الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحت شجرة - ساكورا Sakura - *

ليندا كبرييل

2017 / 1 / 17
الادب والفن


قال السيد " تاكاهاشي " * ووجهه منكمش :
ــ ما نفْعُ مشلولٍ بالكاد يستطيع جرّ قدمه وراءه ؟

لم يغِبْ عن عيني تأثّر " هيكارو " * الذي وَشَى برغبته المكتومة في البكاء وهو يسمع قصة الرجل.
تابع تاكاهاشي :
ــ في حصة الهوايات كنت أرسم، وعقلي مأخوذ بأصوات زملائي من باحة المدرسة يتدرّبون، فتذهب بي أحلام اليقظة إلى أن أتصوّر نفسي ألعب معهم ؛ أتقدّم أتراجع أُمرّر أسدّد الكرة نحو السلة فتُخطئ الهدف، لأعود إلى المراوغة .. ووصل بي الحلم أن نفّذتُ تسديدة ناجحة فنِلتُ التصفيق والهتاف ههههههه !!
عذّبني هذا الحلم، حتى جاء اليوم الذي لا أنساه !
.......
ذلك اليوم، وأنا في المركز الثقافي، كنت سعيداً أن أعثر على الكتاب الذي تمنيتُ قراءته . خرجتُ إلى الحديقة لمطالعته في حضن الطبيعة، فوجدت أني لن أزعج رجلاً عجوزاً جالساً إلى طاولة تحت شجرة " ساكورا Sakura " * بديعة، كان سانِداً خدّه إلى كفّه وقد غلبه النعاس.
لا أذكر بالضبط ماذا حدث لي، في اللحظة التي وقع فيها نظري على الكتاب المفتوح أمام العجوز . بدأتْ مشاهد الحديقة تضْمحلُّ أمامي، ولم يبْقَ تحت عيني سوى الصورة المروِّعة في صفحة الكتاب . شعرتُ بعضلات وجهي ترتعش، وأطرافي ترتعد، متأثِّراً بفظاعة ما أرى .. سمعتُ حتى وَجِيب قلبي يخفق بعنف.
تنبّه العجوز من نومه عندما أخذت مكاني، ولاحظَ التشنجات على قسمات وجهي، فبادرني :
ــ صورة مُحْزِنة .. أليس كذلك أيها الفتى ؟
قلبَ الكتاب وأشار إلى عنوانه وتابع :
ــ هذا كتاب تاريخي عن الحروب العالمية . انظرْ إلى صور الدمار والمآسي البشرية التي تخلّفها صراعات البشر . أنْصحك أيها الشاب بالاطلاع على صوره الموثّقة، إنه كتاب قيّم.

كانت الصورة لشاب أفريقي مُعاق، فقدَ يديه وساقيه وإحدى أذنيه من انفجار لغم، يُكمِل بإبداع رسْم وردة حمراء بفرشاة مسكَها بأسنانه، ومعاق آخر وضع الفرشاة بين إصبعين من قدمه . وفي الصفحة المقابِلة، صورة رجل وجهه مشوَّه تشويهاً بالغاً، ولم يتبقَّ منه .. لم يتبقَّ منه إلا الجذع !!
أغمض تاكاهاشي عينيه واهتزّ صوته :
ــ رأس وجذع فقط ..

ارتجف فم هيكارو، وأخذ يفرك عينيه بكمّ قميصه، فحضَنَ السيد تاكاهاشي رأسه وقال له :
ــ لِنعتبِرْ من مصائب البشر، فنحن بخير.
تابع السيد تاكاهاشي قصته بألم :
ــ غشيني دوار، أفْقدني للحظاتٍ سيْطرتي على الرعْدة التي سرتْ في جسدي . وبذلتُ جهدي للخروج من حالة اضطرابٍ غيّبتْ معالم الصورة وألوانها، ليصبح ما أراه خليطاً من الفوضى . تهالكتُ على المقعد .. أكاد لا أَعِي إلا صورة رجلٍ لم يبق منه إلا الجذع المقروح.
قال لي العجوز بصوت متقطّع :
ــ الحرب حارسة بوّابة الموت . مات في جحيمها منْ مات أغبى ميتة، وعاش منْ عاش بحسرة تفتّت القلب . الحرب أيها الشاب التهمتْ حياة ثلاثة من أبنائي . مات الكبير في " بيرل هاربر "، ومات الثاني في ثلوج " سيبيريا ".
دُفِن الشهداء في مقابر فخمة، شواهدها الرخامية ضخمة . مظاهر تثير المشاعر .. أينما نظرت سترى وروداً متفتّحة، وأشجار الصنوبر مهذَّبة مشذَّبة، تلفّكَ رائحة البخور من دخولك المعبد، فتشعر بالوقار والجلال أمام أصنام الآلهة المهيبة، نصيرة كل منْ قال آهة وشكا عاهة ؛
هذا إله يمنع الخرف، وهذا يمنح الشفاء، وهذا إله يمنع الشؤم، وهذا يحجب المرض .... جمعتُ يديّ أمامها متذلّلاً متقرِّباً، بالنذر المُستدام، وبلسان يلهج بالرجاء والاسترحام، لكن الأم فقدتْ عقلها، وأنا مرضتُ، والغائب ذهب .. ولن يعود . وأما ابني الثالث، فيا لخوفي عليه إذا متّ قبله ! عاد من " الصين " مصاباً بالسلّ في صدره، ورصاصة ما زالت في جنبه، وقد بُتِرتْ قدماه وإصبعان من يده اليمنى.

دفع العجوز بالكتاب إلى جهتي برفق، وقد غارتْ دمعة في تجاعيد وجهه، ثم قام ليغادر الحديقة حاملاً على ظهره حَدَبة، توقف قليلاً والتفت إليّ وقال بصوت باكٍ :
ــ حياة الإنسان أيها الفتى أثْمن شيء في الوجود.
سار خطوتين ثم التفت ثانية وقال بصوت هادر :
ــ وفوق كل اعتبار مقدّس !
سمعتُه يقول وهو يتابع سيره :
ــ لا للحرب، تحت أية ذريعة كانت !

أخذتُ أتأمل صور المآسي البشرية . أذهلتْني .. ورحْت أحدِّث نفسي :
" تأملْ هذا المعاق الذي فقدَ يديه وساقَيه ؛ إنه يرسم مثلكَ مستخدِماً أسنانه لتحريك الريشة .. وآخر بُتِرت ذراعاه فاستخدم أصابع قدميه في احتياجاته، ويقول إن وجود القدمين حفّزه على تعلّم الرقص .. وأما الذي فقدَ رجليه، فإن يديه قادرتان بشكلٍ ليس له نظير، على فرْز عدد كبير من الأكواب المرصوصة فوق بعضها، ثم إعادة تكديسها في ثوان معدودة .. حتى الذي لم يبق من جسده إلا الجذع المقروح !!؟ يقول : إنه فقدَ أطرافه الأربعة، لكنه يملك الحواس الخمس، ولم يفقد عقله، ولا صوته، وهو بارع في الغناء، وفي تقليد أصوات الآلات الموسيقية وأصوات الحيوانات !!
هؤلاء المساكين اِئتلفوا : قلباً واحداً، رجلاً واحداً، تصميماً واحداً، وراحوا يقدّمون مجتمعين عروضاً فنية تحظى بإقبال جماهيري كبير .
ما فداحة ( مشكلتكَ) إلى جانب ( مصائبهم) ؟
بل أنت المُعاق، وأنت المسكين !! "

أخذ السيد تاكاهاشي جرعة من الماء وتابع قصته :
ــ زلزلني الكتاب، وأحْدَثَ صدْعاً في قلبي الغضّ المنغلِق على حزني، فاندفعتْ موجات عاطفية قوية أدّتْ إلى إزاحة التشنّج والقلق والتوتر .. وكان أن أعْلنتُ الثورة على ضعفي، وعدم الاستسلام لرغبة إيذاء نفسي.

في اليوم التالي مباشرة، توجهتُ إلى مدرّب فريق كرة السلة، وصارحتُه برغبتي العارمة في المشاركة مع الفريق، وأن خجلي من عاهتي، وشعوري أني لن أنفع في المباريات، مَنَعاني من الإقدام على هذه الخطوة.
لم يخذلني المدرب، وبحنان الأب أخذني من يدي وأوقفني على مقربة من السلة، وبدأ يعلّمني تكنيك رمي الكرة من وضْعية الوقوف بثبات . فملكتْه الدهشة وهو يراني أسدّد بدقة ومهارة اكتسبْتهما من أيام مدرستي الابتدائية . قال لي عبارة واحدة تسْتنهضُ الأخضر في أرض بور : ( اكتشافكَ ثمين ) !
إلى مدربي العظيم هذا يعود الفضل الأكبر في تحرّري من عقدتي النفسية . وبدأت أنهض من كبْوتي الدراسية أيضاً، وحققت تقدّماً في الامتحانات بعثَ السؤال في العيون الذاهِلة !

أصارحكم أني في البداية، لم أتخلّص تماماً من الشكوى، فالإنسان لديه شعور غريزيّ باسْتجلاب العطف والرثاء لمصابه، لا سيما عندما يبدأ بالمقارنة بين ما هو عليه وما عليه الآخر، لكن ضجيج الألم والوجع الذي رأيته في كتاب الحروب العالمية، كان يذكّرني دوماً أني بخير، ويُغرِق صوت الشكوى في داخلي، فكففتُ عن مَيلي لاعتبار نفسي ضحية القدر الأحمق، الذي خصّني بهذه البلية من دون الآخرين.

بدأ البِشْر يلوح على قسمات وجه السيد تاكاهاشي، فأعْدى هيكارو الذي كان يستمع إلى أحداث القصة بشغف، وابتسامة طفولية على وجهه .
تابع تاكاهاشي  كلامه :
ــ تفرّغت لتمارين كرة السلة . أخذتُ أطيلها متقصِّداً وأنا ألاحظ عيون حبيبتي تشجّعني من قاعة الرسم، حتى وصل بي الأمر إلى أني أصبحت أجيد التسديد بتفوّق من مسافات بعيدة.
قال هيكارو بلهْوجة :
ــ ع ع عمّي عمّي .. ه ه هل أحببتما بببب بعضكما أخيراً ؟
ــ هزّ تاكاهاشي رأسه بشيء من الانفعال وقال :
ــ أنا لا أحكي لكم مجرد قصة للتسلية، إنها انعطاف هام في مجرى حياتي . اسمعْ يا هيكارو كونْ.
كانت أعظم خدمة سدّدها لي مدربي المربّي القدير، أنه قرر إشراكي في مباراة حاسمة ضد فريق ( يوكوهاما ) القوي، بعدها، لن يبقى لنا سوى خطوتان للوصول إلى كأس المدارس الإعدادية.
ــ ه ه هل ربحتم ال ممم مباراة عمي ؟
ــ قلتُ اسمعْني . من صفات المذيع أن يستمع كثيراً قبل أن يسأل السؤال المهم . هيا اسمعْ جيداً لعلك تتحدّث عني في المستقبل عندما يتحقق حلمك وتصبح مذيعاً.
ــ ححح حسناً .. سأسألك سسس سؤالاً مهمّاً عمي، ه ه هل يعني أ أ أنك لم تشترك ف في المباريات السابقة قق قبل يوكوهاما ؟
ــ سؤالك ممتاز يا هيكارو كونْ، إليك درسٌ آخر تلقّيتُه من والدي العظيم، قبل أن أحكي لكم وقائع مباراة يوكوهاما.
يتبع.

 موسم الساكورا Sakura في اليابان.
http://www.panet.co.il/article/280090
 الأسماء الواردة في النص، جاء ذكرها في المقال الماضي . الرجاء التفضل بقراءة ما سبق لربط الأحداث. وشكراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا