الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو انثروبولوجية الواقع الكرزازي

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2016 / 11 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التقيتهم من جديد!

لم التقيهم منذ حوالي ست سنوات، في ذلك الوقت كان البعض منهم أطفالا صغارا غالبيتهم لم تتجاوز 15 سنة، البعض الآخر من الشيوخ الذي شارف الثمانين سنة، إضافة إلى راعية في سن الثلاثين وأخرى في سن العشرين، بالنسبة للأطفال الكثير منهم غادر المدرسة ووجد نفسه في المرعى يتبع قطيعا من الأغنام أو الأبقار، بينما الشيوخ يعدون رعاة متمرسين منذ عقود طويلة، لكن هناك من التحق بالمرعى منذ عقدين بعد أن حصل على التقاعد من شركة التنمية الفلاحية (صوديا )، كان الجو صيفا بشمسه المتقدة في السماء، خلال الصباح كان يسود الهدوء ولكن عند المساء تأتي رياح غربية قوية حاملة موجات من الغبار وخاصة لحظة أفول الشمس عن أرض كرزاز، في ذلك الحين كنت طالبا جامعيا، وفي كل صيف أعود إلى قريتنا لأمضي فيها شهور العطلة الطويلة والكئيبة، المنحة الجامعية التي كانت تعطى لنا لم تكن كافية في القيام بأي رحلة في المغرب وبالكاد تساعدنا في شراء بعض الكتب لتكسير رتابة الصيف، ومرة واحدة خولت لنا زيارة منزل أختي بأكادير جنوب المغرب، غير أنه في ذلك الصيف من عام 2011 نضب كل رصيدي المالي وما كان أمامي سوى المكوث في قريتنا، كانت هذه الأخيرة هادئة ورتيبة ويعمها سكون موحش، خلال الصباح كنت أقرأ كتابا من الكتب التي حملتها معي من الجامعة، وفي المساء أرتدي نعالا رياضيا وأذهب نحو ملعب بدائي كنت قد شيدته رفقة هؤلاء الأطفال الرعاة، كانت مساحة الملعب تقارب 60 متر مربع، وكانت مرمى الملعب عبارة عن حجرتين متقابلتين، يتموقع الملعب في منطقة الشعيبات بقرية بني كرزاز، فمن الناحية الطوبوغرافية يخترق المنطقة المذكورة جدول مائي يدعى بسهب خزيت ويبلغ طوله حوالي 4 كلم ويفصلها إلى شطرين وهما على شكل منحدرين متقابلين يظلل أحدهما الآخر خلال فترتي الشروق والغروب، منحدر شرقي وآخر غربي، كان منزلنا الريفي يوجد في المنحدر الغربي، لذلك كان علي أن أقطع مسافة طويلة لكي ألتحق بالملعب الصغير الذي كان يوجد بالقرب من أحد روافد سهب خزيت وهو سهب الشتوكي حيث يمر بالقرب من حصيدة تحمل نفس الاسم جعل منها الكرزازيون مرعى صيفيا، فنظرا للملكية الصغيرة أو الحيازة المتدنية للأرض إما بسبب الإرث أو بسبب الحصول على جزء قليل من خلال الصراع مع الشتوكي في الماضي أو تفشي سياسة "التحراز" تفقد كل الأراضي الكرزازية رصيدها من الغلال حيث تلتهمها المواشي أو يتم كشطها أو تنخرها "السوسة" أو تطير بها الرياح، ومن ثمة لا يسع الرعاة الكرزازيين الذين أبوا النجوع أو العزيب بمنطقة موالين الواد وبالضبط بالتيرس جنوب وادي النفيفيخ إلا الرعي في حصيدة الشتوكي الواسعة، كانت الحصيدة تغص بالأبقار وبالأغنام والحمير، بالإضافة إلى الباعة الكرزازيين الذين يقفون على حاشية الطريق لبيع البيض واللبن والدجاج والحليب، كان الرعاة من مختلف الأجناس والأعمار، يكبرهم شيخ مسن يصل إلى الثمانين عاما، كان في ذهابه وايابه يمتطي ظهر دابته وفي مشيته يتكىء على عكاز، ويرعى بقرتين وعجلا، كنا في شهر رمضان، وخلال الزوال نستظل بظل نخلة تدعى بكيطة، هذا الاسم كما قال ذلك الشيخ يعزى إلى سيدة فرنسية كانت تشيد منزلا من حجر واسمنت بالقرب من الطريق الجهوية رقم 305 إبان العهد الاستعماري، هذه المرأة كانت تعيش وحيدة رحلت أثناء الاستقلال عام 56 وارتبط اسمها بالنخلة العجفاء التي لازالت واقفة وحية إلى يومنا هذا، الطريق المذكورة حسب صاحبنا كانت تعج بالذاهبين والراجعين الذين يمتطون الحمير، لازال الشيخ يذكر التجار اليهود الذين كانوا يمرون من أرض كرزاز، كانت حمير اليهود عجفاء توضع فوقها بردعة يعتليها الشواري حيث يوضع "الشكاوي" والملابس والعطور والأعلاف والحبوب وغيرها من البضائع، كان اليهود المغاربة يضعون ضفائر على رؤوسهم، وفي هذا الإطار سرد لي الشيخ الكرزازي أن الأطفال الكرزازيين بمجرد ما ينتابهم قافلة اليهود حتى يهجموا عليها بالحجارة ويتلفظون بوابل من الإهانات والشتائم واصفين إياهم بأعداء الله والكفار، وسألت الشيخ ما إن كان يحمل نفس الأفكار التي تبناها في طفولته، أجاب بنعم، لكن شرحت له أن هؤلاء اليهود مغاربة ولا علاقة لهم باليهود الذين احتلوا أرض فلسطين عام 1948 المسمى بعام النكبة، هناك يهود مغاربة بقوا في المغرب ورفضوا الاحتلال الصهيوني بل منهم كتاب ينتقدون بشدة هذا الاحتلال كجاكوب كوهين و ادمون عمران المالح وسيون اسيدون وغيرهم، فليس كل اليهود سيئين ، فوجىء شيخنا الذي جمعتني به صداقة رائعة طيلة صيف 2011 وخضت معه حوارات مميزة تحت نخلة "كيطة" التي كانت مجمعنا دائما في كل القضايا، في هذا المجمع كنت ألتقي طفلا في سن العاشرة لا يتوقف عن الحركة، سريع العدو، يدوس الأشواك ويلاعب عجلة ضخمة، كان حلمه أن يصير سائق حصادة، الانكى من ذلك كان يحاكي الحصادة نفسها بتقطيع الأشواك، غادر طفلنا المدرسة باكرا، كانت حياته كلها عراكا وصراعا بالمدرسة، لا يفتر نهائيا، لا يخشى الثعابين ولا العقارب، كان يلاعبهم بحب كبير، صديقنا هذا كان يرعى قطيعا من الأغنام وينصب الفخاخ الطيور ويضع "سريفة" للسحليات ويتفنن في اللعب معها، كانت يداه صلبتين فيها خدوش وصوته خشن وصلب لا يلين ويقود قطيعه بانتظام كبير، منذ طفولته كان لا يفارق أمه في البحث عن لقمة العيش، فوالده سجن لأسباب يجهلها طفلنا، لم يراه إلا مرات متعددة.
مرت ست سنوات، عاودت اللقاء بشيخنا، لقد ازداد كهولة، مازال راعيا يستعين بعكازه، فكرته لم تتغير فيما يخص اليهود، لكن طفلنا تغير كثيرا، لقد ندم على مغادرته المدرسة، لم يعد يحلم أن يصبح سائقا، بات يحلم بتعلم حرفة، لكن أمه تمنعه من ذلك، طفلنا الآن راعيا يحمل فأسا يستعين به لاستهلاك "جميخ" الدوم، فترت كل حركته، صار ملهمه هو الستاتي، يشعر باسى كبير لأنه ليس لديه هاتف، لأنه يريد أن يبحث عن الفتيات، يريد رفيقة تؤنسه في وحدته، المنطقة القروية في نظره تعاني من جفاف أنثوي ويحلم بالهجرة إلى المدينة للعثور على رفيقة العمر، لكن أمه أكبر عائق بالنسبة إليه.
ع ع / 29 نونبر 2016/ بنسليمان -المغرب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلنا: دمار كبير في موقع عسكري تابع لفصائل مسلحة في منطقة


.. إيران تقلل من شأن الهجوم الذي تعرضت له وتتجاهل الإشارة لمسؤو




.. أصوات انفجارات في محافظة بابل العراقية وسط تقارير عن هجوم بط


.. جيش الاحتلال يعلن إصابة 4 جنود خلال اشتباكات مع مقاومين في ط




.. بيان للحشد الشعبي العراقي: انفجار بمقر للحشد في قاعدة كالسو