الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصداقية والإبهار في فيلم مواقع مقدسة: البتراء

عدنان حسين أحمد

2017 / 1 / 23
الادب والفن


تُشكِّل شحّة المصادر التاريخية تحديًا كبيرًا أمام إنجاز أي فيلم وثائقي عن الأنباط الذين لم يتركوا وثائق أو مدوّنات تاريخية كثيرة كما يدّعي المؤرخون العرب والأجانب لكنهم تناسوا أن ما تيسّر من شواهد، وكتابات تاريخية، ونقوش قديمة تعود لسبب أساسي واحد مفاده أن ما أُكتشِف لحد الآن من آثار مدينة البتراء لا يتجاوز 15% من مجموعة المواقع الأثرية فيها، وأن 85% ما يزال مطمورًا تحت الأرض. وهذا يعني ببساطة شديدة أن ما أُكتشف منها لا يتعدى الجزء الناتئ من جبل الجليد آخذين بنظر الاعتبار أن المملكة الأردنية الهاشمية وغالبية البلدان العربية لم تنقِّب في آثارها بشكلٍ جدي حتى الوقت الراهن فلا غرابة أن يشعر الباحثون، والدارسون، والمؤرخون، ومخرجو الأفلام الوثائقية بشحّة المعلومات والأدلة التاريخية عن المدن النبطية وغيرها من الحواضر العربية التي تتلهف حتى اللحظة إلى معاول المنقِّبين المرهفة كي تُعيدها إلى الحياة من جديد.
وعلى الرغم من شحّة المعلومات، وقلّة المصادر التاريخية لجأ المُخرج إريك مايرز إلى سبع شخصيات أركيولوجية وعلمية وأكاديمية من بينها الآثارية خيرية عمر، والكاتبة جين تايلور، والدكتور غلين كوربيت، والبروفيسورة حنّا كوتِن وآخرين سنأتي عليهم لاحقا. إن ما يميز هذه الشخصيات العلمية والثقافية أنها غير يقينيّة وتترك دائمًا خطوطًا للرجعة، وتعوّل على الاكتشافات الجديدة التي قد تقلب بعض المعادلات، وتغيّر الكثير من الآراء السابقة.
وبغية تقديم فيلم وثائقي رصين يحترم عقل المتلقي، ويستجيب لذائقته الفنية لابد من الاستعانة بشخصيات علمية وثقافية تتحدث بأسلوب منطقي قادر على إقناع المُشاهدين ولا بأس من مفاجأتهم وإدهاشهم إذا كان الأمر ممكنا. وحقيقة الأمر أن هناك العديد من الثيمات التي تقع في دائرة الصدمة والإدهاش سنأتي عليها في سياقها العام الذي لا يخدش حياء المتلقي وإنما يعلن عن حقائق كانت موجودة قبل أكثر من ألفي سنة ويزيد.
لا تنجح اللقطات أو المَشاهد التمهيدية لبعض الأفلام على اختصار ثيماتها الأساسية وهذا ما حدث في فيلم "مواقع مقدسة: البتراء"، وكما يتضح من العنوان فإنه يشير إلى "البتراء" بينما تدور أحداث الفيلم أيضًا في مدينة أخرى وهي Hegra أو "مدائن صالح". وفي السياق ذاته فإن الآثارية خيرية عمر أشارت إلى منزلة النساء الرفيعة في المجتمع النبطي، بينما أكدت الكاتبة جين تايلور على حق المرأة للتملك بطريقة مساوية تمامًا للرجل. وفي التمهيد أيضًا ثمة إشارة إلى أنّ العالم القديم كله تقريبًا كان يُقاد من قِبل الرجال بينما كانت النساء مسيطرات في المجتمع النبطي ويتبوأنَ أرفع المناصب القيادية فيه. وعلى الرغم من أهمية المرأة في هذا الفيلم الوثائقي إلاّ أن ثيماته تمتد أبعد من حدود المرأة ودورها في المجتمع النبطي مثل التجارة، والصناعة، والحروب، والطقوس الدينية، والبناء، والنحت، والثقافة التدوينية وما إلى ذلك.
يركز المخرج في مشهده الافتتاحي على التجارة فنسمع التعليق الصوتي يقول بأن صحراء "وادي عربة" في الأردن قبل ميلاد السيد المسيح وبعده كانت ممرًا للقوافل والتجّار الذين يقطعون هذه البريّة ليوصلوا بضائعهم الثمينة إلى أفريقيا والشرق الأقصى والبحر المتوسط. أما البضائع التي يتاجرون بها فتقتصر على البخور والتوابل والعطور واللبان والمرّ myrrh ولعل مشهد القافلة وهي تسير بجِمالها المزيّنة والمُحمّلة بالضائع هي من المَشاهد الجميلة التي تخلب الألباب وتدفع المتلقي لأن يفكر في مصائر هؤلاء التجّار وما ينتظرونه من مفاجآت وهم يعبرون هذه البيداء المحفوفة بالمخاطر.
تؤكد الكاتبة جين تايلور بأن النبطيين أقوام بدوية تبحث دائمًا عن مصادر المياه التي يعرفون أسرارها أكثر من غيرهم لذلك فهم يقطعون الصحارى بأسرع وقت ممكن، ومنْ يدخِّر الوقت يدخِّر النقود، لذلك أصحبوا أثرياء جدًا، فطوروا مدنهم وحواضرهم واستقروا فيها.
يكشف هذا الفيلم أن قصته السينمائية متقنة، وأنها تقود المُشاهد إلى الثيمة الرئيسة التي تتمحور حول مدينة البتراء التي هي أقرب إلى الخرافة منها إلى الواقع الملموس. فلم يقم النبطيون ببناء المدينة الوردية وإنما نحتّوها في أعماق الجبال الصخرية بمنازلها ومعابدها وقبورها وأقنيتها المائية المدهشة وكأنها تُحف فنية أُريد لها الخلود أبد الدهر. لعل الشيء اللافت للنظر في البتراء أن عملية الحفر والنحت قد بدأت من الأعلى للأسفل وأن وضع اللمسات الأخيرة على أي مبنى قد يستغرق وقتًا طويلاً نسبيًا يتناغم مع الأوضاع الاقتصادية للمواطنين النبطيين في عهد الملك الحارث الرابع (9 ق ب – 41 م) حيث ازدهرت المملكة، وتوسعت حدودها، وانتصر جيشها في كل المعارك التي خاضها ضد الممالك الأخرى. بلغ عدد سكّان البتراء في تلك الحقبة المزدهرة نحو ثلاثين ألف مواطن وهو رقم كبير إذا ما قيس بعدد سكّان روما الذي بلغ المليون آنذاك. وقد بني فيها مسرح كبير يتسع لثلاثة آلاف مواطن، كما حفرت القنوات والسدود لتنظيم عمليات الري التي حولت البتراء من أرض قاحلة جرداء إلى واحة خضراء، ولم يفرط سكّانها بالمياه النادرة التي تأتي من ينابيع الجبال المحيطة بها أو من الأمطار التي تتساقط على المدينة في فصل الشتاء.
ركزّ المخرج على العُزى من بين الثالوث الأنثوي الوثني الذي جاء على وفق التسلسل الآتي "اللات والعُزى ومناة" واسمها مشتق من العزة وهي معروفة بالشدة والانتقام لمن يناصبها العداء. وعلى الرغم من وجود عدة تماثيل لها إلاّ أن المخرج اختار أجمل منحوتة لها نُفذت بطريقة النحت البارز "الريليف" الذي أظهر معالم وجهها الخارجية بطريقة فنية جميلة فالمعروف أن النحات النبطي كانت يكتفي بنحت العينين والأنف وربما يترك لمخيلة المتلقي أن تُكمل الأعضاء المغيّبة للآلهة. كما منحنا المخرج فرصة لمشاهدة بعض الطقوس الدينية للنبطيين الذين يقدمون الهدايا والنذور لإلهة الخصب والمطر، وهي تقابل إيزيس في المثيولوجيا المصرية، وأفروديت في الأساطير اليونانية.
توقف المخرج عند "الخَزنة" وهي أهم وأشهر معالم المدينة، وقد اختلف الباحثون والمؤرخون في الغرض الأساسي لإنشاء هذا المبنى. وقد اعتقد البدو المحليون أن هذه البناية تحتوي على جرة فيها كنز كبير لذلك أطلقوا عليها النار غير مرة لكنهم لم يعثروا إلا على ضريح قد يعود إلى الملك النبطي الحارث الرابع.
تتمتع المرأة النبطية بحقوق كبيرة تتجاوز حقوق الرجل ولتأكيد ذلك عاد بنا المخرج إلى عام 1961 حينما عثرت البروفيسورة حنا كوتِن على وثيقة في جنوب إسرائيل تعود لامرأة نبطية ثرية تُدعى "أبيضان" عاشت في القرن الأول الميلادي، وكانت تجيد القراءة والكتابة، وقد باعت في هذه الوثيقة بستانًا وهذا يؤكد بالدليل الدامغ أن النساء كنّ يتمتعن بحق التملك أيضًا، إضافة إلى منزلتهن الرفيعة في الإدارة والحكم بسبب انهماك الرجال في التجارة أو الزراعة أو مقارعة الأعداء.

مدائن صالح
تعتبر هيغرا أو "مدائن صالح" ثاني حاضرة نبطية كبيرة وتقع جنوب البتراء بنحو 500كم وتضم 153 واجهة صخرية منحوتة الجبال الصخرية. ويُعزى سبب نشوئها إلى وقوعها على طريق البخور التجاري من جهة ووفرة المياه من جهة أخرى إذ تزدان هذه المدينة بـ 130 بئرًاغزيرة المياه. كانت مدائن صالح مزدهرة خلال القرن الأول الميلادي ولا يجد المواطن النبطي صعوبة في حفر القبور والمدافن الخاصة بموتاهم، وأكثر من ذلك فقد كانوا ينحتون الوحوش على هذه الأضرحة لاعتقادهم بأنها تطرد الأرواح الشرّيرة. كما تتمتع النساء بنفس حقوق الرجل وأكثر قليلاً إذ أنّ ثلثي مساحة القبور للنساء والثلث الآخر للرجال. وعلى الرغم من عدم شيوع الاستعباد إلاّ أن النساء النبطيات لديهن خادمات يقمن بالواجبات المنزلية الأمر الذي يعكس ترف المرأة النبطية ورفاهيتها الاقتصادية.
كان زواج بين الأشقاء شائعًا في تلك الحقبة فقد تزوج الملك آريتاس الرابع من شقيقته الملكة شاقيلات، كما تزوجت كليو باترا من شقيقيها تباعا. وكانت المرأة النبطية تتمتع بالحرية في البتراء أكثر من المرأة اليونانية والرومانية.
لم يدم ازدهار المملكة النبطية طويلاً ففي عام 106م شنّ القائد الروماني تراجان حملة عسكرية على البتراء واحتلها من دون مقاومة. وعلى الرغم من هيمنة القيم الرومانية إلا أن التغييرات التي حدث في البتراء لم تكن جذرية فقد شيدت بعض الكنائس لاحقًا لكنهم لم يغيروا معالم المدينة. إن ما غيّر قسمًا كبيرًا من معالم المدينة هي الهزّة الأرضية التي وقعت عام 363م ودمرت البتراء وقسمًا كبيرًا من الإقليم الذي كان يشمل سورية وفلسطين والأردن.
يعتقد مخرج الفيلم أن التغيير الأكبر حدث عند مجيء الإسلام حيث حمل رسوله الكريم راية "لا إله إلاّ الله" فدمرّ كل الأوثان التي كان يعبدها الأنباط وبقية الأقوام العربية المبثوثة في شبه الجزيرة العربية وكانت نهاية اللات والعُزى ومناة وسواها من الأوثان المعروفة.
يتضمن الفيلم قصصًا جانبية كثيرة لعل أبرزها قصة الرحّالة والمؤرخ السويسري يوهان لودفيغ بركهارت الذي أعاد اكتشاف البتراء من جديد عام 1812 وقد تنكّر بشخصية مسلم من الهند يحمل اسم الحاج إبراهيم بن عبدالله وكانت ذريعته هي تقديم أضحية إلى النبي هارون فسمحوا له بدخول البتراء التي اكتشفها من جديد.
اعتمد المخرج إريك مايرز في بناء فيلمه الوثائقي على سبع شخصيات علمية وأكاديمية مثل الدكتور خوان أنتونيو بيلمونتي المتخصص في الفيزياء الفلكية وقد قدّم رؤيته العلمية للعديد من الأبنية وعلاقتها بالجانب الفلكي. كما قدّم البروفيسور جون هيلي، أستاذ الدراسات السامية في جامعة مانتشسر والمتخصص بتاريخ الأنباط آراءه الدقيقة بصدد منزلة المرأة النبطية وحقوقها والنزعة التوثيقية للمجتمع النبطي الذي كان متقدمًا على سائر المجتمعات الأخرى في شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط.
وعلى الرغم من دقة المعلومات التي قدّمها المخرج في هذا الفيلم إلاّ أن القصة السينمائية لم تسلم من بعض الهنات، فالمعروف أن الكثير النقوش الموجودة على المقابر والمدافن والأبنية النبطية كانت مدوّنة باللغة العربية إلاّ أن المخرج لم يُظهر لنا سوى النقوش النبطية ليوحي بأن اللغة العربية لم تكن مستعملة آنذاك.
حاول المخرج أن ينقل لنا صورة عن القبائل البدوية التي تعيش على مقربة من البتراء حيث تعلّم عدد كبير من البدويين اللغات الأجنبية بسبب اختلاطهم بالسيّاح الأجانب وقد أظهر لنا البدوية الشابة منال سالم الفقير من قبيلة "البدول" وهي تتحدث بلغة إنكليزية لا بأس بها والأهم من ذلك أن ذهنية هذه المرأة البدوية الشابة قد تفتحت وهي لا تريد أن تقترن إلاّ برجل يساعدها في الأعمال المنزلية، ويحترم عقليتها المتفتحة وكأنها تريد أن تعود بنا إلى الزمن النبطي الجميل الذي يبجِّل المرأة ويمنحها القِدح المعلّى.
وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن هذا الفيلم كان سلسًا ومنسابًا في سرد قصته التاريخية المتوازنة إلى حد كبير. وعلى الرغم من شحّة المراجع وندرتها إلاّ أن التحليل العلمي والتصورات المنطقية للشخصيات السبع هي التي أمدّت الفيلم بعناصر المصداقية والتألق والإبهار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في