الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة والواقع والقصيدة

سمير الأمير

2016 / 12 / 20
الادب والفن


الثورة والواقع والقصيدة
سمير الأمير
أعرف أن الحكايات لا تصلح كمقدمات للبحوث التى تتسم بالابتعاد عن الذاتية كونها متجردة تسعى للوصول إلى نتائج عبر وسائل موضوعية و ربما تؤثر فيها شخصانية التجارب الذاتية سلبيا، ولكنى أيضا أعترف أننى لست هذا المتجرد الذى يغفل تجاربه ليغوص فى تجارب الآخرين التى قرأ عنها أو سمعها والتى قد تعتريها المثالب والمخاطر بدرجة أكبر مما خبره أو مر به هو ولذا سأبدأ ورقتى بحكاية من حكايات الصبا كنت قد نسيتها لمدة تزيد عن الأربعين عاما حتى اندلعت انتفاضة 25 يناير العظيمة وآلت إلى ما آلت إليه من سيطرة قوى الإسلام السياسي على المشهد مشاركة مع القوى القديمة، ثم صراعا معها بل ومع الشعب المصرى بكل قواه المدنية التى عادت واستغاثت بالقوات المسلحة وبالجماهير الشعبية لكى تنقذ مصر من محاولة التنظيمات الإسلاماوية محو هويتها، فكان الحشد الجماهيرى الذى سبق 30 يونيه والذى اتسع ليشمل الطبقات الفقيرة جنبا إلى جنب مع ممثلى النظام الريعى ورجال ما قبل 25 يناير وهى حالة لا تحدث إلا فى حالة العدوان الخارجى وكأن المصريين كانوا ينتفضون فى موجة 30 يونيه خوفا على ضياع هويتهم وتراثهم وفنونهم ودولتهم ولم يكن جوهر الأمر فى الموجة الثانية متعلقا بالصراع ضد قوى الاستغلال أو من أجل إعادة توزيع الثروة، فلقد هدد الإسلاميون الوجود المصرى ذاته بغض النظر عن نوعية هذا الوجود.
من هنا فإننى أكرر على مسئوليتى الكاملة أن البحوث الإنسانية لا ينقص من جديتها وموضوعيتها تضمينها للخبرات وللتجارب التى مر بها الباحث طالما استطاع أن يقدم الحقائق المؤيدة التى تجعل من تلك الخبرة قابلة للتعميم وقادرة على تفسير ما حدث.

الحكاية
كان جدي كثير الزواج وقد عرفنا نحن أربع نساء علي الأقل من زوجاته وبقيت الأخريات في إطار التخمينات…المهم انه انجب من ثلاثة وكان أبي وعمي) أبناء الزوجة الأولي (يعملون عنده بلقمتهم ….وحدثت خلافات بعد زواج أبي وعمي كان نتيجتها أن خرجا بزوجتيهما وابنائهما من العائلة الكبيرة بعد أن اقتطع لهما أبوهما عشرة أفدنه من ملكه الكبير …كنت اشعر بأن داخل العائلة أوضاعا طبقية تشبه المجتمع تماما ولاسيما حينما كان يتم التعامل بدرجة من القسوة مع أبناء العم المتوفي ابن المرأة التي تزوجها جدي لعدة أيام، فلم يدخلهم جدي للمدارس كما فعل مع أبنائه الذين كانوا في مثل أعمارهم.
علي الجانب الآخر كانت عائلة أمي مختلفة فقد كان جدي لأمي مدرس لغة عربية و كان أخوالي مثقفين…ولذلك كانت أمي هي الوحيدة من أمهات)عزبة الأمير (التي تمتلك مكتبة ضخمة بها كتب فلسفة وروايات لمحمد عبد الحليم عبد الله ولطه حسين وفتحي غانم….وبشكل ما كانت أم سمير مثقفة وربما ثورية من منازلهم فهى أول زوجة تستقل بزوجها عن بيب العائلة الكبيرة فى قريتنا وبعدها توالى استقلال الأبناء عن الآباء،
ولم أكن بعد قد عرفت أن الثورة...تعني ما هو اكبر من التمرد علي الجد والعائلة…خرجنا من بيت جدي إلي بيت بالإيجار…ثم باع أبي نصيبه من الأرض وأصبحنا عمليا معدمين ننتمي لعائلة بالغة الثراء
…ذات يوم قررت أن أستفيد من علاقتي بابن خالة أبي الذي كان بارعا في اعتلاء النخيل…لماذا لا نسرق كل نخلات جدي طالما أنهم لم يجعلوا لنا نصيبا فيها؟ …لم يشك احد من المارة فالحفيد يقف أسفل النخل بينما) أبو علي) يقوم بالتقطيع…في النهاية كنا أمام كمية ضخمة من البلح…أين سنخبىء هذا البلح؟ قلت لصاحبي"…لا أستطيع أن اذهب به للبيت ليس هناك مكان يصلح وأبي سوف يغضب إن علم أني سرقت نخل جدي…"ابتسم) أبو علي) الذي كان يبدو انه علم بكل ذلك مسبقا…وقال لي" خد ملء جيوبك ودعني أخزن البلح عندنا...سأذهب لإحضار عربتنا الكارو"
…بعدها كان) أبو علي) يصرف لي يوميا حوالي عشرين بلحة….وبنهاية الأسبوع الأول امتنع تماما وقال أنه لا حق لي في البلح لأنه هو الذي اعتلي النخل وهو الذي نقله وخزنه..بالضبط.ه هو كل حقي……وهذا هو ما حدث في ٢٥ يناير وتكرر فى 30 يونيه….بالضبط. لقد حصل ( أبو على) على كل البلح فى الحالتين.
( انتهت الحكاية)
الثورة والشعر
الثورة إذن هى إبداع والإبداع هو نتاج الوعى ونتاج الشعور بالتوتر الناجم عن خلل فى علاقات الإنتاج وطبيعته وهى بهذا المعنى تهدف إلى تجاوز النصوص القديمة التى أصبحت مكبلة للمجتمع، فالنصوص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية البالية فضلا عن كونها أصبحت مكررة وتقليدية ولا تقدم جديدا أصبحت الحياة بمواصلة اعتمادها مستحيلة ووعى الناس بأنهم أصبحوا غير قادرين على مواصلة الحياة بهذا الشكل هو ذروة التأزم والعقدة التى ينبغى أن تجد حلا.
إن الحلول الذهنية واللفظية التى تطرحها بعد القصائد بافتعال الصخب أو بالانتصار على أعداء الخارج والداخل فى القصائد توهم الناس بانتصارات وهمية ودونكوشتية ولا تقدم الواقع قيد أنملة، ولقد تكاثر الشعراء وتبلدت المشاعر حتى أصبح وضع كلمة شاعر أمام اسمك مثيرا للشفقة فهذا يعنى أنك تنتمى لنوع من المبدعين يتجاوز عدد المنتمين إليه عدد المنتمين لكل أنواع الإبداع والفنون قاطبة
- إذن لا أحب مطلقا أن أضع كلمة شاعر أمام اسمى، ليس تنصلا من الشعر ولكن لإيمانى بأن المشاعر أهم من الشعر، و قد فقدت الكلمة معناها بعد شيوع ما أسماه العظيم " فؤاد حداد " بكيمياء الكتابة، وتكاثر الشعراء الذين يصدعوننا بأصواتهم العالية، والتى تدعى بطولات وهمية وتنتصر للحياة على الورق، بينما يجبن كثيرون منهم على الاشتراك فى أى عمل احتجاجى أو سياسى، بل أن بعضهم لا يستطيع أن يواجه مديره الفاسد فى المصلحة التى يعمل بها، وكما يقول محمود درويش " يتكاثر الشعراء والطبقات قلت يا رفيق الليل "، ويمثل الشعر بالنسبة لى نصا مقاوما أو متناغما مع النص العام للحياة، وأى لغو خارج اعتبار حياة المصرين هى نصنا الأساس الذى تعلق عليه كل النصوص من شعر ومسرح ورواية وقصة بل وغنوة، أى لغو من هذا هو تضييع للوقت وإهدار للطاقة وتشتيت وتضبيب للوعى، الحياة هنا أهم من الشعر والشعراء، والاعتراض على القبح يبدأ أولا فى الواقع ومع الناس ويتبقى للشعر أن يتدخل بعد استنفاذ أدوات النضال، ليطرح رؤية وأسئلة تساهم فى إعادة خلق الشاعر والمتلقى فى آن معا، ولا يصح أن نتحدث عن الحب مثلا بمعزل عن القهر الطبقى الذى تعانيه الأجيال الجديدة، إن الصدق الفنى هنا يرتبط بممارسة المشاعر الحقيقية قبل ممارسة المشاعر المتخيلة، ويقول نجيب سرور: منين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه/ الناس كتير والكلام أكتر/ بس اللى يتلوه يشوفوا اللى حسن شافه/ والروح عزيزة يا روح ما بعدك روح/ لزومه إيه الكلام والطور عليه نافه/ يا نعيمه فكى اللجام انتى / قولى حكايتك إيه؟/ دى مش حكايتى آنى دى حكاية حسن/ انتى وحسن واحد / إنت وحسن نصين / جسدين بروح واحد / واللا جسد بروحين

والثورة إذن " فن وعلم "وليست " هوجه " فضلا عن كونها " إبداعا" فجوهرها التأسيس لوضع الوطن فى نص مغاير لنص القهر والاستبداد والإفقار، جوهرها خلق سياقات وعلاقات إنتاج جديدة، وغير ذلك مهما كبر يندرج تحت مسميات " الانتفاضة والاحتجاج، بمعنى أنه ما لم يكن لديك إمكانيات تأسيس هذا البناء الجديد فهدمك للقيم لن يؤدى إلا لإقامتك فى العراء.

***

قراءة فى بعض نصوص التمرد و الرفض عند الشعراء تقى المرسى و أبو الخير بدر و أحمد راضى

إن كتابة الشعر بالأساس هى فعل ثورى فهى فى جوهرها بحث عن مناطق لا ترتادها المقالات السياسية والفكرية وهناك أسئلة ربما تبدو غير منطقية ولا صلة مباشرة لها بما يحدث ولكن الوعى بها ضرورى جدا لتقدم الإنسان وهى أسئلة جديدة وجريئة وهذا هو المعنى الأساس للثورة، هناك أيضا من كتبوا إبداعات تحت مسمى إبداعات الثورة وهو ابتذال رخيص ينم عن نفعية وانتهازية لا تليق بمبدعين بل وتنتمى إلى العالم الذى تم رفضه والتمرد عليه، لقد فعلوا ذلك ليقنعوا الناس أن الثورة قد تحققت وقد سمعنا عن ثقافة ما بعد الثورة وكلنا نعلم أنه لا الثقافة ولا علاقات وطبيعة الإنتاج وقواه قد تغيرت، إنه استخدام للفن الزائف للإيهام بانتصارات لم تتحقق،
هناك أيضا من يدعون أن الإغراق فى التجريد والتعالى على الذائقة العامة هو أقصر الطرق لتنغيص رضا المتلقى وإثارة الأسئلة داخله ليكتشف بنفسه حجم التناقض الذى يحيا فيه وعلى الجانب الآخر هناك الندابون ولاطمو الخدود التى تتسم قصائدهم بعلو نبرة الصوت والتى تفترض أن رفض الظلم وقبح العالم يبرر صراخها وهى فى تقديرى بالغة القبح وتنتمى لما تدعى رفضه، فلا التعالى والتجريد ولا الهتاف الصاخب ينتميان للفن كما أتصوره وفى تقديرى أن قصائد التمرد والمقاومة لا ينبغى أن تكون عالية الضجيج فالانتصار بالصوت العالى لن يوقف تقدم الغزاة وكذلك لن يرفع الظلم عن كاهل الطبقات الفقيرة، إن الشعب الذى يطرب لأم كلثوم وفيروز لا يمكن استلابه لصالح ثقافة القهر أو الاستغلال إن دور الفن هو جعل الفنان والناس يدركون جوهر وجودهم وجماليات هذا الوجود ومن ثم يكتسبون مناعة ضد صور القبح كالاستغلال والقهر، إن التخلف والتقدم والتغيير والركود عند الشاعر ليسوا معادلات رقمية ولكنها نصوص ينبغى التأكيد عليها أو تجاوزها. إن ممارسة انتصار فى النصوص لا يحدث فى الواقع يؤدى إلى صعوبة التغيير لأنه يجعلك تتوهم أن التغيير قد حدث بالفعل.
الشاعرة تقى المرسى
الشاعرة تقى المرسى تقدم نفسها دائما عبر المنتديات أو الكتب المنشورة باعتبارها شاعرة فصحى، غير أننى سأركز هنا على نصوصها العامية الشعبية التى ابدعتها فى خضم الأحداث التى سبقت أو صاحبت أو تلت الانتفاضتين الكبريين فى 25 يناير و 30 يونيه.
تقول تقى المرسى فى نص كتبته فى بعنوان " إيه اللى باقى"2007:-
والغيمْ ستايرْ منْ قلقْ /راكبينْ له مِيتْ مَركِبْ ورقْ /والبحرْ ليلة نَوّْ ..تحلمْ بالشموعْ /يا هلْ تَرى .. /فيه بُكره لسَّه بينْتِظِرْ ؟.واللا احْنا ..منْ خُوفنا ..قتَلْناه...
بالخُضوعْ ؟!!
من المهم هنا قراءة النص فى سياق اليأس العام الذى ساد فى الفترة التى أعيد فيها انتخاب مبارك ليكمل ثلاثين عاما فى الحكم فى ظل تفاقم الفوضى والفقر وتحول الآمال إلى آلام " الغيم ستاير من قلق" سنلاحظ طبعا أن الغيم يطلق على السحب التى تحجب الرؤية، يمكننا فى سياق سياسى واجتماعى ونفسى مختلف أن ننظر لهذا الغيم باعتباره سحب خير و نماء، وحتى الحلم ذاته أضعف من أن يقينا مصيرنا ولو بالوهم لأنه الشموع لن تفعل شيئا فى خضم هذا البحر الذى اتحد بالليل وبالنوة والعواصف، بل أن الحلم هنا يصبح ساخرا ولا جدوى منه ومن ثم تطرح تقى المرسى السؤال / الرسالة دون أن تفرض إجابتها على أحد وهو ما يشير إلى قدرة الإبداع الحقيقى على وضع المتلقى فى سياق يجعله يدرك أن عليه دورا فتتساءل " هل سيطلع علينا غد جديد؟ ثم تنكأ جرحنا لتوجه لطمة للمتلقى فتقول له ولنا ولنفسها " أنكم من تسببتم فى ذلك بخوفكم" هل قالت " تقى يجب أن تتخلصوا من الخوف أم تركتنا نصل لهذه النتيجة عبر التخييل البديع ودون إملاءات ؟ أظن أننى لست بحاجة للإجابة أيضا
فى النص الذى كتبته تقى المرسى مواكبا لأحداث لتنحى الرئيس مبارك سنجد أنها – إذا استثنينا عنوان القصيدة " وهم الخلاص" قد انجرفت إلى ما انجرف إليه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى حين أنشد " طلع الشباب البديع قلبوا خريفها ربيع " وهو ما لم يحدث بالفعل وإن كان هذا الكلام تم استخدامه جيدا لإيهام الناس أن الثورة نجحت وحققت ما كانوا قد خرجوا من أجله، فتقول تقى المرسى:- دم الشهيد ع الأرض سال/طرح الوطن ملايين رجال/بالتار وبالغضب المحال/ردت صدورهم ع الرصاص/الدمّْ عَ الأرضْ ابتسمْ/رسمْ الوطنْ صرخة وعلمْ/ثورتنا يا ثورة أممْ/اقلعي جدور الطغاهْ /
وهو تشكيل بديع وإن كان المقطع ينتهى بغنائية ولكنها غنائية مناسبة للحظة ولا تفسد التخييل المبدع، لكننا سنعود لما انتهى إليه الأبنودى فى المقطع الأخير حين تنهى تقى المرسى قصيدتها هكذا:- الدمّْ سالْ عَ الأرضْ نورْ/طرحْ الألمْ عناقيدْ زهورْ/ولبكرَه أرواحنا جسورْ/لوْ مُـتنا توهبْ لكْ حياهْ.
فهل حدث ذلك فعلا ؟ ربما نجد الإجابة فى العنوان الذى أحببته ولكنه يبدو مناقضا للسياق العام الذى كتبت به القصيدة فعنوان " وهم الخلاص" الذى وضعته فى البداية لا يعنى سوى ( من فضلكم لا تصدقوا قصيدتى فهى تخدعكم" وهو هنا تناقض غير فنى على الإطلاق ولا أظن أن شاعرة كبيرة كتقى المرسى قد وقعت فيه أثناء الكتابة ولدى شك أنها كتبت هذا العنوان مؤخرا بعد أن اتضحت الرؤية وانقشع وهم الانتصار فدفعها إحباطها وهى المثقفة الثورية الكبيرة أن تغير عنوانا ربما كان " حلم الخلاص" إلى " وهم الخلاص"

فى النصوص التى كتبتها تقى المرسى بعد انحسار الموجتين الثوريتين سنجد استكناه لمعانى الخيبة والألم، تقول "تقى المرسى":- كل اللي باقي م البلاد توهة/هج الحمام مش لاقي بنية/نص الحقيقة حقيقة مشبوهة/طب ليه تحاسبونا على النية؟!
هنا انفضت " الهوجه" الأولى التى استنفذت طاقة الحلم النبيل ووجد الناس أنفسهم وجها لوجه مع حالة الفوضى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية وبحسب رواية " بياض ساخن" للكاتبة سهير المصادفة " راحت " عبلة" التى ربما تكون معادلا موضوعيا لمصر " تنضو عن جسدها الثياب التى تسترها فى الميادين وظهرت فى حالة عرى واضح فضح كل ما جرى لمصر منذ سيطرت قوى الثورة المضادة التى شكلت ردة على مشروع التقدم فى السنوات التى حكم فيها عبد الناصر.
ربما كان الحمام الذى "هج" لأنه لم يجد له مكانا هم " الشباب" الذى لم يستطع أن " يقلب خريفها لربيع " فى الواقع وإن كان الشعراء قد باعوا لهم ولنا الوهم فى الأغاني، ورغم نبل الانتفاضة وجد الشباب أنفسهم فى مواجهة تاريخ عفى للقهر وقوى رأسمالية ريعية متسلحة تارة بالتدين التجارى وتارة أخرى بالاستبداد فأصبح الثوار إما شهداء فى عداد الموتى أوفى عداد الأحياء عند ربهم يرزقون بحسب تصورات مواقف كل منا مما فعلوه وهذا هو المعنى فى " الحقائق المشبوهة التى تحدثنا عنها تقى المرسى" لنصل الى السؤال الجوهري " ليه تحاسبونا ع النية" عند شاعر آخر سنجد ردا لهذا التساؤل وهو " العشق مش نيه/ العشق له رجلين/ لكن مالوش طريقين/ وأنا قلبى قام يمشى / قسمه الطريق نصين/

وسيعلم الذين انتفضوا دون علم وتخطيط وتنظيم أى كارثة قد حلت بهم وبالمجتمع فقط لأنهم لم يدركوا أنه ينبغى على" النية" أن تكون مسلحة بالعلم والتنظيم والتخطيط.


الشاعر أبو الخير بدر
أبو الخير بدر من الأصوات الشعرية الجادة والتى شقت لنفسها طريقا واضح المعالم فى خارطة شعر العامية، ارتبط شعره دائما بصور التمسك بالثقافة الشعبية وبمفردات الحياة فى الريف واستلهم صور الشقاء والنماء للتعبير عن الحلم بالنهوض العام للمجتمع المصرى برمته ومن الغرائب والعجائب وهو الذى أضاء شعره أندية الأدب التابعة لهيئة قصور الثقافة فى دمياط ومحافظات مصر،
من الغريب أن إقليم شرق الدلتا الثقافى رفض طباعة ديوانه وهو الأمر الذى تكرر مع شعراء معروفين قبله رفضت أعمالهم لكون الإقليم يعتمد- فى مراجعة الدواوين قبل النشر- على أستاذة جامعة معادين للقصائد التى تدافع عن قيم العدل والحرية ،ربما يتوهمون أنهم قد يتهمون بمساعدة الطيور على التحليق فى السماء أو بتحريض الورود على التفتح!!.
يقول الشاعر أبو الخير بدر فى قصيدة حالة رضا:- أمي اللي صاجة فرنها /قرص الغروب/ تخبز مشاعر حرصها/لأولادها طوب/ عشمانه ييجي الليل
و يستر عجزها/ و تنام عيالها ف حجرها متقرفصين علي حلمهم /و الأم قاعده مقلقه عصفوره حيرا بعشها/ أفواه حفر / محتاجه ردم/ومنين ياقوت ؟ /و سنين عجاف /مابتنتهيش
ماهى تلك الأم التى تكون صاجة فرنها قرص الغروب ؟ قد يكون هذا التشبيه يصف حال أم طبيعية من ملايين الفلاحات المصريات وقد يمتد ليرمز لمصر بأكملها فالسنين العجاف التى لا تنتهى هى بالتأكيد حالة عامة لا تخص أما واحدة وهو ما يفتح مجالا لاتساع الدلالة وهو ما تشى به خاتمة القصيدة فهؤلاء الأبناء الجوعى الذين تشبه أفواههم حفر تحتاج للردم من سينتفضون ليعيدوا للأم بهاءها ونضارتها ويجلونها كعروس لتصير بهية بين كل جيرانها.
فى قصيدة "عشم إبليس" نلتقط من البداية حسا ثوريا واعيا يبتعد عن الهتاف والإدانة ليلتقط المتناقضات الاجتماعية ويبرزها ومن ثم يخلق وعيا عند المتلقى بجوهر الصراع فى المجتمع دون أن يعتمد على الإيقاع الخارجى والصوت العالى متجنبا بذلك المزالق التى تهوى بالشعراء إلى هوات تضبيب الوعى وتزيفه
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، يقول أبو الخير:- ف عروقي نار الشوق ولعه/
دايما بدقدق ع السندال/ و أخلق من المسمار قلعه/قلعه البراقع ع المكشوف/ ملبساني الخيش حافي/منيماني ف تلطوار/
فى السطر الأول نعلم أنه يخاطب الحبيبة الكبرى معترفا بأن الشوق يشتعل فى دمائه عشقا لها، هذا العشق هو ما يجعله يبذل عرقه فى عمله، رغم كل الظروف غير المواتية ولكنه بذلك العشق ينتصر على ضعف الإمكانيات بل ويخلق المعجزات من أجلها، ولكن النتيجة غائمة لأنها ليست فقط شاردة عن عشاقها ولكنها تمارس الابتذال فتكشف براقعها وهى صورة من التراث " كاشفه برقع الحيا" فلا تعطى كادحيها الذين يعرقون من أجلها سوى الحفاء والعيش بلا مأوى.
هذه القصيدة هى ثورية بامتياز ليس لأنها تجأر بالشكوى " فالناس كتير والكلام أكتر" كما يقول العظيم نجيب سرور ولكن ثوريتها تنبع من وعى الشاعر وإصراره على تغيير حبيبته و وعلى ألا ينهزم أمام جهلها مستعينا عليها بمحبته لها " فالثورة مستمرة لأن المحبة مستمرة"، وهو ما تعبر عنه القصيدة بشكل واضح فى سطورها التالية:-
الحق لو كان حنضل شيح/يكون علي لساني مكرر/و لو الضلال أصبح تواشيح
أكون نشاز بين الأوتار/حنيت بدمي الرمل سنين/لحد ما اتكشفت غمه
ليس مهما هنا أن القصيدة انتهت بالتناقض الذى بدأت به ولم تنته بنداء واضح أو تحريضى، لأن الشاعر أخذنا فى رحلته على مدار قصيدته وترك لنا حرية الاختيار فى النهاية " إما أن نستمر هكذا أو نتمرد على تلك العلاقة المتناقضة لا من أجل قطعها ولكن من أجل عدلها وتقويمها

الشاعر أحمد راضى
هذا شاعر أنطقته شدة الموهبة و حساسية أذنه للثقافة الشعبية الشفهية فورث معظم حكم الشعب المصرى وشعرائه الشعبيين وأعاد أنتاج أمثال الشعب ومواويله وفقا للمقتضيات والظروف الجديدة وأثبت لنا ولنفسه أن عجائب تراثنا لا تنقضى وأن من يريد أن يكون معبرا عن ذاته وعن أهله عليه أن يعى عمق وبلاغة لغتهم وتراثهم العظيم ولأنه شاعر تلقائى وغير متثاقف ولا مدعى فقد نجا من لغو الكلام واستطاع أن يستحوذ على إعجاب جمهور كبير من محبى الشعر لأنهم وجدوا فيه تعبيرا أمينا بلغة غير متعالية عن آلامهم وآمالهم.
يقول الشاعر أحمد راضى:- أنا مش بلـــوم ع اللى باع لـــومى على نفسى/ أنا اللى ســـاكت عليـــه وقــــولت من يأسـى/ واما اشـــتريت الأمل ف بـــكرة جــاى أحلــى/دفعـــت عمـــرى التمن جــه امــر من أمســى.
أظن أن أحمد راضى هنا يثبت أن شكل " الرباعية " التى ظن البعض أن جاهين استنفذه ولم يترك مجالا لأحد ليباريه، يثبت أن هذا الشكل مازال قادرا على التعبير عن مضامين ربما تختلف عن المضامين الفلسفية التى عبرت عنها رباعيات جاهين، وأنا أقرر هنا على مسؤليتى مع الاعتراف بعشقى لرباعيات جاهين أنها رباعيات تبقى فى النهاية " رباعيات مثقفين" ويصعب أن تراها تجري فيما بعد على ألسنة العامة كما حدث مع " مربعات" ابن عروس مثلا،
ستفلت مربعات ورباعيات أحمد راضى من هذا الإطار وستنطلق وربما جاء يوم يردد فيه الناس هذه المربعات دون ذكر " أحمد راضى نفسه" لأنها بذاتها تسير وفق قانون الثقافة الشعبية الشفهية التى تهتم بالموضوع وبالمجموع أكثر من بحثها عن الذات الشاعرة أو حتى الشخصيات التى ترد فى المربعات بعينها وهذا شأن الثقافة الشعبية " فنعسا" وشفيقة وحسن ونعيمة تحولوا جميعا إلى معانى جاوزت من أبدعهم وجاوزت شخوصهم الحقيقية
فى السطر الأول للرباعية آنفة الذكر سيصدمنا أحمد راضى بأننا السبب الرئيس للظلم وللجور الواقع علينا وهى حكمة لا يعرفها إلا شديدو الوعى وأصحاب النظرة الثاقبة التى تكتنز كل ما يلى " يا فرعون إيش فرعنك.. قال مالقيتش حد يردنى" وكذا "" قتيل ايديه ما حدش يبكى عليه" و " سكتناله دخل بحماره"،
هى إذن صدمة وعى ولكنها كما أسلفت غير متعالية وغير متثاقفة ومن ثم سيقبلها الناس دون امتعاض، إن عبقرية هذه الرباعية الثورية بامتياز هى كونها تدعو الناس "" للتمرد" على " جهلهم" وعلى خداعهم لأنفسهم إنها ببساطة شديدة تعبر عن جدل الوعى والثورة فلا الظلم ولا الشعور به يصنعان ثورة ولكن الثورة بنت العلم والوعى والتنظيم.
وألا فإن " بكره" الذى ينبغى أن يكون نقيضا " للأمس" الذى تمردنا عليه وحلمنا بتجاوزه، هذا " ال(بكره) سيقع مرة أخرى فى يد " الأمس" الذى سيصدر له ولنا الأوامر، وهل حدث غير ذلك؟؟ وتأمل معى السطر الأخير للرباعية الذى يقول فيه:- دفعـــت عمـــرى التمن جــه امــر من أمســى" لتعلم أن من مات دون وعى وضحى بعمره مدفوعا بحسن النية لم يفعل بتضحيته ما يشكل أى ردع للماضى القادر فى ظل غيبة الوعى على إعادة إنتاج نفسه، كل هذه المعانى فى رباعية واحدة ؟ فقصيدة " راضى" إذن تحمل جينات شعبنا العظيم على كل حرف منها.
وسأحيلكم إلى رباعية أخرى حين قرأتها ذكرتنى بكل ما قرأته عن الشروط الذاتية والشروط الموضوعية لقيام الثورات وانتصارها، يقول " أحمد راضى:- زرعت بســــتان أمل و الأرض لســــة بـوار/ رممـت حلمى القـــديم خايـــف الجــدار ينهـار
عشــمان ف يــوم يتصلب على كتــف أيامى/ وقبــــل مايكتــمل لقيت لـه مــــيت ســــمسار/
إذا اعتمدنا أسلوب العبارة الموازية(para phrase ) لفك رموز الرباعية فسيصبح شرحها كالآتى:- لقد كنا نحلم بأن نغير من أوضاعنا المتردية وننطلق ببلدنا إلى عصر جديد وجميل لكن ما حلمنا به ( زرعناه) لم يسيطر على عقول الناس بدرجة كافية تجعلهم يحمونه حتى يصبح واقعا لأن الشروط العامة والموضوعية للواقع المتسلط والمتخلف كانت أقوى من حلمنا النبيل ( الضعيف)
ومن ثم وجدنا أنفسنا نسقط فى هوة كانت ستقضي على وجودنا ذاته ( ربما يقصد الفوضى أو التأسلم والإرهاب) فاضطررنا لترميم ما كنا نحلم بهدمه لأن انهياره دون بديل حقيقي كان سينتهى بنا للعراء
إذن لم تفلح الثورة ( عودة سيطرة الفاسدين) رغم أننا كنا مستعدين لحمل هذا البناء على أكتافنا ولكن السيطرة العامة للتجار والسماسرة كانت أقدر على إحكام القبضة وتفكيك حتى هذا البيت القديم وجعله بضاعة وفرصة للربح. لا أظن أننى حملت هنا رباعية " أحمد راضى" أكثر مما تحتمل، بل على العكس تماما فأنا أحاول أن أركز الدلالات على المجال العام رغم أنها تشى بتفسيرات متعددة ومستويات أخرى للفهم.
لعل أحمد راضى و أبو الخير بدر وتقى المرسى وغيرهم ممن لم يتناولهم هذا البحث المحدود ممن قضوا نحبهم كأحمد الشربينى ومحمد العتر ومحروس الصياد وممن ينتظرون كسمير الفيل وضاحى عبد السلام ومحمد الزكى و سيف بدوى وكثيرين، لعلهم جميعا جديرون بدراسات متعمقة لكى تحيط بخصائص تفرد إبداعاتهم ولكن عملا بقاعدة ما لا يدرك كله لا يترك كله جاءت قراءتى التى أرجو أن تليق بجمال ما خطته أناملهم.

- نصوص عاميه - تقى المرسى – مخطوط
- ديوان " ضفايرك لسه مجدولة"- أبو الخير بدر- تحت الطبع
- " رباعيات " – أحمد راضى- مخطوط
- منين أجيب ناس- نجيب سرور- دار الثقافة الجديدة 1975
- حصار لمدائح البحر- محمود درويش- دار العودة 1986








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن