الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات مدينة كان الخروج منها صعبا (2 )

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2016 / 12 / 28
الادب والفن


كلما ذكرت هضبة الفوسفاط كان قلبي ينقبض، رحلاتي المتكررة بين بني ملال والدار البيضاء عام 2012 جعلتني أفهم هذه المنطقة على حقيقتها، خلال الخريف تكون قاحلة وموحشة والشمس حارقة و متقدة تجتاح الأرض والسماء لا ترى طائرا يطير ولا حمارا يسير، فقط موجات من الغبار تعلو كثبانا من الجبال التي تشكلت نتيجة الحفر، كانت الحافلات المتوجهة إلى وادي زم مهترئة جدا وغير قابلة للركوب تثير القيء والغثيان، آخر رحلة لي من بني ملال إلى الدار البيضاء كانت لي مع صديقة تدعى زينة التي لم التقيها منذ 3 سنوات، قلت لها : " كم أتمنى أن أعين على مشارف البحر !" لكن ظني خاب كأن هضبة الفوسفاط تجسست على كلامي وأنا أركب الحافلة، فحالت دون تحقيق أمنيتي، لن أنس مهما حييت اليوم 3 من شتنبر عام 2013، كان بداية لمرحلة عسيرة، لاحت الحلكة والسواد تخيم في سماء داكنة، وصلت ذلك الصباح على متن حافلة زرقاء كانت قد انطلقت في الرابعة صباحا من مدينة الدار البيضاء إلى وادي زم، كان الجو باردا ايقظني من النوم الذي لازمني طيلة الرحلة، نزلت بالقرب من القريعة واتجهت عبر شارع المسيرة، وبعد هنيهة وصلت إلى حي الوحدة واخترقت مجموعة من الأزقة الى أن انتهيت في زقاق بيروت، هناك كان مستقري أول مرة . تناولت وجبة سريعة واتجهت جنوبا، لا شيء يلوح في الجنوب غير السراب، غير نعاج ترعى وسط سوق بوار، وطيور النغاف تحلق بحزن مشؤوم، كانت الشمس تصفعني صفعا، كانت رائحة البداوة أشمها في كل زقاق وكل عيون ترمقني، لم أشعر أنني وصلت إلى الثانوية الرابضة في أقصى جنوب المدينة، لم أشعر بالمطلق، كل ما شعرت به أنني دخلت إلى حي يحتجزني ويلفني لفا، كان اسمه المقاومة تيمنا بالمقاومة الواد زمية ابان الخمسينات من القرن الماضي، تغير كل شيء الآن، السيدة التي اكتريت عندها أول مرة قالت لي : " من حسن حظك أنك أتيت إلى حي الوحدة ولو اكتريت في المقاومة لتعرضت للسرقة"، والحق يقال : لقد اكتريت سنتين في هذا الحي لم أتعرض لأي أذى وكنت أعود في ساعات متأخرة من الليل ولم يعترض سبيلي أحد، في معظم الأوقات كان الجو هادئا اللهم بعض الأطفال الصغار الذين كانوا يزعجوننا بضجيجهم ويرمون الكرة في حديقة المنزل، أو ترتطم بالنافذة، فأخرج وانهرهم أنا أو صديقي حسن، فيهربون ويعودون مرة أخرى وهكذا إلى أن يحل الغروب ويرحلون إلى منازلهم، لن أنس مهما حييت مشهدا آخر ظل عالقا في ذهني، ذات مرة كنت راجعا إلى المنزل بحي المقاومة ووجدت زمرة من الصبيان يتبولون على باب المنزل، ما أن رأوني حتى فروا نحو وجهة مجهولة، شعرت بغيظ كظيم ويأس وصل حد المهانة، لست أعلم ماذا فعلت لهم حتى عملوا هذا السلوك الحيواني ؟ لماذا الإنسان شرير حتى هذه الدرجة ؟ لماذا الحقد والعداء للآخرين؟ جملة من الأسئلة ظلت عالقة في ذهني حتى هذه اللحظة ؟ وليس لدي جواب أو رد عليها، فقط الصمت والسكون الذي خيم علي في ذلك الليل البهيم، في ذاك اليوم كنت وحيدا، الصديق حسن كان قد رحل إلى برشيد. عرفت حسن في اليوم 3 من شتنبر عام 2013، كان صديقا طيبا بكل المواصفات، فمهما حييت سوف أعتز بصداقته، لم نسىء لبعضنا يوما، كان رزينا ومتعقلا، اشتغل في مدينة كلميم في الجنوب المغربي وأراد العودة إلى موطنه الأصلي، فرمي في مدينة واد زم وعانى معنا ويلاتها، لقد قضى معنا سنتين وكان أول المغادرين، شعرت بوحدة قاسية حينما غادرنا، لقد كان صديقي الذي يسكن معي، نأكل معا ونشرب ونتجول معا، كان كتوما وإذا تكلم يتكلم برزانة، كان ينصحني دائما بالكتابة وما أكتبه الآن سوف يعجبه بلاشك، لأن ذكرياتنا جميعا، عشناها معا في بلدة واحدة التي أطلقت سراحنا بعد سنوات طويلة من المعاناة، كان حلم حسن هو أن يرحل، كان يجد عزاءه في الصلاة، بينما كنت أجد عزائي في الكتابة والقراءة، كنت دائما اشاركه كتاباتي وكانت تعجبه بلاشك، كنت أرددها بنبرة حزينة تمتح من الحنين إلى الريف وإلى بلدتي البعيدة، كنت أقول له : " لماذا يا حسن لا تكتب ؟ " كان يقول لي : " نحن رجال العلم لا الأدب، انتم من تكتبون لا نحن، نحن نقرأ فقط"، هكذا كان جواب حسن ونحن نمضي في زنقة سوق الاثنين أو الحدادة، لن أنس كل الصداقة التي جمعتنا، كان شاهدا على الكلمات النابية التي أصدرتها تلك السيدة في حقي، كان شاهدا على كل ما جمعنا، افراحنا واتراحنا، من ينسى رحلتنا الجميلة إلى عين اسردون رفقة صديقنا جابر، كنا الثلاثة لا نفترق في أيامنا الأولى، كنا نجلس في المقهى، ونخوض نقاشات وحوارات لا يمكن نسيانها، كان جابر إلى جانب حسن من ألطف الناس، والحق يقال : لقد كان شخصا ودودا وكريما، كم مرة استضافنا في منزله وتعرفت على صديق له يدعى حليم، كلاهما كانا يدرسان مادة التربية الإسلامية، اغنتني صداقتهما، واستفدت كثيرا من الحوار معها ومن تجاربهما في الحياة، كانا متسامحين إلى أقصى الحدود، وأخلاقهما عالية، من النادر أن تعثر على مثيل لهما في الحياة، ولو التقينا في مكان آخر غير واد زم لكانت صداقتهما أرقى واغنى، لن أنس مهما حييت كل هذه الصداقات الرائعة، لقد أخذت وعدا مع نفسي ولا انافق وإنما اتحرى الصدق وكل ما أقوله نابع من قلبي ومن إحساسي، فأنا أريد أن اكون صادقا مع نفسي ومع ماضي، ولن أقول غير الحقيقة . فحينما أقول هذا طيب فهو طيب وحينما أقول هذا سيء فهو سيء، لا أقل ولا أكثر .
ع ع / الدار البيضاء- المغرب/ 27 دجنبر 2016








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل