الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كولاج الألم

هاشم تايه

2006 / 1 / 8
الادب والفن


كنّا، نحن، مجموعة التراب المريض من الطلبة الجامعيين، من مُمَجّدي هِبات الألم، وكانت قصائد السيّاب التي كنّا نقرأها على ترابنا ذاك في كلّ مكان بعض تلك الهِبات، فيما كان شقيق الألم المهزول، الذي أطْلَعَنا عليه موتُهُ منتصف ستينيات قرن آلامنا العذب الفائت، أيّام كنّا في قماط الثانوية المركزيّة، الناطقَ الرّسمي بحرماننا المركّب.
أيّام دراستي في الجامعة التي كانت تبدأ من قاعدة التمثال لمسيحنا السيّاب، مُنشِد المياه والطين، وتعبر الشطّ على ظهر السلحفاة التي كنّا نسمّيها الطبكَة، لتنتهي في بريّة سُجِنَتْ خلف سور، حيث كان علينا أن نسلخ أربعاً من سنوات أعمارنا على مقاعدها السجينات... أيامئذٍ كان مقطع من (حفّار القبور) يأسرني، وكنت لا أفتأ أردّده هنا وهناك، ويعيد قلمي الفحم قراءته على أوراق رسومي الخجلات:
" وكأنّ بعض السّاحرات
مدّتْ أصابعَها العجافَ الشّاحبات إلى السماء
تومي إلى سرْبٍ من الغربانِ
تلويه الرّياح
في آخرِ الأفقِ المُضاء "
كان شيء من الغموض السّاحر يُسربلُني، شيء من اللّذة والانتشاء يصّاعد في كياني، وكان إيقاع الكامل بدمدمته، وحرف المدّ الذي لحق التفعيلة التي استطالت في آخر كلّ شطر يوشّحان ذلك الغموض وتلك اللذة بغلائل من ظلّ، كان الإيقاع يقرع إحساسي، ويشدّ شعوري ويجتذبني إلى عالم الصورة المشحون، ويُلقي بي على ورقي الرقيق فأرسم، بالقلم الرّصاص، السّاحرة العجوز والأصابع الهزيلة التي تكافح الرياح الهائجة من أجل غربانها السّود البعيدة تنبّهها وتدعوها إلى الوليمة- مقبرتنا..
كنتُ أقرأ هذا المقطع مستقلاً عن القصيدة، وأحسب أن مادته وكيانه كانا في يد السياب قبل أن يُحضِرَه حفارُ القبور- النصّ... وحين حضر هذا الأخير وجد المقطع مقعده بين مقاعد كائنات القصيدة وعاش فيها ككولاج أخفى هويّته بسبب جدارة روحه التي سرعان ما التقطتها الروح الهائمة في مقبرة السيّاب فغدت بعضَها العضويّ الذي لا ينفك عنها..
يبدأ المقطع- الصورة بـ (كأنّ)، أداة التشبيه لدى البلاغيين، لكنّنا لا نعثر على ما يفترض أن يكون، على ذمة البلاغيين، المشبّه، فقد طرده السيّاب مستغنياً عنه بالصورة الفريدة التي رسمها في كيان مكتمل للوحة تتمتّع بقدر من استقلالية لا تلغي علاقاتها بأعضاء النصّ كلّها، لوحة تدعم المناخ العام لإرادة الموت التي تطلقها الساحرة بإيماءة- نذير وتلهب رسالتها السوداء، وتؤدي وظيفتها الحيويّة الخفيّة المتمثلة في إشاعة الجوّ النفسي المؤثّر وتصعيد الإحساس بالمهيمنة الكبرى للنص الطويل، التي هي سواد العدم في مدينة- مقبرة كانت بحاجة إلى ساحرة تستحضر أرواح غربانها السود لتطعمها موتنا من أجل أن تعيش. ويكون علينا بعد هذا أن نقرّ بأن الصورة في المقطع هي تمثيل مكثّف للروح السائد المهيمن في كلّ مفصل من مفاصل القصيدة..
هذا المقطع كنتُ أجد روحه وأعضاءه في مقطعين آخرين من (أنشودة المطر):
"كأنّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأنّ أمَّه التي أفاق منذُ عام
ولم يجدها،
ثمّ حين لجّ بالسؤال
قالوا له بعد غدٍ تعود
لا بدّ أن تعود"
و:
" كأنّ صيّاداً حزيناً
ينثر الشباك...."
خلال أربع السنوات التي ذرفتُها في جامعتي كنتُ وأقراني نمضي أبعد في كتاب السيّاب الذي غدا مناخاً عامّاً يُخدّرُنا، وظرفاً خاصّاً نعيش فيه، نحن مجموعة التراب المعلول، بكلّ قصيدة من قصائد ذلك الكتاب المدسوس اليوم في جيب التمثال السامي على ماء النهر وهوائه، الطالع من قلبه وفمه وأصابعه.
ومن بريّة الجامعة إلى بريّة المدينة ظلّ السيّاب، بالنسبة لكائن مثلي، كولاج الألم على حياتي التي عشتها بمجرّد صور سود مرسومة بالقلم الفحم على ورق رقيق ضاع معظمه أو تمزّق في حياة لم يسعها أن تقول كلماتها القليلة، التي عثرت عليها بين برّيتيْن، إلاّ بعد الخمسين...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة


.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با




.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ