الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جهتان لصوت واحد. غرفة السماء: ميس خالد العثمان

مقداد مسعود

2017 / 1 / 22
الادب والفن


جهتان لصوت واحد ..
(غرفة السماء) : ميس خالد العثمان

مقداد مسعود


(*)
على مؤثرية الصوت، تشتغل قراءتي المنتجة في (غرفة السماء) للروائية ميس خالد العثمان فهي رواية إطلاق الصوت بشرط تحويله من الشفاهي إلى المسرود ،فالكلام ريح والكتابة وثاق ومن الوثاق ينبجس التوثيق الذي يثبّت الزمن مسطورا ، وتأتي القراءة لتبث حركة ً في الساكن وضمن مخطط الصورة ستكون الحركة من الأسفل إلى الأعلى ، من صفحات الكتاب إلى عين القارىء ومن العين إلى الدماغ وهناك : تستقر وتتحرك حركة ذاتية في مكانها .
(*)
بدرة تكتب نصوصها بالإبرة والخيط والأقمشة ..(كان فستانا مطرزا لا أشك بأنه استغرق جهدا ووقتا ، أعلم أنها من خلاله إنما كانت تعيد لنفسها مافقدته من أيام لن تعود ،فخياطتها كانت ذات طعم ونكهة خاصتين ، بل حوت معان كثيرة هي فقط تعرفها 18)بدرة كتابتها بتوقيت قهرها الإجتماعي ..أمينة تعوّض بالكتابة لكن بعد حين : زمن الأحداث معلن كعنوان فرعي للفصل الأول من الرواية (سنة 1935).. وزمن الكتابة ربما نلملم بعضه من الهدب النصي : (التقديم ) في الأسطر الأخيرة من الصفحة الأولى للتقديم نقرأ الكلام التالي ..(سنوات طويلة جدا مضت على رحيلك الباكر من حياتي، رحيلك الذي هدّه كل ماتبقى من فرح بداخلي وهشم قلبي الزجاجي...ترى ، لماذا أكتب اليوم...؟ ولِم َ أفيض ببوح حملته بداخلي لسنوات طالت ،هل لأنك الوحيد الذي انصف ضعفي ويتمي 11) ثم ستخبرنا الساردة أن الكتابة كانت مغوية بشعرية المكان الأول / المكان الرحِم (الآن ..وبعد مروري إلى جانب بيتنا القديم ،قررت أن أخط لك بيدي كل مالم يقل في مدينة لاتعي معنى الحب والمودة بين اثنين 12) وأن الكتابة هنا وظيفتها مساج الروح (عل ماسأرويه يخفف شيئا من ألمي .) وللكتابة الروائية فاعلية التجسير بين عالمين مختلفين يتكاملان ميتافيزيقيا (بكلماتي ،سأحاول أن أنقل لك ظلا لأيام مضت ، قد تدهشك بأحداثها، وأسطر لك ميتاتنا المتكررة حد الابتذال 12)






(*)
هناك صوت مقبوح/ إشهاري في فضاء مفتوح عام .. هذا الصوت يحاول هتك نصاعة المتخفي :(تلقف المنظر رجل أشعث ، وبنظرة ماكرة رمى سؤاله : انتن من بيت آل حمود...؟15) ومؤثرية هذا القول غير المهذب كالتالي (..عبارته دوت في أذني مخلفة شظايا متناثرة ، دارت الكلمات في رأسي، بماذا يمكن أن أرد على مابصقه ثم مضى ..؟ ) وما سوف تقوله بدرة يكشف انهما في اليوم الأول من دخول السوق وهذا يعني، تدني الوضع الإقتصادي للأسرة : (كيف علم هذا الأعرج بأننا من أسرة بيت حمود ؟! التقطني صوت بدرة المتألم من صدمتي : يبدو ان الخبر شاع يا أمينه !)
(*)
حين تعودان من بيع بضاعتهما في السوق ،وقبل دخولهما البيت ، تقول بدرة لأمينة
(تعالي إلى غرفتي ، انتظرك . 16)...
الصوت هنا عادي ، لكن ماذا وراء الانتظار ؟ حين تدخل أمينة غرفة بدرة سيرى القارىء من خلال ماتسرده عينها (18 )
وحين تقول بدرة لأمينة (هذا لك ..جربيه )
فمؤثرية صوت بدرة ، تجسده هذه العلاماتية المبثوثة من يدي آمنة
(قبضت ُ على الفستان بسعادة أستمرت طويلا..)
لكن حين تقول لها بدرة :(ارتديه حينما تلتقيان ، حتما سيسعد به ، ستبدين كالقمر ..)
في هذه المباغتة / المكاشفة سيكون المؤثر على أمينة كالتالي وستعمد قراءتي إلى تجزئته
(1) على الأرض وقع الفستان
(2) أحسستُ أن كل الزهور التي طرزتها بدرة قد تناثرت
(3) وأن كل الفراشات الملونة قد ماتت جفافا
(4) نظرت ُ بهلع إلى السقف والجدران ..إلى أكوام الملابس غير المنتهية الملقاة في ركن بعيد إلى جانب ماكينة الخياطة ،
(5) مسحت ُ بنظري كل أرجاء الغرفة
(6) أرتجفت كثيرا قبل أن تدعوني بدرة للجلوس على سريرها ، كانت لحظات خاطفة
(7) تخدرت فيها كل حواسي
(8) بيد مرتعشة استليت الفستان المزركش من الأرض
(9) ونظراتي ظلت تائهة معلقة بسواد شعرها
(10) سَحَبت ْ يدي بلطف تحثني لأرتاح على سريرها الزهري
(11) تمدد خوف صامت حولنا
(12) ماكنت ُ أجرؤ على النظر إليها
(13) تساءلت كثيرا : هل أبقى عندها ؟ أم أخرج واقفل الباب وكأن شيئا لم يقل
(14) لم أهتم بالإجابة على أسئلتي قدر محاولتي مداراة خجلي وخوفي
(15) لكن ، هذه المرة كان خوفاً... مختلفا
(16) تحتاج بدرة عادة لشهر كامل للأنتهاء من خياطة فستان ، فهل كانت تقرؤني
لشهر أو يزيد وأنا غافلة ، أحسب أن لاأحد يدري باختلاج حبك بصدري ؟!


(*)
ترى قراءتي المنتجة كل الفقرات السابقة ، هي رد فعل على صوت الجملة الفعلية التي
أطلقتها بدرة (أرتدي ............................ ستبدين كالقمر )
وسوف يتكررصدى صوت بدرة في ذاكرة أمينة ..(عبارتها ظلت تطرق باب الصمت في عقلي لمرات (ارتديه حينما تلتقيان 20)..ثم يحدث تراسل صوتي مرآوي بين بدرة وعلاقة أمينة مع سليمان: ..(تحدثت بدرة عن ماحدث بسعادة من تصف حبه، بنفس الفرح والحبور الذي يبقى يسكنني بعد كل لقاء لي معك ،حتى أنها غابت عن موضوعي لتحدثني لأول مرة عن حبها وزواجها وابنتها 21)
(*)
صمت بدرة في البيت ، يلبد خلفه قلق أمومي ..(بدت لي هادئة ،عاملة ، صامتة تبادلنا الابتسامة متى رميناها بها ، لكنها كانت ساهمة معظم الوقت ، محلقة بأفق ابعد مايكون عن أجوائنا ، قد يكون مرجعه لما تناهى إلى سمعي من همس يدور حول ابنتها التي ترعاها عمتها التي تجاورنا السكن 18)..وصمت بدرة مطلي بإبتسامة إعتذار عن سهومها الدائم ، وهي إبتسامة الراضخ لقدره أكثر مماهي (إبتسامة رضى لاتفارق شفتيها ..! ) وبشهادة أمينة..(صمتها بدا لي نهر من الحزن جعلني أتراجع عن اسئلة وددت كثيرا التعرف على اجاباتها منذ جاءت إلينا بدرة ! /21)
(*)
يبوسة دائما في صوت مبارك ،قيلولته مشروطة بتعطيل حتى همس العائلة
(صوت عمي مبارك يأتينا من بعيد بأوامر يتفنن بإلقائها على زوجته : اريد ان ارتاح ولاأريد أن اسمع همسا ..فهمتي 23) لاتقتصر اليبوسة على صوته ..فقد تسببت يده اليابسة في إخراس لسان زوجته :(..فقدت صوتها لشهرين رعباً بعد أن أوسعها لطما ظنا منه أنها تجاهلت نداءه ذات نهار ! 24).. وهناك صوت يخنقه الدمع ، أعني صوت أمينة، حين تسألها بدرة وهما في الطريق هل سيذهب سلمان أيضا للغوص ، فتخبرنا أمينة (شعرت للمرة الأولى أن حرارة دموعي قد ارتفعت بحيث أحرقت وجنتيّ !ماعرفت كيف أجيبها ، وما انتظرت هي ردا – على سؤال تعرف إجابته 30)
(*)
إجهار التنسيب الخاطىء في مكان عام ، كان له ظلاً واخزا في روح أمينة ..(نداءات ،، المطوّعة فاطمة ،، في ،، الكتّاب ،، ونعتي بأمينة بنت نورة جعلني أسخط على الدنيا بكل كلمات القهر والعتاب تلك مارحمتني ولاكانت تنوي أن تفعل 25)..ولا يتصدى لذلك سوى دفء البوح الناصع ..(يأتيني صوتك الذي أعشق استحضار كل نبراته / 24) (ألمس الحيرة في صوتك حين تسائلني ( أولست أمك وأباك وحبيبك !! / 29)
(فأجيبك بابتسامة فرح لايراها سواك ..) ..صمت العاشق وهو محتدم له دوي الإرتطام ..(كنت منفعلا رغم صمتك الذي لم يبدده سوى ريح تسللت من فتحة الباب / 32)..وصوت العاشق يأتي كرها وهو في قمة إشتعال غيرته على معشوقته ) أتاني صوتك خفيضاً من أبعاد سحيقة ...ماالذي حدث في السوق ..؟/ 32) في جيئته المباغتة كان العاشق سلمان قويا من خلال صوته ومجيئه بدون سقاية البيت بالماء ، وهذا ماشخصته بدرة ..(غاضب هو على نفسه وعلى الدنيا كلها..حبّك أنساه الخوف من انفضاح أمركما !حتى أنه جاء دون الماء متحدثا بكل قوته !/ 33)..
(*)
بتوقيت الإعداد لرحلة الغوص على العائلة : يتسيد صمت مغلّون كالحديد ..( جلست بدرة إلى جانبي وألم يتشاطره وجهينا امتد حتى المغرب ،بل حتى استيقظت جدتي نورة التي انضمت إلينا ، بهدوء لم نعهده ...أبدا !/ 34)..بعد صمت الليل ، سيكون الصوت شاحبا في اليوم التالي ..بشهادة آمنة..(لمست بدرة ضيقا بصوتي 36) ولاحظت الشحوب نفسه في صوت بدرة أيضا ..(حينما أدارت حوارا أول ساعات الصباح ، بدا لي مثله في نبرتها التي اكتفت ببضع كلمات ما استطاعت إكمالها كما اعتادت ..) ..للصوت في شحوبه : وظيفة الفعل الإستباقي..كأن العائلة تتنفس / تغص بجثث رجالها الذين سيكون البحر قبرا جماعيا لهم ..هكذا سينقطع البث البشري سيتعطل المسار الأفقي للصوت بين العائلة ، ستلوذ آمنة بغرفتها وتبث مناجاتها عموديا ، لمن كتب َ على نفسه الرحمتين الرحيمية والرحمانية ..(شعرت بحاجة ملحة للقاء ربيّ.. أدعو لك وأتضرع له بحفظك ومن معك ! دعوت كما لم أدع من قبل ...)...كارثة الغوص تنتزع من البيت رجولته (وحيدات في بيت دون رجل واحد 44)..وكذلك تؤجل حركية البيت صوتيا ..لمسافة زمنية لايستهان بها ..( استغربت ذاك السكون الذي بقي يلف البيت مؤججا مشاعر كئيبة .. /45)..وعلى مستوى سلطة الأم الكبيرة أعني الجدة نورة ،ففقد تعطلت لديها تلك اللغة اليبيسة ،واكتفت بصمت عينيها وتغيرت جهوية اللسان : (تعليمات ،،جدتي نورة ،، وتوصياتها كانت قد تراجعت ، حتى كف لسانها عن إعطاء أوامره ،وبقيت عيناها تراقبان دقائق تجهيزنا للطعام وربط الزبيل وتحميل البيض ،فلا نسمع سوى دعائها المتواصل لنا ولأبنائها ولأمة الإسلام ... أجمع ! )..وهناك تشظية الكلام على لسان بدرة ..(كانت كلماتها تنفلت من ذاكرتها بغير ترتيب ، لكنها حتما قالت كل شيء ،كانت تظل تغزل بخيوطها الأحداث الأبرز – محتفظة بباقي التفاصيل لنفسها / 46) وحده المرض سيعطل سوط الكلام عند الجدة ، وبسبب هذا سيزداد حنو بدرة عليها ...(مرضت جدتي نورة حتى افتقدت ُ صراخها وأوامرها الفضة وتعليماتها اليومية لنا، ثم لمست ُ تعاطف بدرة الذي زاد، مداراتها لجدتي فاقت التصورة ..)
(*)
كل ماتناولته صوتيا في رواية (غرفة السماء) يمكن تنضيده بالمستوى البراني للصوت
الذي تتم سيرورته بالتحاور بين شخصين ..وهناك الصوت بمستواه الجواني / المشروط بالإنتباذ العلوي في غرفة أمينة الكائنة في الطابق الثاني ، التي تبث أمينة صوتها لمن إنتقلت أرواحهم للسماء ، والصوت هنا منولوغ ، وإذا كان الصوت إشعاعا فأن الصور التي سيعرضها هي صور الموتى : أبويها وحبيبها سلمان ..
(تجتاحني رغبات متواصلة للحديث مع أمي ..بودي لو نبقى نتعرف على بعضنا بحديث لايقطعه بشر ،يستمر الى مالانهاية ..! وإلا فما معنى أن تعيش ثمانية عشر عاما دون أن تفتح فمك بكلمة مع أمك ؟! 23) أمينة هنا كأنها تقوم بطقوس التعازيم لإستحضار روح أمها ،فهي بمسيس الحاجة إلى التخلص من هذا الفقد المزدوج الشراسة ، أعني موت أبويها ..هي بحاجة إلى الإنوجاد في الوجود من خلال حضورهما العياني وبشهادتها ..(رغما عني اضطررت للتعايش مع أسرة كبيرة تجاوزت حضن الأم وحنان الأب ، حديثهم معي بقى حديث الناس المتعبين من الحياة /23) هذا التشخيص العيادي هو الذي دفعها للإنتباذ إلى الأعلى ، كنوع من التسامي العفوي ، وهو إنتباذ صادر ليس منها، لكنها عرفت كيف تسخره لها ..(لذلك انزويت في عالمي الخاص ، غرفة السطح الخالية إلا من همومي التي ألفظها بحرية وبصوت عال متى أحتجت لذلك ..) غرفة السماء : هي فضاء حرية أمينة في الحلم والكلام وإستحضار العاشق الذاهب كعامل من عمال البحر في سفينة للغوص :
(منذ سافرت ، كنت قد انتقلت إليها ، أنا جيك في بعادك ، أشكو لأمي ولهي وأعاتب أبي على تركي حتى قبل أن يراني ،ضممتك لذات الغرفة بقدستها وعلوها، أظل افرغ حزني بصوت عال علّك تسمعني مع تمايل السفينة المُسكِر ، واشعر أنك أكثر قربا مهما بعدت الأميل بيننا 44)
(كنت أقوم بعينيين متورمتين إثر الأرق ، ينتشلني صوُتك من فراشي الذي تحول جمرا منذ غادرتني ..أسحب نفسي لغرفتي المقدسة ،وأظل معك / طيفك نسترجع حبنا ، حاملة تردد نبراتك في إذني ، وأفرغ معها كل مايجعل النوم يستعصي علي ، وأهدر بكاءً حين أذكر ليل وداعنا 47)..
(شهور أخرى مرّت ..كنت حين أفتقدك أهرع إلى،،غرفتنا ،، وحين أرغب في الحديث معك ، كنت أهدر منتحبة ومناجاتي الهامسة لك كانت تتحول صراخا يصم روحي المتلفة بفقدك 74)
(كنت أشكو إليك في ،،غرفتنا ،،.. وكنت بعيدا وقريبا في آن واحد..والمطر لايأخذ اذنا قبل الهطول ..كان ينهمر بشراسة ..كنت أعلم بعلاقتك الغريبة بالمطر ..قلت لي يوما ، ان ساعة مولدك كانت ماطرة ، هطل يومها غزيرا وماتوقف حتى أخذ أمك معه 87)..
(أتدري كم أشتاق صوتك ؟
أين تذهب الأصوات بعد رحيل أصحابها ؟ وفي أي سماء تحلق ؟ من شدة جزعي ..رسمتك على الحائط بنظري ، توحدت معك حد الخشوع ، وأجزم أنك شعرته ، لاأدري كم من الوقت مضينا سويا، حتى اشتممت رائحتك بأنفي ، تزايدت حتى دخلت خلايا الجسد ..!/ 90)
(وبقيت أنا بسنواتي المتلاحقة أجدد لك عهدي ..
كلما أرتفعت أرواحنا لتطرق باب غرفة السماء معلنة الاشتياق ، فنسمو عن ترهات كل أولئك المعادين للحب والمودة 93)..
*ميس خالد العثمان /غرفة السماء / المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت /ط1/ 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع