الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفرق بين -المسيحية- و -الصليبية-

محمود عبد الله
أستاذ جامعي وكاتب مصري

(Dr Mahmoud Mohammad Sayed Abdallah)

2016 / 11 / 13
المجتمع المدني


الفرق بين "المسيحية" و "الصليبية"
د. محمود محمد سيد عبد الله (كلية التربية - جامعة أسيوط)

اقتضت حكمة وسماحة الإسلام ألا يكون في موضع عداء مع أي دين أو ملة أيا كانت، فقد قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: "لكم دينكم ولي دين" وقال أيضا (عز من قائل): " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"...وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بهؤلاء "الذين لم يقاتلوكم في الدين" جميع الأديان والملل وليس مشركي مكة فقط...ومن ثم انسحبت هذه الآية على كل المواقف والعصور وأصبح لزاما على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتعامل بالحسنى مع الآخر...أي مع كل من خالفه في الدين...ولكن شريطة ألا يقاتلني هذا الآخر ويضع مخططات طويلة الأمد تستهدف طردي من وطني مثلا!

لذا ، أقول - بكل ثقة - أن الإسلام لم يعاد أي دين سماوي فكل الأديان السماوية والأنبياء الذين سبقوا نبينا محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) مذكورين ومكرمين في القرآن...خاصة المسيحية وسيدنا المسيح عيسى عليه السلام...وأبرز مثال على ذلك سورة "مريم" التي كرمها وبرأها القرآن الكريم من الزنا وخصها بسورة كاملة نحبها ونتلوها ليل نهار...لقد برأها القرآن بعد أن اتهمها بعض اليهود بالزنا مع يوسف النجار الذي نسبوا إليه سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام! قال تعالى: (واذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا* قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا*قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا*قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) صدق الله العظيم

وبنالء عليه ، ليس منطقيا أن يكره أي مسلم منا أو أي فصيل ينتمي إلى الإسلام المسيحية والمسيحيين...ولكننا نكره ونمقت بشدة أي تطرف أو خلل في الفكر الديني والتوجه الإجتماعي القائم عليه..وبالذات ما يسمى "الصليبية"...بنفس الدرجة التي نكره بها "الصهيونية" كاتجاه إبادي عنصري دون أن نكره "اليهودية" كديانة سماوية نؤمن بها جميعا ونحترمها ونحترم النبي الذي بعث بهذه الرسالة (كليم الله..سيدنا موسى عليه السلام) في بني اسرائيل بمصر! إننا نكره الصليبية كاتجاه مسيحي متعصب أطل علينا من نافذة التاريخ منذ زمن بعيد...في العصور الوسطى...متمثلا في الحملات الصليبية الغاشمة على مصر والشام والتي اتخذت من الصليب شعارا لها والمسيحية دين الحب والوئام والسلام منها براء! وأطلت علينا الصليبية مرة أخرى بعد الألفية في ثوب جديد (مودرن) تحت لواء الرئيس الأمريكي السابق "جورج بوش" (الإبن) وتحت قناع ما أسموه آنذاك "الحرب على الإرهاب" - وهي الذريعة التي دمر بها الأمريكان "العراق" (بمعاونة البرادعي - كما هو معروف آنذاك - حيث أعطاهم المبرر وهو وجود أسلحة نووية لم تكن موجودة في الأساس وما زال البحث عنها جاريا حتى الآن) و بعدها "أفغانستان" (بعد أحداث 11 سبتمبر 2001) وكانت بمثابة أكبر خطأ عنصري للإدارة الأمريكية لن يغفره التاريخ لأمريكا بلد الحريات والديمقراطية ما زالت تدفع ثمنه حتى الآن!

لا أريد أن أتوسع أكثر في الموضوع فالكلام كثير لن تستوعبه هذه المقالة الصغيرة، ولكني سأعطيكم أمثلة من الواقع المصري المعاصر الذي لمسته طيلة السنوات الماضية من عمري...خلال هذه الرحلة، لمست أمورا كثيرة تعكس هذه "الصليبية" الفجة التي ما أنزل الله بها من سلطان ولم يأمر بها السيد المسيح عليه السلام والذي قال: "أحبوا أعداءكم وصلوا من أجلهم"...وقال أيضا: "إذا ضربك أخاك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر"! مثلا:
-من الطبيعي أن نحترم الكنائس كدور عبادة وكجزء من الإرث المصري القبطي الذي يخصنا جميعا (ولما لا ومعظم المسلمين أقباط في الأصل يعني أصحاب وطن اختاروا الإسلام بعد مجيئ سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه والذي فتح مصر وخلص مسيحيها من اضطهاد الرومان لهم لاختلافهم معهم في المذهب...واختيار دين ما أو تغييره لا ينفي عنك امتلاكك لوطنك لأننا لم نأت كلنا من الجزيرة العربية كما يدعي بعض الصليبيين المعتوهين!)...وسيذكر التاريخ أنه في أثتاء حكم المجلس العسكري وفي ظل احتدام الفتنة الطائفية التي اشتعلت في الجيزة وغيرها من مدن مصر، كان شباب المسلمين (بالذات أبناء التيارات الإسلامية المختلفة) يشكلون دروعا بشرية حول الكثير من الكنائس لحمايتها من البلطجية وبعض المتعصبين...ولكن عندما احرقت وانتهكت حرمات المساجد بالذات في الاسكندرية في ظل حكم مرسي لم يحرك أحد ساكنا بالذات الشرطة والجيش وكأن دور العبادة الإسلامية مستباحة لا قيمة لها والاعتداء عليها عادي جدا ولا يشكل أي خطر على الأمن القومي! ولكن ليس من الطبيعي أن تكون الكنائس ترسانة أسلحة أو أماكن للحض على العنف والكراهية ومعاداة المسلمين! ليس من الطبيعي أن يخرج من دور العبادة هذه التي ترتدي الثوب الكهنوتي الروحاني الذي تجرد من الدنيا ومن السياسة ما يطلق عليه "جيش المسيح" الذي أفرز لنا - كما كان يقال حينئذ - مجموعات "البلاك بلوك" االمسلحة والمدربة تدريبا عاليا والتي نسبها بعض الاعلاميين إلى الإخوان المسلمين بعد خروجهم من سدة الحكم! والحقيقة الكاملة لا يعلمها إلا الله - سبحانه وتعالى!

-من الطبيعي أن تكون هناك جمعيات مسيحية وخدمية تترجم الدين المسيحي المتسامح والروحاني بطبيعته إلى خدمات ملموسة على أرض الواقع...ولكن ليس من الطبيعي أبدا أن تكون هنا في أسيوط جمعية مسيحية مشهورة باسم "جمعية إيذاء المسلمين" والتي يعرفها الكثير من المسلمين هنا...هذا الاسم في حد ذاته وصمة عار على الكنيسة ويجسد "الصليبية" التي أوردناها آنفا في أبشع صورها!!!

لطالما ظلمت الأنظمة السابقة الكثير من المسلمين الأبرياء في هذا البلد وألصقت التهم الباطلة بهم بأوامر عليا وتحيزت أحيانا - بالذات في عصر مبارك - وبشكل سافر للمسيحيين على حساب المسلمين، ولطالما غض الاعلام العاهر الطرف عن أي ممارسات متعصبة من جانب المسيحيين وتجاهل تصريحات بعض القساوسة المتعصبين (من أمام ماسبيرو) عن طرد المسلمين "لو ما قعدوش في بلدنا بأدبهم" على حد تعبيرهم (وهذه الفيديوهات موجودة على اليوتيوب لمن يريد أن يتأكد من ذلك)...إذا أنت في بلد تحابي الأقلية وتضحي بالأغلبية المسلمة اللي أرواحهم ومساجدهم وممتلكاتهم وكرامتهم رخيصة قوي! انظر كم من المساجد حوصرت واعتدي عليها دون أن يحرك أحد ساكنا..وتأمل ما يحدث لو خدشت كنيسة من الكنائس؟! انظر عندما يتجبر رئيس مسيحي على مرءوسيه المسلمين ويذيقهم الأمرين ولا يعترض أحد ، في حين أنه عندما يتعثر مسيحي في الحصول على وظيفة أو ترقية تقوم الدنيا ولا تقعد - ويصدر الأمر للناس على أنه "اضهاد ديني"! ولا أعلم - في الحقيقة - من الذي يجب أن يشعر بالقهر والإضطهاد والتمييز في هذا البلد؟!

ختاما أقول أن "الصليبية" الجديدة من الأشياء الخطيرة فعلا على الأمن القومي والسلم الإجتماعي! وبدلا من أن يصرخ ليل نهار شخص مثل توفيق عكاشة محذرا من "الماسونية الإسلامية" التي لا وجود لها إلا في خياله المريض فقط، أتمنى أن يتجرأ يوما ويفتح ملف "الصليبية المسيحية" ومخطط تقسيم مصر وطرد المسلمين منها...ولو أنني مؤمن تماما بأنه من يشكك في أحقية المسلمين (قبطي الأصل) في بلدهم وأن النسبة الضئيلة الموجودة حاليا من المسيحيين في مصر (والتي لا تتجاوز 10%) هي بسبب اعتناق معظم المسيحيين (أجدادهم وأجدادننا) للدين الإسلامي فور الفتح الاسلامي لمصر، هو أكيد انسان يعاني من خلل ذهني أو نفسي واضح! ولو كان الأمر بأسبقية وجود الدين في بلد ما (كما يعلق معاتيه ماسبيرو في الفيديو الشهير: "إحنا الديانة الأصلية لمصر..وإحنا إللي جينا الأول")، لكان "بنو اسرائيل" (أصل اليهود) هم أحق بمصر من أي أحد لأنهم وجدوا قبل أي أحد!!! من خلال وجودي في بريطانيا أيقنت أنها بعد سنوات قد تتحول من "دولة مسيحية" إلى "دولة إسلامية" نظرا لاتساع رقعة المسلمين هناك واعتناق الكثير من أصدقائي البريطانيين للدين الإسلامي...ولو فرضنا ان فيه واحد من أصدقائي مثلا هناك اسمه "جون" تحول من المسيحية إلى الإسلام (وهو بريطاني طبعا)...هل من الممكن ان يجيله حد متخلف عقليا هناك يقوله: "انت لازم تسيب البلد يا جون وتروح الجزيرة العربية! إحنا الأصل وانت وافد علينا وانت دلوقت مسلم غريب"!!! أكيد صديقي "جون" حيرد عليه ساخرا: "انت مجنون يا بني؟؟ مش أنا بريطاني زيي زيك بس اخترت الإسلام دينا لي...وما فيش قانون في الدنيا يغير جنسية حد كده أتوماتيك بمجرد اعتناقه لدين آخر"!

ختاما أقول: التعصب موجود في كل دين وملة..ولا يمكن - في معظم الأحوال - أن تقنع متعصبا بما يمليه عليه العقل والمنطق..فقد إختار ألا يفهم..وأن يحيط إرثه الثقيل ومخزونه الفكري الضال بسياج حديدي كي يحميه من أي تغيير أو تبديل أو تطوير! لقد إختار أن يكون بينه وبين "المرونة العقلية" و"تقبل الآخر" نسيا منسيا..لذا أنادي كل المؤسسات الدينية (إسلامية ومسيحية ويهودية): من فضلكم..غيروا من الخطاب الديني قليلا..وحاولوا تغليب الناحية "الإنسانية"..ادعوا إلى التصالح مع الآخرين ونبذ العنف والفرقة والتعصب..
تحياتي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي