الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -6-

جميل حسين عبدالله

2016 / 12 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الوقفة 6‏
المقولة الثانية، قولهم: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.‏
إن المأزق الذي يعيشه الإنسان مع بسيط حقائق المعرفة، هو الذي يحدد سيره التصاعدي ‏في مواجهة معارف الحقيقة. فسواء ما يرغب فيه الصوفي، أو ما يعن لغيره من عامة ‏الكائن المتمتع بحق حريته في المجتمع البشري، لأن التصوف إن لم يكن نظرية معرفية في ‏تجسداتها الفكرية، وتمثلاتها الاجتماعية، تكسب قواعدها من الملاحظة العميقة، ‏والتجربة الدقيقة، فإنه لن يمتلك قوة تجعل دائرته عنوانا مستقلا بخبرته بين المعاني ‏الخالدة، وحقيقة تتشابك فيها الطاقات المختلفة حول اسم من الأسماء الراسخة، لأنه إن ‏لم يف بالمراد في تشوف الفرد إلى إشراق التجليات النفيسة، وتطلعه إلى جواهر الوحدة ‏الفريدة، لن يصير المعنى مقاما مقدسا يستهدي به إلى أنغام الوجود القديمة، ويستضيء ‏به بين الطبيعة التليدة. ومن هنا يكون الصوفي متمكنا بقواعده الذاتية من استكشاف ‏موضوعات الأشياء التي يجهد غيره في معرفة محمولاتها، واستظهار معلومات الحقائق ‏بفراسة تحدس ما وراء الأعماق من طيات محدوداتها. وهذه الطريقة تختلف في صوغ ‏وسائلها عما سواها، لأنها تنتخب غاية من المحصولات التي يركب الإنسان صعب الرواحل ‏في سبيلها. ولا فرق هنا بين من أدرك الله في كل حقيقة قابلة للتمحيص بلا عناء، أو من ‏استدل على عظمته بأجرام الأشباه الظاهرة بجلاء، أو من أنكر فيض وجوده، وحجد ‏قدم أزليته، وآمن بإله العقل الطاغي، أو بوثن العلم الغاوي، أو بسحر المعدن الضاري. ‏إذ لكل واحد مرام يأتيه في غدوه، ويسكنه في رواحه، لأنه بدون حقيقة تسيطر عليه، ‏ولا نتيجة تحكمه، لن يكون عينا موجودا بفعله، ولا واقعا مرغوبا في وسعه. لكن ‏الاختلاف حدث في تقدير المعنى الذي نؤمن بكماله، ونوقن بجماله، وربما قد يتساوى ‏فينا بلا افتراق، أو يتعارض فينا بلا اتفاق. وإذا وصلنا إلى هذا الحد، ونلنا به نسمة ‏المراد، فإن أي إجحاف يمارسه الفكر المشاغب للآراء الأخرى، لن يأتي منه إلا التحارب ‏حول حقيقة واحدة تتآلف مقاصدها في الجدوى، وإن كانت مبانيها متعارضة في ‏الفحوى. وسواء أسميناها الله في نهاية الاعتقاد، أو وصفناها بالطاقة السارية في قيام ‏الأجساد، أو عرفناها بالقوة المتحركة في الأعماق بامتداد، أو خرصناها في المادة ‏الخاطف بريقها للأحداق الحداد، لأنها حقيقة الحقائق، وغاية الإطلاق، ولا فرق في ‏الحرص عليها بين ذاك القائم بحسن الأدب معها، أو هذا المدعي في تخاريفه لكسبها. ‏
إلا أنه يستشكل علينا الأمر حين نصف الزمن بفاقد المعنى، وعديم الطوبى، لأنه كما قد ‏يرد هذا المعنى على الصوفي، وهو في عراكه لن يخلو من كدر مغروس في طبعه الآدمي، ‏فإنه قد يفد متهللا على غيره، فيرى في فراغ حياته سمة ضياعه، ويشهد في سريان ‏حدوثه سموم انتحاره. لكن ما هو المعنى الذي نقصده، ونحفد إليه.؟ هل فقدت فينا ‏صلته.؟ أم قطع فينا حبل وصاله، وغدا متباعدا عنا في نظره.؟ هنا تتوارد الأفكار ‏على العقول الساعية إلى التحديد، وكأنها تريد الفرق بين المعاني بأدوات التأكيد، لأنها ‏من غير أن توقن، لن تكسب الطمأنينة فيما به تؤمن. فالذين جعلوا معناهم ساميا، ‏ورأوه خبرا وافيا، وخالوه نهاية لسعي يحن إلى زمن يأتي سكونه قويا، ونبله وافيا، قد ‏قاسوا معنى واقعهم على ما في بواطنهم من هشيم الصور، فقالوا بفقدان المعنى في الخارج ‏المترع بمنثور العبر. وهذا لا يعني في البرهان إلا الشرب من حميا الاغتراب، والرعب في ‏حمى الاحتراب، لأن الشعور بالغربة بين الأشياء الموجودة للإسعاد، والإطراب، لا يعني إلا ‏انقباض الصدر عن درك ما يفتح في الوجود من ترع، وأبواب، وغبن السعي في عمر ‏تقاصر عهده بما يعقب اللذات من حسرات، وارتياب، إذ كل شيء وضع حقيقة، ‏ووجد طريقة، لا بد أن ينقدح فيه الفهم، وينصهر معه العلم. والناس متحاربون في ‏المبنى، ولو تجاوزوا ضيق المعنى، لنالوا حقيقة المسرى. ‏
ربما قد يحس المرء بأن روحه لا تتجاوب مع الأشياء احتراما، أو احتقارا، ولا تنفعل ‏بالوقائع إنكارا، أو اعتبارا، وربما قد تختلف مساعي الأفكار في عقولنا، وتتعدد ‏مدارات الإدراك في ذواتنا، فيكون لكل واحد محيط يجري فيه بمنتهى القوة الموضوعة في ‏دمائنا، وينتقل من طور إلى طور يطوي سبل المعرفة في كياننا. لكن إذا قلنا بأننا لا نتفق ‏فيما يعترينا من أحوال الطرق التي نسلكها بيقيننا، أو نقطعها بتسليمنا، فإنما نعني أن ‏استكناه جوهر ما نعنيه بجهدنا المختلف استعداداته فينا، هو الذي يبين ما تنطوي عليه ‏أعماقنا، ويعري ما تحويه سرائرنا. وذلك موكول وجوده إلى قوتنا في الاستيعاب، وكدنا ‏في الاكتساب، لأن ما نظهره، هو بعض مما نخفيه. ولولا احتدام الصراع حول الصفات في ‏ظاهرنا، لكنا أقرب إلى باطننا، إذ كثير مما تنصبغ به مناظر الذات، هو العنوان على ما ‏يبرزنا من علامات. ومن هنا، نكون أمام ذوات استولى عليها معناها، فلم تر له نظيرا ‏تلتئم حوله في حياتها، فذهلت بما يسري عليها من كمد المدائن، وحزن الجنائن. لكن هل ‏يصح فينا هذا الزعم، لو نظرنا بمنظار آخر في الصراع المحتدم، واتهمنا الذات، وقلنا بأن ‏الغربة هي الشعور بالضياع بين المحسوسات، لا التيه بين سوانح المعاني الخفيات.؟ لو قلنا ‏بذلك القول ومقتضاه، فإننا إذ ذاك نفصل بين الشيء ومعناه، وكأننا نردد بلسان حالنا: ‏إن الأشياء تأخذ معناها في مخبرنا، ولا علاقة لها بمظهرنا. إذا قلنا بهذا الرأي المحدود، ‏فإننا أثبتنا الفراغ في محل هو ممتلئ بالوجود. وإذ ذاك ستكون الذات مركبة من ضدين ‏يتواردان علينا بانفصال، ولكنهما لا يستقيمان حين نرغب في الاتصال. ‏
وهذا المعنى قد يكون قريبا منا حين نرى وجود الشيء يدل على عدمه، لأن تجاذب ‏الطرفين للمعنى المطلوب بعلته، أو بسببه، هو عين الحركة في إظهاره، أو في إخفائه، بل ‏هو المحدد للحكم بالإيجاب على نزوعه في كياننا الذاتي، والعيني، أو بالنفي لعجز قوتنا ‏على حصر أثره في الفعل والانفعال مع جوهرنا المعنوي، والمادي، إذ لا يستمر إلا بتوارد ‏الحكمين عليه، لأنه فعل المرغوب في الزمن المحصور عليه. وذلك ما يقويه ثم يضعفه، وقد ‏يفنيه كما أحياه، لئلا يستمر في الخلد إلا المعنى المكنون في الطلب له، وهو سار في ‏الكون، ولولا حقيقته في الزمان، لما أغرى بطيف شعوره الإنسان. وهذا مأتاه قريب في ‏إدراكه، لأنه الشيء الذي نقبضه، ثم يودعنا بسرعة متضمنة فيه، ونحن إن لم ننتبه ‏لضياعه، فلعجز أقعدنا عن دركه، أو لهوان لبس علينا في الوعي بقيمته، لكن إن قلنا: ‏إن الوجود والعدم ذات واحدة فيما نجده من وعي بدافع التعقل، وبحضورهما يحدث ‏التفاعل، لكي ينتهي الصراع نحو الوجه الأقوى في التكامل، فإننا نعني قبول الشيء ‏لتوارد معنى النقيض عليه، لكي يدل على الجزئي الذي به يحصل التمام في الكلية الدالة ‏عليه. لأن الانتقال من ثنائية المزدوجات إلى عين الوحدة، هو السير الذي نمر عليه في ‏سيرنا نحو الأحدية، ولولا ذلك، لكان التوحيد سبيلا للشرك الأخفى، ومجالا للشك ‏الأجلى، لأن الوصل يأتي من الأدنى إلى الأعلى. وإذا سافر الأمل إلى النهايات المثلى، ولم ‏يكن له في السلوك دليل أعلى، كان الصعود هبوطا نحو الدركات السفلى. وإذ ذاك تضيع ‏المعرفة، وتموت صولة الحقيقة، وتكون النتيجة ضياعا في متاهة الفراغ، وهو أضعف ‏سلم في ارتقاء الحظ بين رضام العقل المراوغ، ولكن كيف سنحدد الأقوى في المعالي، ‏والأبرز في المعاني.؟
هنا أنكر البعث في النتيجة الكبرى من جعل الأقوى هو العدم، فكان بذلك مخموم الهم، ‏ومغموم الأمل، ومنكوب الأجل، وهذا لم ينزف منه جرح المعرفة، لكي يكون وعاء قابلا ‏لدواء الحقيقة، بل بدا له الوجود كئيبا، لا يقبل بياض الجدران المفتوحة بواطنُها بأسرارٍ ‏يكتشفها من نظر إليها مهتديا، وتأملها منيبا. فلا غرابة إذا انقطع فيه حبل السبيل، ولم ‏ينل من الحياة إلا شتات الوبال. وإلى جانب هذا رجال جسام، حاربوا الأرزاء الضخام، ‏فنالوا الوجود الأمثل، والمعنى الأكمل، وأثبتوا عالما آخر فيه صوغ الحياة بلا كدورة ‏رسوم الضدية بين نوازع العلل، لأن المستشرف للعوالم التي تؤلمه، لا يرتجي إلا أن يصل إلى ‏حد يسعده، ولا يبتغي إلا أن تنصهر الأشياء في شيء يقيه عوار فعله، ويحجبه عن ‏سوالب قصده، إذ القصد هو الإحساس بصفاء الطمأنينة، وكل نتيجة لا تأتي بما عُشق ‏من السكينة، فهي الضياع المنحاز إلى الفرق، والوحشة. وتلك من أمراض الحضارة، ‏لأنها ولو أنتجت في المعاني نضارة، وفي المباني غضارة، فهي الفاقدة لسر البقاء بين ‏الكلمات الخالدة، والفارغة من جدوى الحقائق التالدة، لأن سغب الإنسان في طاقة ‏باطنه، لا ينهيه إلا عودته إلى خطوط بدايته. وإذا صحت فيه قواعد الإنطلاق، كان ‏الغد مأمونا بلا محاق، إذ ما أفضى بنا وجع الديار، إلا إلى صريح الأوضار. وهل هناك ‏رغبة في مختلف العقائد الجامعة، إلا في كسب الحقيقة الباقرة.؟
ومن هنا، فإن الذات في قدرتها على صناعة المعنى الذي يستولي على زمامها، لا تطيق ‏أن تستسلم للعدم الذي يفني آلامه هدوءها، لأنها تشعر بعدائه، وكأنه يسلب منها أغلى ‏ما تملكه، إذ لم يحارب الإنسان إلا خوفه، ولم يواجه إلا ألمه، ولو أدرك طول عمره في ‏مجهول غده، لأقام لمعبد الوداعة مسكنا في ذاته، لكنه أيس من معرفته، فلم يبق له إلا ‏إيمان بفنائه، لأن ما تحوزه الذات من معنى الأمل في الوجود، هو مفتاح سرها في عالمها ‏المولود، وإذا غدرته بما تنذره في سبيلها، كانت تافهة في عين من يتفرس دموس سيرتها. ‏ولذا، لا يأتي عليها في سبكها لصواب رسمها، ونسجها لكمال نقشها، أن تقيس الوجود ‏على العدم، ولا أن تبني غدها على وارد فكر ملتبس برديء الخيال، والوهم. لأنها ولو ‏عاندت ما قررته الأديان، لن ترى لها أملا إلا في الامتداد بين علائق الأعيان، فهي وإن ‏جعلت ما تئن تحته من آلام وأحزان عدما، وحاربته بما تقوت بجعله يقينا دائما، ‏وقاست الوجود على ذاتها، وابتغت أن تكون المعاني مقابلة لها، لا مؤثرة فيها، لم تنج ‏من قلق تدافعه، وتسويغ تؤازره، وخوف تنابذه، لأنها ما استفحل فيها أمر العناد، إلا ‏لكونها تتلظى بسعير البعاد. ولا غرابة إذا اندفعت في محل يقتضي الدفاع عن حوزتها، ‏وانفعلت لضرر يهدد ضرورة مصلحتها، إذ بها موجودة في مقابلة الغير المتاخم لها، ‏ومرغوبة في كسب قدمها عند الاصطفاف على خط المنافع المتصلة بها. ‏
وهكذا، فإن الذين جعلوا معنى الوجود ساميا، ونظام الذات متناميا، لم يستكنهوا ‏الحقيقة إلا فيما تأتي به أحوال المنع، والعطاء، ولم يستلهموا سمو الحياة إلا فيما يحصل ‏لها من كدر، وصفاء، لأنهم أيقنوا بأن شهود الحقيقة لا يتأتى إلا من باب التبصر لطرق ‏موارد البرهان على الحق، والتعقل لما عساه أن يظهر الفعل الإلهي واضحا بعلامته على ‏صورة الخلق، لكنهم حين نظروا في تعدد السبل إلى الغايات، وتنوع المراكب في الآلات، لم ‏يكسبهم ذلك إلا اليقين بخلود المعنى الواحد في مخزون الآيات، والجزم بأصل الفعل في كل ‏الأمارات. ولذا، فإن المقام لا يجرأ عليه وارد البدد، وإن اقتضى الحال تمييز الظلال بعد ‏تجلي آثار صانع الأبد، لئلا يمتزج المحدود بغير المحدود، فيختبل العقل في حد المراد ‏المقصود، وإذ ذاك، لن تستقيم الكفة في الوزن، ولن تستبين الرؤية محلها في حاد نظر ‏العين، لأن الصوفية رأوا في جلاء مرآة الفؤاد نبع الماء، فشربوا من خمرة اللفظ بلا عناء، ‏ثم انتحوا محيط الفناء، فكان منهم الحضور وضوحا وجلاء. ومن هنا، كان الغياب ‏وجودا، والفناء ينبوعا مورودا، لأن سالك طريق الحقيقة، لن يظهر أثرها عليه إلا ‏بمكابدة تكتمل بها دائرة الهوية. إذ هي السناء الذي يبدد الظلمات المتآلفة، ويهدم رديء ‏الجهالات المتواشجة، لأن اختلاف الصوفي عن غيره، ليس فيما يباعده عمن سواه، بل ‏فيما يشتركه مع ما يقابله، ولكنه لم يكتف فيه بصورته. ‏
ومن هنا، فإنه وإن سار بسير إلى حقيقته، لم يبرح محل ما يجوس حوله نظر نظيره، لأنهما ‏يستلهمان من الأشياء روحها. فذا حرص عليها في مادتها، وذا رآها بعين فاحصة، فلم ‏يفده منها إلا ما تهبه حقيقتها من معان خالدة. وهذا وإن تخيل خيالات في سيره على ‏جسور الذات المحصورة، لم يكن إلا مستهديا إلى فنائه في المعاني المحدودة. ولذا أحس في ‏بحثه عن ألطافها، وشم من تقربه عبق أنسامها. وذلك هو الإحساس عينه في الطائفة ‏المقابلة له بلهاثها، إلا أن الفرق بينهما في الاعتبار المحرر للمعاني من الالتباس، والمراء، ‏هو حكم الذات على صحة كسبها لصورة الأشياء. لكن هل هي حاكمة.؟ أم هي ‏محكومة.؟ هنا افترق الصوفي عن غيره في المعرفة، لأنها هي انتقال من معنى مشترك إلى ‏الذي بعده في المرتبة، وتحول بروح يسكنها العشق بين خفي الأزمنة الممكنة، لأن الزمن في ‏انسيابه على كل المراحل، وعروجه على جل المنازل، لا يأتي منه إلا ما هو موجود فيه ‏بغريزة الإبدال، أو ما يصرف فيه بمقتضى الإعلال، إذ لا يمكن له أن يكون كما نود، ولا ‏أن يصد عنا ما نرد، لأنه قائم فينا بالتحدي، ونحن لا نطيق معه إلا قبول ما يسدي، ‏والرضا بما يبدي، وإلا استحال زمنا يقضي علينا بالتصدي، وعمرا يهدينا إلى مواقع ‏التردي، لأنه قائم بأمر المشيئة المحركة لعوالم الذات المستعرة بالرغبات، وتابع للإرادة ‏القاهرة لقدرتنا على نيل الغايات.‏
‏ وهكذا، فإن الصوفي، وهو كل إنسان يعيش المعنى السامي في ذاته، ويعرب عن ‏الأشياء المكبوتة في عمقه، ومهما انغمس في بحر الأحدية، وانزوى إلى كون الأبدية، لم ‏ينس نسبته إلى عالم البشرية، ولا صلته بالموجود حتما في صورته الإنسانية، إذ لا يحكم ‏عليها بالفناء، ولا ينفي عنها الشقاء، وإنما يتآلف معها بالذكاء، ويتلاحم معها بالعناء، ‏فما نفر منها تركه اقتدارا، وما واقفه أخذه اعتبارا، وما لا يحتاج إليه زهد فيه ‏تفويضا، وما غاب عنه لا يبحث عنه تعويضا، وما تشاجر الناس حوله انصرف عنه ‏تقويضا. ولذا، لم يكن خارجا عن نسبية زمنه، ولا عن الاستحالة في طبعه، بل هو ‏الصنديد المجاهد، والغيور المعاند، والحريص المكابد، والعطوف المساند، وإلا، فما قيمة ‏بشريته.؟ وما معنى أن يكون التكليف لاحقا بآدميته.؟ ‏
هكذا الصوفي الثائر على جسده، لعله يعثر فيه على جوهره، وإذا ما أدركه في مكنون ‏عمقه، كان حاكما لا محكوما عليه، لأن معرفة الصوفي بذاته، لا تستوجب بمقتضاها ‏صريح القول بموته، بل منه انتقلت نهايته إلى بداية حياته، فكان احتراقه بالعشق علة ‏لاختراقه، وضياعه بالهجر سبيلا لحضوره. ولولا ذلك، لما أغرت التجربة الصوفية من ‏لمس فيها ملامحه، وقرأ فيها مكامنه، وأدرك فيها حقيقته، وصار بكمالها حفيا، ‏وبعرفانه بها بهيا، لأن تجربته في صيرورة كيانه، لم تكن محقا لفضول رغبه، ولا سحقا ‏لظنون رهبه، إلا لأنه يريد أن ينتشر في أرضه بسموه، ويتعالى بسمائه عن دنوه، ‏ويتسامى في كدر الديار بوصله، ويتباعد في سمج الأخلاق عن فصله، فهو في بحر ‏الشهوات الفاتكة به، لا يقطع واديا إلا وبدا له منه ما يبهره، وانتهى فيه إلى ما يذهله، ‏وإذا ما غرق في لجته، فهو لا يريد إلا سلوك طريق اجتيازه، لأن مروره على ظواهر ‏الأشياء، هو الذي يحرر شرعة محجته من اشتباه أنظاره في الخفاء. لكنه إذا اعتقد ‏جريان المعنى في قوة أجنحته على الطيران، غدا عالمه منفصلا عن مشهده بين مناطات ‏الإحسان، لأن سر الوصال في مصاهرة ناسوته بلاهوته، ومزاوجة روحه بمادته، وإلا ‏كانت هويته غير مشهورة في الأخبار، وكنهه غارقا في عماء الآثار. وهنا يكون الصوفي ‏بلا تجربة، وإن وجدت له بالغي، والضلالة، فما لها من معنى في ثمين القيمة، لأنها لا تحد ‏بعبث الدليل عند خسيس المعنى في العادة، ولا تنال في الجهد بما تلاشى من سوانح ‏الطاقة، بل هي الصراع مع رديء الأفكار، والعراك في محيط الأكدار، وإلا، فإنها ‏ستكون تجربة لا يقاس عليها، وحركة لا تدل على أثرها. ‏
ولذا أنكر الناس التصوف في الجملة، وإن لم يحيطوا به علما في التفاصيل المتعبة، لأنهم ‏رأوه علما محدودا في الأوهام المتناثرة، لا فنا في ترتيب صور المعاني المتناغمة، فخالوه ‏متمحضا للخواص من النساك، لا سبيلا للإرادات المتحررة السلوك. ولكن، إذا عن لنا ‏أن نتصافح في وعاء المكان، ونصطلح على نقطة البداية في الاستدلال، فإن ما يعنيه ‏الصوفي في كسب الميزة، وحيازة المرتبة، هو ما يقطعه من مسافات يطويها بصراعه مع ‏ذاته المنحرفة بحنينها إلى الصدارة، والغارقة في عشقها للريادة، لأن يقينها في وصال العقل ‏والوحي بالكياسة، هو ما تبذله من وسع في كسب القوة بالرياسة. ومن هنا، لن يكون ‏التصوف صداما مع جبروت الفعل، وتواطأ معه في طي حزونة المحل، إذ هو الصراع مع ‏الإكراه المفروض انتزاع كنه الذات من غرابته الغامضة، وحيرته الغائرة، لا خضوعا ‏للمعنى المذل للذوات المستحرة بوقد انتمائها إلى حقيقة تستجلى من الطبيعة الونانة، ‏والأكوان الخلابة. ‏
وإذا قلنا بأن تجربة الصوفي لا تتميز بكونها تفوق القدرة البشرية في الحصر، أو بكونها ‏تنزل عن مقام الإرادة الفاعلة في القصر، فإننا نعني أنه يبحث بجهده عن قطرة اليقين بين ‏كهوف الذات المتألمة بما غرس فيها من عمى، وبصر، وينقب في سجن الجسد عن شلال ‏معنى ينفجر بالأمل، والفكر. ولذا تستحيل تجربته مفتوحة للتأمل والقراءة، وخبرته ‏مسكونة بآلام الكد، والرعاية، لأنها قائمة بالعين المرهقة بسعيها نحو الحرية، والعتاقة، ‏وواقعة في محيط يقبل التعدد في الصورة المتنوعة، ويرغب في التوسع إلى ما هو ألين في ‏رسم الهوية المتصلبة. وهنا، لن نحيد عما يقتضيه الإجلال للتفرد، ولن نميد عن منطق ‏الصيرورة في ضرورة التجدد، لأننا إذا قلنا بصريح العبارة: إن الصوفي يبحث بنصب في ‏بعده البشري، ويرغب في ربط حبال كسبه باللطف الأبدي، فما عدونا بقولنا حقيقة ‏الاستخبار، وما تجاوزنا بموقفنا سبيل الاستظهار، لأن تناول الحقيقة باليد الناعمة، لا ‏يتأتى إلا إذا كانت الطهارة سمة صدق على الذات الحالمة. وإلا، لن يكون التصوف مرفأ ‏لمن يسعى إلى نيل أنسه، ولا مهنأ لمن تراخى عنه ألمه، لأن قيمة الأشياء لا تأتي إلا مما ‏تحدثه من ارتياح، وما تفضي إليه من انشراح.‏
‏ ومن ثم، فإن التصوف، ليس هو ما يحظى به ملتف حول نبله، لكي يكسو خشونته ‏بنعومة إزاره، فيأتي متحايلا بتعمد التخفي وراء أسمال الجهل، لكي يصير له أثر على ‏ظاهر رسوم الدجل. فهذا وإن استقوى بما التحف به الربع من أكدار، فحسبه في طي ‏المقام بخبث الأوزار، أنه نطق بشيء له وهج في سوي الأفكار، ولو لم يكن متزييا بنقاء ‏حلته، ولا منتشيا بصفاء خمرته. فهو وإن لم يحسن النطق بغموض لفظه، ولا الإعراب ‏عن كمون إشارته، فإن مقام المتحدَّث عن علو رسمه، وعظم حده، لا يُنقص من مزيته ‏حصر عيي حبس عن صوغ حقيقته، ولا لحن رديء عوى في جمال طبيعته، لأن الأشياء ‏العظيمة في مكمن ذاتها، ولو غالب بها معاند لمظهر روحها، لا يسقط مكانها بتطفل ‏محرومٍ من حنان مهادها، ولا يهان موردها بولوغ دني في طهر ملاذها. إذ التصوف ما ‏نشأ في ظاهرة الإنسان، وما نبت في تربة الأوطان، إلا لكونه معنى مخزونا في غور ‏البواطن، ومقاما مرغوبا في رؤية المواطن، لأنه الأثر الأجلى لجامع أصولٍ تمزج كليات ‏الحقيقة بمفاهيم الشريعة. ولذا، لا غرابة إذا كانت نهايته الفوز باليقين في النتيجة الغالية ‏الشريفة، وبدايته البحث باندهاش عن معاني السماء في الحياة الوديعة.‏
ومن هنا، كان للتصوف معلمان، وكلاهما مأمونان: فالأول كان هروبا من ضجيج المدن ‏الصاخبة بالأماني المتعاركة، وفرارا إلى سهول بوادٍ تشرق عليها الشمس بدون صراخ ‏الحناجر المتهارشة. والثاني كان تمردا على الخديعة المتنامية، والدسيسة المتعاوية، ‏والدسيعة المتهادية، لأن صوت التمرد النازف من جسامة المعاني الكبرى، لا يسكته ‏هوج الصخب بين الأماكن اللابسة لبهرج اللذات العظمى. ولذا، فإن التمرد في الاعتبار ‏الأجل، هو رفض التحريف لمنطق الدين الأكمل، والتزييف لنظام التاريخ الأشمل، ونبذ ‏للعلوم المقلدة بلا إدراك للمعاني المحددة لمحيط الكليات العامة في الأزل، وصد عن جدل ‏المعاهد المطلولة بالخداع، والمقدسة بالتياع. ولا غرابة إذا وضعنا كل نفَس في التصوف ‏موضعه، وأقمنا لنا طريقا يعيده إلى موقعه، لأنه بمقدار ما يتهجى من الطبيعة حروفها، ‏ويتعلم من الاختلاط مع غيره علل شخوصها، فإنه يهب مسرعا نحو اكتشاف نبع الحقيقة ‏المشوبة بالعوارض الملتبسة بكمال المعنى، ويخب مهرولا نحو زمن تصفو فيه الموارد من ‏خيالات الصور الفاسدة المبنى، لأن الأبواب مفتوحة على احتمال السلب، والعطاء، ‏وموقوفة على نوازل الألم، والشقاء. ‏
ولهذا تصير مشاكسة نسب الأحوال الممتزجة عنوانا للسير على أرض التكليف، وتغدو ‏مقارعة الخطوب سمة لطالب الوصل بما يفيض طوره من الزمن الغض بالحدود المتنافية ‏التصريف، لأن استنباط حكم الوقت من الزمن النسبي، هو العروج بمرقاة الفعل نحو ‏الزمن الكوني، وبينهما يكون الاحتمال مبسوطا على بساط الإمكان والاستحالة العادية، ‏لأن تمام المعرفة في الدائرة العرفانية، ليس في البحث عما هو مستحيل من الإطلاق، بل هو ‏الطلب المحصور في كامن الذات المتحركة بين الرسوم بهمة تنفتح بها الأغلاق، وتبرز بها ‏الآفاق، وإلا، فلن يجود الوجود بما هو مخزون فيه من معان مغلقة، ولن يحصل التنوير ‏بالمطارحة بين مهامه الذات القلقة، لأن الانتساب إلى دائرة الأزلية الأبدية، مما تعتريه ‏شوائب الذات المنطوية على العقائد الوهمية. ومن هنا يصير التمييز تكليفا بالضرورة ‏الواجبة، لئلا تمتزج المعاني غير المتناهية بالخيالات الفاسدة. وإذ ذاك لا يكون التميز ‏حاصلا بالانتساب إلى المعاني المقفلة، ولا واقعا مغردا بلوك العبارات الملتبسة، بل ‏بالانتماء إلى اللحظة السارحة في الزمان، والمكان، والانتساب إلى الآدمية الفياضة ‏بالإنسانية المتدفقة بألغاز الصور، ورموز القرائن، ومنها يصير السير خطوات نحو بؤرة ‏المعنى المحجوب صفاء مورده بعلل الأبدان، وخلل الأحضان، وزلل الأزمان. ‏
وهكذا، يكون التصوف خاضعا للمتلازمات الرياضية، لأنه حركة في الذات الخاضعة ‏لأدوات العقل المنطقية، وتحول قلبي من صراع الأفكار المتعارضة إلى نواة المعنى المتحمض ‏في الهوية الروحية. ومن ثم، تكون عوارض العقل منتفية عن ميزان القلب، ويكون ‏العشق سموا في بحثه عن وحدة المعنى عند الطلب، لأنه هو المعراج إلى الآن الخالدة في ‏الروح المترنحة بين الأكوان بلا جلب، ولا سبب، إذ المعاني المختلفة لا وجود لها إلا في ‏الذات، وتحريرها من صور الخيال المفعم بالأمنيات، هو الالتزام الأعمق في صورة ‏المتصوف الباحث عن لحظة التسامي، وزمن التصافي. ‏

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا