الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة المجتمعات من التثاقف إلى التثقيف إلى ثقافة العولمة

جلال مجاهدي

2017 / 1 / 13
العولمة وتطورات العالم المعاصر


كانت الثقافات فيما سبق تتوسع و تمدد خارج مجالها المجتمعي عن طريق التماس الثقافي بطرق كالهجرة و التنقل و التزاوج و الاحتكاك التجاري و التوسع العسكري حيث كان التثاقف يتم بشكل غير واع و غير محسوس و غير مقصود و انتقل التوسع و الامتداد الثقافي إلى مرحلة جبرية واعية و مغرضة تمثلت في التثقيف الممنهج المباشر بالغزو الثقافي باستعمال التعليم و التلقين الثقافي إبان مرحلة التوسع الاستعماري الاوروبي ثم انتقل التثاقف إلى المرحلة الحالية التي تتسم باستعمال طرق ناعمة ذات تأثير عالمي باستعمال قنوات تثقيفية جديدية تتمثل في وسائل الاتصال الحديثة كالقنوات التلفزية الرقمية و الانترنيت .

التثاقف العفوي و التثقيف القسري هما مجموعة من العمليات التأثيرية الثقافية تستفيد من إحدى الخاصيات الاجتماعية الانسانية تتمثل في مرونة المجتمعات البشرية و قدرتها على التأثر و التغير الثقافي , ومفهوم التثاقف العفوي يشير إلى عملية تبادلية ثقافية تعتمد على التماس و على التفاعل الثقافي بين تقافات مختلفة بالأخذ و العطاء و الوفادة و الرفادة أما مفهوم التثقيف القسري فهو يشير إلى وجود مسار أحادي يعتمد على تلقين النموذج التقافي للطرف المهيمن عليه الذي يكتفي بالتأثر دون التأثير.

بصفة عامة و باستثناء المجتمعات المنعزلة المسماة أنثروبولوجيا بالمجتمعات اللاتاريخية فإن ثقافة مجتمع ما هي ثقافة غير مستقرة فهي تخضع بشكل دائم لعمليات لا متناهية من التأثيرات و هذه خاصية من خاصياتها, لذلك فإن الدراسة الأنثروبولوجية لثقافة مجتمع ما في زمن ما هي في حد ذاتها دراسة لمجتمع في منتصف طريق بين ثقافة ماضة تأثرت فيها بتأثيرات معينة و ثقافة مستقبلية آخذة في التبلور بتأثير , الحفاظ على نفس الثقافة دونما حركية تذكر لمدة زمنية ما رهين بمدى عزلة المجتمعات عن الاحتكاك بباقي الثقافات و بمجرد ما تخضع ثقافة مجتمع ما للتماس الثقافي حتى تبدأ في التأثر و التفاعل , وإذا كانت المجتمعات قد حافظت على سماتها الثقافية بفعل العزلة النسبية عن بعضها لقرون طويلة حيث تبلورت فيها معالمها فإن ذلك كان قبل حدوث التوسع الامبريالي الأوروبي حيث بفعل التأثير المباشر لعمليات التثقيف القسري انتقلت معظم ثقافات المجتمعات المستعمرة إلى تبني النموذج الثقافي الغربي الأوروبي .

المجتمعات المستعمرة التي خضعت للتثقيف القسري الغربي الأوروبي , كانت على ضربين مجتمعات تنتمي إلى المجموعات الثقافية الصغرى الهشة و التي تأثرت بشكل كبير بالثقافة الأوروبية إلى درجة فقدت معها لغتها و ديانتها و عناصر أخرى من هويتها كبعض الدول الإفريقية و مجتمعات تنتمي إلى المجموعات الثقافية الكبرى كالدول العربية و الاسلامية و الآسيوية و التي رغم التأثير الكبير للثقافة الغربية حافظت على خصوصياتها اللغوية و الدينية و بعاداتها و تقاليدها وشيئا ما على قيمها المجتمعية .

بعد تراجع و تأخر الغرب الاوروبي امام صعود نجم الولايات المتحدة الامريكية خاصة بعد نهاية الحرب الباردة و بداية الاحادية القطبية و بالنظر لانتهاج الدولة المذكورة سياسة ليبيرالية اقتصادية و بالنظر لتطور وسائل الاتصال خاصة الفضائيات الرقمية و شبكة الانترنيت التي أصبحت تربط العالم ببعضه البعض, اتجه العالم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى منحى عولمة الثقافة و فسر العديد من الباحثين و الانتروبولوجيين هذا الأمر بأنه محاولة لنمذجة و تنميط ثقافة المجتمعات وفق النموذج الامريكي و ذهب البعض إلى حد اعتبار ذلك شكل من أشكال الإستعمار الثقافي الأمريكي للعالم و إلغاء كلي للثقافات المحلية, أمام هذا المنحى انقسمت القناعات إلى خمسة أقسام قسم يرى بأن العولمة الثقافية عملية تثاقف غير قسرية تعتمد على الثأثر و التأثير بين مختلف الثقافات وتتيح قدرا كبيرا من التلاقح و التماس الثقافي الذي من شأنه إغناء الثقافات المحلية و تطويرها و قسم ثان يرى بأن العولمة ظاهرة تاريخية حتمية غير قابلة للارتداد كما هو وارد عند فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ , هذا القسم يؤكد أن من لا يدخل في العولمة من المجتمعات و الشعوب سيبقى ثقافيا خارج التاريخ و أنه لا مجال لمقاومة نمذجة و أمركة ثقافة المجتمعات و قسم آخر أنه بالإمكان الممانعة عن طريق إحداث جيوب مقاومة ثقافية بالدفاع عن الخصوصيات الثقافية القومية و المحلية و إغنائها و عن طريق استثمار بعض المفاهيم كالسيادة الوطنية و التشبث بالمرجعيات الدينية و عن طريق تكوين قطب ثاني و ما إلى ذلك و قسم رابع يرى بأن الثقافات تتسم بالممانعة و بما أنها ثقافات مستقبلة لعناصر ثقافة العولمة ستكون الثقافات المحتوية لها و بالتالي ستعمل على دمج العناصر الثقافية الواردة ضمن مكوناتها لجعلها ملائمة لخصوصياتها لأعاده إنتاجها و توظيفها وفق قوالبها الثقافية المحلية و القسم الخامس و الأخير يرى بأنه لا مجال للحديث عن عولمة الثقافة طالما أن الثقافة هي رهينة جغرافية معينة و منه فهي محلية بطبيعتها و بالتالي ينكر فرضية تشكيل أية ثقافة بلا حدود و الحديث عن أية عولمة للثقافة .

الآراء المعبر عنها كلها لها منطلقاتها و أسسها و تعكس رؤى مختلف المدارس الفلسفية و الانثروبولوجية و مختلف التوجهات الفكرية و الايديولوجية و حتى الدينية , لكن اختلاف الآراء يرجع إلى كون ظاهرة العولمة لا زالت في بداياتها و لم تفرز بعد معظم نتائجها , لكن إذا كان الحكم على الشيء جزء من تصوره , فإن ظاهرة العولمة الثقافية قابلة للتصور و للاستيعاب التجريدي و العناصر المحددة لنتائجها متوفرة بشكل كاف و من تم يمكن تحديد اتجاهها و نتائجها على ضوئها .

نبدأ مناقشتنا لمختلف الآراء المعبر عنها بمناقشة وجهة نظر التيار الذي ينفي احتمال وجود أية ثقافة عالمية بالنظر لكون الثقافة محلية بطبيعتها و هو التيار الذي تبناه المفكر المغربي محمد عابد الجابري , حسب هذا التوجه فلا وجود لثقافة إلا بوجود جغرافية محلية , هذه المقاربة إن كانت صحيحة فيما قبل بالنظر لكون التأثر و التأثير كان محليا و يتم فإنها لم تأخد بعين الاعتبار أن تأثير العولمة الثقافي في الأفراد و المجموعات يتم في بنيات تواصلية كالأنترنيت خارج المجتمع و بعيدا عن هياكله الثقافية و بما أن التأثر هو أمر حتمي فإن المجموعات المكونة للمجتمعات ستثأثر وفق الثقافة السائدة التي تسوقها الفضائيات الرقمية و المواقع الانترنيتية و هو ما لا يمكن معه الحديث عن عدم التحول من المحلية إلى العالمية و بالتالي يبقى الرأي الذي يربط الثقافة بالجغرافية صحيح بالنسبة للماضي فقط .

و بخصوص الرأي الذي يذهب إلى أن عولمة الثقافة هي عملية تثاقف غير قسرية بين ثقافات العالم المختلفة و هو ما سيساهم في إغناء الثقافات المحلية و تطويرها , نشير بدأ بأن عملية التثاقف هي عملية تفترض وجود ثقافتين أو أكثر تتسم بالحضور في المجال التثاقفي و بالقدرة على التأثير , فإذا كانت ثقافة ما غائبة عن مجال التثاقف و فاقدة لمقومات القدرة على التأثير فإنها و حتما لن تكون سوى ثقافة مستقبلة تتأثر و لا تؤثر و حينما نعلم أن الثقافة المهيمنة على وسائل التواصل الحديثة التي هي الفضائيات و الأنترنيت هي الثقافة الغربية الأمريكية و أن استعمال اللغة الإنجليزية في الأنترنيت تصل إلى 90 % و التي يستحوذ فيها المصدر الأمريكي على مكانة لا تنازع و حين نعلم بأن الإنتاج السينمائي الأمريكي يعادل ما ينتجه العالم مجتمعا دون الحديث عن القدرة على تسويقه التي تشكل القوة الضاربة له وما إلى ذلك يتبين أن طرح تأثير باقي الثقافات في بعضها البعض لم يأخذ بعين الاعتبار شبه غياب هذه الثقافات في المجالات التثاقفية الحديثة إضافة إلى انعدام جاذبيتها كثقافة مؤثرة مقارنة بالثقافة الأمريكية .

و فيما يتعلق بالرأي الذي يقول بأن الثقافات الأصلية هي ثقافات ممانعة و من موقعها كثقافات مستقبلة لعناصر ثقافة العولمة ستكون الثقافات المحتوية لها و ستعمل على إدماجها ضمن مكوناتها , فإن هذا الرأي غارق في التجريد و غير واقعي ذلك أنه لا يمكن بالمرة دمج عناصر مناقضة لأية ثقافة محلية ضمن دائرة مكوناتها, و على سبيل المثال نأخذ قيمة الفردانية كقيمة من قيم الغرب الليبيرالي الرأسمالي هذه الفردانية لا يمكن دمجها ضمن قيم اجتماعية تعاونية فهي مناقضة و هادمة لها والدليل على ذلك أن ما حدث هو أن هذه القيمة أخذت محل القيم الأخرى في العديد من المجتمعات التي أصبح أفرادها يتصفون بالفردانية و انمحت فيها قيم التعاون العائلي و التآزر المجتمعي و الجوار ....... و يسري الأمر بالنسبة لقيم الحشمة وقيم الامتثال للتعاليم الدينية و ما إلى ذلك و بالتالي فباعتبار الثقافة الغربية الأمريكية تحمل عناصر و قيم مناقضة للثقافات التقليدية للمجتمعات فإن هذه الثقافة و بفعل حتمية الثأثير ستحل محلها كنتيجة مباشرة لها و لا مجال للقول باحتواء ثقافة ما لثقافة لعناصر ثقافية مناقضة لها .

و بخصوص الرأي الذي يقول بخلق جيوب ممانعة تحت مسميات شتى فإن المعيار هو الحضور في المجالات التثاقفية الحديثة و القدرة على التأثير و أنه بالنظر لكون جيوب المقاومة المتحدث عنها تتسم بشتاتها و بتوجهاتها المختلفة و بعدم جاذبيتها كنماذج ثقافية وبالنظر لكونها بعيدة كل البعد أن تصل إلى درجة التأثير الكمية و الكيفية للنموذج الثقافي الأمريكي المهيمن فإن انهزامها في معركتها محسومة سلفا .

ما نلاحظه هو أن العولمة عصفت أيضا بالمفهوم السائد للثقافة و بالمنطلقات الفلسفية الانثروبولوجية التي كان يقوم عليها كارتباط الثقافة بالمكان الجغرافي و الزمان الاجتماعي و عصفت أيضا بالمفاهيم التي كانت تصف عمليات التأثير و التأثر الثقافي كالاحتواء و التشيكل و التهجين الثقافي و التثاقف على نحو اضطر معه علماء الانثروبولوجيا الثقافية إلى استحداث علم جديد يسعى لفهم الظاهرة من منظور آخر و بمفاهيم أخرى و آليات أخرى سمي بانثربولوجيا ثقافة العولمة و الذي لا يزال في بداياته .

إذا كنا تعلمنا شيئا واحدا من المسار التاريخي لمفهوم الثقافة فهو أن الثقافة تتغير عبر الزمن , المراهنة على الممانعة أو المقاومة أو الحياد في مواجهة التأثير الحتمي لتيار ثقافة العولمة هي مراهنة محسوم فشلها و المراهنة على تغيير اتجاهه و مساره بالاقتصار عليها هي مراهنة لا ترجى نتائجها و يبقى أن استمرار العولمة رهين باستمرار الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية و بما أن النظام الرأسمالي الليبيرالي لا يمثل مسارا نحو تحقيق التنمية و الرفاه لفئات عريضة من المجتمعات بل يسير في اتجاه خدمة مصالح الشركات الكبرى متعددة الجنسيات فهو مع مرور الزمن سيفقد مناصريه في اتجاه أفوله و يبقى أن ما يشكل تهديدا حقيقيا للعولمة و لهذا الاقتصاد حاليا و الذي قد يدخل العالم من جديد في منعطف تاريخي آخر هو المسار الاقتصادي الموازي الذي تسير فيه الصين و الذي أدى إلى حد الآن إلى تعزيز موقع الصين على حساب الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من الأسواق و العديد من المجالات , استمرار العملاق الصيني في اكتساح الاسواق بنفس الوثيرة المتسارعة هو ما سيعجل بنهاية هيمنة الولايات المتحدة الامريكية على الاقتصاد العالمي و ينهي بذلك منطقها الليبيرالي و توجهها لعولمة ثقافتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر