الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النزعة اللاّمادية ونقد الأفكار المجردة عند جورج بركلي

زهير الخويلدي

2016 / 12 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


استهلال:
" الوجود هو الوجود المُدرَك"

لقد كان جورج بركلي (1685- 1753) صاحب الجنسية الأرلندية مبشرا وطبيبا وواحد من المسافرين من أوروبا إلى أمريكا من أجل الدفاع عن القضية الدينية ، لكنه ما لبث أن عاد بسرعة بسبب قلة المال وتقلب الأحوال . ولقد اعتبر واحد من المتحولين من الكنيسة إلى الفلسفة بعد صعود النزعة الشكية وتقدم العلوم الوضعية ولكنه ظل وفيا للتراث والتقاليد وحاول المواءمة مع الجديد والتحديث. لقد خصص بركلي قسما كبيرا من مؤلفاته من أجل التفكير في الصلة التي تربط بين الله والكائنات المتناهية واعتبر التمييز الأرسطي الذي ثمنه لوك بين المحسوسات الخاصة والمحسوسات المشتركة هو الذي تحكم في المجردات الأكثر انحرافا وسبب تشكل شاشة من الأفكار تفصل بين الأنا والعالم الحسي وتضع الطبيعة موضع اللاّيقين وترفع من درجة الارتياب، ولهذا سعى إلى نقد فكرة المادة الموضوعية ورفض النظر إليها كجوهر ولقد اعتبرها مصدر قيادة الفلسفة بأسرها نحو الإلحاد وبهذا تم اعتباره ممثلا للمثالية الدغمائية . لقد أجرى ثلاثة محاورات من خلال شخصيتين هيلاس وفيلونيس دافع فيها الأول على فكرة المادة الموضوعية في حين أن الثاني كان الناطق الرسمي باسم فلسفة بركلي قام بنفي هذه الفكرة ودافع على الروح وفي هذا السياق صرح ما يلي:" أنفي وجود الجوهر المادي ليس فقط لعدم وجود معنى عام وإنما أيضا لكون هذا المعنى العام متناقض" .
لكن كيف سعى بركلي إلى تأسيس فلسفة جديدة تتحرك ضمن إطار التجريبية والمثالية في ذات الوقت؟ كيف تصور العلاقة بين الدين والفلسفة وبين الله والإنسان؟ وماهو المنعطف اللامادي الذي أنجزه بركلي؟ وهل أدى ذلك إلى إحداث تغيير في مبادئ نظرية المعرفة؟ والى أي مدى تتطابق اللغة التي نستعملها في تعيين الوقائع مع الأفكار في جميع نقاطها؟ وماذا تعني معطيات الشيء والجوهر والمادة والوجود؟ وكيف نسند نهاية معنى لكل لفظ؟
تنقسم اللحظات المنطقية للتفكير في فلسفة بركلي إلى العناصر التالية:
- مبادئ المعرفة الإنسانية
- نقد الأفكار المجردة
- قيام النزعة اللاّمادية
ما يمكن المراهنة عليه في نظرية بركلي هو الابتعاد عن المادية الساذجة التي تحصر الوجود في العالم المحسوس والمثالية الساذجة التي تحصر الحقيقة في عالم الأفكار والانتصار إلى رؤية إشكالية لامادية للوجود المدرك تتراوح بين المثالية والتجريبية.
1- مبادئ المعرفة الإنسانية:
لقد شرع في تدوين بعض الملاحظات ضمن كراسات شخصية ودرس الرياضيات بشكل متأني وفكر في الزمان والرؤية وتأثر بديكارت وناقش الفلسفة الديكارتية وحاول بناء نظرية جديدة في الرؤية سنة 1709 وظهرت عليه علامات النبوغ والأصالة حينما قام بنقد البصريات الهندسية وطرح للنقاش المبادئ الأساسية لنظرية ميتافيزيقية طريفة تعلن عدم وجود الجوهر المادي بصورة مطلقة وتثبت اللاانسجام التام للمعطيات الواردة من المحئسوسات وتسند لطبيعة كلاما احاليا يترجم الثبلات النسبي للمعطيات الملموسة.
إذا كان جورج برلكي يتميز بالطابع الإشكالي للأفكار الفلسفية التي طرحها للتحليل والنقاش الفلسفيين فإن فلسفته تند عن كل نظرة اختزالية تبسيطية وتمتنع عن ردها إلى صيغة واحدة.
ما يثير الاستغراب أن فلسفة بركلي شكلت وجهة النظر الأكثر راديكالية بالنسبة إلى التجريبية الآنية بالاستناد إلى قولته الشهيرة : "الوجود هو الوجود المدرك" والتي تأسست على نظرية مخصوصة في الرؤية متعاكسة مع أطروحة الفلاسفة الذين سبقوه ومع الرأي المشترك وتفيد بأننا لا ندرك العالم الخارجي حينما نفتح أعيننا. إننا لا نرى الأحجام ولا المسافات ولا الانتقالات ولا التحولات التي تحدث في هذا العالم. إن الإدراك الخاص بنا لا يتشكل عبر اتصال بالعالم المادي بل من خلال ترجمة تناسبية مع العملية التي نجريها حينما نفهم دلالة عبارة معينة. على سبيل الذكر نحن نرى حجرة مع حجمها والمسافة التي تفصلنا عنها بنفس المعنى الذي يمكننا فهمها حينما يأتي اسمها ساطعا في الأذن. يجري هذا الاعتقاد الجازم انقلابا تاما في التصور الإدراكي وفي حقيقة الواقع المدرك: الواقع ليس الشيء المادي وإنما الفكرة المدركة في الإدراك ذاته. والمادة ليست جوهرا وإنما مجرد كلمة يتم التلفظ بها تعبيرا عن حالة إدراكية حسية وبالارتباط بالتجربة.
بهذا المعنى يكون بركلي قد ألغى التفريق الذي أوجده جون لوك في فترة سابقة حينما أخذه من عند الفيلسوف والكيميائي بين الكيفيات الأولى التي تنتمي إلى الشيء والكيفيات الثانية التي تأتي من الذات المدركة. على هذا النحو لا توجد كيفيات أولى وموضوعية للمادة كالامتداد عند ديكارت واللاّنفاذية عند لايبنتز واليبوسة عند البعض الآخر.
كل الكيفيات التي نقوم بحملها وإسنادها إلى الأشياء تأتي منا. عندما أستمع على سبيل الذكر إلى سيارة تمر في الطريق فإن ما أسمعه ليس السيارة بل صوتها ومن خلال استماعي لصوتها أستطيع أن استنبط في فكري بأني أدرك سيارة. على نفس الصورة عندما أقرأ كتابا معينا يتحدث عن الله فأنني لا أر الله الذي يتحدث عنه الكتاب بل الرسوم والمعاني التي تمثلها الكلمات. بهذا المعنى يقترب بركلي بصورة كبيرة من مالبرنش حينما يعرّف الإدراك بأنه التأثير الذي يخلفه فكر على فكر آخر والذي ليس في نهاية المطاف إلا الله. تبعا لذلك أن العالم ليس سوى جملة من الرموز أرسلها الله إلى الإنسان.
لقد حاز بركلي الفقير إلى الله على فكرة غنية تتميز بالتفرد والغرابة والقوة بحيث لا يقدر أي فكر البشري ليحطمها ويضع مكانها فكرة أخرى. لقد أطلق بركلي على تجربة الدحض التام للوجود الموضوعي بحجة العصا ودعا كل منكري الإدراك الحسي من الريبيين إلى التعرض للضرب المبرح بها إذا كانوا بحق جادين في التشكيك في التجربة التي يقومون بها.
من المفترض أنهم إذا شككوا في كل شيء فهم لا يستطيعون الشك في وجود العصا وفي ضربات العصا وفي الألم الفيزيائي الذي تسببه هذه العصا في الجسم عند التعرض للضرب. على هذا النحو تم تعميم حجة العصا في حق كل المرتابين والمنتقدين لوجاهة وصلابة الأشياء والأحداث. لكن لماذا ركز بركلي نقده الفلسفي على التجريد الذي يقوم به الذهن؟
2- نقد الأفكار المجردة:
لقد تصدى بركلي للأفكار السياسية الخطيرة وقام بتحليل معمق ونقد مفتوح للنظرية الميتافيزيقية بعناصرها الفيزيائية لدى رونيه ديكارت والنظرية الفيزيائية بعناصرها الميتافيزيقية لدى نيوتن على السواء وركز بالخصوص على اطلاقية المكان والزمان والحركة ولقد نقد الصلاحية المنطقية للإجراءات التي تعتمد في حساب التكامل والتفاضل.
لقد أبدى بركلي استغرابه من قياس نظام الأفكار على نظام الأشياء ومن الانتقال التدريجي إلى النظام التراتبي للموجودات عبر تسلق سلم الفضائل وبتوسط النظام المنطقي للحقائق.
لقد أدى تحليل كراسات الملاحظات والنظرية الجديدة في الرؤية ببركلي الى توجيه الأسلحة الفتاكة ضد الريبية والإقرار بأن الذاتية تنطبق بصورة تامة ومطلقة على الكيفيات الثانية مثل النظر والشم والذوق وأيضا على الكيفيات الأولى على غرار الشكل والامتداد والحركة.
يترتب عن ذلك أن الحقيقة ترجع إلى الأفكار التي نمتلكها بصورة سابقة من خلال التجربة ولكن يظل ممكنا الاحتمال الذي يرى وجود جوهر مادي خارج ذواتنا ومقترن مع الله ذاته بالنظر إلى أننا ربطنا الوجود بالإدراك وصرنا نتساءل عن معنى الموصوفات بدل قيمتها .
لقد آمن بركلي بأن معنى اللغة يمكن أن يتشكل من خلال الفكرة التي تعبر عنها هذه الكلمة ويكون بذلك قد تخطى الميتافيزيقا واقترب من الفلسفة التحليلية بجعله الخطاب يقول اللاّمقال.
علاوة على ذلك لا تمتلك كلمة المادة معنى إذا لم تكن تحيل الى فكرة تامة التكوين ضمن تصور إشكالي في إطار محاولة الذهن التكيف مع التجربة ومحاولة العقل سبر عالم الأشياء.
لقد استند بركلي على اللاّتجانس المعروف في المعطيات المرئية والملموسة لكي يبين وجود لغة الطبيعة ويبرهن على وجود الله من خلال اللغة التي تكلم بها مع البشر عند عملية الخلق.
يحتاج الايمان في نظرية المعنى إلى الحد من العقل وتتغلب قوة الكلمات على معنى الألفاظ ويقترن نقد الجوهر المادي بالاستعمال الخافت للفظ فكرة قصد التخلي عن المعاني المجردة.
في نفس الاتجاه يستخدم بركلي الاستعارات لكي يعبر عن اللاّمقال ويتحدث عن الأشياء الروحانية والإلهية ولكي يتمكن من الإشارة إلى المقتضيات المتعينة غير المتمثلة للفكر.
هكذا يتسنى للمرء رؤية ما يوجد فوق العقل ليس بواسطة الفكار وانما من خلال المعاني ويمكن التكلم عن هذا العطاء دون حيازة أي فكرة ويؤيد ذلك الحس السليم لدى الجمهور. لكن يستحيل على الفرد الذي يرى الأشياء في تفاصيلها أن يتقاسم هذه الرؤية الدقيقة والمباشرة مع المجموعة التي ترى حقيقة الأشياء الخارجية في أبعادها الكبيرة وعموميتها الشاملة.
3- قيام النزعة اللامادية:
لقد جسد بركلي النزعة اللاّمادية بامتياز وقد عارضه في ذلك معاصروه مفندين صحة أطروحته التي تعتقد في وجود الكائنات اللامادية وتظل تمارس أسلوب غلق الباب في وجهها لما تعود إلى البيت في الطقس الممطر. لكن ألا يستوي الأمر بين فتح الباب وغلقه إذا ما تعلق الموضوع بكائنات غير مادية وغير حسية؟
والحق أن الماء الأسود يغمر كل شيء مثل الطوفان الذي يدك كل الشيء بشرط أن ننجح في الخروج منه. من هذا المنطلق قام بركلي بتجسيد مجموعة من المفارقات في تاريخ الفلسفة الحديثة : ربما أهما اعتباره من طرف البعض في ذات الوقت تجريبي وغير مادي.
علاوة على ذلك يضع بركلي مجموعة أشياء العالم في سلسلة مقيدة لكل كائنات الطبيعة من ناحية ويؤمن من ناحية ثانية الثالوث الإلهي وينفي إمكانية الذهاب إلى أبعد من ذلك. المسافة التي تفصل أصغر حجرة عن أكبر الكائنات وهو الله ليست هينة ولا صغيرة وإنما لا يمكن تمثلها بالذهن البشري والعقل العلمي العادي ويجب النظر إليها هذه الكائنات بعيون لامادية. فما العمل للخروج من هذه المناقضات والصعوبات؟
لقد شيد بركلي المنعطف اللامادي في النظرية واللغة والفكر الحر وشكك في أولوية العمل وأقلع عن ملازمة الصمت وكشف عن السر الميتافيزيقي وغادر المنهج المادي دون رجعة.
بيد أن بركلي ظل يعتقد في وجود حكمة الهية تتميز بالقدرة المطلقة على الإحداث بشكل مستمر وعملت على خلق العالم الحسي في ستة أيام قبل أن تقوم بخلق الحياة البشرية.
لهذا يتعمق بركلي في وصف العالم ويهتم بالعناصر الأولية التي تتكون منها الواقعة على غرار الزوج الذي يتكون من الفعل والانفعال ويطلق عليها اسم شيء الشيء وليس الفكرة.
هكذا تظل اللامادية قلبا نابضا ونواة حية لأثر معرفي ومنبع ديني يمارس تأثيرا على الناس ويمنحهم إلهاما ويتجاوز تشتت مقاصدها وتضارب اهتماماتها وبذلك يبقى مربيا بامتياز.
خاتمة:
جملة القول أن فلسفة بركلي تثير الدهشة وتدعو إلى الاستغراب وذلك لتضمنها عدة مفارقات: المفارقة أولى تتضمنها عبارة : الوجود هو الوجود المدرك، والتي وقع تأويلها بأنها تحتوى على مثالية واحدية جذرية idéalisme solipsiste radical. أما المفارقة الثانية فتكمن في العلاقة التي أوجدها بركلي بين المادة التي يتكون منها كلام العلماء والأطباء والكوسمولوجيا الأفلاطونية المحدثة التي تحرك ضمنها في مستوى رؤيته للكون.
في حين أن المفارقة الثالثة تدور حول الإقرار باللامادية وما يترتب عن ذلك من ادعاء بوجاهة الأفلاطونية في صورتها التقليدية والقول بأن كلمة مادة فاقدة للمعنى ومتناقضة.
بيد أن فلسفة بركلي هي في خدمة حقيقة واحدة تتمثل في كوننا نستمر في الوجود بفضل الله وهو الذي يمنحنا الحركة والنشاط وهو الذي يمثل علة وجودنا وأساس استمرارنا في البقاء.
لكن بركلي وضع فلسفته برمتها في خدمة الكتاب المقدس ونذر نفسه من أجل الدفاع على تعاليمها والتبشير بها بواسطة المنهج الفكري، فكان مبشرا لاهوتيا أكثر منه فيلسوفا حرا.
غاية المراد أن النزعة اللامادية يمكن أن تكون نافعة في علاقة بطغيان النزعة المادية وخطيرة في علاقة بالاستتباعات الميتافيزيقية والمسلمات الروحانية التي تتضمنها في الآن نفسه، ولهذا فهي تحتل منزلة نسبية ومحدودة في فلسفة بركلي وتغطي مساحة معلومة منها.

المصادر والمراجع:
Berkeley (Gorge), un traité concernant les Principes de la connaissance Humaine, traduction, Traduit par Marilène phillips , œuvres Vol 1, édition PUF, collection Epiméthée, 1985-1996.

Berkeley (Gorge), tiois dialogues entre Hylas et philonous, traduit par J-M, Beyssade, œuvres, Vol. II), édition PUF, collection Epiméthée, 1985-1996.

Œuvres de George Berkeley,
Locke and Berkeley, a Collection of Critical Essays, Armstrong § Martin éd., Londres, 1958. Works, A. A. Luce § T.E.Jessop éd., 9 vol., Londres, 1963.
New Studies in Berkeley’s Philosophy, W.E. Steinkraus éd., New York, 1966.
Berkeley, Critical and Interpretive Essays, C.M. Turbayne éd., Univ. of Minnesota, 1982, Oeuvres ,2 vol., PUF, 1985-1987.
Dubois P, l’œuvre de Berkeley, édition Vrin, Paris, 1985.
Gueroult M, Berkeley, quatre études sur la perception et sur Dieu, Paris, 1956.
Brykman G, Berkeley, Philosophie et apologétique, 2 vol, edition Vrin, Paris, 1984.

كاتب فلسفي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف


.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية




.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في


.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك