الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السياسة الأميركية في العراق : حذاء الزيدي وضحك بوش وسيف الحجاج ج 2

حسين كركوش

2016 / 11 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


مَن خَدعَ مَن ؟

يقول السيد موفق الربيعي ، الذي كان في المعارضة العراقية وأصبح بعد الاحتلال مستشار الأمن القومي : ( خدعنا الأميركان وأتينا بهم لإسقاط صدام حسين.) مقابلة معه أجرتها جريدة الشرق الأوسط في 30 يونيو 2010.
هل حقا أن السيد موفق الربيعي و زملاءه من رجال المعارضة العراقية ضد صدام حسين هم الذين ( قشمروا) الولايات المتحدة وضحكوا عليها و (أتوا بها) إلى العراق وجعلوها تخسر ترليونات من الدولار على الحرب ، ناهيك عن القتلى و الجرحى من جنودها ؟ أم أن أميركا هي التي خدعتهم وجاءت بهم ، ثم قال عنهم في مذكراته الحاكم المدني بول بريمر ، بأنهم (لا يصلحون لقيادة مشروع صغير) ؟
مَن خدعَ مَن ؟ مَن استدرجَ مَن ؟ من وّرطَ مَن ؟ مَن الذي ما يزال يملك عوامل القوة ويهدد بها في العراق ، ومن لا يملكها ؟ مَن وضع البيض كله في سلة واحدة ، ومَن وزعه على عدة سلال ؟
هل حقا أن الولايات المتحدة ما كانت تملك رؤيا استراتيجية بعيدة المدى في العراق ، وكانت تتصرف على طريقة الفعل ورد الفعل ؟ أم أنها وصلت العراق وفي ذهنها مشروع واضح أصرت أن تبني له أسس كونكريتية ، بأقصى سرعة ممكنة ، ومنذ الساعات الأولى ، كي تكون مطمئنة على أن (الحادلات) الآيدولوجية التي تحاول تهديمه بعد سحب قواتها من العراق ، ستجد صعوبة بالغة ؟

كانت الولايات المتحدة تعرف جيدا ، استنادا على التقاير التي أعدتها كبريات مراكز البحوث الأميركية تمهيدا لاحتلال العراق ، بأن (دمقرطة) المجتمع العراقي لا يمكن لها أن تولد وترى النور إلا بعملية قيصرية ، وأنها إذا وُلدت فستكون طفلة سفاح يتبرأ كثيرون في المجتمع العراقي من تبنيها ، وأنها ستولد يتيمة في صحراء عراقية لم تُزرع فيها الديمقراطية الليبرالية على امتداد التاريخ ، و لا آباء لها ، كما في الغرب وبلدان أخرى ، مثل روسو وتوكفيل وهوبس وجيفرسون ومهاتما غادي و نيلسون مانديلا.
يقول الذي وضع الأسس الأولى للمشروع الاستراتيجي التغييري الأميركي في العراق ، الحاكم المدني بول بريمر في مذكراته : ( معظم العراقيين ليس لديهم تجربة مع حرية الفكر ، ولديهم فهم غامض لمعنى الحرية ولكنهم يرغبون في ان نعلمهم ذلك.)
وسيرا في طريق (تعليم الحرية) أصدر بريمر في 23/4/2003 قرارا بحل وزارة الإعلام. أعقب ذاك القرار ظهور عشرات الصحف ، ومحطات الإذاعة ، والقنوات الفضائية. وكان ذاك تحولا فريدا من نوعه في تاريخ العراق.

ولفتت تلك التحولات العاصفة اهتمام الكثيرين في العالم ، منهم الروائي الشهير البيروي (من البيرو/ أميركا اللاتينية) ماريو بارغاس يوسا الحائز على جائزة نوبل للآداب ( حصل عليها عام 2010).
فبعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على الاحتلال الأميركي زار يوسا ، المعروف بمعارضته للاحتلال وللحرب ومناصرته لقضايا العالم الثالث ، العراق ، و بقى فيه قرابة أسبوعين ( 25 حزيران - 6 تموز 2003).
وبعد عودته نشر مشاهداته في كبريات الصحف العالمية ، منها الباييس الأسبانية والغارديان البريطانية و لوموند الفرنسية ( كنا قبل سنوات قد ترجمنا و نشرنا ما كتبه يوسا في صحيفة لوموند الفرنسية).
وبعد ذلك نشر يوسا مشاهداته في كتاب عنوانه (يوميات من بغداد) ، أُضيف لأعماله الروائية.

أترجم هنا من صحيفة الغارديان البريطانية في عددها الصادر في 4/9/2003 بعض سطور من مقال طويل كتبه يوسا :
تحدث يوسا في مقال الغارديان عن الفوضى العارمة التي تعيشها بغداد وقتذاك. دوائر دولة أغلقت أبوابها. عمليات نهب مستمرة. الجرائم المنظمة في أزدياد. خوف الناس وقلقهم من القادم المجهول. لا شرطة لا قضاة لا محاكم. رعب جنود الاحتلال خوفا من أن يظهر لهم عراقي من زقاق قريب يفتح النار عليهم. عراقيون سُرحوا من وظائفهم بسبب حل المؤسسات التي يعملون فيها رغم أن أكثريتهم كانوا قد انتموا بالقوة لحزب البعث ، وبعضهم كان يكن كراهية لنظام البعث. وحشية جنود الاحتلال ومزاجهم العدواني بسبب الرعب الذي يساورهم. اغتيالات انتقامية بين السكان ، وحالات قتل عشوائية. العراق أصبح ، بسبب سيادة الفوضى ، أخطر بلد في العالم.

وإزاء هذه الصورة القاتمة التي نقلها يوسا ، نقل صورة أخرى مضادة. فقال يوسا:
( البلد الذي يتمتع بأعظم حرية صحافة في العالم هو العراق هذه الأيام .... للمرة الأولى في تاريخ العراق توجد حرية صحافة كاملة ، إذ بإمكان أي عراقي شراء الصحيفة أو المجلة التي تعجبه بدون إذن من أحد ، وتوجد حاليا أكثر من 50 صحيفة تطبع في بغداد. إن السلعة التي يقدم على شرائها العراقيون هذه الأيام أكثر بكثير من غيرها هي الصحون اللاقطة ، التي تسمح لهم بمشاهدة جميع القنوات التلفزيونية في العالم ، وهو أمر ما كان مسموحا به في السابق أبدا ، وبدأ هذا الأمر يثير غضب رجال الدين المسلمين المحافظين الذين يروون في هذا الأقبال الشديد على شراء الصحون اللاقطة ومشاهدة ما يعرض فيها من برامج ، غزوا للأفلام الجنسية الإباحية وفسادا أخلاقيا. وبالإضافة لذلك توفرت أمام العراقيين فرص تصفح الأنترنيت بحرية ، وهو أمر كان يعتبر جريمة أثناء حكم صدام. ومن الطريف هو ملاحظة العراقيين ، خصوصا الشباب داخل مقاهي الانترنيت ، التي تكاثرت في مناطق بغداد كما نبات الفطر ، وهم يقبلون بولع على ممارسة هذه الهواية التي بدأت تربطهم ببقية العالم.)

الصحف التي تحدث عنها يوسا زادت وتكاثرت بعد ذلك ، وانضمت إليها المزيد من القنوات العراقية والمحطات الأذاعية. ومنذ تلك الأيام شرعت تلك الوسائل الإعلامية تتحدث عن كل شيء وعن أي شيء، بما في ذلك مواضيع موجودة في المجتمع لكنها كانت من المسكوت عنها و تعتبر (تابو) في المجتمع العراقي يُمنع الحديث عنها.
و بعد أشهر من الاحتلال أصبح برنامج فيصل القاسم من قناة الجزيرة خجولا و متخلفا لا يشاهده عراقيون كثيرون ، مقارنة بما يبث في القنوات العراقية من برامج سجالية ، وحتى ما يرد في أحاديث العراقيين في المقاهي الشعبية.
و وقتها وصف كثيرون الوضع الإعلامي الجديد في العراق بأنه (فوضى إعلامية). ولم يدرك أولاءك أن تلك الفوضى كانت ، في التفكير الأميركي ، ضرورة لا بد منها لكسر احتكار الحقيقة ، وتدمير (سلطة) (الرأس) الواحد.


(الفوضى الخلاقة) تضرب بوش بالحذاء وهو يضحك

بعد خمس سنوات على الاحتلال ، عندما كان الرئيس الأميركي بوش يتحدث في مؤتمر صحفي في بغداد رماه صحافي شاب عراقي ، أسمه منتظر الزيدي ، بفردتي حذائه. ولم تصدر من الرئيس الأميركي أي ردة فعل سوى ضحكه و تعليقه الساخر عن حجم الحذاء.
بالتأكيد ، كانت واقعة الحذاء إهانة شخصية بالغة للرئيس الأميركي. لكن متى كانت القضايا الشخصية تعرقل أو توقف أهداف و سياسات و استراتيجيات الدول الكبرى.
وعندما عاد بوش لبلاده سأله صحافي عن واقعة الحذاء ، فكان رده كالتالي : (أنا لست غاضبا على النظام system الجديد في العراق. فأنا أومن أن مجتمعا حرا يتشكل "في العراق" ، و هذا المجتمع الحر ضروري لأمننا ولسلامنا في أميركا.)
و بينما أشعلت تلك الحادثة اهتمام العالمين العربي والإسلامي ، فأنها لم تخلق ردود أفعال في العراق متساوية لتلك التي حدثت في الخارج. ليس حبا لبوش وتأييدا للاحتلال الأميركي ، أبدا ، ولا كرها للمراسل العراقي ، ولكن لأن غالبية العراقيين اعتبروها ، بسبب مزاجهم الشعبي (الجديد) ، حادثة (اعتيادية). أي أنهم رأوا أن هذا المواطن العراقي مارس حقه في التعبير عن حريته.
بوش وغيره من صناع القرار في أدارته يدركون أن الفوضى التي نشرتها الولايات المتحدة هي التي دفعت العراقيين أن يقولوا كل ما يخطر ببالهم ، و هي التي شجعتهم أن يضربوا بالحذاء رئيس القوة الأعظم في العالم.
واقعة الحذاء حولتها الولايات المتحدة إلى (درس) (لتعليم العراقيين معنى الحرية) ، على حد تعبير بريمر.
كانت حادثة رمي الحذاء بوجه رئيس القوة الأعظم في العالم دون أن تصدر من الرئيس ردود أفعال قاسية ، تحولا خطيرا في ذهنية الفرد العراقي ، خصوصا في بلد لم يفارقه ، تاريخيا ، حكم الطغاة ، و المواطنون فيه يخافون حتى من الحائط فقد تكون له أذان تسمعهم ، و داخل مجتمع شرقي محافظ يقوم بنائه الهرمي على المراتبية و تقديس السلطة الأبوية ، كالمجتمع العراقي.

واعتقد أن أولى الصور التي وردت في أذهان العراقيين وهم يشاهدون ردة فعل بوش ، بعد واقعة الحذاء ، هي صورة حاكمهم المعاصر صدام حسين وهو يهدد من يخالفه : (والله أطروا بأيدي سبع وصل) ، وصورة حاكمهم التاريخي الحجاج بن يوسف الثقفي وهو (يضع عمامته) ثم يخاطب أهل الكوفة قائلا : ( فأني والله ما أعلم اليوم رجلا على ظهر الأرض هو أجرأ على دم مني ، وقد ركبتُ أمورا كان هابها الناس ، فأفرج لي بها.)
اللافت في الأمر هو أن القناة العراقية ( البغدادية) التي يعمل وقتذاك عندها المراسل العراقي اعتمدت المنطق الأميركي نفسه وهي تدافع عن مراسلها. فقد أصدرت بيانا طالبت فيه بإطلاق سراحه ( تماشيا مع الديمقراطية وحرية التعبير التي وعد العهد الجديد والسلطات الأميركية العراقيين بها) ، كما ورد نصا في البيان.
وبعد أقل من عام أطلق سراح المراسل العراقي.
ويقينا أن العراقيين تسائلوا وقتها : هل كان بمقدور هذا الشاب العراقي أن يفعل ما فعله لو كان أمامه الرئيس السابق صدام حسين ؟
ولا أظن أن تلك الأسئلة شغلت بال العراقيين وحدهم ، وإنما توقفت عندها شعوب منطقة الشرق الأوسط كلها ، وأشعلت الذعر والفزع عند الحكام في العراق وفي المنطقة.
فإذا كان مواطن عراقي بسيط يتجرأ و يضرب رئيس القوة الأعظم في العالم بالحذاء ولم يبد هذا الرئيس احتجاجا ، فما الذي يمنع غدا من تكرار المحاولة نفسها ضد أي حاكم في العراق وفي المنطقة ؟ وما عسى هذا الحاكم أن يفعل أكثر مما فعله الرئيس الأميركي ؟ (سنتوقف في حلقة قادمة عند التظاهرات العراقية التي انطلقت في آب 2015 ، وما ردده المتظاهرون خلالها من هتافات قاسية عنيفة ، وما فعلوه ، على الملأ وأمام الكاميرات ، بصور سياسيين ومسؤولين في الدولة وأعضاء في البرلمان ، بعض منهم بزي ديني).

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس يبحث تمويلا إضافيا لإسرائيل| #أميركا_اليوم


.. كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي: لدينا القدرة على




.. الخارجية الأمريكية: التزامنا بالدفاع عن إسرائيل قوي والدفاع


.. مؤتمر دولي بشأن السودان في العاصمة الفرنسية باريس لزيادة الم




.. سر علاقة ترمب وجونسون