الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثورات شعبية مؤجلة..وانقلابات عسكرية مستعجلة ؟؟

خلف الناصر
(Khalaf Anasser)

2016 / 11 / 7
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


: من وحي الثورات العربية في ذكراها الخامسة !!
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الخامسة للـ " الثورات العربية " ..وخلال هذه السنين الأربع تغير ـ نحو الأسوأ ـ كل شيء في واقعنا العربي . فقد عمدت بالدماء كل الدروب والمدن العربية، ودخلت الجروح والأحزان أغلب النفوس والبيوت السورية واليمنية والمصرية والليبية، وخربت المدن والعواصم والمعالم الآثارية والحداثوية التي بنتها العشرات من أجيالنا العربية!!
فيا ترى..هل أن كل هذا الذي حدث لنا كان بسبب "الثورات العربية " ذاتها؟..أم لأسباب أخرى مجهولة لنا؟؟ .. ثم لماذا حدث لنا كل هذا الذي حدث؟؟ .. وهل سيأتي يوم نعرف فيه (يقيناً) ما الذي حدث لنا بالضبط ؟؟
قد تكون الإجابة على هذه التساؤلات موجودة في بطون التاريخ، أكثر مما هي في وقائع الحاضر، وذلك لأسباب كثيرة أهمها تلك الحقيقة المرة التي تقول: بأننا كعرب ـ ومنذ ألف عام ـ في حالة تراجع وانكسار وهزائم مستمرة، وأن إبداعنا وإنتاجنا الفكري والعلمي قد توقف منذ ذلك التاريخ ..وأن كل ما نفعله الآن هو إعادة إنتاج ما سبق لنا إنتاجه ـ في مرحلة التخلف بالذات ـ بصور وطرق مختلفة، خصوصاً في مجال الدين والفكر الديني .
هذا لفكر الديني ـ الذي تخلف بعد توقف الاجتهاد فيه ـ والذي رسي أخيراً على شواطئ التطرف والتكفير والذبح والحرق والقتل الجماعي ..فأنتج لنا ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة – ثلاثة أرباع ظوهرنا السلبية، وواقعنا البائس الحالي برمته!!
وهذه الحقيقة التاريخية المرة، هي التي توالد نسلها العقيم في ربوعنا العربي، وأنتج لنا ظواهر سلبية يصعب عدها أو حصرها، وقد تزاوجت مع بعضها موضوعياً (فولدت لنا) ظواهر فرعية أخرى صغيرة وكثيرة العدد.
وقد تكاثرت هذه الظواهر السلبية بشكل أميبي في واقعنا العربي، وأوصلتنا إلى ما نحن فيه من ضياع شبه كامل وشامل. ويمكن إجمال هذه الظواهر السلبية الرئيسية بالآتي:
• أولاً: ظاهرة الإسلام السياسي والاسلامويين، بمختلف مدارسهم وشعبهم وتقسيماتهم ومسمياتهم وتوجهاتهم..وما أفرزوه على أرض الواقع العربي من اشكالات متنوعة، أغلبها مريبة ودموية وكارثية!!
• ثانياً: ظاهرة الثورات العربية، وما آلت إلية أخيراً من نتائج مأساوية وتخريبية، أطاحت تقريباً بوجود الدولة الوطنية القطرية العربية، وانحدرت بها إلى ما دون الإقليمية، كالدول الطائفية أو شبه الطائفية ..وأفرزت واقعاً طائفياً تقسيمياً تفتيتياً انعزالياً في عموم الوطن العربي!!
• ثالثاً: ظاهرة انهيار أو شبه انهيار للكيانات العربية التاريخية، كالعراق وسورية ومصر..وهي الكيانات العربية المحورية، التي قام على أكتافها التاريخ العربي والحضارة العربية وبناء صروح هذه الأمة العربية .
• رابعاً: ظاهرة انعاش وتقوية الأطراف البدوية العربية، على حساب المراكز الحضارية العربية الكبرى ..بحيث تأخذ مشيخة صغيرة مثل قطر أدوار مصر أو العراق أو سورية الريادية والإقليمية.. وتحل محلهم في قيادة الأمة !!
• خامساً: ظاهرة تعظيم دور الأقليات الإثنية والطائفية في الوطن العربي، كالكرد في العراق والحوثيين في اليمن والبربر (الأمازيغ) في المغرب العربي، على حساب حقوق الأكثريات العربية وسيادة الدولة الوطنية العربية .
وهذه الظواهر الرئيسية الخطيرة - وتوابعها الفرعية - لا زالت تتفاعل فيما بينها، وتفرز لنا كل يوم نتائج سيئة جديدة تتراكم أجزائها فوق بعضها، وتدفع بواقعنا العربي نحو الانهيار الشامل.
ونحن في الحقيقة لا نعرف إلى أين تسير بنا هذه القافلة المعصوبة العينين، ولا ندري في أية محطة ستحط ركابها بهذه الأمة البائسة!!
لقد غيرت هذه الظواهر الخطيرة والكبيرة حياتنا إلى الأبد، ويمكنها أن تستمر في تغيرنا نحو الأسوأ فالأسوأ كل يوم، وقد تصل بنا إلى حدود الاعودة والخروج من التاريخ نهائياً .
ولأجل هذا فإننا بحاجة ماسة جداً، لدراسة كل ما حدث لنا وأوصلنا إلى هذا الضياع، ومطالبون بكشف الأسباب الحقيقية التي أدت إليها، عسى أن يساهم هذا الكشف ـ إن حصل ـ في وقف انحدارنا الخطير (هذا) نحو الهاوية .
وطبعاً لا يمكن الوصول إلى تلك الأسباب الحقيقية إلا من خلال دراسات علمية جادة [بحوث ، تحليلات ، تنظيرات] بانورامية شاملة وكاشفة، وعلى كل المستويات الفكرية والنظرية والعملية!!
ونحن ـ في مقالنا هذاـ نريد لفت الانظار إلى هذه الظواهر الخطيرة ـ وبتواضع تام ـ نود المساهمة في الدراسات الجادة المقترحة حولها .
إن جميع الظواهر الخطير والكبيرة التي تعشعش في واقعنا العربي وتخيم على حياتنا العربية، قد تولد بعضها عن بعض وأدى بعضها إلى بعض بصورة جدلية. فمن أية ظاهرة تُبدأ دراستها، فأنها ستأخذ دارسها إلى باق الظواهر بصورة حتمية .
والأفضل – عندي- أن نبدأ دراستها من ظاهرة الثورات العربية..فالثورات العربية كانت هي الحدث الأكبر والأغرب في تاريخنا الحديث، كما أنها كانت الباب الذي دخلت منه كل الظواهر الخطيرة الأخرى .
وأيضاً لأن الثورات العربية كانت غريبة في طبيعتها ومسيرتها وتأثيراتها ونتائجها، ومختلفة جذرياً عن مسارات باقي الثورات التي عرفتها الانسانية، وشكلت حالة متفردة بينها، وخالفت بطابعها المتفرد هذا كل التقاليد والقيم والمفاهيم الثورية المتعارف عليها في علم الثورات، المستخلص من التجارب الثورية الكثيرة التي عاشتها البشرية، وأهمها:
أن الثورة ـ أية ثورة في العالم ـ لكي تقوم وتنجح يجب أن تتسلح بثلاثة أركان أساسية هي [نظرية ثورية ، ونخبة ثورية ، وحزب ثوري] .
لكن الثورات العربية قامت بدون أن تمتلك أي من هذه الأدوات الثورية.. ولهذا تحولت – على رأي البعض - بالنتيجة إلى فوضى مدمرة.. ومع هذا فهل يمكننا أن ننكر على الثورات العربية ثوريتها؟..أو أن نصفها بغير صفة الثورة؟.. أو نردد كالآخرين: بأنها لم تكن ثورة.. إنما هي مؤامرة ؟
الحقيقة التي قد يخالفنا الكثيرون عليها هي: أن الثورات العربية ـ من وجهة نظرنا ـ كانت ثورات حقيقية وثورات شعبية بكل ما تعنيه الكلمات من معنى..لكنها كانت ـ وهذا ما يميزها ـ من نمط خاص وغير تقليدي، ولا تنطبق عليها الشروط والمفاهيم التقليدية المتعارف عليها في توصيف أو تصنيف الثورات الشعبية..ولهذا اختلفت الآراء عليها وحولها كثيراً !!
ولأنها كانت ثورات شعبية من نمط خاص، فإنها بحاجة إلى إطار نظري خاص أيضاً، كي يمكن فهمها وفك طلاسمها والوصول إلى جذورها الموضوعية، التي أدت إلى تفجرها بهذه الصورة الجماهيرية الغير مسبوقة، وأسباب استمراريتها طوال هذه السنين، وتحولها أخيراً إلى ثورة مضادة لروح الثورة الأصلية!!
لقد كتبنا ـ وحاولنا طوال سنين الثورات ـ تفكيك طلاسم هذه الثورات العربية، وفهم كنهها وتحولاتها المختلفة..وذلك من خلال مفاهيم نظرية خاصة ومبسطة تشكلت عندنا ـ كانعكاس ذهني ـ لحالة الثورات العربية نفسها في ثلاث مظاهر صميمية منها وهي: [عدم الثبات المبدئي ، استمراريتها الحركية ، تمظهراتها وتقلباتها المبهمة] .. عسى أن نتوصل من خلالها إلى فهم أفضل لموضوعة الثورات، ولموضوعة الثورات العربية بصورة خاصة.. ولقد أطلقنا على هذه المفاهيم المبسطة أسماءً مؤقتة هي: الثورات المؤجلة.. والثورات المستعجلة !!
***
فالثورات المؤجلة : نعني بها كل تلك الثورات الشعبية التاريخية الكبرى في تاريخ البشرية، والتي مرت بها معظم الشعوب الحية في لحظة حرجة من لحظات تاريخها الطويل .
لكن ـ وهذا هو جوهر مفهوم الثورة المؤجلة ـ أن تلك الثورات لم تنجح استراتيجياً أو تكتيكياً في حينها، ولم تعطي ثمارها مباشرة لمن قام بها أو للمجتمع الذي ولدت من رحمه.. إنما بقيت تلك الثورة وثمارها مؤجلة ومعلقة لسنين أو عقود وربما لقرون قادمة.
وهذا حصل مع كثير من الثورات..فالثورة الفرنسية مثلاً: استمرت أحداثها وتفاعلاتها الثورية لمدة قرن كامل من الزمان تقريباً.. لكنها بالنتيجة النهائية قد انتصرت، وغيرت وجه فرنسا وأوربا بكاملها ومن بعدها العالم كله.. ثم أنتجت ـ وبعد معاناة طويلة ـ فرنسا الحديثة، كواحدة من أقطاب عصرنا الحالي المؤثرة في جميع قارات العالم .
وكما كانت الثورة الفرنسية كانت الثورة الروسية، وهي أيضاً التي خلقت روسيا الحديثة ومعسكرها المنافس للمعسكر الرأسمالي، وواحد من القطبين الوحيدين في العالم.. ومثلهما كانت الثورة الصينية التي أخذت تعطي ثمارها (الآن) إلى الأمة الصينية، وترشحها لتكون القوة الأولى في العالم !!
والثورات الشعبية التاريخية الكبرى عادة تترتب عليها وترافقها دائماً، ويلات إنسانية وتغيرات شاملة وعاصفة ومدمرة في بعض الاحيان..لكنها بالنتيجة النهائية ـ ولأنها تقدمية الجوهر ـ ستستقر وتثبّت قيمها الجديدة وتدفع الحياة إلى أمام، وتؤدي إلى نقلة نوعية وتقدمية في حياة المجتمع والأمة ككل .
لكن ـ وهذا مهم جداً ـ متما فقدت الثورة صفة النقلة النوعية التقدمية نحو الأفضل بالنسبة للشعب والدولة والمجتمع ككل، تكون قد فقدت ـ في حينها وليس للأبد ـ صفتها كثورة.. وهذا ما حدث لكثير من الثورات وللثورات العربية بالذات، فالثورات العربية قد تحولت إلى ردة سوداء وأداة تخريب و (سلاح دمار شامل) للحياة الاجتماعية والإنسانية العربية.
وذلك لأن الشرط الموضوعي لكل ثورة، وللثورات الشعبية التاريخية بالذات هو أن تكون:
 كل القيم والمفاهيم والعلاقات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإنتاجية والتقنية والسلطوية السائدة في المجتمع، قد أصابها الهرم والخرف والتخلف، وتجاوزها الزمن ولم تعد صالحة للاستخدام في داخل ذلك المجتمع .
 ولأن تلك القيم والمفاهيم قد وصلت إلى ذلك التهرؤ، فهذا يعني أن المجتمع قد تطور موضوعياً إلى ما هو أكثر منها تقدماً، ولم تعد تلك القيم قادرة على تسير شؤون حياته.. فهو يحتاج إلى قيم ومفاهيم وعلاقات جديدة، تناسب مرحلة تطوره الفكري والحضاري التي وصلها في مسيرته التاريخية .
 وهذه المرحلة من التطور المجتمعي تعني، أن الثورة قد استوجبت موضوعياً وتاريخياً.. وقد أوجبتها قوانين التاريخ وآليات والمجتمع، وليس الأمزجة الشخصية أو الفئوية..
فتقوم الثورة الشعبية التاريخية حينئذ، لتصحح جميع هذه الأوضاع المتهرئة في المجتمع، وتغيّر كل القيم والمفاهيم والعلاقات التي أنتجتها المرحلة السابقة، وترتفع بها إلى حالة التطور الموضوعي الأعلى التي وصلها المجتمع .
وإذا ما فشلت الثورة في إحداث هذا (التغير التقدمي) تكون قد فشلت أيضاً – وإلى حين وليس إلى الأبد - في أن تكون ثورة شعبية تاريخية حقيقية مثمرة ومنتجة، وتحولت إلى نقيضها المباشر، كردة رجعية سوداء (وهذا ما حصل للثورات العربية).
ويمكننا أن نطلق على مثل هذه الثورات الكبرى اسم: الثورات التاريخية المؤجلة :
• تاريخية: لأن أولاً: أغلب عناصرها تكمن في التاريخ وليس في الحاضر الراهن وحده..
• وثانياً: لأنها ذات طبيعة تراكمية، وتأخذ سنين وعقود وربما قرون من التراكم، حتى تنضج عواملها وشروطها الموضوعية، وتمكّن محركاتها في النهاية من الاشتغال.. واشعال الثورة .
وتسمى ومؤجلة : لأنها لا تعطي ثمارها مباشرة للأمة والمجتمع الذي فجرها وتفجرت داخله، إنما تأخذ دورة تاريخية طويلة في الزمان والمكان، حتى ترى الأمة ومجتمعها تلك الثمار يانعة وناضجة !!
والثورات الشعبية التاريخية تشبه البركان: فالبركان لا يرى بالعيون المجردة لكنه يغلي في الأعماق، ومتما وجد ثغرة صغيرة في قشرة الأرض انفجر، وأخرج بلمح البصر كل ما في جوفه من حمم ملتهبة.. وكذلك الثورات الشعبية التاريخية تكمن في أعماق وخلايا المجتمع، ومتما وجدت ثغرة صغيرة، انفجرت وفجرت ذلك المجتمع الراكد، وأخرجت كل الخزين التاريخي من ظلم واضطهاد واستبداد.. بلمح البصر أيضاً!!
والصورة المثالية لهذا النوع من الثورات الشعبية التاريخية الكبرى، ولهذه اللحظة الثورية التاريخية النادرة، مثلها الشهيد محمد البوعزيزي في الثورات العربية عندما أقدم على إحراق نفسه.. فأدى بعمله هذا دور الصاعق في تفجير الأوضاع العربية برمتها بثورات شعبية شاملة، وبصورة دراماتيكية نادرة الحدوث .
ولم تتفجر هذه الأوضاع العربية، لأن الجماهير العربية قد تعاطفت مع البوعزيزي قد أحرق نفسه، احتجاجاً على الظلم الكبير الذي تعرض له كشخص.. إنما تعاطفت مع نفسها، ورأت فيه صورتها وصورة الظلم الذي تتعرض له هي كل يوم .
فكانت عوامل التفجر والثورة متراكمة داخل خلايا نسيج المجتمعات العربية منذ أجيال، وكان البوعزيزي هو الصاعق الذي فجرها في لحظة تاريخية نادرة، وفجر معها كل التناقضات العربية الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية.....إلخ
والثورات الشعبية التاريخية كالبركان أيضاً، فالبركان لا يثور دائماً لكنه يغلي دائماً..ودائماً يصطدم بالطبقة الصلدة من قشرة الأرض..وكذلك عوامل الثورات الشعبية التاريخية، فهي كالبركان تغلي داخل جدران المجتمعات وخلاياها الحية محاولة الخروج ، لكنها تصطدم دائماً بجدران السلطة الحاكمة وأدواتها وطبقاتها الفاسدة، فترتد (كالبركان أيضاً) تبحث عن ثغرة مناسبة لها، وعندما تجدها تنفجر بقوة هائلة (تمثل قوة) كل حالات الفشل السابقة مجتمعة..ولهذا تكون عنيفة جداً !!
والثورات الشعبية الكبرى تفشل مرات ومرات، لكنها لا تموت ..وعندما تفشل تجهض وتحتبس إلى حين، وتصبح في حالة كمون، منتظرة لحظة تاريخية مناسبة أخرى .
وهذه اللحظة المناسبة لا تأتي عادة، إلا بعد مرور دورة تاريخية كاملة تنضج خلالها عواملها مرة أخرى.. فتستعيد قوتها وزخمها الثوري من جديد، لتحقق أهدافها التاريخية المجهضة في النهاية حتماً .
والثورات العربية كانت ثورات شعبية من هذا النوع التاريخي، لكنها أجهضت بواسطة قوى ثورة مضادة وأصبحت في حالة كمون تنتظر لحظة أخرى مناسبة تاريخياً.. وقوى الثورة المضادة هذه، هي قوى اجتماعية داخلية ومتنوعة الإيديولوجيات والمصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومرتبطة مصيرياً مع قوى إقليمية ودولية أجنبية .
***
أما الثورات المستعجلة : فنعني بها تلك التغيرات السياسية والانقلابات العسكرية ذات الطبيعة السريعة والمرتجلة، والتي تحدث عادة نتيجة لأزمة سياسية أو اقتصادية أو مجتمعية طارئة، أو لخلافات وطموحات شخصية.
وأمثلة هذه الثورات المستعجلة كثيرة ومتنوعة، وتملأ جغرافية العالم الثالث بأكمله، ومنها جغرافية وطننا العربي ومنه العراق وسورية واليمن وبصورة أخص .
لكن – وهذا نادر جداً – أن تتصادف ثورة مستعجلة أو انقلاب عسكري مع موجة محتبسة لثورة شعبية تاريخية كانت تقف على الأبواب.. فتلتقي الثورتان ـ المستعجلة والمؤجلة ـ في لحظة تاريخية مناسبة، وفي حضن مجتمع نضجت ظروفه الموضوعية لاستقبالهما.. فتكتسب الثورتان من (هذا اللقاء) خط سير واحد أو متوازي باتجاه أهداف متقاربة، وقد تتوحد مسيرتهما حالاً أو لاحقاً :
فتكتسب الأولى من هذا اللقاء: صفة التاريخية، فتتجاوز بها سمتها الاستعجالية أو الانقلابية أو الشخصية..وتكتسب الثانية: قيادة إنسانية استقت تاريخيتها من خلال توحدها مع اللحظة التاريخية الناضجة، وانضوائها تحت لوائها!!
ومع هذا فإن التقاء الثورتين ـ المستعجلة والمؤجلة ـ هنا يبدو وصفياً..لكنه ربما يخفي في طياته حقيقة أكثر تاريخية وجوهرية وهي: أن التقاء الثورتين لم يكن مصادفة تاريخية كاملة، إنما كانت واحدة من التمظهرات الكثيرة للثورة الشعبية التاريخية المحتبسة على الأبواب، وإن الشخوص الانسانية التي قادت الثورة المستعجلة وانقلابها العسكري، كانا صدىً تاريخياً وانعكاساً موضوعياً لتلك الثورة الشعبية التاريخية المحتبسة .
ولهذا عندما التقيا الطرفان.. تعارفا بسرعة وتوحدا بسرعة وأنجزا أو أشرا بسرعة أيضاً، على أغلب الاستحقاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية لمهمات الثورية الشعبية، وبمواصفاتها التاريخية، وبطريقة لم يعرفها أو يألفها ذلك المجتمع من قبل .
وإذا أردنا أن نضرب مثلاً صادقاً لهذا اللقاء التاريخي بين الثورتين (المؤجلة والمستعجلة) من بين آلاف الأمثلة التي يعج بها عالمنا الثالث ووطننا العربي بالذات، فلن نجد من تنطبق عليه كل هذه السمات التاريخية الفريدة سوى [ثورة 23 يوليو 1952] وقائدها الزعيم جمال عبد الناصر .
هذه الثورة التي أخذ بريقها يتجدد وشعبها يتوحد خلف أهداف (ثورة 23 يوليو) من جديد بعد ثورة يناير 2011، وبعد ما يقارب أكثر من وأربعين عاما من رحيل قائدها جمال عبد الناصر، وبعد تشويه صورتها وتحريف مضمونها طوال كل هذه السنين العجاف من أطراف عديدة .
ولو لم يلتق انقلاب23 يوليو/ تموز 1952 بموجة تاريخية كانت محتبسة على أبواب مصر وأمتها العربية ويتوحد معها، لما أكتسب عبد الناصر وانقلابه العسكري كل هذه الأهمية في التاريخ وكل هذه الاستمرارية التاريخية.. ولعد هذا الانقلاب وقيادته كغيرها من مئات القيادات والانقلابات العسكرية التي مر بها عالمنا الثالث ووطننا العربي بالذات، ولنسيته الجماهير كما نسيت غيره من الانقلابات والقيادات السياسية الكثيرة !!
***
والثورات بصورة عامة، والثورات الشعبية التاريخية منها بالذات، لا تنطلق من فراغ ولا تنضج في فراغ، إنما هي وليدة ظروف وشروط موضوعية ـ داخلية وخارجية ـ تتظافر مع بعضها ومع الإرادة الانسانية لتقدح زناد الثورة .
والظروف والشروط الموضوعية تشكل دائماً النسيج الأعمق للثورات الشعبية الكبرى..رغم أن هذه الظروف الموضوعية لا تبدو واضحة ومباشرة في الأحداث اليومية للثورات الشعبية، إنما هي تقبع في خلفية الأحداث الثورية ولا يلتفتن إليها أحد..الذي يبدو واضحاً جداً للعيان أثناء الثورات الشعبية الكبرى ـ ويبدو كأنه سببها المباشر ـ هي المطالب الآنية والمباشرة للجماهير الثائرة.. كالشعارات التي رفعتها الثورات العربية في بدايات انطلاقاتها:
عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية ، ديمقراطية، حقوق إنسان.....إلخ .
فخلف خطوط هذه الشعارات الثورية مباشرة، تعمل الظروف والشروط الموضوعية التاريخية للثورات الشعبية بصمت.. وهذه الشروط كثيرة ومتعددة أهمها ثلاثة شروط قاسية ـ مع تفرعات كثيرة مصاحبة لها ـ وهي:
(1) زيادة عدد السكان ونسبة الشباب بينهم، وفشل الدولة والمجتمع في احتوائهم اجتماعياً وانتاجياً ووظيفياً*!! .
(2) تطور وسائل الإعلام وطرق التواصل بين المجتمعات، وبين قطاعات المجتمع الواحد وأساليب التأثير فيها !!
(3) تغير نوعي في البيئة السياسية والاقتصادية الاقليمية أو العالمية!! .
[email protected]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ:
* سبق لل " الحوار المتمدن " أن نشر لنا حول هذا الموضوع بالذات مقال: " الأسباب والشروط الموضوعية للثورات الشعبية " بتاريخ 2016-6-19 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماهر الأحدب: عمليات التجميل لم تكن معروفة وكانت حكرا على الم


.. ما هي غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب؟




.. شرطة نيويورك تعتقل متظاهرين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة


.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا




.. كلمة مشعان البراق عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتي