الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فاضل حاتم وفضاؤهُ الشعري

عبد الفتاح المطلبي

2016 / 11 / 16
الادب والفن


فاضل حاتم وفضاؤه الشعري
إنطباعات من خلال عتبات دواوينه الرئيسة
عبد الفتاح المطلبي

منذُ بلوغ العقل البشري سن الرشد بعد طفولةٍ طويلة انصب هم هذا العقل على على البحث عن إجابة لسؤال ٍ ظلّ يؤرق الإنسان وما زال يؤرقه ، لماذا الموت ؟
أفرز هذا السؤال جدلا غيرَ منقطعٍ وبحثاً دؤوبا عن الخلود فكانت الملاحم العظيمة ،ملحمة كَلكامش السومرية، الألياذة ،الأوديسة لهومروس والشاهنامة للفردوسي ، المهابهارتا الهندية، الكومديا الإلهية لدانتي أليجيري وغيرها الكثير ، لكن الملاحم التي تحاول الإجابة على السؤال الوجودي المزمن حول الحياة والموت هي التي شغلت هذا الإنسان منذ بواكير عصوره إلى زمننا الحاضروكان للشعر في تلك الملاحم القدح المُعلّى دائماً
الشعر نتاج احتدام العواطف وتدفق المشاعر وتناسل الأسئلة في الرؤوس وعندما تعجز الوقائع عن تبرير الحوادث وعن إيجاد أجوبة بقدر الأسئلة يلجأ الإنسان إلى فتح صنابير العاطفة لتنثال شعرا يختلط فيه السؤال مع النجوى بحضور الشجن ويستحيل الكائن الشاعر إلى نصفِ غائبٍ عن الوعي ونصف يقظان متسامحٍ مع تمرد الروح التي لا
تجد ملاذا لعجزها عن الإجابة إلا بالشعر الذي تتطاير كلماته مثل حمامٍ مفزوع أحيانا ومثل قطيع غزلانٍ نافرٍ من وحشٍ كاسر
عرفتُ الشاعر فاضل حاتم من خلال نصوصه التي نشرها في موقع النوروكنت أتابع ما يكتب باستمرار وكان القاسم المشترك لكتاباته الشعرية هو المرأة وتلك العلاقة المرهفة بينها وبين عاشقها ...ولم أكن يومها قد التقيت الرجل وحين التقيته في شارع المتنبي تيقنت تماما أنني أمام شاعرٍ ممتلئٍ يفيض من جلده الشعر وتنبع من عينيه القصائد وحال استماعك لحديثه الطلي ونبرته الهادئة يتبادر إلى ذهنك أنك في حضرة شاعر... بيدَ أنه في دواوينه التي نشرها تباعا وبمدة قصيرة نسبيا كان الموت ،شريكا آخر يحظربقوة في ميادين قصائد دواوينه الأخيرة
المرأةُ والموت يتقاسمان روح الشاعر فاضل حاتم وأكاد أجزم أن هاتين القضيتين هما ما شغل الشعراء جميعا إذا استثنينا قصائد المناسبات ولطالما اختلط الوطن بالمرأة وبالموت وفي هذا أستطيع القول أن فاضل حاتم قد سلك درب أسلافه الشعراء وحايث همومهم في هذه المناحي، تشكل عتبة العنوان النصية حقلاً محيطاً بالمتن بمعنى الإحتواء ولملمة المعنى من جميع جهاته التأويلية ومعانيه الظاهرة ، هذه محاولة لعرض انطباعات أولية عن تجربة الشاعر فاضل حاتم من خلال العتبات الرئيسة لدواوينة الأربعة وليس خفيا ما للعتبة الرئيسة من أهمية باعتبارها من أهم التكثيفات اللسانية المعنية بالكشفِ عن مكنونات المتن العام وقد يُخطئ من يظن أن العنوان الرئيس أو عملية تشكيله مسألةٌ سهلةٌ فهي إجرائيا يجب أن تأخذ بعين الإعتبار مسألة لملمة خيوط المتن ووضعها في يد المتلقي لكي تسهل عليه عملية تتبع المقاصد واستيعاب المرامي التي جهد الناص في وضعها بالمنصوص
فعندما نتصفح عناوين دواوينه التي أصدرها تباعا في زمن محدود نرى تلك الهموم بشكل جلي ، ولابد من العروج على تلك العتبات لما أسلفنا من أسباب تجعلها بمكان من الأهمية القصوى في الإيحاء إلى المتلقي بما وراء هذه العتبة قبل الدخول إلى أعماقها ونحن لا نتوقع أن نلاقي هناك غير المرأة المعشوقة وهاجس الفراق والموت متجولا بينها كائنا أليفا وكأن الشاعر قد تعرف عليه من قريب وبين هذه وذاك نصادف دفقات من التشكي وإدانة الزمن الرديء ،لدينا أربعُ عتبات رئيسة وكما يلي:
وداع ماري ،
وحدك منفاي وقصيدتي
وحده يكتب وصاياه الأخيرة
الموتى يتسلون بالذكريات
تتوزع العتبات بالتساوي بين الهاجسين ، الأولى والثانية يبرز هاجس الأنثى بشكل واضح بينما العتبتان الأخيرتان تختصان بهاجس الموت كما هو واضح من ((وصاياه الأخيرة)) و((الموتى ))
تشترك هذه العتبات بالتوتر السلبي الذي قصد منه الشاعر شحن العتبات تلك بما يجد وما يعتمل في النفس من زوايا مختلفة ولو فككنا البنية النصية لها كل على حدة ثم تتبعنا حبات المقاصد المسلوكة في خيط المعنى الرهيف لرأينا أنها تلتقي في عقدة واحدة مثل أسفاط من الخرزالمنضود بخيوط عديدة تجمعها جميعا عقدة واحدة ، هذه العقدة هي هاجس الموت الذي يرى الشاعر أنه الفأس التي ستقتلع شجرة الحب وتطيح به في يومٍ ما وعلى ذلك يشترك فاضل حاتم مع جميع المتوجسين بموقفه المطل على هذه الحقيقة دون أن يغفل عنها إذ يضع الموت في مرمى مرصده وكأنه يقول له : لستُ غافلا ، أنا أترصدك كما تترصدني ، هذه الحقيقة تجعل من موقف الشاعر في مرصده ميالا إلى انتزاع الإنتصار من عمق الهزائم بوقوفه الواعي على حافات الأبدية راميا سهام قصائده نحو ذلك الوادي السحيق ثم ليحدث بعد ذلك ما يحدث ولنأخذ عتبة ديوانه الأول((وداع ماري)) ، تتألف هذه العتبة من كلمتين تشكلان معنىً مواربا لنفهم أن جللاً قد حدث تشير إليه كلمة وداع ولاشك أن هذه الكلمة مشبعة بسلبٍ غير محدد لتتناسل من خلالها ديدان الأسئلة من قبيل لماذا؟ وكيف؟ و متى وهل؟ ونفهم من الإسم المضاف والمضاف إليه أن فعل الوداع وقع على ماري التي لا نعرف حيثيات لقائها بالمودع ونكتشف أن لقاء ماري ليس عابرا بدلالة الإطلاق في (وداع) والتخصيص في ( ماري) دلالةً على أن هذا الوداع ليس كأي وداع ،هو وداع ماري:يقول الشاعر :
هل انت مثلي
تغرقين في الصمت..؟
وينتابك الغضب لأتفه الأشياء مثلي
اتسلى بقراءة النكات ولا اضحك
أهرب الى الشوارع
اريد ان أسبح تحت المطر
فالمطر وحده القادر
على نزع أحزاني
افتح نافذتي ولا اراك تمرقين
وافتحها ثانية ....وخامسة
ولا ارى غير الظلام
وأغني علني ابددُ الظلام بالغناء وبالكلام
اسمع صمتي
يختنق بدمع العين
والشعر ينشر رذاذه
فوق ردائي
وانزحُ الى سيكارتي
اتحسسُ مرارتها
فهي بلا فنجان قهوتك لا تستاغ
مازال عطرك ملتصقا بقميصي
منذ الامس
وانت تسافرين عبر الشفق الأحمر
من نافذتي
اتحسسك مع خيوط الشمس الغاربة
نحو البحر الغارق في موج الحزن
في هذه القصيدة نسمع صوت الوداع جليا فالشاعر يعاقرُ وحدته ولا جليس معه إلا النجوى / من خلالها نشم رائحة الوجد ونتحسس وقع هذا الوداع ((افتح نافذتي ولا اراك تمرقين))....
أما في ديوانه الموسوم ب(وحدك منفاي وقصيدتي ) ذي الأربع والأربعين نصا شعريا تحضر المرأة حضورا جليا في جميع قصائد هذا الديوان، يقول في قصيدته((مغتربة)):
رغم الظلام
رغم وحشة الطريق الخالية
أحسّ أنك تنزفين
وحيدةً فوق السرير
لا أهلٌ ....لا صديق
وتستمر القصيدة على المنوال ذاته مشحونةً بالتوتر العاطفي السلبي وهكذا هم الشعراء قلما يفارقهم هذا التوتر ذلك أن الشاعر كائن مشاركٌ في حفل الأسى السرمدي لذلك تراهم وأعني الشعراءَ الحقيقيين يشغلهم الأسى وتتناهبهم الأحزان فيسكنون ويصمتون طويلا ليحبل صمتهم بقصيدة دون جلبه ولا صخب وهذه علامة فارقة بين الشاعر ومدعي الشعر الذي يملأ الجو جلبةً وهوسا وصخباً تراه في كل المحافل يصرخ أنا شاعر ولكن هيهات من يصدق؟ وفي هذا الخصوص أقتبس قولا ل(جان جاك روسّو)إذ يقول : أولئك الذين يقرعون الأجراس لا يشاركون في الحفل.
تعتمد قصائد فاضل حاتم في ديوانه(الموتى يتسلون بالذكريات) على الطاقة التعبيرية المشحونة بالعاطفة الصادقةِ دون الذهاب بها بعيدا إلى التأويل فهو يعتمد الجملة الواضحة المعبأة بجماليات الصورة والموسيقى الداخلية ضمن سلسلةٍ من المونولوجات المتواصلة وكأن الشاعر يُحدث نفسه في مكانٍ ما في الأبدية الشاسعة مما جعل نصوص هذا الديوان تتطابق مع القيمة النصية الموحية في عتبته الرئيسة وكأنها سلسلة من الذكريات ..أما الموتى الذين يتسلون بها فهم كل الذين يشكلون هدفا لهذا الموت الذي سيقدم في يومٍ ما (سيأتي الموتُ وله عيناكِ كما يقول الشاعر الإيطالي بافيزي).....يقول الشاعر فاضل حاتم:
لم يعد في داخلي
سوى رمال زاحفة
وضحكة زائفة
وخوف أستترُ به
بثوب الصمت
وهكذا في ديوانه الآخر (وحده يكتبُ وصاياه الأخيرة ) ينسج الشاعر على النول ذاته ويمتح من البئر ذات بئر الأحزان مجللا بالحضور الكلي لهاجس الرحلة ففي هذه العتبة هناك تأكيد على الشعور بالوحدة والتفرد بالشعور الذي يعانيه ،وكأنه يقول دائما أمهله رويدا أيها الزائر العتيد الذي لا محيد عنه ،ألا ترى أن الشاعرمنشغلٌ بكتابة وصاياه الأخيرة وضمير الغائب في وحدهِ يعود لنا جميعا فهذا ال(وحده) يمكن أن يكون أي واحدٍ منا....
ومن ذلك أستطيع الخلوص إلى أن الشاعر فاضل حاتم شاعرٌ حسيٌّ من الصنف الذي لا يصطنع حواجزا بين حسه وقصيدته ففي جميع نصوصه تخرج القصيدة مبللة بحس الشاعر المرهف فيكسوها هذا الحس بحلةٍ من الصدق تستطيع استراج متلقيها إلى شواطئه التي كاد أن يرسم شمسها وهي تميل إلى الغروب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا