الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلاقات التركية – الإفريقية (2002 – 2015)

ساكري البشير

2016 / 12 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


تعتبر القارة الإفريقية من أكثر القارات جدلا في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، ذلك أن أغلب مشكلات العصر تحدث في عمقها، فهي البؤرة الأوسع والأكثر نشاطا في المجال الدولي، ذلك أنها البيئة التي احتضنت الفقر والجهل، وإحتضنت الصراعات والحرب، وإحتضنت الإرهاب والتنافس الدولي والإقليمي...
ومن جهة أخرى تكتسب القارة الإفريقية أهمية كبرى لدى الدول العظمى، التي تمسك الخيوط الرئيسية لتحريك كل صراع ما داخل هذه القارة، حتى أجل قريب، ولكن نلاحظ في الآونة الأخيرة أن هناك منافسا جديد يدخل حلبة الصراع، ويصب توجهات السياسة الخارجية نحوها، إنها تركيا العثمانية بثوبها جديد، تخرج للعالم متباهية بحلتها الناعمة، والتي تسعى إلى تمديد نفوذها واستعادة مجدها القديم... فالقارة السمراء لم تعد تلك القارة التي تملك عذريتها – كما يعتقد أحفاد العثمانيين - وبالرغم من سنوات الاستعمار الطويلة إلا أن تركيا لم تفقد الأمل الذي رسمه في أهدافها نحو إفريقيا.
كيف لا! وهي القارة الغنية من حيث المصادر الطبيعية والمعادن ومصادر المياه والأرض القابلة للزراعة، وكذلك من حيث أن القارة في منطقة جنوب الصحراء لا تزال تتكون من عدة دول فقيرة ومهمّشة, استغلتها القوى الإمبراطورية في السابق، وتطحنها الرأسمالية الطاغية والديون والاتفاقات الدولية في الوقت الراهن، ويمكن أن تمثل زخماً كبيراً للسياسة الخارجية التركية لممارسة قوتها الناعمة، بالاستفادة من كسب أصوات تلك الدول في المنظمات الدولية, وفي عقد شراكات معها لتسويق البضائع التركية بعد غلق المنافذ نحو الشرق الأوسط وأوروبا، وكذلك لاستيراد المصادر الطبيعية منها؛ بعد أن ظهرت كذلك الكثير من احتياطيات النفط واليورانيوم والذهب في عدة دول إفريقية؛ وبالتالي وجب طرح التساؤل: ماذا تريد تركيا من توطيد علاقاتها مع إفريقيا؟
قراءة في سلوك السياسة الخارجية التركية إتجاه إفريقيا
لم تكن لتركيا حضور بارز تاريخياً في أهم دول القارة السمراء من الناحية الإستراتيجية، حيث سيطرت الخلافة العثمانية سابقا على دول الشمال بالإضافة إلى دول القرن الإفريقي، فقد كانت كل من مصر وليبيا وتونس والجزائر وإريتريا والصومال والسودان تابعة لها في الفترة ما بين 1536م و 1912م، وكان ذلك يتم في إطار هيمنة الخلافة العثمانية على السواحل في البحرين الأبيض والأحمر، بعمق داخل أرض السودان حيث بعض منابع النيل، ويمتد حتى الصومال جنوباً في تلك المنطقة المهمة من الناحية الإستراتيجية في القرن الإفريقي, والتي سيطرت على المسارات التجارية قديماً.
أما اليوم؛ وبعد صعود حزب العدالة والتنمية 2002م، والذي يرجع إليه الفضل في تولية سياسة تركيا الخارجية وجهها تلقاء القارة السمراء، من خلال مبادرات متتالية في مجال المساعدات الإنسانية والعلاقات الإقتصادية، فضلا عن منظمات المجتمع المدني، وهذا يعني أن سياسة تركيا إتجاه إفريقيا كانت من أهم عوامل نجاح سياستها الخارجية، وبقول آخر نقول أن إفريقيا قد فتحت أبوابها على مصراعيها لإحتضان المبادرات التركية ما هو إلا نتيجة لضعف التنمية والفقر والمديونية التي تعيشها هذه القارة السمراء، حتى ولو كانت المبادرات تحتوي في عمقها السم كما هي مبادرات التنمية التي تفرضها الأمم المتحدة وبعض الدول الغربية.
يقول الباحث السياسي محمد أزبكان في مقالته المعنونة بـ " من القول إلى الفعل: العلاقات التركية الإفريقية 1998 – 2015" أن السياسة لخارجية التركية الحالية أكثر استباقية من سياسات باقي عهود التاريخ الجمهوري، إذ لم تكن إفريقيا تتصدر جدول أعمال السياسة التركية، خلافا للأهمية التي توليها تركيا لإفريقيا في السنوات الأخيرة... إذ أعلنت تركيا أن عام 2015 هو "العام الإفريقي"، وإستضافت خلال الفترة الواقعة بين 18 – 21 أوت 2008 قمة التعاون التركي الإفريقي التي حضر خلالها ممثلون عن خمسين دولة إفريقية، وأعلن وزير الخارجية التركي آنذاك علي باباجان خلال شهر حزيران من العام نفسه 2008 أن إفريقيا ستتبوَّأ بعد الآن مكانة خاصة في السياسة الخارجية التركية، وأنه سيتم خلال الأعوام القادمة افتتاح 15 سفارة تركية في الدول الإفريقية؛ ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا بدأت السياسة الخارجية تجاه إفريقيا تأخذ منحى بارزاً وتزداد وضوحاً.
وزاد هذا الإهتمام التركي الفعال بإفريقيا، إلى حدٍّ جعلها محط الأنظار على أنها ممثل سياسي جديد في القارة، وهذا أسهم في تعزيز الوجود التركي هناك، وأصبحت المساعدات الإنسانية والمشروعات التجارية المتطورة تُشكّل حجر أساس هذه السياسة الجديدة والمنفذ الذي من خلاله يمكن التوغل في عمق القارة السمراء، كما أدّت منظمات المجتمع المدني إلى جانب مؤسسات الدولة المختلفة دوراً فعالاً في تعزيز العلاقات بين تركيا وإفريقيا، وتُظهر سياسة أنقرة تجاه الصومال وبلدان إفريقيا الأخرى أن القارة لن تكون قوة اقتصادية لتركيا فحسب، بل ستُشكّل قوة سياسية مستقبلية أيضا.
كما لا يخفى على الجميع أنّ إفريقيا الشمالية لا تعدُّ منطقة جغرافية بعيدة، ويُفسَّرُ هذا الأمر – حسب أوزبكان – إلى سببين: الأول هو الحضور الإسلامي في هذه المنطقة، وكونها ضمن صلات قريبة بالتاريخ العثماني، وهذا ولّد شعوراً بأن شمال إفريقيا جزء من المحيط التركي وامتداد له، ولم تكن مسألة تطوير العلاقات السياسية والإقتصادية مع الشمال الإفريقي محط خلاف، بل على العكس لاقت قبولاً واسعاً على طول تاريخ السياسات الخارجية المختلفة، أما السبب الثاني فهو تقبل شمال إفريقيا للمجتمع التركي على أنه أحد أقرب مجتمعات الشرق الأوسط إليه.
ومن خلال هذين السببين، نستطيع تصنيف العلاقات التركية الإفريقية إلى ثلاث فترات:
• العهد الأول: ويتضمن العلاقات العثمانية الممتدة من بداية العلاقات العثمانية الإفريقية ذات الإعتبار حتى أوائل قيام الجمهورية عام 1923.
• العهد الثاني: وهو الفترة الممتدة بين تاريخي 1923 – 1998، وشهدت هذه الفترة أدنى العلاقات الثنائية بين الطرفين.
• العهد الثالث: وهو الذي أعقب عام 1989 حيث أصبحت إلإريقيا محط أنظار تركيا إلى أن شهدت الذروة عام 2005.
وإذا علمنا أنّ مصر، وليبيا، وتونس والجزائر كانت تحت الحكم العثماني، فإننا نستطيع فهم العلاقات التركية الإفريقية بشكل أوضح.
بعد قيام الجمهورية التركية عام 1923 تدنّت العلاقات التركية الإفريقية إلى أدنى مستوياتها، والسبب هو الأمور الداخلية، ونشوء دولة جديدة، ومحاولة ضمان استقلالها، إلا أن تركيا بدأت خلال سنوات الحرب الباردة بتنمية علاقاتها السياسية والإقتصادية مع دول إفريقيا الشمالية، لكن للأسف كانت هذه العلاقات تتشكل وفق سياسات القطبين آنذاك، مما أدّى إلى وقوع سوء تفاهم بين الشعبين بين الفينة والأخرى؛ وعلى سبيل المثال أن تصويت تركيا في مجلس الأمم المتحدة عام 1956 ضد استقلال الجزائر لا يزال يخطر في الأذهان على أنه "خطأ" تاريخي لتركيا؛ ومهما كانت العلاقات التركية الإفريقية ضعيفة اعتبارا من عام 1970 إلا أنها تطورت إلى حد ما بفضل جهود تغيير العلاقات السياسية والإقتصادية، وبعث الروح الإسلامية المتسامحة التي إتخذتها تركيا اليوم في سياسة صفر المشاكل.
وفي أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات ومع بدء فترة انتهاء الإستعمار (الإنسحاب من المستعمرات) اعترفت تركيا بجميع الدول التي حصلت على استقلالها، وسعت إلى انشاء علاقات دبلوماسية معها، كما أنها فتحت سفارات دائمة في تلك البلدان... وتعدُّ القنصلية العامة التركية التي فتحتها تركيا في لاغوس سنة 1956 أول ممثل رسمي لتركيا في تلك المنطقة، وقد سعت أنقرة بكل جهودها إلى إنشاء علاقات سياسية واقتصادية مع جميع الدول الإفريقية، وعلى رأسها دول إفريقيا السوداء، وبذلت جهوداً حثيثة في هذا السياق بين الأعوام 1960 و1970، لكن للأسف كل هذه العلاقات لم تستمر لفترات طويلة، ولم تكن تركيا ضمن سياق علاقات متينة وقوية مع إفريقيا.
وعلى عكس الماضي، نجد السمة الفكرية البارزة اليوم، والتي تتصدر السياسة التركية الخارجية بعد حكم حزب العدالة والتنمية تكمن في تخيّل جغرافية جديدة للعالم من وجهة نظر تركية، فلم تعد تركيا تقرأ العالم كما كانت تقرأه خلال الحرب الباردة، بل بدأت تنظر إلى العالم من منظور مختلف، في ظل توازنات مختلفة، وضمن إطار مختلف أيضا؛ ويُعدُّ هذا التغير الفكري نتاجاً للسياسة الخارجية، إضافة إلى كونه نتاجاً للإصلاحات الداخلية، فمهما كانت الأسباب والنتائج فإن تركيا الحالية تنظر إلى إقليمها وإلى العالم من وجهة نظر مختلفة عما سبق، ومن البديهي أن هذا سينعكس على وجهة النظر التركية تجاه إفريقيا أيضاً، وستُحدث تغيراً جذرياً في ذلك، فبحسب وجهة النظر التركية الجديدة لم تعد دول إفريقيا وآسيا مناطق نائية ومصدراً للمشكلات، بل دول يجب إنشاء علاقات سياسية واقتصادية معها وتطويرها، بل يتعدّى الأمر هذا، إذ ينبغي التحرك سويا، والدخول في شراكة إن تطلب الأمر.
حيث يعتبر الأساس السياسي للإنفتاح التركي تجاه إفريقيا هو رغبة أنقرة في الإسهام في السلام العالمي عن طريق زيادة علاقاتها وتأثيراتها في المنطقة والعالم؛ فتركيا اليوم لم تعد مركز أزمات، بل دولة ذات رؤية وسياسة واضحة بحسب هذه الرؤية، كما أن العلاقات التي تصيغها مع إفريقيا تُعدُّ بديلاً عن العلاقات مع أوروبا، التي أغلقت أبوابها في وجه هذه القوة المتصاعدة.
وفي هذا الرد القوي على الدول الأوروبية، نلاحظ أن تركيا في السنوات الأخيرة افتُتِحت تسع وعشرون سفارة جديدة، وبهذا وصل عدد السفارات التركية في إفريقيا إلى إحدى وأربعين سفارة؛ وفي المقابل إرتفع عدد البعثات الدبلوماسية الإفريقية في أنقرة من ستة عشر إلى ثلاثين؛ كما أن الزيارات المتبادلة على المستوى الرفيع تزداد من عام إلى آخر.
وقد إنعكست هذه الزيارات على الجانب الإقتصادي،حيث ارتفع حجم التجارة التركية الإفريقية من 5.5 مليار دولار إلى 20 مليار دولار في السنوات الثلاث الأخيرة، ووصل حجم الإستثمارات التركية في إفريقيا إلى 6 مليارات دولار، وفي مجال التعاون التجاري والإقتصادي شُكِّلت مجالس عمل، ووُقِّع عدد من الإتفاقيات، كما أن الرحلات الجوية بين الطرفين تزداد بشكل خيالي، حيث تنظّم الخطوط الجوية التركية في الوقت الحالي رحلات مباشرة إلى 46 مدينة مختلفة في 28 دولة إفريقية.
وفي ظل هذه العلاقات المتبادلة لم تغفل أنقرة موضوع المساعدات الإنسانية، فقد فتحت وكالة التعاون والتنسيق التركية ( TIKA) مقرات لها في أكثر من 11 دولة إفريقية؛ لتقديم المساعدات والهبات لأكثر الدول حاجةً وفقراً، وتكفلت بآلاف الطلاب الأفارقة الذين درسوا ولا يزالون يدرسون في تركيا، سواء في الجامعات أم المدارس، حتى إنّ المسؤولين الأتراك يرون أن إفريقيا وجهة تحمل في تعبتها النجاح في الأيام القريبة القادمة.
وقد أسهمت أنقرة مؤخراً بنحو 781 مليون دولار في مشاريع الإغاثة الرسمية ببعض الدول الإفريقية، وافتتحت رئاسة إدارة التعاون والتنسيق التركية مكاتب لها بدول القارة، ولديها مشاريع شملت أكثر من 37 دولة
كما حققت المؤسسة التركية للتعاون والتنمية انطلاقة نوعية في الانفتاح على إفريقيا إذ استطاعت من خلال مكاتبها في ثلاث دول إفريقية، هي: إثيوبيا والسودان والسنغال، أن تسهم إسهامًا مباشرًا في العديد من مشروعات التنمية داخل 37 دولة إفريقية، كما أنها قدَّمت مساعدات إنسانية عاجلة للعديد من الدول الإفريقية فضلًا عن برنامجها الخاص بالتنمية الزراعية في إفريقيا الذي بدأ في شهر أغسطس/آب 2008 وصولًا إلى سنة 2010، وذلك بهدف تطوير الزراعة في 13 دولة إفريقية، هي: بوركينافاسو، جيبوتي، إثيوبيا، غينيا بيساو، مالي، السنغال، جزر القمر، مدغشقر، تنزانيا، كينيا، رواندا، أوغندا. كما بذلت تركيا جهودًا وإسهامات مباشرة في الأزمات الإنسانية التي شهدتها بعض دول القارة الإفريقية وذلك من خلال المؤسسات الدولية
ولو قمنا بتعقب مراحل الإنفتاح التركي على إفريقيا سنجد أن العوامل الدولية هي التي ساهمت في هذا، وفرضت على أن تكون تركيا وجهتها نحو إفريقيا بدلا من الشرق الأوسط وأوروبا، وبالتالي يمكن رصد هذا التوجه نحو إلإريقيا وفق المراحل التالية:
المرحلة الأولى؛ وهي المرحلة التحضيرية التي تبدأ من عام 2002 وتمتد حتى عام 2005 الذي أُطلق عليه اسم "العام الإفريقي"، وتُعدّ هذه المرحلة فترة تخطيط لما سيُحقق في المستقبل، وقد تضمنت زيارات على الصعيد المدني، واختُتِمت بإعلان عام 2005 العام الإفريقي.
المرحلة الثانية؛ والتي امتدّت بين عامي 2005 – 2008، وهي من أكثر المراحل تنوعاً من حيث العلاقات السياسية والإقتصادية، إذ انعقدت خلالها القمة التركية الإفريقية الأولى، ووصلت العلاقات في هذه المرحلة إلى مستوى أكثر مما كان متوقعاً ومخططاً لها قبل عام 2005.
المرحلة الثالثة؛ وقد امتدّت من عام 2008 إلى شهر آب من عام 2011، وشكلت زيارة رجب طيب أردوغان إلى مقديشيو؛ خلال هذه المرحلة آفاقاً واسعة وعميقة للعلاقات بين الطرفين، وافتتحت تركيا في هذه المرحلة عدداً من السفارات الجديدة في الدول الإفريقية، ورفعت من حجم تبادلاتها التجارية الذي زاد أربعة أضعاف مما كان عليه، فارتفع من 4 مليارات دولار إلى 18 مليار دولار، لذلك تشكل الفترة بين عامي 2005 – 2011 حجر الأساس في العلاقات التركية الإفريقية.
بدءاً من عام 2014 تدخل العلاقات التركية الإفريقية مرحلتها الخامسة، وهذه مرحلة مهمّة من ناحية ضمان جودة العلاقات، ونجاح السياسات الماضية،ووضعها ضمن سياق أكثر تنظيما، ولهذه المرحلة ركيزتان أساسيتان:
- تكمن الركيزة الأولى في كسب العلاقات التركية الإفريقية طبيعة مريحة من خلال القمة المنعقدة في مالابو بـ غينيا الإستوائية.
- أمّا الركيزة الثانية لهذه المرحلة فهي محاولة تركيا إقامة علاقات تعاون جديدة مع دول أخرى في القارة الإفريقية.
إذا أمعنا النظر في هذه المراحل نجد أن إفريقيا هي التي فرضت نفسها على تركيا، مع توفر بعض العوامل الدولية كالثورات العربية في الشرق الأوسط، إضافة إلى أن إفريقيا من أغنى مناطق العالم بالثروات الباطنية، وتمتلك أراضي زراعية تستطيع من خلالها إشباع العالم، ولا تتمثل حاجة إفريقيا هنا في المساعدات، بل تتمثل في التوجيه الصحيح لهذه الثروات، وسيكون من المفيد توجيه هذه الثروات بشكل يستفيد منه الجميع، وتركيا هي الدولة المؤهلة لهذا حسب ما يكشفه تاريخها السلمي في إفريقيا.
منافذ الغزو التركي لإفريقيا...الصومال نموذجا
يعتبر السير التركي تجاه القارة السمراء وحرصها علي فتح آفاق أوسع للتعاون، حيث قدمت ذاتها كحليف متميز أكثر حرصا على مصالح هذه الدول ومختلفاً عن حالات الاستقطاب الاقليمي والدولي، فنجحت في أن تكون حليف استراتيجي هام وفاعل وقوي في الشأن الصومالي، وهدفت إلى إعادة تشكيل الأخيرة لتكون قاعدة انطلاق للعب دور استراتيجي فاعل في الأزمات الدولية، وتعد الزيارات المتكررة للرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" للصومال واخرها في يناير 2015، برهاناً علي العهد الجديد في العلاقات التركية الصومالية.
يمكن رصد أهمية الصومال في السياسة الخارجية التركية وفق المراحل التالية:
• الاهمية الجيوستراتيجية للصومال: تدرك تركيا جيداً أهمية الصومال بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يربط بين القارات وباعتبارها ممرا مهما للطاقة في العالم إضافة إلى الثروات الكثيرة التي يمتلكها الصومال والمخزون النفطي، وبالتالي فإن الصومال يدخل ضمن سياسة عامة تنتهجها تركيا للتأثير على المستويين الاقليمي والدولي.
• تحقيق حلم الزعامة والعودة للقارة السمراء : فاهتمام تركيا بالتواجد في الصومال يأتي في إطار خططها للتواجد في القارة الافريقية بصفة عامة، أي أنه بمثابة مدخل للعودة للقارة السمراء وتحقيق حلم الزعامة التركية للعالم كقوة عظمى عسكرية واقتصادية.
بينما نجد الصرف الثاني المتمثل في الصومال وترحيبها بالعلاقات الجديدة والدور الجديد لتركيا، محصورا في الأسباب التالية بالدور:
• الأزمات المتنامية التي تعاني منها البلاد: فبالإضافة إلى المعضلة السياسية وانقسامها إلى دويلات، فالصومال يعاني من كوارث الجوع والجفاف التي تهدد ملايين البشر في الصومال والقرن الإفريقي، وهنا كان الدور التركي هو الأبرز والأكثر حماساً في الوقوف بجانب الشعب الصومالي.
• توقيع العديد من الاتفاقيات الأمنية الثنائية: لدعم الصومال في بناء قدراته العسكرية والأمنية لمحاربة" حركة الشباب" التي تبنت وفي خطاب علني أكثر من مرة هجماتها ضد منشآت تركيا في مقديشو، وتشمل هذه الاتفاقيات تقديم الدعم اللوجستي للحكومة الصومالية عبر تدريب الجيش وقوات الشرطة الصومالية في تركيا، فضلاً عن إعادة هيكلة القوات الجوية.
• ترميم وزارة الدفاع والمنشآت العسكرية الصومالية: فقد قامت الهيئات التركية بترميم وزارة الدفاع الصومالية التي كانت أيام الحرب الأهلية ملجأ للعديد من المواطنين، كما أنها تقوم بين الحين والآخر ترميم بقية المنشآت العسكرية في كل من مباني أكاديمية الشرطة الصومالية ومقر البحرية الصومالية، ومقر قوات حرس السجون إلى جانب تأهيل قوات الشرطة الصومالية.
• الخبرة التركية العملية: فقد دعمت تركيا تنفيذ المشروعات التنموية، وتقديم المساعدات الإنسانية غير المشروطة، استنادا إلى خبرتها في قضايا التنمية والبنية التحتية. فضلاً عن الخبرة الأمنية والعسكرية بواقع وجودها في الناتو، ونجاحها في التعامل مع أزمات الصومال بشمولية دون حصر الأزمة في العاصمة فقط
• نجاح تركيا في لفت انظار العالم للصومال: وهو ما تبين في تصريحات الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" التي طالب فيها المجتمع الدولي بضرورة المشاركة في إعادة إعمار الصومال، وفي ذلك إشارة إلى أن تركيا لا تريد الاستحواذ او الانفراد بمشروع إعادة إعمار الصومال
وأخيرا؛ استضافت تركيا مؤتمر اسطنبول بشأن الصومال الذي تم تنظيمه في إطار منظمة الأمم المتحدة في الفترة ما بين 21 إلى 23 مايو 2010م، وقدم هذا المؤتمر دعماً مهماً لعملية السلام التي تجري في جيبوتي لدعم الحكومة الفيدرالية الانتقالية، وجاء إعلان اسطنبول في أثناء المؤتمر كخريطة طريق لتسوية الوضع في الصومال؛ ومضت تركيا في هذا الاتجاه، فاستضافت مدينة اسطنبول “المؤتمر الصومالي الثاني” خلال عام 2012م، تحت عنوان “تحديد المستقبل الصومالي أهداف عام 2015" بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة ونوقشت خلاله قضايا ملحة، مثل المياه والطاقة والطرق والنزاعات والانفصال؛ كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن الخطوط الجوية التركية تعتبر الخطوط الجوية الدولية الأولى والوحيدة التي تربط الصومال بالعالم من خلال رحلاتها بين اسطنبول ومقديشو والتي بدأت منذ شهر مارس 2011.

تركيا والجسر العربي الإسلامي..إلى إفريقيا
في إطار سعي تركيا لاستعادة نفوذها السابق في محيطها الإقليمي وفي العالم؛ فإن تركيا تستخدم أدوات لذلك، منها منظمة المؤتمر الإسلامي التي تريد تركيا أن تعظّّم من دورها, وأن تكون مظلة للعمل المشترك مع دول العالم الإسلامي البالغ عددها 57 دولة, منها عدة دول من جنوب الصحراء الإفريقية، منها أوغندا وبنين وبوركينافاسو وطوغو وتشاد وجيبوتي والسنغال والصومال والغابون وغامبيا وغينيا وغينيا بيساو وجزر القمر والكاميرون وكوت ديفوار ومالي وموريتانيا وموزمبيق والنيجر ونيجيريا، وحرصت تركيا على أن يكون رئيس هذه المنظمة تركياً، وهو أكمل الدين إحسان أوغلو منذ عام 2005م.
كما تحاول تركيا أيضاً أن تبسط نفوذها على المنظمات الإقليمية، فقد استطاعت أن تحصل على صفة «شريك استراتيجي» بمنظمة الوحدة الإفريقية، بالإضافة إلى المؤسسات الأخرى التي سبق الإشارة إليها، وبذلك تحاول تركيا أن تربط عدة شرايين مهمة بينها وبين إفريقيا، لتزيد من قوتها الناعمة وتبادلها التجاري مع القارة السمراء، والذي من شأنه أن يعيد اكتشاف تلك الدولة المسلمة لإفريقيا مرة ثانية بعد أن تجاهلها المسلمون منذ انهيار الخلافة العثمانية وتبدل الأوضاع الدولية منذ الحرب العالمية الأولى، وكذلك من شأنه أن يعيد بعضاً من قوة المسلمين في مواجهة مشاريع التنصير واحتكار الثروات في تلك القارة التي تبلغ نسبة المسلمين بها 47%، بإجمالي 462 مليون مسلم.
وتلك العلاقات المتجددة بين تركيا وإفريقيا تعيد ربطها مرة ثانية بالعالم الإسلامي، وتُدخلها في بؤرة الاهتمام من جديد، عن طريق الشراكات التجارية والاقتصادية، حيث إن مظلة المؤتمر الإسلامي وحدها لا تكفي دون أن يتم ربط الدول الإسلامية بشبكة من المشروعات التنموية والتجارية والإنسانية، ويمكن أن يمثل الوجود التركي في يوم من الأيام عامل ثقل موازناً للمشاريع الغربية التي تهدف إلى تنصير القارة ونهب ثرواتها.
وبصرف النظر عن الخطابات المعلنة لتركيا عن التنمية الاقتصادية والمساعدات الإنسانية؛ فإن سياسة تركيا تجاه إفريقيا مدفوعة بتوجهات سياستها الخارجية على المدى البعيد ورغبتها في تنويع حلفائها الاقتصاديين، فتركيا مهتمة بتقليل اعتمادها الاقتصادي على شركائها التجاريين التقليديين, أمثال الاتحاد الأوروبي وروسيا, بفتح أسواق جديدة ومن بينها إفريقيا، فتركيا فهمت أن العالم قد تغير بصورة عميقة, وأن وجود حلفاء جدد بحسابات وتخطيط استراتيجي جديد أصبح أمراً حتمياً في تلك الحقبة التي تشهد تغيراً سريعاً في الاقتصاديات العالمية.
إن انفتاحة تركيا على إفريقيا تعد جزءاً لا يتجزأ من إعادة التعريف الجديد لسياسة تركيا الخارجية، وعلى المنظور الأوسع فإن الأزمة الاقتصادية العالمية التي حدثت عام 2009م شددت على أهمية تنويع الأسواق التركية, وأثبتت أن بناء علاقات مع إفريقيا يتوسطها العرب كانت خطوة جيدة, وأنها أفادت تركيا كثيراً، لبُعد الأسواق الإفريقية عن اهتزازات أسواق المال العالمية الكبرى، فكان الاستثمار في إفريقيا أكثر أمناً من بلدان أخرى حول العالم، لذا من المتوقع أن تتزايد الشراكة التركية الإفريقية في السنوات القادمة من أجل تحقيق المصالح التركية السياسية والاقتصادية, ولأهداف سياستها الخارجية الجديدة.
كما أن الشراكة التركية مع دول إفريقيا تعد نتيجة لكلٍّ من التحولات الداخلية التركية والتغيرات في الاقتصاد السياسي العالمي، فالتحولات الداخلية التركية مثّلت تحدياً للشركاء التقليديين لتركيا في الاقتصاد؛ لذا هدفت تركيا إلى تنويع بدائلها التجاريين تماشياً مع التغير في محددات القوة الاقتصادية والسياسية العالمية، فالتغير في النظام الدولي قاد الدول إلى إعادة تعريف مصالحها الخاصة في النظام الناشئ الجديد, واستجابة تركيا لمثل تلك التغيرات كان بتعريف سياسة خارجية جديدة متعددة الأبعاد بتطوير علاقات اقتصادية وسياسية ليس فقط مع الجيران الحاليين، ولكن أيضاً مع المناطق والقارات الأخرى التي تحمل آمالاً واعدة للاقتصاد التركي مستقبلاً.
العلاقات التركية الإفريقية...إلى أين؟
رغم كل الجهود التي بذلتها تركيا من أجل تحسين وبناء علاقات رزينة مع إفريقيا، إلا أنها لازالت تواجه العديد من التحديات التي تشكل قيدًا على علاقاتها الإفريقية بصفة عامة وبدولة الصومال والقرن الإفريقي بصفة خاصة، ومن أهم هذه التحديات هي:
أولاً؛ حالة التنافس الحاد والاستقطاب الإقليمي والدولي على القارة الإفريقية ومواردها، خاصة أن الاهتمام التركي المتصاعد بهذه الدول لفت انتباه فاعلين إقليميين ودوليين للعب دور أكثر فاعلية، فضلاً عن المحاولات الدولية لتحجيم النفوذ التركي المتزايد فمثلا بريطانيا نظمت مؤتمرين دوليين حول الصومال في فبراير 2012 ومايو 2013 لتذكير تركيا بأن بريطانيا العظمى لها مصالح دائمة لا يمكن أن تتخلى عنها.
أما التحدي الآخر الهام في هذا السياق مرتبط بالاستقرار في هذه المنطقة، فاحتمال الفوضى الناجمة عن تدهور الأوضاع الأمنية أو عن أعمال الإرهاب والعنف، فضلاً عن انقسام الصومال إلى دويلات، كلها مخاطر تشكل قيدًا على السياسة الخارجية التركية، فنجاح الأخيرة في القارة الإفريقية وفي الصومال يبقي مرهوناً بالاستقرار في هذه المنطقة.
ولكن يجدر القول انه رغم هذه التحديات، إلا أن القارة الإفريقية تعد جزءاً لا يتجزأ من سياسة تركيا الخارجية؛ وبالتالي فإنها ستمضي قدماً نحو تعزيز علاقاتها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية بدولة الصومال وبمختلف الدول الإفريقية كما ستسعى للدفاع عن مصالحها الإستراتيجية في هذه المنطقة، وذلك لأنها تتبنى سياسة خارجية منظمة وواضحة المعالم، تطمح من خلالها بحقيق طموحاتها من ناحية العالمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس الأمريكي يقر مشروع قانون مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا


.. لازاريني: آمل أن تحصل المجموعة الأخيرة من المانحين على الثقة




.. المبعوث الأمريكي للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط: على إسرا


.. آرسنال يطارد لقب الدوري الإنجليزي الممتاز الذي غاب عن خزائنه




.. استمرار أعمال الإنقاذ والإجلاء في -غوانغدونغ- الصينية