الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيقاع المدينة

شادية الأتاسي

2017 / 1 / 26
سيرة ذاتية


.حتى اليوم أعيش ايقاع المدن التي أحب ، مدن بلدي
في الصباح أقول، لقد بدأت الحياة هناك .. على بعد ثلاثة آلاف الكيلومترات ، ضجة السيارات ،عجقة الناس الذاهبة الى أعمالها ، صراخ أطفال المدارس ، بائع الحليب يطرق باب الجيران ، وبائعو الكسالى ينادون على بضاعتهم بنشاط ، لكن هناك أيضا ، ياسمين مباح يتدلى من على أسيجة البيوت ، وهواء رطب تتنفسه حتى العمق ، وهناك قاسيون يلوح من بعيد ،وهناك الأمكنة والروح وهناك من أحب .
حتى اليوم لم أعرف كيف يبدأ النهار هنا ، ربما حسبت إنه لاإيقاع للصباح هنا ، أو إنه لاصباح هنا ، فطقس الصباح بالنسبة لي حتى اليوم يبدأ من بلدي فقط ، ومن هناك يشرق الصباح على قلبي .
خرجت مبكرة هذا الصباح على غير العادة ..جارتي ماتيلدا الإيطالية ، كانت قد انهت جولتها الصباحية مع كلبها الصغير وعادت ..دائما أسمع الموسيقى في لكنتها المحببة ، سألتني لماذا لاأقتني كلبا ، عندما شاهدت كلبها يهز ذيله لي مرحبا، ردا على دغدغدتي له ،حاولت أن أشرح ل ماتيلدا الإيطالية إن بيتي هناك ، وهناك لايحبون الكلاب ، لاوقت لديهم للحب ، لاوقت لديهم للكلاب أو القطط أو العصافير ، وأنا سأعود الى بيتي وأحبتي ، ومثلهم أنا لن يكون لدي وقت للحب .


سرت صعودا الى بولفار / إشالان / في الطريق العلوي الموازي .. بين مسارب الحدائق الخضراء المتلاصقة .. اتأمل بهدوء ، ايقاع الصباح العجيب في هذه المدينة التي تبدو انها استيقظت للتو .. كانت زخات المطر الندية تتساقط بسكون في شارع /الأكاسيا / الصغير ، فتلمع عناقيدها المتدلية بندى الصباح .. وثمة نسمات منعشة تهب من جهة البحيرة ، فتعطي لهذ الصباح مذاقا خاصا ، وتعطيني إحساسا إن هناك شيئا جميلا يبدأ الآن ، وإن هناك صباحات جميلة تستحق أن تبدأ يومك من أجلها ، وكأنني أكتشف هذا لأول مرة ..

أنا من أسميت هذا الشارع الصغير ، الواصل بين شارعنا و بولفار / إشالان / ، بشارع الأكاسيا ،،ربما لأشجاره الباسقة والرشيقة المتعانقة ،ربما لأكواز العناقيد البيضاء المتدلية من الأغصان .. كنت في كل مرة أقترب منهابرجاء ، عساني أجد فيها رائحة أكاسية بلدي حمص ،وأنا أعلم يقينا إنني قد تركت هذه الرائحة يوما هناك ، بعيدا في الشارع الصغير مع ذكريات طفولتي التي لن تعود أبدا معطرة بنكهة عطر الأكاسيا ، لكن يبدو إن هناك دائما بعض العزاء ، فرائحة النعناع الأخضر الطازجة ، تهف رائحتها كلما تحركت نسمات البحيرة، آتية من البيوتات ،التي تسكنها ، أغلبية من المهاجرين الغرباء ذو ي الوجوه السمراء ،الذين يشربون الشاي في الصباح ، ويضعون فيه ورقات النعناع الخضراء ، ويتسامرون ويتضاحكون بصوت عال من على بلكوناتهم ، المحجوبة ماأمكن بأصص الزهور ، وهم ويسترقون النظر بفضول الى كل عابر للطريق ، فأتوقف قليلا لأتنسم هذه الرائحة الجميلة وماتحمل من ذكريات ، وأبتسم .

من الممكن أن تعبر المدينة كلها صعودا حتى أعلى المدينة ، أو هبوطا حتى مشارف البحيرة ، عبر الأدراج الموجودة في كل مكان، تتوقف لتلتقط أنفاسك قليلا ، أو لتبحث عن أقرب درج حجري أو مصعد كهربائي عمومي ، أو تعبر أي من الجسور الأربعة الضخمة ، الواصلة بين مشارق المدينة و مغاربها ،وقد تتريث اذا كان لديك الوقت ، وترقب من الأعالي ، امتداد المدينةالجميلة ، ببيوتها القرميدية الحمراء ،بين الخضرة اليانعة ، وأزقتها القديمة الملتوية ، وقباب الكنائس المقوسة ، حتى مشارف البحيرة الزرقاء ، الراقدة بسكون في حضن الجبال ، وهذا ماأعطى المدينة التي بنيت ومنذ زمن بعيد على مدرجات الجبال ، وفوق الأنهار التي مايزال بعضها جاريآ حتى اليوم ، تحت الأزقة الضيقة ،،تسمع هدير صوتها أحيانا وأنت تعبرفي الليل البلوكات السمراء ، خاصية مميزة وقد تكون فريدة بين المدن ..

كانت الحياة قد بدأت للتو ، في بولفار / إشالان/ العالي ، الذي هو دائما يموج بالحركة والحياة ..المحلات ومعظمها تعود لجاليات تركية ومغربية وألبانية ، فتحت أبوابها ، مواقف الباصات امتلأت بالمنتظرين ، والشارع الكبير بدأ يضيق بزحمة الصباح المعتادة ، ربما وحده السوبرماركت الكبير يدل على هوية الشارع الكبير ، والعائدون منه ، يجرون عرباتهم المحملة بخضروات الصباح، يعبرون شارع الاكاسيا الصغير ثم يغبن عبر الأدراج الحجرية أو المصاعد الكربائية ، كل الى جهته ..وهم يلهثون ويتبادلون أحاديث الصباح بلكنات غريبة مختلفة ..يبدو أن هذه المدينة التي كانت لسنوات فقط تحاول الحفاظ على خصوصيتها اصبحت تعج بالغرباء المهاجرين من الصوماليين والارتيريين والعرب والالبان ،وهذا ماأحدث شرخآ عميقا وانقسامآ في الرأي ، إن كان على مستوى الشارع أو على مستوى الحكومة ، في رؤيتهم لهذه الهجمة الغير مسبوقة و التي قد تهدد تاريخ مدينتهم العريق .


رغم المطر الخفيف، الا إن القهوة القريبة من مخزن الجادة الكبير، كانت قد بدأت للتو نشاطها ..وجهزت موائدها لاستقبال زبائن الصباح .. على التراسات المطلة على الشارع ، رغم برد الصباح المنعش ،فالطقس يتبدل في اليوم الواحد الى أربعة فصول ، كما يردد الجميع هنا ، ،والناس تتشوق لشمس الظهيرة .. كان قد بقي لموعدي الذي خرجت من أجله بعض الوقت ، دخلت القهوة وطلبت فنجانا من النسكافيه ، وطفقت أرقب ماحولي ، الى جانبي كان هناك طاولة يشغلها رجل وإمرأة من السود .. يدخنان سجائر رخيصة .. ويتجادلان بصوت عال ،ويحدقان في بعضهما بفراغ ، وكان الرجل الاسود يبدو غاضبا، والمرأة امامه تهز راسها بأسى و تردد بانكسار /ان هذا لم يحصل أبدا /ولم يتسنى لي طبعا أن أعرف هذا الذي لم يحصل أبدآ .
أحب ايقاع الحياة في بلدي ، اعشق صباحاتها ومساءاتها ،،لكن يبدو إن للحياة دائما خيارات أخرى،و إيقاعات مختلفة ،قد تكون جميلة إذا أردنا ذلك .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غرقُ مطارِ -دبي- بمياهِ الأمطارِ يتصدرُ الترند • فرانس 24 /


.. واقعة تفوق الخيال.. برازيلية تصطحب جثة عمها المتوفى إلى مصرف




.. حكايات ناجين من -مقبرة المتوسط-


.. نتنياهو يرفض الدعوات الغربية للتهدئة مع إيران.. وواشنطن مستع




.. مصادر يمنية: الحوثيون يستحدثون 20 معسكرا لتجنيد مقاتلين جدد