الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراقي والداروينية

محمد لفته محل

2017 / 1 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما أن ظهرت نظرية التطور قبل قرن ونصف حتى أثارت جدلاً علمياً في الغرب حيث كانت تواجهها نظرية (لامارك) ونظرية الخلق المباشر، وأثارت جدلاً دينياً إذ رفضتها الكنيسة كونها تتعارض مع الإنجيل، وكان موقف المسلمين مماثلاً للمسيحيين.
والذي ينظر للجدل الإسلامي المتخفي بغطاء العلم للرد على النظرية يجد أن الانفعال وليس العلم هو وراء كل هذا الجدل! ومن أوائل من أشاروا إلى الأصل الانفعالي لرفض النظرية هو عالم النفس (سيغموند فرويد) إذ اعتبر النظرية جرح نرجسي أصاب الإنسان في الصميم، والرافضين لها هم مضمدين لهذا الجرح بإنكارها، وهذا الرفض ليس جديدا على تاريخ الإنسان، فقد سبقه جرح نرجسي سابق من طبيعة فلكية وهو نظرية كروية الأرض التي لم تجعل من الأرض مركزا للكون ما بدد هذا الوهم النرجسي بسيادة هذا العالم، يقول (فرويد) (لقد ارتقى الانسان، في مجرى تطوره الحضاري، الى دور السيد على أقرانه من الجنس الحيواني. ولكنه لم يكتف بهذه السيادة، بل طفق يحفز هوة بينهم وبينه. فأنكر عليهم العقل، وحبا نفسه بروح لا تفنى، وتباهى بنسب إلهي سمح له بتمزيق كل رابطة تضامن مع العالم الحيواني. وهذا الصلف _وهذا مثير للفضول_ يبقى مجهولا من الولد الصغير كما من الانسان البدائي، فهو نتيجة تطور لاحق، ذي مطامح أوسع. فالانسان البدائي، في طور الطوطمية، ما كان يتحرج البتة من نسب عشيرته الى سلف حيواني.)(ولا يشعر الطفل بأي فارق بين كينونته وكينونة الحيوان؛ ولا يدهشه البتة ان تحدثه الحكايا عن حيوانات مفكرة وناطقة)(1)(وانما بعد ان يشب عن الطوق، ينأى عن الحيوان ويصير يشتم الانسان باطلاق اسماء حيوانية عليه.)(ان مباحث تشارلز داروين ومعاونيه وسابقيه قد وضعت حدا لادعاء الانسان هذا)(فما الانسان بغير الحيوان، ولا بأفضل منه، بل انه منحدر هو نفسه من السلسلة الحيوانية)(وفتوحاته الخارجية لم تتوصل الى محو علامات هذا التعادل التي تتجلى ان في تكوين جسمه وان في استعداداته النفسية. وذلكم هو الإذلال الثاني للنرجسية البشرية: الاذلال البيولوجي.)(2). والعراقي لا يخرج عن التوصيف الفرويدي مع بعض الاختلاف، وسأناقش رفض النظرية اجتماعيا وليس علميا فهذا خارج تخصصي من جهة، وكونه اُشبع بحثا وكتابة، أما المحور الاجتماعي فلم يُكتب عنه إلا القليل.
معظم العراقيين لا يعرف من النظرية سوى (أن أصل الإنسان قرد) وهذا الفهم والتركيز على هذا المحور فقط، يدل على المغزى النفسي والاجتماعي وراء فهمها ورفضها الذي سأشرحه، فهو لا يكترث بتطور بقية الحيوانات عن بعضها البعض وإنما ركز على الإنسان حصراً، ولهذا لم تحظى نظرية بهذا الجدل مثل ما حضيت به نظرية التطور كونها بتصوري قدمت صورة أخرى عن أسطورة التكوين الدينية (قصة آدم وحواء) التي تتوافق مع نرجسية الإنسان باعتباره كائن فوق (الملائكة) والحيوانات. وعامة العراقيين يعرفون النظرية باسم مبتكرها (داروين) الذي أصبح اسمه معروف كقرين الإلحاد والشيوعية! والذي اُتهِم بالماسونية والصهيونية والمؤامرة على الإسلام أو الأديان (وهذا الاتهام ذاته الصق بماركس وفرويد!). فما أن تتحدث عن النظرية وتعلن تصديقك لها حتى يبادرك المقابل بسؤال ساخر: (يعني جدك قرد؟) وهذا يؤكد الرفض العاطفي لها لأنها تمس الأصل الذي يحتل مكانة شبه مقدسه في المجتمع العراقي، فالعراقي يضحي بحياته من أجل أصله مثلما يضحي روحه في سبيل عقيدته، ولهذا يدافع عن أصله ضد النظرية بآية قرآنية (إنا خلقنا الإنسان بأحسن تقويم) فيضع المؤيد بموقف الكافر إذا رفض الآية القرآنية كدليل، بتعبير آخر انه يدافع عن أصله شبه المقدس بمقدس ديني. لان النظرية تمس أصله في الصميم. والأصل هو هوية الفرد العراقي وقيمته. وحتى القول إن الإنسان انحدر من سلف مشترك مع القرد وليس من سلف القرد لن يغير من مسها للأصل عند العراقي. وهناك نكته على النظرية لها أبعاد اجتماعية مفادها أن (طفل يسال أبوه: بابا ماما تقول أصلنا قرود؟ الأب: أبني هذوله جدود أمك قرود، مو جدود أبوك) لأننا كمجتمع يفخر بجدوده ويعتز بهم كأصل له، ومن لا أصل هو (نغل، ﻣﮕطم) بلا قيمة ولا احترام، وكلمة (حيوان) هي شتيمة حين نصف بها إنسان آخر خصوصاً حيوان مثل القرد نموذج للقبح والسخرية وانعدام الشخصية والتقليد في ثقافتنا، فعبارة (مثل الشاذي=قرد) هي وصف سلبي ساخر للذي يقلد الآخرين أو يضحك على أفعاله الناس، ونفس الشيء حين نقول للآخر بغضب (ليش تضحك؟ شنو شايفني ﮔدامك قرد؟) أما قولنا (وجه القرد) فهي وصف بأنه قبيح، وهناك مَثل (القرد بعين أمه غزال) وهي تعني أن الطفل مهما كان قبيحاً فهو في عين أمه كجمال الغزال، فالعراقي لا يريد أن يكون أصله مضحكة وقبيح إذا قبل النظرية؟. ورغم الشبه بين الإنسان والقرد شكلا وتصرفا فالعراقي لا يرى أي صلة نسب بينهما والصلة الوحيدة هي أن الله يمسخ بعض البشر قرود كعقاب ديني كما تقول أساطير الدين! لهذا رُفضت نظرية التطور على أساس هذا التصور المجتمعي الممجد للجدود/السلف والمُحقر للقرد. ولو قال (داروين) أن أصل الإنسان (أسد أو ذئب) لما لاقت هذه النظرية أي رفض لها وربما تسابق العراقيين على الإثبات العلمي لها، ولو قال (داروين) أن أصل الإنسان سَلَفين هما الأسد والقرد لما لاقت رفض أيضا لأنهم سيعتبرون أن أصلهم اسود وبقية البشر قرود وهذا سيشبع نرجسيتهم القبلية. لان هذه العشائر لا تخجل بانتسابها لأسماء حيوانات (آل بني أسد، ذيابات، آلبو بزون، بني كليب، آلبو فهد، آلبو نمر، آلبو غزال) والأكثر من ذلك يعتقد العراقي بأن الحيوانات تتعبد (تسبح باسم الله)! وإنها كانت تتكلم اللغة مثل الإنسان في العصور القديمة! وأن بعض الحيوانات لها بركة مثل الحمام المسموح له البقاء بالأضرحة! وأن لها حساب بالآخرة كما يقول موروثه. فأيهما أعجب أن يتطور القرد إلى إنسان؟ أم أن للحيوانات القدرة على النطق والتعبد وجلب البركة أو اللعنة دون أن يرتبط بالإنسان كأصل رغم النشاطات الإنسانية المشتركة بينهما؟ ثم لماذا لا ينزعج العراقي من وصف الدين لأصله (من ماء مهين) ولا يغضب من وصف العلم لأصله (جرثومة منوية بذنب) وهذا يعني أن المشكلة مع النظرية ليست دينية إنما قبلية برداء ديني (لأنها تنتقص من جدوده)، وهذا طبيعي أن القبيلة تمتلك كل مقومات الديانة فكلاهما هوية وروابط انفعالية تشد الفرد بالجماعة، وكلاهما لا يوجد بدون الآخر في المجتمع العراقي.
وكل هذا والنظرية منتشرة عالمياً وتدرس في المناهج الدراسية العراقية بموازاة أسطورة التكوين الدينية "كنظرية" مماثلة لها، وهذا حفظ لماء الوجه في قبول النظرية. يقول الدكتور علي الوردي (عندما وردت نظرية داروين الى العراق في أواخر العهد العثماني، هب "العقلاء" يشجبونها ويسخرون منها. فليس من الممكن في نظرهم أن يتطور الانسان من الحيوان، وهل يقبل عاقل أن يكون جده قرداً أو حماراً؟ كلا والله العظيم!
يقال أن احد الشيوخ الكبار في النجف الأشرف كتب رسالة طويلة جمع فيها مختلف الأدلة العقلية والنقلية لتفنيد نظرية داروين، وأرسلها إلى الاستاذ شبلي شميل في مصر إذ كان هذا الرجل حامل لواء تلك النظرية في العالم العربي يوم ذاك. ظن الشيخ أن الأستاذ شميل سيقرأ براهينه وسيعترف بصحتها حالاً. كيف لا وهي براهين ساطعة كالشمس في رائعة النهار. وبقي الشيخ ينتظر جواب الأستاذ شميل على أحر من الجمر. وجاء الجواب المنتظر بعد لأي، فأسرع الشيخ إلى الغلاف يفضُه ولكنه لم يجد داخله سوى عبارة واحدة هي: "عذرك جهلك والسلام".)(3)
ــــــــــــــ
1_سيغموند فرويد، أبليس في التحليل النفسي، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص98.
2_نفس المصدر، ص99.
3_الدكتور علي الوردي، الأحلام بَين العلم والعقيدة، الطبعة الثانية 1994، دار كوفان لندن، ص225.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء