكرتك عبر من خلاله الشاعر عن مكامن وجعه و مكنون اصالته وجمال روحه . فـ (( ما تبقى من شذى)) هو كل ما تبقى من ذاكرة الوطن ذلك الذي غذاه كل هذا الغذاء الفكريّ واطعمه العشق الروحي، حيث يبدو جلياً تفكير الشّاعر وهو ينسكب في احساس القارئ معبراً عن عن هواجسه وأوجاعه، ليستثمر الاخير الشّعر هماً إنسانيّاً يتفاعل من خلاله مع الشّاعر وجدانيّاً, ربما يعود هذا الشعور لإمكانية الشاعر اللغوية ذات النقاء الكلامي فيبدو لنا وكأنّ الشّاعر ينتقل بروح القارئ من جمالية اللغة الى عمق التصوير الشّعري وفرضه بلطف في احساسه وذهنه :
"نمضي ويقترب الخريف
ندوس خطوتنا فنشعرُ انها كبرت على اقدامنا
لكنها تبقى رهينة موضعٍ دس الجنون
بزهرنا
تبقى رهينة ما نزفنا في مواكبنا
علبى هذا الطريق
وما بحبرٍ الروح يُلقى
تبقى كأغنية تذكرنا بأن الحب يبقى "
* ويستمر نزيف الحنين حتى يغرق القاريء بسيول من الجمال تشعره انه هناك يسامق تلك القامة المكناة (فريد ياغي ) الـ (( بحّارٌ من ظماْ))
" طار قلبه بنجمة الليل صبحاً " واينما نرى جناح يخلط عطر الحياة بالهواء نشعر بطعم الحرية حتى في مرارة القهوة وما احلى مرارة الصباح في فنجان آمن ..
" يا ملاكي
ورود روحي بلا ماء
فصبي على الظمي نداكِ
* ها هو يتصارع مع ذاته ومع انبهار القارئ مرة أخرى انه الشاعر المعتد بشعره في مواجهة قاريء احب ما كتبه وان كان غير مدرك لما يجري خلف كواليد الابيات لكن عدم الادراك هذا ليس جهلاً لأن الشاعر في نصه هنا محاربٌ شديد الباس للجهل , فإذا ظهر الشاعر امام القاريء متمكناً فإنه في الحقيقة قد انتقل من الشّاعر المتألم الى رتبة النبي المتعلم باعتبار ان الشّعر وحي نوراني ينصهر في ذات الشّاعر فيشتعل فيه هماً جميلاً وينقله للآخرين جمالاً حزيناً , كيف ذلك ؟ الجواب . هذا الشاعر الذي ماانفك يجمعُ الشظايا التي خلفتها (( مرايا الدرب المــ ـهـ ـشـ ـمـ ـة )) رغم إنه يعيش الآن في دولة متقدمة في قلب اوربا تشبه الى حد معين اصالة الشام حيث ينتمي وحيث ان له اماً شاعرة واباً وراقاً هذان لو لم يكونا عظيمان لما انجباً شاعراً كبيراً كـ فريد ياغي .
" سيميدُ قلبكَ لن يكف
عن الترنم لن يكفَ عن التوهم
لن يكف ..
سترد اغصان التقى
صوبَ الغواية مرة اخرى
سيعيدك الياقوت مصلوباً على
حجر الفرح "
* ان المتصفح لأوراق هذه المجموعة عليه ان يكون صامتاً وينسى فكرة البحث عن رافد سوري معين ففي هذه المجموعة التي حينما تعرف انها لشاعر من الشام لا وجود لنزار قباني او لأدونيس بل ان وجود ذات فريد واضحة جداً دون ان يتضح غير هذا الوجود القوي أي تأثرٍ بأي كيانٍ ماض او حاضر غير جذوره وذكرياته الخاصة ذات الطبيعة الانسانية العامة . لذا عليك ان تعيد التصفح مرات ومرات وانت مدركٌ تماماً انك ستلتقطُ ثيمةٌ من نوع جديد علها تراثية او تأريخية أو حتى مستقبلية , اسلوب الحداثة في شعر فريد ياغي فريد فعلاً فمشاهد الخيال لا تنفك تغزو مخيلتك كانك في سوق عكاظ تسمتع للشعر العربي ولكن بجمهور جديد فالوجوه الناعمة التي حولك لا تشبه تلك الوجوه المثقلة بشمس ورمال وقساوة الصحراء والغريب في الأمر في هذا المشهد المسرحي التأريخي : ان الجميع يصفقون كل ذي وجه يصفق فهم امام خليط من الذكرى والوجع الحاضر , خليطٌ من العروبة وافاق اخرى جديدة , صورٌ اعمقُ من التراث و ((أحلى من الورد )) ففي هذه الصورة بالذات ينادمُ الشاعر خيلاء نديمته البعيدة القريب .
" وما شمسي وانت الآن شمسي ؟ .......... لكِ الآتي كـــما قد كان امسي
لخدكِ قُبلتي يـــــــا كل نفسي ............ لأن الورد الوردَ يذبلُ عند لمسِ
وذا يحمر مهما قبلوهُ "
* عجيب أمر الشعر ! وهذا الوافر المجتزيء الجميل .! ففي هذه التخميسة الجميلة لابيات ابن زيدون . أي ان شاعرنا لم يترك مجالاً واحداً لاي متطفلٍ من أي اتجاه ان يعبر خطوط فريد الفريدة فهو يجيب في كل قصيدة تتلو من سبقتها عن تساؤلٍ لاي قاريء (اين ) لا داع لأن يسأل احد فـ شاعرنا لم ينس حتى التخميس .دعك من الغوص في اللحون والبحث عن عزفٍ جديد فهذا الديوان (( أكبرُ من اغانينا)) لأن الشاعر فيه يعلن عن وجود لأنثى استثنائية :
" انثاي ربةُ قمحها
وملامحُ الفيضان في قلبي
واوراقٌ ابعثرها
على نبضاتِ طاولتي
وما لخطوط صمتي في اناشيد السماء "
*اختصارٌ وتكثيفٌ رائع لكم هائلٍ من الصور تجده غالباً في كل مقطع تحته فاصلة في هذا الديون بل انك تجد احياناً في الجملة الواحدة اكثر من اختصارٍ لأكثر من صورة .
" انثاي ساعة سكَّرٍ
في ساعد الدهر المرير "
* فريد (( العائدُ الى المنفى )) في حالة احتضار وكيف لا يحتضرُ في الغربة من عاشها في روحه بين اهله ؟ كيف لا يحتضرُ من وضع اهله السيف على رقبته دون ذنب يذكر غير ذنبٍ واحد وهو الحب , ذلك الاحساس العظيم , فريد هنا لم يحب بنت احدهم أو زوجته كي يسجلهُ القصاص ضمن المجرمين .. هو باختصار مثل غيره من الاحرار احب وطنه احب تأريخه احب الانسان بحبه لرمز الانسانية (علي) .
" ستعدُّ رمل الشاطيء المنسي
ثم بخفة الاوهام نحوك تنكفيء
وستعبرُ الذكرى عليك وتنطفيء "
* بين احتضار ٍ وانتقال ورهاب وتحول واكتشاف تبدو الخلاصة جلية فـ فريد وشعره وانثاه وذكرياته شكلوا هيئة مستقلة اسموها (( العائدون الى المنافي ))
" ويعيدك التكوين حرفاً من حروف اللغز
يحيا في خدودك
وبه ستفنى في خلودك "
* وما عاد لأي ((زيفٍ مضيء )) وجود في مخيلتهم الواقعية هم المنفيون من والى الوطن الغرباء في داخلهم الاحرار في تفكيرهم المسجلون على قيد الوجع المهمشون في الواقع المبدعون في الظل
" قريباً من الحلم
كنتُ ابعثرُ ما سوفَ يبقى من الريح في خاطر الامنيات
وارشدُ ظلي الى ساحة في مهب المنافي تسمى أناي
واحبسُ صوتي ببحة ناي "
* في قصيدته (( غرناطة الكلمات )) ما من شك أن الشاعر كغيره من شعراء على امتداد الوطن المغترب يعيش حالة من القلق السياسي والغربة والذهول الذي يفجر في داخله كل هذا التمرد على كل شيء بل هو ثائرٌ على قلمه ايضاً , هذا القلم الذي ماتنفك يزاول التوجع تلو الآخر ويسم الماساة تلو الأخرى فنحن شعوب متألمة حتى في اسمى لحظات الفرح (لحيظات الحب)
" غرناطة الكلمات لم تقدر
على ذاك السؤال
فسلمت للصمتِ تاركةً بحار من رهاب "
* ربما هو رهاب الفراق او رهاب الغربة التي نعيشها دائماً جميعاً في ذواتنا ونراها في اعين ابناء جلدتنا الذي يكبرون ابان ذبحنا . ترى؟ ماذ سيكون حالنا لو ولدنا في اليابان مثلاً ؟
بدلاً من تربيتنا في اوطان الانبياء نسحق اعمارنا واحلامنا نقفُ (( على اهبة الموت ))
" سأمضي سريعاً فلا وقت الا
لمنحِ الهباء افتراع الحقول
لزرع الفناء
فأين احتراقي ؟ "
* اين احتراقنا الازلي ؟ يذكرني هذا بقولٍ للناقد الادبي في جامعة الخرطوم د. مسعد زياد (القلم ما عاد هو السلاح الذي لا يحسن استعماله إلا ذوو المشاعر والخواطر التي تصدر عن رؤى صادقة ، وإنما أصبح مطية طيعة يعتليها كل متسلق باليد ) ! يا لهذا الخطر المحدق , لولا وجود كفاءات تجعل من القلم ثورة تأريخية ممتدة عبر عصور التشظي ومسقبل الضياع فلولاهم هذا الحنين ((مرُّ كصوت الناي)) يأتي ولا يذهب الا بعدنا فـ الضحايا اولاً .
" تسهو عن الطين المهاجر
في خيوطٍ من مطر
تسهو ..
ولا يسهو القدر "
((الشاعر))
" من آخر الغيمات يسقط نجمهُ "
في هذه القصيدة التي ينعى فريد فيها نفسه ويعود بنا الى حيث ولد الى أبٍ راعٍ للجمال يصورهُ لنا كحارس لظل الحكايا وحكايات الحياة العريقة , وأمه الشاعرة هي نجمةٌ حارسةٌ محتضنةٌ لهذا الوليد القمري حيث شكرلوا ثلاثتهم مجرةً ادبية تعج بكل آيات الجمال والعطاء وهنا على ارض احدى الاراضي داخل هذه المجرة ترقد (( الزهرة الغريبة ))
" كفراشةٍ تأتيك
ترشفُ ضوءها
لتكون بين العالمين نبياً "
هذه المجرة اصبحت مستقلة لها شعب و نبي يتلقف الفكرة الربانية ويترجمها للوثنين بطريقة الشاعر المحترف وحرفة العاشق المتألم التواق لأزقة المدينة القديمة التي تكاد تضيقُ على اغصان الزيتون وتختنق من عطر الياسمين الجبلي وتتعثر الخطوات فيها بما هوى من ثمار التفاح الشامي ذو الطعم المميز الذي يحملنه بعض الصبايا تحت اقمشة من الشيفون الشفاف بعض الشيء وهن يتنقلن بين هذه الازقة يحملن كل ما للجمال من معان وكل ما في الحياة من لذة وكل ما في الذة من تأثير هذا التأثير الذي ما قرأناه رويداً نجده كأنه (( حرفٌ من قاموس الفلاسفة )) الذين :
" لا درب يحملهم
لكهم وصلوا
الى المؤجل من احلام من رحلوا "
تلك اذن (( حسرة الغيم )) التي تشكو فقد الرياح و تحن لضوء البريق الذي ينطفيء كل لحظة في نفس الشاعر العاشقة , الشباب ماطرون دائماً وغيومهم تواقة للجلاء غالباً الا ان فريد ياغي مثقلُ بغيوم من الحسرة جلبتها عليه الغربة كما اكدنا في اكثر من مورد في قراءتنا المتواضعة هذه .
" وان يرتب للاطفال فرحتهم
في غفلة الظل عن اوجاع من كبرا
مُدت اناملهُ للنفس مفترجاً
يكسر القيد
عن اقدار من اسرا "
* ((رشةٌ من انين مالح )) هي :
"معراج صمتٍ يخط الماء ينشدهُ
وبعدها في زحام الموج يفردهُ
ويكسر الريح حتى تلتوي عبثاً
في نسمة الصبح من حبرٍ يرددهُ "
في تقديري المتواضع ان الشاعر لا يزال متمسكاً بأملٍ ما رغم انغمالسه في الواقع المؤلم , غاية تنسكب في نفسه التواقة للعودة الرافضة لأنين المنافي فقد يبدو من عنوان المجموعة انه تواق للتغيير في غير بلاده وفي الحقيقة هو منتمٍ للأخيرة ايما انتماء لدرجة انه يعتبر علاج الجروح بالملح اطعم من رشه على سمكة في مطعم فاخر في برلين ’ الشام عشيقة الدنيا وهو ابنها ابن بيئته الغارق حد الجنون بجمالها , وهذا (( مالم يقله الشعر)) مباشرةً وان اتضح اتضاحاً شديداً بالإحساس بهذا الانتماء الأزلي لفريد حسين ياغي ولا ننسى ان لسان العرب قال ( بلادي وان جارت علي عزيزة .. وقومي وان شحوا علي كرامُ ) الآن :
" ماذا تريد وما يريد لك الهوى
ولأي جرحٍ تنتمي اوجاعك
ولأي لحنٍ ياابن عم بكائه
الا بكائي تنتمي اسماعك "
* هنا اعلان واضح لذلك الحنين وتبلور مبين لذلك الانتماء , هو يقول هنا وطني الموجع المغترب فيَّ اعشقه واعشق كل من يعشقه , في حب الوطن لا غيرة ولا حسد فللعاشق ان يحب معشوقي معشوقه بحجم حبه له وهذا لا يشكل عبئاً عليه ابداً فهذا غاية الاوطان ان يعشق ابناءها بعضهم بعضاً وإن اضطروا لالتقام ((ضروع الصخر)) تراهم وهم مجتمعون حول ذاكرته كـ ((شذرات منثورة )) قتلت الامواج خطاهم لأنهم اقتربوا كثيراً من تلك الصخرة العصية على السيول من الاموال والرصاص واشباه البشر , فريد يدوزن نفسه من جديد :
" فراشتي التي تحاول
هي اول السماء "
* ما اقرب هذا الشاعر من ربه ؟ يكسر المرآة لكي تشبهه أكثر انه صريع التشظي كوطنه الحالم بالتجمّع , فبين قوة حصان الغربة الجامح ورقة فراشات الشام لا ينفك يجد نفسه ذلك العاشق من جديد , ان (( العائدون الى المنافي )) ليست مجرد مجموعة شعرية لشاعر شاب قدمها في مسابقة وفازت .. ابداً هي مجموعة اطر لأكثر من وجه من اوجه الابداع جمعها الشاعر في لوحة واحدة اسمها ((الشاعر : فريد حسين ياغي )) موقعة منه في تأريخ غير ذي توقيت ولا مسافات بينه وبين الازمنة وقصائده الأخيرة ((تنبؤ)) و (( نبضُ من الآتي )) ما هي الا اعلان عن غاية في نفس فريد منذ الاهداء وحتى الف ألفهرس تجمعت فكونت قضية وطن ووطن شاعر وشاعر قضية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و