الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (6)

ناصر بن رجب

2016 / 12 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لماذا وكيف يصبح النّص مُقدَّسًا؟ (6)
بعض الأفكار حول تاريخ القرآن

تأليف:
غيليوم دي*

ترجمة وإعداد:
ناصر بن رجب


بضع الشّهادات
إنّ هذه الدلائل [التي تحدّثنا عنها في المقال السّابق] ليس كثيرة جدّا، ولكنّها موجودة فعلا. لقد ناقشها آلفريد لويس دي بريمار بكلّ مهارة وإتقان(127)، وأنا سأتناول هذا النّقاش من جديد مضيفا إليه بعض البراهين، إذ أنّ النتائج التي خلص إليها دو بريمار وُضِعت مؤخّرا موضع شكّ(128).

تصريح الحجّاج
نجد عند مُسلِم الحديث التّالي عن الأعمش (ت 765 م):
"سَمِعْت الحجّاج بن يوسف، وهو يَخْطُب على المنبر: أَلِّفُوا القرآن كما أَلَّفَه جبريل. السّورة التي يذْكُرُ فيها البَقَرَة، والسّورة التي يذكر فيها النِّساء، والسّورة التي يذكر فيه آل عِمْران"(129).

نلاحظ هنا أنّ كلمة "سورة" (خاصّة في القرآن) لا تؤدّي بالضّرورة المعنى المُتعارَف عليه، فهي تُشير ببساطة لنصّ مكتوب، حتّى ولو كان قصيرا. فهل يتعلّق الأمر تحديدا، في هذا السّياق بالذّات، بالسّور 2، 4، 3، أو على الأقلّ بنصوص تقترب منها؛ أو هل المسألة تتعلّق بأجزاء من هذه السّور (مثلا، نصّ يدور حول الآيات 63-74 التي تتحدّث عن بقرة بني إسرائيل)؟ سنتجنَّب إبداء رأينا في هذا الموضوع. الفعل "أَلَّفَ" هو، من ناحيته، فعل غامض. فهو يعني: "وصل الشيء بعضه ببعض، ألّف أجزاء الشيء بعد تفرُّقها"؛ ويعني في حالة الحديث على كتاب: وَضَعَه بين دفَّتَيْن، جمع أجزاءه، ولكن أيضا بمعنى نَظَّمه، رتَّبه ونضَّدَه(130)، أي جعل منه كُلاًّ مُنَسَّقا من عدّة أجزاء.

يرى دو بريمار في تصريح الحجّاج هذا، الموَجَّه حسب اعتقاده إلى الكَتَبَة المكلَّفين بتأليف القرآن "دليلا على أنّ التأليف كان في ذلك الوقت ما يزال جاريًا أو، على الأقل، كانت أجزاء من المدوَّنة [القرآنيّة] لا تزال تسبّب إشكالات من حيث "التأليف"(131). فالتّرتيب الذي جاء فيه ذكر "النُّصوص" الثلاثة، وهو ترتيب يتطابق مع ما جاء في مُصحفَيْ بن مسعود وأُبَيّ وليس مع ترتيب المصحف العثماني، يمكن أن يكون مؤشِّرا على ذلك (ولكن، كما سنرى لاحقا، يمكن أن يتعلّق الأمر بشيء آخر).

لقد عارض نيكولاي سيناي هذه الحجّة(132)، وهو يعتبر أنّ ما قاله الحجّاج لا يتعدّى كونه خطبة على المنبَر تتعلّق بطريقة قراءة القرآن. "أَلِّفُوا القرآن كما أَلَّفَه جبريل" يمكن أن تعني بكلّ بساطة "اقْرَؤُوا القرآن كما قَرَأَه جبريل". ويلاحظ سيناي أنّ النّووي فهم هذه الجُملة بهذا المعنى. حسنًا، ولكنّ قراءة النّووي يبدو جليًّا أنّها مُقيَّدة باعتبارات إيديولوجيّة وتفترض شُحنَة قويّة من الخيال.

الفكرة الكامنة وراء الجملة "أَلِّفُوا القرآن كما أَلَّفَه جبريل"، حسب تصُّري، مفادها "اقرؤوا القرآن حسب الترتيب الذي قرأ به جبريل". ولكن "الترتيب الذي قرا به جبريل القرآن" هو منطقيًّا الترتيب الكرونولوجي الذي علَّم به جبريل القرآن للنّبيّ وليس هو ترتيب المصحف. وبالإضافة إلى ذلك، "أَلَّف" لا تعني مُطلقا "قرأ": فقد كان بإمكان الحجّاج، لهذا الغرض، أن يستعمِل ألفاظا مثل "قرأ، رَتَّلَ، تَلا، أو ذَكَر".

لنتَفَحَّص بعض الأحاديث التي تتكلّم عن "تَأْلِيفِ القُرْآن"(133). إنّ الأمر يتعلّق دائما بفِعْل كِتابة وترتيب القرآن، أو النتيجة التي حصلت من هذا الفعل. مثلا، جاء في واحد من الأحاديث التي تروي إسلام عُمر أنّه قال: "خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ ‏الْحَاقَّةِ،‏ ‏فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ"(134). فإذا كان عمر قد أصابه العَجَب فذلك لأنّ لا أحد غير الله (لا شاعر ولا كاهن) بإمكانه أن يكون مصدر مثل هذا التأليف.

هناك حديث منتشر بكثرة يروي أن زيد بن ثابت قال: "كُنَّا عند رسولِ الله نُؤَلِّفُ القُرْآنَ مِنَ الرِّقَعِ"(135). فلأمر يتعلّق هنا ليس بقراءة القرآن ولكن بكتابته وترتيبه.

في حديث رواه البخاري أنّ يوسف بن ماهك بينما هو عند عائشة دخل رجل من العراق وسألها أن تُرْيَّه مصحَفَها: "قالت: لِمَ، قال: لَعَلِّي أُوَلِّفُ القرآن عَلَيْه فَإِنَّه يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ"، فشرحت له عائشة حينئذ ترتيب نزول القرآن (الكرونولوجيا) موضِّحة ضمنيًّا أنّ ترتيب قراءة السّور غير مُهمّ "قالت: وما يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْل". ثمّ أخرجت المصحف وأملت عليه آيات السّور [كما جاءت مرتّبة في مصحفها](136).

نرى هنا أنّ لفظة "أَلَّف"، التّنسيق والتّرتيب، تختلف تماما عن لفظة "قرأ". إنّ "تأليف القرآن" هو في الواقع المرحلة التي تأتي مباشرة بعد "الجَمْع": فما إن تتمّ عمليّة جمع مختلف النّصوص المتناثرة يُصبحُ من الملائم تنسيقها وترتيب مواضعها للقيام بتأليف المُدوَّنة. وهذا كما رواه اليعقوبي (ت حوالي 898 م):

"وَجَمَعَ عُثْمَانُ القُرْآنَ وأَلَّفَهُ، وصَيَّرَ الطِوَال مَعَ الطِوَال، والقِصَار مَعَ القِصَار من السُّوَر"(137).

إنّ مسألة ترتيب المُدوَّنة تتكرّر بصفة مُلِحّة: هل هو تدبير إنساني [توفيقي]، نَبَوِي أم إلهي [توقيفي]؟ وفق ما جاء في حديثين عن ابن وهب (ت حوالي 813؟):
"سَمِعْتُ سليمان بن بلال يقول: سُئِلَ ربيعةُ: لِمَ قَدَّمْتَ البَقَرَة وآلِ عِمْران، وقد نَزَلَ قَبْلَهُما بِضعٌ وثمانون سورة؟ فقال: قُدِّمَتَا وأُلِّفَ القرآن على عِلْمٍ ممّن أَلَّفَه، وقد أَجْمَعوا على العلم بذلك، فهذا ممّا يُنْتَهى إليه ولا يُسْأَلُ عنه"(138).

"سَمِعْتُ مالِكًا يقُولُ: إِنَّمَا أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يَسْمَعونَ من قِراءَةِ رَسُولِ الله"(139).

يرى ابن فارس (ت 1004 م) أنّ ترتيب السّور [تأليف] هو أمر تولّاه الصحابة، وأمّ ضمّ الآيات بعضها إلى بعض: "فذلك شيء تولاّه رسول الله كما أَخْبَرَ به جبريل عن أَمْرِ رَبِّه"(140).

هناك أيضا سبب آخر يدعو للشّك في تأويل سيناي: إذ ليس هناك أيّ ترتيب محدّد لقراءة القرآن، فهي قراءة حرّة. إنّ رأي ابن بطّال (ت 1057 م)، بالرّغم من كونه متأخِّرا، إلاّ أنّه يُعبِّر تعبيرا تامّا عن الرّأي المشترك:

"لا نَعْلَمُ أَحدًا قال بوُجُودِ تَرْتيبِ السُّوَر في القِراءَةِ لا دَاخِلَ الصَّلاةِ ولا خَارِجَها بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ الكهف قبل البقرة والحجّ قبل الكهف مثلا. وأمّا ما جَاَء عن السَّلَف مِنَ النَّهْي عن قراءة القرآن مَنْكُوسًا فالمُرَادُ به أن يُقْرَأَ من آخر السُّورة إلى أَوَّلِهَا، وكان جَماعَةٌ يَصْنَعُون ذلك في القَصيدَةِ من الشِّعر مُبالَغَةً في حِفْظِها وتَذْليلاً لِلِسَانِه في سَرْدِها"(141).

فلماذا يا تُرى يكون الحجّاج قد أراد فرض قراءة لبعض السّور حسب ترتيب مُعَيَّن (ناهيك وأنّه ترتيب يُخالف ترتيب المصحف الرّسمي)؟ وتصريحه يمكن أن تُفْهَم أكثر لو أنّها جاءت لكي تُبرِّر ترتيبا مُعيَّنا للمصحف أو ترتيب جديد له. من الأنسَب تقريبها من الجملتين المذكورتين أعلاه، جملة اليعقوبي ("وَجَمَعَ عُثْمَانُ القُرْآنَ وأَلَّفَهُ")، وجملة أبراهام الطبراني ("لقد أَلَّفَ الحجّاج ورَتَّبَ [القرآن]").

الإشارة إلى جبريل تستحضر الرّوايات التي مفادها أنّ النّبي كان يزوره الملاك مرّة في السّنة (مرّتين في سنة موته) ليراجع معه ما اجتَمَع عندَه من القرآن ومعرفَة ما إذا كان النّبي قد حفظ جيّدا الآيات التي نزلت، وهل كان قد وضعها في مكانها الصّحيح في القرآن (وبعد ذلك يكون باستطاعته أن يُعلِّم صحابته القرآن حسب النَّظْم المُثبت في اللّوح المحفوظ). وهذه أسطورة دينيّة مرصودة لشَرْعَنَة عَملِ أجيال من الكَتَبَة الّذين انهمكوا جهدهم لتأليف القرآن، ويبدو لي أنّ هذه الأسطورة تقف على خلفيّة الأقوال التي نُسِبَت للحجّاج(142). ومن هنا يمكننا أن نتساءل ما إذا كان ترتيب السُّور: البقرة، ثمّ آل عمران ثمّ النّساء هو فقط موضع الرِّهان. والفعل، حسب بعض الأحاديث فإنّ جبريل هو الذي يُبلِّغ النّبي الأمر الإلهي بخصوص ترتيب الآيات داخل السّور. ألا يمكن أن يكون هذا مؤشِّرا على أنّ المسألة تتعلّق بالأحرى بإعادة تأليف ومراجعة نصوص البقرة وآل عمران والنّساء، ثمّ ادراجها في مجموعات نصيّة أكثر اتّساعا(143)؟ هذا ليس بالمستحيل، كما سنرى ذلك الآن.

يوحنّا الدمشقي
نحن مدينين ليوحنّا الدمشقي (ت حوالي 750 م) بأقدم جدال ضدّ الإسلام كُتِب باللغة الإغريقيّة، في آخر فصل (رقم 100، "هرطقة الإسماعيليّين") من مقالته حول "الهَرْطَقَات"(144). يبدو أنّ النّص كان قد أُلِّف في السّنوات 730-740 م. ممّا لا شكّ فيه أن يوحنا كان يعمل في خدمة الأمويّين (بعد أبيه سرجون بن منصور) بين سَنَتيْ 700 و705 م، في نهاية حُكْم عبد الملك، وذلك قبل أن ينزوي في دير القدّيس ساباس. ولهذا لا يجب أن نرى في هذا الفصل القصير وصفا للإسلام كما كان يُمارَس في سنوات 730 م. هذا النّص، الذي لا يخلو من تحريف ونوايا حِجاجيّة، يعطيني بالأحرى صورة عمّا كان يوحنا يعرفه ويفهمه عن "الإسلام" وكُتُبِه في نهاية حكم عبد الملك أي بداية القرن الثّامن ميلادي.

لا يتكلّم يوحنا الدمشقي عن كتاب اسمه "قرآن"، ولكنّه يقول أنّ محمّد أشاع بين النّاس أنّ الله أوحى له كتابا نزل من السّماء(145). يكون محمّد إذن قد كتب كتابًا (بيبلوس)(146) وقد باشر يوحنا القيام بنقد مظاهر مختلفة منه مع التركيز في المقام الأوّل على معرفة طبيعة المسيح. والمقاطع التي ذكرها يوحنا لها ما يقابلها في القرآن. ولهذا بإمكاننا أن نُطابِق هذا الكتاب مع القرآن أو مع شكل من أشكال "قرآن أصلي".

ومن جهة أخرى يلاحظ يوحنا: " وكما قلنا، محمّد هذا قد كتب العديد من الكتب السَّخيفة، ووضع لكل واحد منها عنوانًا"(147). لسنا ندري ما إذا كانت هذه الكتابات تُمثّل جزءًا من "الكتاب" (بيبلوس) الذي ذُكِر آنِفًا، أو أنّها تشكّل نصوصا مستقلّة لم يتمّ بعد، في تلك الفترة، ضمّها إلى "الكتاب" (الفرضيّة الأولى يمكن أن تكون الأرجح). يذكر يوحنا كتاب "النّساء" (في صيغة المفرد)، وكتاب "ناقة الله"، وكتاب "المائدة"، وكتاب "البَقَرة"، مع العلم أنّ هذين النّصّين الأخيرين تمّ تقديمهما بصورة إيحائيّة شديدة (الفقرة التي تتحدّث عن "المائدة" تشير فقط إلى الآيَتيْن 114-115 في السّورة، ولا شيء يُذكر عن محتوى سورة "البقرة"(148)).

في المقابل، ولأسباب ترتبط باستراتيجيّته الجداليّة يتكلّم يوحنا بإسهاب أكثر عن "المرأة" وعن "ناقة الله". مثلا، في نصّ "النّساء" يقول أنّه: "هناك قانون الزّواج بأربع نساء وألف سَريّة وما ملكت يداه غير الزوجات الأربع"(149). عدا الرقم ألف، وهو غير مذكور في القرآن (وهذه بكلّ وضوح مبالغة لأغراض جداليّة)، هناك إشارة واضحة لما جاء في الآية 3 من سورة النّساء، فالعبارة العربيّة التي تُقابل "عبدة/سريّة" والتي وردت في القرآن هي "مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ". الجملة التي تـأتي بعد تتحدّث عن "الطّلاق" بالرّغم من أنّ سورة النّساء، كما نعرفها اليوم، لا تتحدّث عن ذلك. يلي هذا استطراد يشرح يوحنا من خلاله لماذا شرّع محمّد الطلاق: بسبب قصّة زيد (أنظر السورة 33:37-40)، التي يُلخِّصها النّص مُعتمِدا، حسب اعتقادي، على حديث شفوي(150). ثمّ يعود يوحنا ليتطرق لموضوع الطلاق: المقاطع القرآنيّة التي يُشير إليها يوحنا يمكن أن يكون الآيات الواردة إمّا في سورة البقرة، الآيات 226-237 أو سورة الطلاق، الآيات 1-6(151). ثمّ يؤكّد فيما بعد أنّ الجملة التّالية توجد في نفس الكتاب: "احْرِث الأرض التي أعطاها الله لك، وارعاها بكامل رعايتك، وقم بهذا بهذه الطريقة وبهذه الطريقة" – وهذا الاستشهاد تلميح مباشر للآية 223 من سورة البقرة.

يوحنا كاتِب دقيق، وعندما يتحدّث عن "نفس الكتاب"، فليس لدينا أي سبب يدعونا للظنّ بأنّه يُخطِئ أو أنّه يستند إلى تقليد شفوي. وبالنّتيجة، وكما لاحظ دو بريمار، من الممكن جدّا أن نكون أمام "نصّ ذي تنظيم يختلف اختلافا ملموسا عن تنظيم السورة الحاليّة رقم 4 الموسومة "النّساء"(152).

والمقطع التّالي من نصّ يوحنا مهمّ بنفس الدرجة والذي يتحدّث فيه عن "ناقة الله". ليس لدينا أي سورة تحمل هذا الإسم بالرّغم من أنّ هناك قصّة تتحدّث عن ناقة موجودة في عدّة أماكن في القرآن (الأعراف، 73؛ هود: 61-68؛ الشعراء، 141-159؛ الشمس، 11-15). ونيقولاي سيناي لا يميل، بكلّ تأكيد، إلى إعطاء أهمّية كبيرة لشهادة يوحنا: "يبدو من الأفضل أن نفترض أنّ الإشارة إلى "كتاب ناقة الله" هي ببساطة شهادة على اسم سورة في فترة الإسلام المُبكّر (إمّا سورة الأعراف، أو سورة هود، وإمّا سورة الشّمس) سقط استخدامه فيما بعد"(153).

إلاّ أنّ هذا التحليل يبدو لي مُتهافِتًا. المقطع المتعلّق بكتاب "ناقة الله" ينقسم إلى جزأين: الجزء الأوّل يقدِّم محتوى هذا الكتاب، والجزء الثاني، جِدالي، يَسْخَر من القصّة الإسماعيليّة(154). وهذه ترجمة للجزء الأوّل:

"[بخصوص هذا الكتاب]، فهو يقول أنّ ناقةً كان الله قد أرسلها وكانت تشرب [النّهْر كلَّه ولم تكن تقْدِر على المرور بين جبلَيْن لعدم وجود مساحة كافية]. وهو يقول أنّه كان هناك قَوْم في ذلك المكان: يوم يشرب فيه هؤلاء القوم، ويوم تشرب فيه النّاقة. [وكلّما شربت النّاقة الماء كانت تَسقي القومَ من حليبها عوضًا عن الماء]. ولكنّ هؤلاء النّاس، كما قال، كانوا أشرارا فقاموا وقتلوا النّاقة. [إلاّ أنّ الناقة كانت لها بَكْرة كانت، حسب قوله، قد صرخت تطلب من الله النجدة بعد موت أُمِّها، فرفعها الله إليه]".

المقاطع بين معقوفين ليست موجودة في القرآن، حتّى ولو مزجنا بين مختلف الآيات التي تروي هذه القصّة. إذن، النّص القرآني الذي نعرفه لا يمكن أن يكون هو المصدر الذي أخذ عنه يوحنّا. ومن ناحية أخرى، وضوح معنى النّص يشترط أنّ يوحنّا كان بالتّأكيد بصدد تلخيص ما كتبه مؤلِّف قصّة النّاقة. بالمقابل، بعض جوانب القصص القرآني لا نجدها عند يوحنّا، مثل ذكر النّبي صالح أو إهلاك القوم الذين قتلوا النّاقة.

بالنّهاية، ليس من المهمّ أنّ هذه الكتابات المختلفة، التي يذكرها يوحنّا، كانت تشكِّل جزءا من الكتاب (بيبلوس)، أو كانت قد أُضيفت إليه في وقت لاحق. فمهما كانت الفرضيّة التي نختارها فإنّنا، بالفعل، نتوصّل إلى نفس النتيجة (إلاّ إذا افترضنا أنّ يوحنّا قد أخطأ، بالرّغم من أنّه كان مُطَّلِعا إطّلاعا جيّدا على عدّة أصعدة): يبدو أنّ المدوَّنة "القرآنيّة" التي كان يوحنّا قد اطّلع عليها في أولى بدايات القرن السّابع ميلادي كانت تختلف اختلافا ملموسا عن المدوّنة القرآنيّة التي نعرفها اليوم.

(يتبع)
_________
الهوامش:
* صدر النّص الأصلي بالفرنسيّة تحت هذا العنوان:
Guillaume Dye: «Pourquoi et comment se fait un texte canonique? Quelques réflexions sur l’histoire du Coran», in Christian Brouwer, Guillaume Dye, Anja Van Rompaey, Hérésies: une construction d identités religieuses, édition de l’Université de Bruxelles, 2015, p. 55-104.
(127) أنظر:
«‘Abd al-Malik b. Marwān et le processus de constitution du Coran», loc. cit., p. 200-202 sur al-Ḥajjaj, p. 185-189 sur Jean de Damas, Ibid., Aux origines du Coran, op. cit., p. 95-97 sur Jean de Damas.
أترك جانبا العناصر التي تبدو لي أقلّ أهمّية مثل:
«controverse du moine de Beth Ḥalé» (loc. cit., p. 184-185, op. cit., p. 94).
(128) أنظر:N. Sinai, «Part I», loc. cit.,
حول الحجّاج، ص 282-284، وعن يوحنّا الدمشقي، ص 286-287.
(129) صحيح مُسلِم، باب 50.
(130) أنظر:
C. Gilliot, «Les traditions sur la composition/coordination du Coran (ta’līf al-Qur’ān)», in C. Gilliot et T. Nagel (éd.), Das Prophetenḥadīṯ. Dimensionen einer islamischen Literaturgattung, Göttingen, Vandenhoeck & Ruprecht, 2005, p. 15.
(131) «‘Abd al-Malik b. Marwān et le processus de constitution du Coran», loc. cit., p. 201.
(132) «Part I», p. 283.
(133) الفقرات التّلية مدينة كثيرا لكلود جيليو: C. Gilliot, loc. cit. ، ما يَهمُّني بطبيعة الحال هنا ليس صحّة هذه الرّوايات بل ما يهمّني هنا هو معنى "أَلَّفَ/تَأْلِيف".
(134) ابن حنبل، مسند، ج 1، 17.8، القاهرة، 1895.
(135) أنظر على سبيل المثال: ابن حِبّان (ت 965 م)، الاحسان بترتيب صحيح ابن حبّان، بيروت، 1987، ج 1، ص 163، رقم 114.
(136) البخاري صحيح، كتاب فضائل القرآن، باب 6.
(137) أنظر:
Ibn Wādhih qui dicitur al-Ja’qubī historiae, éd. M. T. Houtsma, Leyde, Brill, 1883, I, p. 196.
(138) ابن كثير (ت 1373 م)، فضائل القرآن، القاهرة، 1996، ص 144.
(139) الدّاني، المقنع، ص 9.
(140) بدر الدين الزركشي (ت 1392 م)، كتاب البرهان في علوم القرآن، القاهرة، 1957، ج 1، ص 237.
(141) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، باب 6.
(142) ليس بإمكاننا أن نقطع بصحّة هذا التصريح، ولكن هناك احتمال ضعيف أن يكون منحولا لأن هذا التصريح مُحرِج قبل كلّ شيء. نجد نفس هذا الحديث عند البخاري (كتاب الحجّ، باب 138)، ولكن بدون الجملة الأولى (أَلِّفوا... جبريل)، الشيء الذي يجعل النّص غير مفهوم. بقيّة الحديث يكاد أن يكون هو نفسه تقريبا عند البخاري ومسلِم. حسب مُسلِم: "قال الأعمش: فلقيت إبراهيم فأخبرته بقوله [قول الحجّاج] فسبَّه، وقال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع عبد الله بن مسعود فأتى جمرة العقبة فاستبطن الوادي فأستعرضها فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات يُكبِّر مع كل حصاة. قال: فقلت: يا أبا عبد الرحمن إن الناس يرمونها من فوقها، فقال هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة‏‏". هذا المقطع لا علاقة له بجملة الحجّاج (ما عدا الإشارة إلى سورة البقرة)، التي احتُفِظ بها لأنّها جاءت في سياق (الأحاديث عن الحجّ) لا يربطه أي رابط بتاريخ القرآن. وهكذا تمّ تحييد محتواه النّاسِف.
(143) أنظر:
A.-L. de Prémare, «‘Abd al-Malik b. Marwān et le processus de constitution du Coran», loc. cit., p. 202.
(144) أنظر:
R. Lecoz (éd.), Jean Damascène. Écrits sur l’islam, Paris, Éditions du Cerf, 1992 (p. 210-227 pour le texte grec et la traduction).
إنّني أُعِدُّ، بالتّعاون مع جيل كورتيو، ترجمة جديدة للفصل 100 الشهير ليوحنّا الدمشقي مصحوبا بتعليق. ولهذا سأقتصر في هذه المناقشة على الحدّ الأدنى الضروري.
(145) أنظر: R. Lecoz (éd.), op. cit., p. 212, § 1, 16-18.
(146) Ibid., p. 212, § 1, 19.
(147) Ibid., p. 220, § 6, 1-2.
(148) Ibid., p. 224-226, § 8, respectivement 1-4 et 5-6.
(149) Ibid., p. 220, § 6, 2-6.
(150) Ibid., p. 220, § 6, 7-16.
(151) Ibid., p. 220-222, § 6, 16-21.
(152) «‘Abd al-Malik b. Marwān et le processus de constitution du Coran», loc. cit., p. 186.
(153) N. Sinai, «Part I», p. 287.
(154) على التّوالي الصّفحات: 222, § 7, 1-10 et p. 222-224, § 7, 10-43.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
على سالم ( 2016 / 12 / 1 - 19:46 )
الاستاذ ناصر بن رجب , الشكر والاحترام والتقدير لمقالاتك التنويريه الجريئه وفضح التابو الاسلامى والمسكوت عنه لقرون وقرون , لازال الطريق طويل وشاق وصعب , تفكيك هذا الارث العفن والضارب فى الزمن والرهبه والخوف سوف يتطلب عمل دؤوب وجهد واعوام طويله , لابد من فتح صندوق الاسلام واخراج احشاؤه وكوارثه وفضح هذا السرطان البدوى


2 - التاريخ لا يرحم
ناصر بن رجب ( 2016 / 12 / 1 - 20:33 )
الأستاذ علي سالم، شكرا على التعليق المشجّع. نعم يجب كشف المتواري والمسكوت عنه وكلّ ما أراد التراث الإسلامي إخفاءه. ولكنّ الحقيقة ستنكشف رويدا رويدا والتّاريخ لا يرحم لأنّه قادر أن يأتي بالمعجزات وهي هذه الدراسات العلميّة التي لبنة بلبنة ستوصلنا إلى كشف الحقائق وستكون مذهلة لكلّ الذين لا يريدون رؤية الواقع إلاّ من وراء حجاب خوف الإنبهار بنور الحقيقة
لنّنا لا نزال في بداية الطريق والمشوار طويل ولكنّه شيّق ورائع

اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح