الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراقي والعمالة

محمد لفته محل

2017 / 1 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فتحت عيني على الدنيا ووجدت أبي يمتهن فن البناء (خلفه) أو (اسطه) بالعامية، وبدأ يأخذني وأنا في العقد الأول من عمري معه للعمل (عمّاله) بالعراقي تشير لكل عمل بناء، حتى يعلمني أسرار المهنة، وخلال ممارستي ومعايشتي لهذه المهنة لعقد ونصف تقريبا استطيع الحديث عن هذه التجربة وما تعنيه للعراقي العامل، وكلامي سيكون منصب على البناء فقط.
يبدأ وقت العمال للذهاب لل(مسطر: مكان عام امام مقهى او محلات يتواجد فيه العمال ينتقي منه الخلفات والمقاولون وارباب البيوت العمال) بعد صلاة الفجر حيث توجد مطاعم بسيطه خاصة للعمال تقدم الشوربة والكبة والبيض والفلافل والشاي، يتقسم العمال بالمسطر إلى المختصين بالهدم ويسمون (مرّاره) توضع المطارق الكبيرة أمامهم، والمختصين بتصعيد الطابوق والرمل والحصى الذي يتفقون مع صاحب العمل على ال(ﮔباله) أي ينتهي وقتهم بانجاز العمل المتفق عليه (تصعيد مواد، حفر، تنظيف الخ) وليس بوقت العمل الرسمي (من7ص إلى 3م)، والمختصين بالحفر والتعبئة يسمون (كراكة=جمع "كرك" أي مسحاة) وهم كبار سن يلبسون الجاكيت والدشداشة (جلباب) حتى في الصيف ويعتمرون ال(غتره=كوفية بيضاء) وبأيدهم مسحاة فقط، وهناك أسطوات (بورﮒ والجص=الجبس) وال(كاشي=موزائيك) وال(فرفوري=السيراميك) الخ يضعون أمامهم حقيبة أدوات العمل المصنوعة غالبا من أكياس الطحين. ومهنة العمالة هي قِبلة كل الفقراء لأنها متاحة للجميع ولا تحتاج في بعض تفاصيلها إلى خبرة، فقط جهد عضلي مثل نقل الاسمنت أو الطابوق، والمسطر ترى فيه من أبناء المحافظات الذين يباتون بالفندق للمجيء صباحا كل يوم، وهم مستعدون للخروج بأجر اقل من عمال بغداد وهذا ما يخلق بين الاثنين ضغينة.
يأتي الأسطوات وأصحاب البيوت ليختاروا العمال ويسالون العامل (ﮔاعد؟) أي هل أنت بلا عمل؟ فإذا أجاب بالإيجاب قالوا له (تطلع؟) وإذا كان لديه عمل قال:(طالع)، ويبدأ وقت العمل عادة الساعة السابعة صباحا بعد أن يبدل العمال ملابسهم وزيهم المفضل هو السروال الكردي كونه عريض من الاسفل ذو جيوب أو لبس بنطال عسكري؛ والحذاء المفضل هو (البوتين=حذاء رياضي) أو البسطال غالباً أو النعال البلاستيكي، ثم يقوموا بتحضير ال(خبطة) وهي مزج الرمل بالاسمنت بمقدار عربتان رمل لكيس سمنت واحد ثم قلبها بالمسحاة مرة أو مرتين وسكب الماء في حوضها. يتقسم العمال في البناء إلى (خبّاط) وهو من يحضّر الاسمنت، و(طوّاس) وهو من ينقل الاسمنت بوعاء حديدي (طاسه) للأسطة، ومن ينقل الطابوق (يبور) بالعامية، و(مناوﺸﭽﻲ) وهو من يناوش الطابوقة للاسطة بيده أو يقفذها (بطريقة فنية بحيث لا تدور بالهواء وتأتي مستقيمة وبالعرض) باتجاه يده إذا كان عالياً، وال(ناشور) وهو من يأخذ الطاسه ويسكب الاسمنت على الطابوق ويصقله باستقامة وارتفاع تتناسب مع مستوى الخيط الذي يضبط عدالة البناء. وبيده أداة الصقل (ﭽﻤﭽﺔ)، و(الناشور) له مكانة خاصة عند (الخلفة) فهو يده اليمنى ينصب له (السكلة=السقالة) و يربط له الخيط على طرفي الحائط بلفه على طابوقة موجودة على الطرفين (يدسر)، اما (الساف) فهو الطابوقات المرصوفة بالاسمنت بالطول او بالعرض فوق بعضها وجمعها (سُوف) ويجب ان لا تكون طابوقة فوق طابوقة مباشرة لانها ستكون (حَل) ويجب ان تكون (حل وشد) الذي يضمن تماسك الحائط وعدم سقوطه، لان النبي (ابراهيم) كما يعتقد الاسطوات انه مكتشف هذه الطريقة بالبناء بملاحظته تصميم النخلة. والناشور أجره أعلى من العمال لهذا السبب. وكونه المؤهل أن يكون أسطة بالمستقبل. أما (الخلفه) فبيده فأس وفي جيبه (شاهول=شاقول) وخيط ويلبس الكف البلاستيكي والطاقية أو (الغترة)، والكف وظيفته تحمي يد الأسطه و(الناشور) من خطر تفاعل الاسمنت على اليد الذي يسبب تشقق الجلد (ﯦﻧﮕد)، ويجب أن يكون غليظ وسريع العصبية ويصرخ إذا رأى تهاون بالعمل وأجره أربعة أضعاف العامل، غالبا ما يختار العمال التي يعرفهم على مرامه. وقت الغداء يكون من الساعة 12م حتى 2م. والغداء أما يكون على صاحب الدار وهو قليل الحدوث أو يجلب العامل غدائه معه وغالبا ما يكون بطاطا مسلوقة وطماطا وخبز وتمر أو يذهب للمطعم يأكل فلافل أو تمن. يفرش بعض العمال أكياس الاسمنت الفارغة كفراش ينامون عليها بعد الغداء وتحت رأسهم طابوقة تحت الكيس كمخده! وتسمى (استراحة الغده) وقت انتهاء العمل يسمى (حله=أي حل العمل) أو (انبند=استراحة او انهاء عمل) يغسل العمال أدوات العمل بالماء ويغسل العمال أيديهم بالرمل والماء إذا لم يوجد صابون ثم يبدلون ملابسهم. يكره كثير من العمال المقاولون لأنهم الأكثر ظلما لهم، والعمال حين يكره احد يتهاون بعمله ويسمى (يسخّت) أو يقوم بدفن الاسمنت الفائض في حفرة من الرمل أو يؤدي الاسطه عمله بدون مهارة (اشربت) بالعامية.
العامل يعزي نفسه عن دونية مهنته بأنها اشرف مهنة تأتي من عرق الجبين لان اليد الغليظة مباركة من الرسول، بينما الموظفين يأخذون أجرهم وهم على أجهزة التبريد دون تعب أي أن خبزتهم ليست حلال مثل العامل كما يقولون! ويحس العامل بأنه طبقة دنيا مغبونة ويعبر عن ذلك (احنا اﻟﻤﮕرودين، احنا الفقره النا الله). ومهنة العماله محتقرة من الطبقات الغنية كونها مشابه لمهنة الخدم، اما الطبقات المسحوقة والفقيرة فتعتبرها افضل من الاستجداء، ولان العمل من علامات الرجل الناجح ما دام فيه حفظ للكرامة من الاستجداء.
من مآسي العمالة أنها مهنة لا يوجد فيها ضمان صحي فلا توجد نقابات عمالية مدنية أو رسمية للعامل سوى مرؤة رب العمل أو رب الدار في أن يدفع علاج العامل المتضرر، خصوصا إن العمل يعرض العامل للسقوط (من السقالة، أو من الطابق الثاني أو السقوط عثرة على شظايا البناء الخ) أو سقوط الأشياء على رأسه كالطابوق أو الحديد أو إصابة الظهر بانزلاق الفقرة أو التهاب الكلية من الرمل الذي يشربه مع الماء، يساعد في ذلك إن العمال لا يرتدون خوذ السلامة أو نظارة العين ويسخرون منها! بسبب ثقافة القدر (خليها على الله) السلبية، مع أن من المعروف أن الحذر يغلب القدر. ولهذا لهم وسائل بدائية علاجية خاصة بهم، فمثلا اذا تعرض عامل لجرح بيده يغط اصبعه بالجص ليوقف الدم، ويستخدمون الرمل كمنظف بديل للصابون، ويكتفون بلبس القبعة بالصيف (طاكية أو كاسكيته) وتبليلها مع التحذير من تبليل الشعر لانه يؤدي الى ألم الرأس، لبس الحزام (النطاق العسكري) لعلاج آلم الظهر التي يعانون منها بالعمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بمشاركة بلينكن..محادثات عربية -غربية حول غزة في الرياض


.. لبنان - إسرائيل: تصعيد بلا حدود؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أوروبا: لماذا ينزل ماكرون إلى الحلبة من جديد؟ • فرانس 24 / F


.. شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف




.. البحر الأحمر يشتعل مجدداً.. فهل يضرب الحوثيون قاعدة أميركا ف