الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جون برجر..دراما الحياة الإنسانية

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2017 / 1 / 12
الادب والفن


جون برجر..دراما الحياة الإنسانيَّة
أسامة عرابي
يُمثل الكاتب والفنان اليساري البريطاني الأشهر"جون برجر"(1926-2017) الذي رحل عن عالمنا يوم الاثنين 2/1/ 2017 بعد أن ناهز عمره الحادية والتسعين سنة،ظاهرة ثقافية حَرِيَّة بالاهتمام،حريصة على إعادة تعيين العلاقة بين الشمولي والمتفرِّد..بين المفهوم والشيء ذاته،عاملة على تقديم صياغة للفكر بصرية وسمعية،طارحة أسس حرية في التفكير،تعمد إلى نسج مقولة خاصة لوهم الحقيقة،أي الحقيقة التي لها من الجِدَّة ما يُهيئ لها الخروج عن السائد والمألوف.لهذا تعددت وسائطه الفنية في التعبير،ما بين الشعر والرسم والرواية والمسرح والسيناريو والنقد،رافضًا نمذجة شكله الفني،أو سجنه داخل مذهب ثابت قارٍّ،محتفظًا بحداثة تُحيل العمل الفني إلى سيرورة مُغايرة؛من أجل ملاقاة ما لا نتوقعه.لذا قال في قصيدته"فراق":"بلغتنا المتشرِّدة/واللكنة الغريبة/واسم آخر للحليب/نأتي في قطارات/ونتعانق على الأرصفة/نحن وعرباتنا.نحن الذين صوتُنا الغائب/مؤطَّر ومعلَّق على جدران غرف النوم/نتقاسم كلَّ شيءٍ/ولا شيٍء.اللاشيء الذي نشطره شطريْن/ونلتقمه مع جرعة من زجاجة أخيرة/نحن الذين تعلَّمنا من الشحرور الحساب/بأي عُملةٍ بدَّلَ الصيارفة غناءنا/ما لنا والشعر/في هذه الأسِرَّة الموحشة؟".لهذا ظلَّ الشعر بالنسبة إليه كينونته الأخرى غير القابلة للاختزال؛لكي يتأتى له أن يكون.والضوء الآتي من مكان ما كبارقة على المجهول؛ليُمسي هِبَات البصيرة المُطلة على التخوم فتضيئها من ذاتها.وهو ما عبَّر عنه في موضع آخر من قصيدته السابقة بقوله:"حمولتنا/واللغة ترتعش/عند لقاء المُفارِقين/علينا أن نحمل كل شيء/عبر الأجيال وعبر طرقات القرية/عبر السهوب والغابات/مرورًا بالوداعات والجسور/نحو المدينة حيث الطفل ينتظر".الأمر الذي يدعونا إلى التوقف قليلًا عند رؤيته للغة والشعر،وكيف يرى العلاقة بينهما،وفي إطار أي دور؟يقول صاحب كتاب"وجهات في النظر"في مقال له بعنوان"أوان الشعر":"إن شفاعة اللغة كامنة في طاقتها على الشمول.طاقتها على أن تُكثّف في كلمات جُمَّاع التجربة الإنسانية.كل ما حدث،وكل ما هو متوقَّع حدوثه.بل إنها تُفسح في المجال لما لا تُفصح عنه الكلمات"،ثم يُضيف:"بهذا المعنى يسعنا القول عن اللغة إنها-بحسبانها طاقة-المأوى الإنساني الوحيد؛الوطن الوحيد المؤهّل لأن لا يكون مُعاديًا للإنسان"،غير أنه في النثر"يكون هذا المسكن مساحة شاسعة،ديارًا تعبرها اللغة عبر شبكة من الدروب والمسالك والممرَّات.أما في الشعر،فهو المسكن الذي يتكثف في مركز واحد وصوت واحد".وبذلك يغدو الشعر بوصفه تجربة متبصرة قادرًا على"جعل اللغة تُبالي لما يُولّده من ألفة حميمية بين الأشياء.وهذه الألفة هي نتاج كدح القصيدة؛نتاج التوليف بين كل فعل واسم وحدث وكل منظور تُشير إليه القصيدة.ولسنا نملك غالبًا من كفاح مكين نُجابه به قساوة العالم ولامبالاته غير تلك المُبالاة".لذا رأى مُبدع رواية"g "التي فازت بجائزة البوكر الأدبية،وتبرَّع بقيمتها المادية للفهود السود الأميركيين،أن الألم"رديف للحياة"في مقال له باسم"أين نحن؟"؛بعد أن ألفى"أننا نعيش في أكثر أنواع الفوضى التي وُجدت حتى الآن تسلطًا؛لأنها الأكثر انتشارًا"؛إذ"ليس من السهل إدراك معنى الطغيان؛لأن البنية التي يستمد قوته منها (بداية من أكبر مائتي شركة متعددة القوميات،وصولًا إلى البنتاجون)متداخلة وفي الوقت ذاته متشعبة،استبدادية وفي الآن عينه مُبهمة،كلية الوجود وفي الوقت نفسه لا مكان بعينه يجمعها،وتُمارس التسلط بعيدًا عن الساحل(أي من خارج الحدود الإقليمية)،كما أن"ثقافة الاستهلاك التي أصبحت الأكثر قوة وانتشارًا في كوكبنا،تُحاول إقناعنا بأن الألم حادثة عَرَضية يُمكننا تفاديها؛وهذه هي القاعدة المنطقية لإيديولوجيا القسوة".من هنا؛رأى مؤلف رواية"رسام من عصرنا"في مقال له بعنوان"الإعلان التجاري واللوحة الفنية"أن الدعاية"هي ثقافة المجتمع الاستهلاكي،وأنها تُعمِّم بالصور رؤية ذلك المجتمع لذاته"،وراح يُحلِّل أسباب استعارة تلك الصور لغة الرسم الزيتي"الذي كان،أول الأمر،تمجيدًا للملكية الفردية؛بصفته شكلًا فنيًّا مُستمدًّا من المبدأ القائل:أنتَ تُساوي ما أنتَ مالكه".وبهذا يُفيدُ العملُ الفنيُّ الإعلان التجاريَّ فائدة جمَّة؛"لأنه يقول قوليْن متناقضيْن.فهو علامة على الثروة وعلى التسامي الروحاني في آن معًا.إنه يُوحي بأن عملية الشراء التي يدعوك إليها إنما هي ترف وقيمة ثقافية معًا".وبذلك يَلفت"جون برجر"النظر إلى أن"الدعاية أدركت قيمة اللوحات الفنية بعمق أكبر مما أدركه مؤرخو الفن؛لأنها وضعت يدها على دلالات العلاقة بين العمل الفني وبين المُشاهِد-المالك،وبهذه العلاقة تُحاول إقناع المُشاهِد-المشترِي واستمالته".وعلى هذا النحو،رفض واضع كتاب"الليبرالية الجديدة"تسليع الفن وتنميط حياة البشر في النظام العالمي الجديد المُتوحش،أو النظر إلى الفن بمنأى عن شروطه الموضوعية التاريخية،وارتباطه المباشر بنشاط الإنسان الملموس،أو عَدَّ قيمه غير قابلة للتبدُّلِ،وأنها مُطلقة وليست نسبية.لذا أدرك بوعي خلَّاق أنه:"عندما يكون الهدف من النضال السياسي هو التغيير أو شق مسار جديد،تدعم الممارسة الفنية هذا النضال،وهي على مسافة بعيدة خلف خطوط النضال الأمامية.ولكن عندما يكون الهدف السياسي المباشر هو المقاومة،يتقدم الفن ويقترب من الخطوط الأمامية"،كما جاء في تعليقه الذي نشرته مجلة"بدايات"البيروتية على معرِض الفنانة السورية،ابنة مجدل شمس،الجولان المحتل،"رنا مدَّاح"،الذي أقامته بعنوان"الجولان المعلَّق بين احتلال واستبداد".وحَرَصَ صاحب كتاب"من عائدة إلى كسافييه"على توضيح ماهية المغالطة التي يسقط فيها مَنْ يُقابل(الواقعي بالخيالي)"كأنما الأول هو دومًا في متناول اليد،فيما الثاني هو النائي صعب المنال.فالأحداث هي التي نجدها دائمًا في متناول اليد،على أن ترابط تلك الأحداث-وهو ما نعنيه بالواقع-بنيان خيالي"،وأضاف:"وهكذا فالواقع يقع دائمًا فيما يتعدانا،وهذا يصح عند المثاليين كما عند الماديين.عند أفلاطون كما عند ماركس.فالواقع-كائنًا ما كانت تفسيراتنا له-يكمن فيما يتعدَّى شبكة من الترسيمات السائدة"،بَيْدَ أن الفنان والثوري يلتقيان"عند العمل بوحي من فكرة مشتركة؛هي فكرة تمزيق شبكة الترسيمات هذه"،على نحو ما ورد في مقاله"فان جوخ وإنتاج العالم".وقد رفض مؤلف كتاب"نجاح وفشل بيكاسو"الانضمام إلى الحزب الشيوعي البريطاني على الرغم من أنه كان يكتب في صحافته اليومية والثقافية،ويتعاون معه سياسيًّا في بعض القضايا الأممية،ونظَّم حلقة حواربين أعضائه ومن هجروا صفوفه وشكَّلوا ما سُميَ باليسار الجديد؛نظرًا إلى"خلافه مع خطّه الرسمي بصدد الفن والثقافة"،على نحو ما صرَّح به للمفكِّر اللبناني"فواز طرابلسي"في حواره معه عام 1987،قائلًا:"أذكر منها خلافًا بسبب مسرحية"بيكيت"(في انتظار جودو).كنتُ قد كتبتُ مقالًا أردُّ فيه على اتهام صحيفة الحزب لبيكيت بالتشاؤمية البرجوازية الصغيرة.لم أعدْ أذكر إذا كانوا قد نشروا ردي أم لا"،وإن كان يستثني من هذا الحرس القديم الرفيق"هاري بوليت"قائد الحزب الذي كشف"عن مدى اتساع ثقافته ومعرفته المُدهشة بأدب شكسبير؛فقد كان خريج الحركة العمَّالية ومُنظِّر الحزب في آن معًا".وهو ما يقودنا إلى التعرُّف على رؤيته للماركسية،ونقده لبعض جوانبها.يقول مؤلف كتاب"طرائق في الرؤية":"المساهمة الكبرى للماركسية هي مساهمتها في كشف أوليات سير وتطور الرأسمالية والإمبريالية،فكيف إذن يُمكن تجاهل ماركس الذي تنبأ ب،وحللَ الدمار الناجم عن السعي إلى الربح من جانب الرأسمالية؟"،غير أن الماركسية كما قال لفواز طرابلسي:"لم تُقدِّمْ نظرية للفن.وإن أضاءت بعض جوانب الفن".بَيْدَ أن واضع كتاب"المنفى"آمن بأن هذا القرن"هو قرن النفي والمنافي بلا مُنازع،على الرغم مما فيه من ثروات ووسائل اتصال"،مُضيفًا:"ولعل زمنًا سيأتي يتحقق فيه الوعد الذي كان كارل ماركس كبير أنبيائه؛إذ ذاك لن تعود أسماؤنا الشخصية البديل الوحيد عن الدار،بل يُمسي البديل هو حضورنا الجماعي الواعي في التاريخ".لهذا عندما ترك واضع كتاب"الهجرة"بلده إنجلترا؛هربًا من الاضطهاد الذي عاناه الشيوعيون في الخمسينيات ومطلع الستينيات،اختار قرية فرنسية صغيرة في جبال الألب راح يلتمس بين حناياها الدَّعة والهدوء؛حالمًا بتأسيس مركز ما ينهض على التضامن العالمي القادر على"تجاوز الاقتلاع الحديث"على حدِّ تعبيره.مُؤثرًا الإقامة والعيش بين الفلاحين الذي استلهم من حياتهم ثلاثيته البديعة التي صدرت بعنوان"في كدحهم"؛بعد أن رأى فيهم"طبقة تملك حُسْن ملاحظةٍ هو الأكثر رهافة في العالم"،مؤكِّدًا أن"كدحهم الجسدي طوال حياتهم يدفعهم إلى الارتباط بالأرض؛بحيث لا يعودون يُميزون بين كِيانهم الجسدي وبين كِيان الأرض".لذا أحبَّ الموسيقار التشيكي العالمي "أنتونين دفوراك"؛لأنه ابن فلاح،وأحبَّ كذلك سيمفونيته عن العالم الجديد،وتعبيرها عن بشائره؛لأنها"بشائر ليست مُفخَّمة بصورة مصطنعة،بل مدوية ومتصلة لأنها رغبات فاقدي السلطة؛أولئك الذين يُدعون خطأ بالبسطاء،والذين توجَّه دستور الولايات المتحدة الأميركية في العام 1787 إلى أمثالهم".وظلَّ صاحب كتاب"طريقة أخرى للحكي"مُحتفظًا بعلاقة وثيقة مع الشعراء العرب لاسيما محمود درويش الذي رأى فيه قامة سامقة، وأدونيس الذي قال عنه:"لولا ت.س.إليوت وعزرا باوند ما كان أدونيس يكتب الشعر كما يكتبه الآن"،وظل حتى الرمق الأخير يحيا قضايا المنطقة العربية وهمومها في التنمية والتحرُّرِ الوطني؛فأدان الغزو الأنجلو-أميركي للعراق؛ودافع عن الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره بنفسه،وفي دولته المستقلة من النهر إلى البحر،وزار رام الله وقطاع غزة وكتب عنهما وعن أحوالهما الرَّثة تحت الاحتلال الصهيوني،مُدركًا أن"الأقوياء لا يستطيعون رواية الحكايات؛لأن التباهي نقيض الحكايات،وكل حكاية مهما كانت معتدلة عليها أن تكون غير هيَّابة،بينما يعيش الأقوياء بعصبية في الوقت الحاضر"،وبقيَ مُعبِّرًا دومًا عن أمل لا حدود له؛"ففي الحرب لا يقف الظلام إلى جانب أحد،أما في الحب فإن الظلام يعني أننا معًا"كما كان يُردِّدُ باستمرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه