الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مضار التاريخ !

ابراهيم خليل العلاف

2017 / 1 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مضار التاريخ !
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل
ليس من شك ، في أن للتاريخ فوائد . وفوائده كثيرة ، لعل من أبرزها أنه يستخدم للعبرة ، ولفهم جذور المجتمعات الانسانية ، وطبيعتها ، وعلاقاتها . لكن مما ينبغي ان يهتم به المؤرخ ايضا ، هو ما يمكن أن نسميه (مضار التاريخ ) .
وكان استاذي منذ ( 50) سنة المرحوم الاستاذ الدكتور فاضل حسين ، يقول ان على المؤرخ بقدر ما يهتم بذكر (فوائد التاريخ ) ، فإن عليه ان ينبه الى (مضار التاريخ ) . ومن مضار التاريخ ، أنه - إذا ما كُتب بطريقة خاطئة أو مقصودة - يُساعد على تفكك المجتمعات ، ويخلق الاحقاد بين أبنائها ، ويثير ذكريات الحروب ، والاصطدامات بين أبنائها ، ويعمق الخلافات بين البشر حين يجعل كل قوم أو كل امة تعتز بنفسها ، وتذكر دورها وما قدمته الى البشرية وتغمط دور الآخرين ، وتكشف مساؤهم ، ونقاط ضعفهم .
في محاضرته التي ألقاها في الموسم الثقافي لكلية التربية –جامعة بغداد ، ونشرت في ملحق مجلة (الاستاذ ) العدد (15 ) 1969 ، وأعاد نشر جزء منها الصديق الاستاذ الدكتور صباح مهدي رميض في كتابه : (ديالى ..سيرة أعلام ..ومسيرة أحداث ) 2010 قال الاستاذ الدكتور فاضل حسين :" ان من واجب المؤرخين ايضا ، أن يذكروا ما للتاريخ من مضار ، مثال ذلك المساهمة في التفريق بين الاقوام ، وتعميق العداوات، أو الابقاء عليها ، وكذلك المساهمة في التفريق بين افراد القومية الواحدة أو جماعتها ؛ اذا نُشرت التواريخ الفروق والعداوات بين الطوائف المسيحية والاسلامية مثلا . وهذا يذكرنا بالنداءات المتكررة في العصر الحديث بوجوب إعادة كتابة التواريخ ولاسيما القومية منها على اساس تفسير جديد للتاريخ يؤدي الى التسامح والاتحاد " .
ومن المؤكد ان الدكتور فاضل حسين ، وهو الخبير في التاريخ الاوربي الحديث ، يعرف معرفة دقيقة ، ما الذي فعله التاريخ أو بكلمة أدق ما الذي فعلته دروس التاريخ وكتب التاريخ ، في إثارة الحروب بين الاوربيين ، وقسم من هذه الحروب استمرت لمئة سنة .
في التاريخ العربي الاسلامي ، وحتى على مستويات ما يدرس في المدارس الابتدائية ، والمتوسطة ، والثانوية ، سرد ، ووصف وتكرار لأحداث تفرق ليس بين السنة والشيعة ، وانما بين السنة انفسهم وبين الشيعة انفسهم ، وبين العراق والشام ، ومصر وبين الجزيرة العربية والخليج العربي ، وبين ابناء مصر ودول المغرب العربي ، وبين ابناء المغرب انفسهم .
وفوق هذا وذاك فإن الدول العربية (القطرية ) التي تشكلت بعد الحرب العالمية الاولى ، وهي تكتب لنفسها تاريخا يدرس لأبناءها ، حرصت على ان تورد احداثا مُختلف عليها بينها ، وبين جيرانها وخاصة اذا كانت ثمة مشاكل حدودية .
ومع ان الاسلام لايعترف بالحدود بين الدول الاسلامية ، الا ان الحدود موجودة ، وتكرس في مناهج التاريخ التي تسرد ماجريات مشاكل الحدود بين هذه الدولة وتلك .وهكذا فمبجرد وجود اخبار هذه الحدود في الكتب التاريخية سواء المقررة في المدارس وحتى الجامعات ، يثير الحساسية ، ويخلق العداوة والبغضاء ، ولسنا بحاجة الى ان نورد امثلة على ذلك فهي كثيرة وكثيرة جدا .
كلنا في العراق يتذكر ما أثاره كتاب (تاريخ الدولة الاموية في الشام ) للاستاذ انيس زكريا النصولي المدرس اللبناني المنتدب للتدريس في مدارس بغداد الثانوية في اواخر العشرينات من القرن الماضي ، وعلى نحو مشابه ما اثاره كتاب مرتضى العسكري ( خمسون ومائة صحابي مختلق ) المنشور ببيروت سنة 1968 من مشاكل .
ولازلت اتذكر ايضا وانا اكتب اطروحتي للدكتوراه عن (تطور السياسة التعليمية في العراق 1914-1932 ) كيف ان كتاب (ضحى الاسلام ) بأجزائه الثلاثة للمؤرخ والكاتب المصري (الاستاذ أحمد أمين ) أثار الكثير من الحساسيات لدى المثقفين الشيعة بسبب عرضه لرؤية مخالفة لرؤيتهم في كتابه .. وقد تعرض الكتاب ليس للنقد بل للهجوم وطرد مؤلفه من العراق . كما انني لازلت اتذكر ما أثارته كتب عبد الرزاق الحصان ، وسامي شوكت وغيرهما من مشاكل كبيرة بين الناس .
واتذكر انه لفترات من الستينات وحتى وقوع العراق تحت الاحتلال الاميركي البغيض سنة 2003 كيف كان الكتاب والمؤرخين ممنوعين من ذكر كلمة (سنة ) و(شيعة ) في كتاباتنا في حين كنا نقرأ كتبا لكتاب ومؤرخين عرب واجانب لايتورعون من ذكر مذهب من يكتبون عنهم فإذا ذكر جعفر ابو التمن زعيم الحزب الوطني والمناضل العراقي الكبير قيل عنه انه (شيعي ) في حين اذا ذكر مثلا جميل المدفعي رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي قيل انه (سني ) وقد اصبحت الاشارة الى ( مذهب وطائفة ) السياسي بعد الاحتلال الاميركي البغيض وحتى كتابة هذه السطور (24 -10-2016) مسألة طبيعة جيدا . ويقينا ان الاشارة الى الصفة الطائفية والمذهبية وحتى العرقية في كتب التاريخ وخاصة المقررة على التلاميذ لا تعمق الخلافات بين ابناء البلد الواحد وحسب بل وتكرسها ايضا .
وهكذا ؛ فالتاريخ أقصد كتب التاريخ فيما اذا الفت وفق المنظور الطائفي أو المذهبي أو الديني أو القومي تساعد في تأجيج الخلافات ، وتعمقها وتترك آثارا سيئة على المجتمع ليس من السهولة مواجهتها فهي تحول دون بناء مجتمع متماسك خال من الطائفية ، أو المذهبية ، أو العرقية أو الاقليمية .
لقد ادركت الشعوب الحية وخاصة في اوربا بعد الحرب العالمية الثانية أن كتب التاريخ في كل البلدان الفرنسية والبريطانية والايطالية والالمانية خلقت كثيرا من المشاكل بين ابناء هذه الشعوب ، وكانت سببا في اثارة الحروب لذلك ما انتهت تلك الحرب حتى اجتمع المؤرخون الاوربيون تحت شعار : (التاريخ وسيلة للتفاهم الدولي ) ليناقشوا ما الذي يمكن فعله إزاء هذه المشكلة ؛ فإهتدوا الى ضرورة الاتفاق على كتابة تواريخ تركز على قيم المحبة ، والتفاهم والتسامح ومن المؤكد انهم –وبعد مرور فترة طويلة – تمكنوا من خلق نوع من الوئام بين ابنائهم واجيالهم الجديدة التي باتت تدرك معنى ما حدث وتعرف ان الحروب ليست هي الطريقة المثلى في حل المشكلات وانه لابد من ان تكون كتب التاريخ أداة لخلق حالات الانسجام ، والتفاهم بين الشعوب .
ان ترك احداث التاريخ الاسلامي تفعل فعلها في التأثير على الصغار من التلاميذ والشباب ، وبدون ان يتم الاتفاق بين المؤرخين الصادقين المحترفين على ماذا يجب ان نفعل وعلى اي الركائز نعتمد في اعداد كتب التاريخ المتداولة في المدرسة والمجتمع ، يعد كارثة كبيرة ، وطريقا الى التشرذم والتفكك .
كما ان السماح بترك الاموات يحكموننا من وراء القبور، لايمكن ان يمر دون ان نكون على شيء من الانتباه الى خطورة ما يجري ، وانعكاساته على الاجيال القادمة . واذا ما غامرنا ، وقبلنا الوضع ، وهو على هذه الشاكلة فإننا – كمؤرخين – نكون قد غامرنا بقبول تفكك ليس بلدنا وامتنا بل وحتى ابسط تجمع بشري نعيش ضمنه .
إن التاريخ اذا ما ترك بدون تدخل ايجابي ، يترك آثارا مؤذية ومضرة وليس معنى هذا ان نلوي عنق الاحداث، لتستقيم كما نريد بل لابد ان نكتب التاريخ كتابة موضوعية صحيحة موضحين اسباب ماحدث بطريقة علمية دقيقة تضع الناس في صورة واضحة ، وتساعدهم في تكوين رؤية مستقبلية تدفع بمجتمعاتهم الى التقدم والنجاح .
واخيرا ؛ أنا لا أتهم التاريخ ، بأن له أضرارا ، وانما سوء عرض الاحداث ، وانتقاء البعض لما يعجبهم من الاحداث ، وما يتلاءم مع ما يريدونه ، هو ما أقصده .. وهو ما يجب ان يوجه إليه الاتهام .
نعم السخاوي المؤرخ الاسلامي الكبير ، رد على من يذم التاريخ عبر كتابه الشهير : (التوبيخ لمن ذم التاريخ ) ، وهذا من حقه ، لكن لم يعلم السخاوي ، ولربما كان يعلم بأن السيئين والمغرضين ، والمنافقين واصحاب الاغراض الدنيئة ، والاجندات الخبيثة ، هم من يلجأ الى التاريخ ، ليأخذ منه ما يؤجج المشاعر ، ويثير الحساسيات وهذا ما يجعلنا نقول ان للتاريخ مضار لابد من مواجهتها ، والوقوف عندها والسعي للتقليل من مخاطرها .
أنا لست مع الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي الذي شكك بالتاريخ وبالمؤرخين وقال :
وما كتب التاريخ في كل ماروت ** لقرائها إلا حديث ملفقُ
نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا ** فكيف بأمر الغابرين نُصدقُ
وسبب عدم قناعتي بما قاله الشاعر الرصافي الكبير ان التاريخ يكتب على عدة مستويات وحين يكتب على مستوى العاطفة والتحريض أيا كان لونه فإن النتيجة تكون تاريخا مزيفا مشوها لايمكن أن يعتد به وعندئذ فقط يصدق عليه قول شاعرنا الكبير في انه ليس الا حديثا ملفقا ونكاد نقف على هذه الحقيقة من متابعتنا اليوم لبعض التعليقات والتحليلات لأحداث تقع أما انظارنا اليوم ، وكيف انها تعرض للناس بطرق مختلفة ، وبرؤى متباينة . وعندئذ تبدأ مهمة المؤرخ حين يكتب ، ويوثق بعد اكتمال الحدث وانتهاءه وظهور الكثير من معطياته الى العلن .
وثمة مسألة مهمة لابد ان تؤخذ بالحسبان وهي ان لاحقائق مطبقة فكل حقيقة هي نسبية وما تراه انت قد لااراه انا وقد ترى انت من العملة الصورة بينما ارى انا الكتابة ومهمة المؤرخ كما قال ليوبولد فون رانكه المؤرخ الالماني الكبير تكون بإعادة تشكيل الحدث كما وقع بالضبط ومهمته عندئذ تشبه مهمة المصور الفوتوغرافي وما عدا ذلك فإن ما يكتب ليس تاريخا موضوعيا يعتد به .
حقيقة ان كتب التواريخ العربية وغير العربية شابها الكثير من التلفيق والتشويه والتزييف ولابد ان تقرأ بحذر وان تقارن وقائعها مع غيرها من الوقائع الواردة في مصادر اخرى ويتطلب الامر عندئذ من المؤرخ أن لايتعجل في التعليل والتحليل وان يتعلم كيف يقلب هذه الوقائع ويثنيها حتى تتضح الصورة امامه وعندذلك يكتب التاريخ مع اعطاء هامش من الخطأ في عرض الحادثة او في تفسيرها .
وهنا لابد ان نثذكر القراء الكرام بإن ثمة مدارس كثيرة في التفسير التاريخي فهناك التفسير الديني والتفسير الحضاري والتفسير الجغرافي والتفسير المادي التاريخي والتفسير الاقتصادي والتفسير الذي يعول على البطل وعندما يريد المؤرخ ان يدرس تاريخ الثورة الصناعية على سبيل المثال لابد ان يكون التفسير الاقتصادي هو الاقرب اليه لكنه اذا اراد ان يدرس تاريخ بروز نابليون بونابرت فلابد ان يستند بشكل ما على نظرية البطل في التاريخ وعندما يزمع تفسير تاريخ ظهور الاسلام لايمكن – بأي حال من الاحوال – ان يغفل التفسير الديني للتاريخ الذي يستند الى دور (المشيئة الالهية ) في حركة التاريخ .
الخلاصة فإن لدروس التاريخ ولااقصد للتاريخ نفسه مضار اذا اعطيت بطريقة تبث الفرقة او تبرز مظاهر سلبية او تتناول احداثا تبرر الانقسام والاختلاف او تزرع العداوة ولكن اذا اردنا ان يكون للتاريخ (منافع ) فلابد لنا ان نبرز الايجابيات وحالات الاتحاد والتعاون وان تكون الروح الانسانية في العرض واضحة وجلية لكن لابد ان تكون ثمة عبر مستخلصة حتى لانكرر الاخطاء ونعمق العداوات ونكرس التفرقة والعداوة بين البشر .
القرآن الكريم في عدد من سوره الكريمة عرض لأحداث تاريخية شهدنا العالم منذ ان كان آدم في السماء وهبط الى الارض وتصارع ابناءه حتى وقوع الحروب بين الفرس والروم وظهور رسالة محمد صلى الله عليه وسلم التوحيدية وكان الهدف الالهي من وراء ذلك ليس اظهار العداوة بقدر ما كان اظهار العبرة وهذا واضح من تكراره مسألة الاعتبار والتبصر والتعقل والتدبر .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء