الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاورما تجعلك أجمل!

علي دريوسي

2017 / 1 / 21
الادب والفن


داهمهما الجوع ذاك اليوم بعد أنْ أنهيا جولتهما في شارع "براغار" الشهير في مدينة درسدن.
ضحك الأول، الطالب الجامعي، الساخر القادم من سهل الغاب، قال بلهجةٍ لا تخلو من قرويةٍ مبالغ فيها: ليس أمامنا سوى أن نأكل صحن "دونر كباب"/"شاورما" عند صديقنا التركي "مهميت".
مازحه الثاني، الطالب القادم من جبال الساحل: ألم تُزهر في بطنك شَجَرَة "الدونر" بعد؟
رد الأول: لا يُزهر "الدونر" على الشَجَر!
الثاني: لعلك تقصد "لا يَنْمُو المَالُ على الشَجَر" كما يقول المثل الألماني!
الأول: و"الشاورما تجعلك أجمل"! كما يقول المثل الألماني أيضاً! ثم تابع: مازلنا طلبة يا صديقي وليس بمقدورنا أن ندفع أكثر من ثمن الوجبة التركية.
أجابه الثاني بطريقة لا تخلو من روح الدعابة والخطاب السياسي: "البارحة باكراً، غداً متأخراً، والساعة هي الآن"، ثم أردف: ألم يحن الوقت لزيارة صديقنا الكردي؟
الأول: من تقصد؟
الثاني: الكردي المُثَقَّف! الكاتب المعروف، أبو الروايات التي كتبها بالألمانية، أبو دواوين الشعر... هل نسيت؟
الأول: نعم، تَذَكَّرته، تعرَّفنا عليه في إحدى اللقاءات التي تنظمها رابطة المغتربين الفقيرة، أليس كذلك؟
الثاني: تماماً، في ذاك المساء لم يكن لديه وقتاً للحديث، تواعدنا معه على قضاء سهرة نقاش مشتركة في بيته الكبير!
الأول: لقد أصبت لُبّ الموضُوع، يقولون أنّه غَنِيّ، فعلاً إنه الوقت المناسب لزيارته، هل لديك رقم تلفونه؟

فتح محفظة جيبه، أخرج منها ورقة مطوية بعناية، قرأ عنها اسم صديقهما المشترك، رقم تلفونه وعنوانه، طلب الرقم، ذكَّره بليلة التَّعَارُفِ، أخبره عن رغبتهما في زيارته، على الطرف الآخر رَحَّبَ الشاعر بهما، أبدى فرحه بقدومهما.
نظرا إلى إحدى اللوحات المُضيئة المنتشرة في أرجاء المدينة، اِقتربا منها، قرأا اسم الشارع حيث يسكن الكردي، عرفا أن المكان في ضاحية مَنسيّة وبعيدة، السفر إليه يتطّلب منهما مهارةَ تحمّلِ المزيد من الجوع والعطش... صعدا إلى أحد قطارات الشوارع التي تربط مركز مدينة درسدن بضواحيها، بطاقتا تسجليهما الجامعي تكفل لكليهما السفر والتجول مجاناً حتى في الضواحي البعيدة للمدينة، ابتسما لبعضهما البعض لهذه المكاسب الصغيرة. في طريقهما إليه، تَبَادَلَا أحاديث كثيرة، كانا في غاية الشوق لرؤيته، عائلته، منزله، أثاثه، مطبخه الكبير الدافئ، مكتبته، كتبه، رواياته، حَمِيمِيَّة غرفة جلوسه، زجاجات نبيذه، طعام العشاء الساخن، تحدَّثَا حتى عن ألعاب أطفاله!

في منطقة نائية، مظلمة ومهجورة إلا من بقايا أذناب الهتلرية، أنزلهما قطار الشارع في المحطةِ الأخيرة، مشيا بحدسهما في الطريق الموصل لمنزله، بعد دقائق من المشي، بعد إضاعة الهدف والعثور عليه من جديد بسؤال وجواب المارة، وصلا إلى نهاية شارعٍ غريب الأطوار، على طرفه ثمة بناية من ثلاثة طوابق، تحيط بها حديقة مهملة، اقتربا أكثر، بدت البناية المظلمة وكأنها غير مسكونة، مثل كتلة "بيتون" أسقطها الله في العتمة، بدت وكأنّ صاحبها قد اشتراها بالمزاد العلني، أو مقابل دولار أو دولارين كونها تخضع لما يُسمّى "حماية مُمْتَلَك ثَقافيّ"، أو لعلها مهجورة غير صالحة للسكن أساساً، لِقِدَمها وأعطابها الكثيرة...

دخلا من باب الحديقة المفتوح، لا أثر لجرسٍ أو ضوءٍ، أشعلا عود ثِقاب، قرأا اسمه الثلاثي مكتوباً بأحرف ألمانية! اِرتفعت أسهمه بنظرهما. هاتفاه، لم يجب!... ضحكا لخيبة أملهما، صاحا بصوتٍ جائعٍ، يا شاعرنا، نحن هنا، وصلنا، فأين أنتَ؟ جلسا على حجرين في الحديقة، أشعلا سيجارتين وراحا يدندنان بصوتٍ عالٍ أغانٍ عشوائية، تشرح همومهما البطنية وتندب حظهما وإضاعتهما للوقت...

الأول هازئاً: لو أنّك سمعت مني لكنا قد أكلنا سندويشة "دونر" وعدنا للبيت من أجل الدراسة...
الثاني: لا تقلق سيأتي الشاعر، لا يمكن لرجلٍ مثله إلّا أن يكون كريماً، لعله ذهب لشراء الضيافة، أراه يعود مُحمَّلاً بعلب الطعام العربي الجاهز وزجاجتي نبيذ أحمر مُرّ، أرى ابتسامة فرح ترتسم على وجهه الجميل، إني اسمع وقع خطاه، ألا تسمع!؟
الأول: إني أسمع صوته في المطبخ، ينادي زوجته لتحضير طاولة العشاء، ألا تسمع ضحكات أطفاله؟ ألا ترى كيف أضاء النور في بنايته!؟
فجأةً، جاءهما صوتٌ خجولٌ من إحدى نوافذ الطابق الثاني المعتمة، صوتٌ يرحب بهما بتخفٍ، ابتسما ابتسامةَ جوعٍ، دون أن يريا إصبعهما أمام وجهيهما! أضاء الشاعر بيل بطارية، دلَّهما على الطريق الواصل إليه، في المدخل وجدا نفسيهما يقفان بين حطامٍ من حجارة وقطع خشب وقضبان حديدية، صعدا بحذر درجاً مهترئاً، وصلا إليه أخيراً، استقبلهما بحفاوةٍ، كانت غرفة الجلوس باردة، لا حياة أو ضوء فيها، فارغة من المرأة والأطفال، كان المطبخ حزيناً، فقيراً، لا رائحة له...

جلسوا على كراسي خفيفة، لم يحصلا حتى على كأس من الشاي الكردي، تحَادثوا عن الضَّيْعَة في الوطَن وعن المدينة في الغُرْبَة...
سألاه كتلميذين وفيّين: ما هو وجه المُفارَقة بينهما؟
أجابَ بعد بُرْهَة تفكير كالأدباء: في الحقيقة كان الفِرَاقُ صعباً للغاية!...
ونحوَ السَّاعةِ التَّاسعةِ نظرا إلى بعضهما، تغامزا، نظرا إلى الساعة، قالا: لقد حان وقت العودة، قبل أن تُغلق مطاعم "الدونر"، شكرَاه على حَفَاوَتِهِ، وَدَّعَاه، نزلا الدرج المكسور، ما أن خرجا من الحديقة المُهْمَلة حتى صَرَخَا بصوتٍ عظيمٍ: "إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنا؟"
*****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في