الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمر المداح

إبراهيم مشارة

2017 / 1 / 19
الادب والفن


عرفنا عمر المداح في سوق زمورة يوم السبت كان رجلا مكتنزا، أسمر اللون معتدل القامة لف رأسه بشاش أصفر وارتدى معطفا طويلا حليبي اللون أما إذا اشتد البرد لف جسمه في برنوس الوبر البني لا يفارقه بنديره وكان حينها يقترب من الأربعين كان الكبار يتهافتون على حلقته وكنا نحن الصغار ننسل خلسة بين الجموع المتحلقة حوله حتى إذا انتبه أحد الكبار إلينا انتهر أحدنا قائلا:امش تقرا روح للكوليج !
لكن الواحد منا يتخابث في المسير ثم يعود خلسة إلى الحلقة ، منبهرا بأداء عمر سائلا الله أن لا ينتبه إليه أحدهم فيطرده كرة أخرى.
كان عمر يتوسط الحلقة يبسمل ويحمدل ويصلي على الرسول الكريم ويرحب بالملتفين حوله ثم يخوض في قصة غالبا ما كانت قصة من القصص الديني،أو الشعبي كقصة زليخة ويوسف يحكي بملامح جسمه وبحركات يديه وضربات بنديره المتصاعدة حسب الموقف ثم يتوقف ويترحم على الوالدين ويخوض في موال شعبي صغير ويتوقف في القصة حيث الفضول يشتد والحضور يتطلعون إلى معرفة النهاية وهو هنا يعرف تماما ما يعرف في القصة بذروة الحدث فيقطع القصة ويدور حول الحضور سائلا كل واحد دينارا حتى يكمل القصة:
ميات فرانك على الوالدين، نكملو القصة .
وهو لا يفرض على أحد ذاك الدينار فكان من الحضور من لا يملكه وكان في الحلقة الصغار ولكنه كان ماهرا في استخراج ذلك الدينار بنظرة عينيه المغناطيسية وكثره صلاته على النبي ودعائه بالرحمة للوالدين، عجيب ذاك الرجل حريص على طقوسه كل سبت قصة جديدة ومقاطع غنائية شجية من الفلكور الشعبي ودعوات وصلوات على النبي الكريم وحلقة كبيرة من كل سن: الشيوخ والكهول والشباب وحتى الصغار الذين يندسون كالضمير المستتر لا يلفظ لكن له محل من الإعراب، وكم كان عمر ماكرا يعرف بالحدس والذكاء الفطري والحاسة الشعبية أي المواضيع تجذب الحضور فكان يخوض في قصص عاطفي وهو يخاطب اللاوعي في كل راشد حيث العقل والقلب انغمسا في هيولى اختلط فيها الحق بالوهم والحقائق العلمية بالأساطير ولن يجد أفضل من قصة يوسف وزليخة التي لا يمل منها أبدا يحكيها بتفاصيل وجهه ونبرات صوته الشجي ويصعد الموقف: اقتربت منه يا حضور شمس تأسر الناظرين ببهائها ، وخاف الفتي على نفسه –لا حياء في الدين - وتتوقف ضرباته على البندير وصلوات ودعوات وطواف على الحضور لتحصيل ثمن العرض
حتى إذا نال مراده عاد إلى القصة وسط إعجاب الحضور: يالله، يا سلام، بارك الله فيك، يرحم والديك!
على أن أجمل موال شعبي كان يبهر الحضور ذاك الذي يقترب فيه من الغزل ولكن بلهجة شعبية وخاصة القصيدة التي يقول فيها ما معناه :
راقب راقب : إنما الدنيا جميلات
هنا يحمر وجه من يرى في الأغنية تجاوزا للخط الأحمر فيتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولكنه يبقى ولا ينصرف ومن تروقه الكلمات فيستزيد منها : يا سلام إيه عمر زيد ،ومن ينفجر ضاحكا وقد دغدغت الأغنية مخياله ونفست عن مكبوته أما نحن الصغار فكنا نسرف في الانكماش والتخفي في ثنايا الحلقة حتى لا ينهرنا أحد فهذا الكلام مما لا يجوز للصغار سماعه :عيب روح تقرا تسمع كلام أكثر منك ،روح للكوليج
شكل عمر في السبعينات القوال والقصاص والمداح في سوق زمورة بلا كلل أو فتور كما شكلت الأسطوانات ثلاث وثلاثين دورة والمذياع والأحاجي في الليل وسيلتنا إلى الترفيه والمرح والثقافة الشعبية ولا زمه في الحضور كل سبت بلقاسم الحسناوي الجزار بسيارته البيجو البيضاء الطويلة صاحب البشرة البيضاء والجسم الممتلئ والناب الذهبي والحيوية المتدفقة وكان يبيع لحم العجل خاصة ومنظره أمام الوضم والسكين أو المنشار بيده لتقطيع اللحم وحيوته المتدفقة مما يفتن الناظر وما أسعد من اشترى كيلو لحم بقري من عند بلقاسم ستكون ليلة شهية بطعم الكسكسي وسهرة حول كانون الجمر وقد شبع البطن فللروح أن تنتشي بالأسمار والأحاجي.
لقيت عمر منذ أيام في البرج تقدم في السن كثيرا لكنه ما زال يحافظ على الصحة ،اكتناز في الجسم وسمرة لا تفارقه وشارب أبيض وشاشه الأصفر الذي لم يفارقه يوما وفوق ذلك يسير في الطريق كأنه شاب في الثلاثين ، تأملت فيه مليتا وراحت بي الذاكرة أربعين سنة إلى الوراء إلى حلقته الشعبية في سوق زمورة كل سبت شأن كل الأسواق في بلداننا العربية تلك الأسواق التي بث فيها الحيوية القصاصون والمداحون والقوالون وكانت وسيلتنا إلى الفرح والنشوة والتسلية.
رحم الله تلك الأيام وأنزل عليها شآبيب الستر والغفران.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81