الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موانع الميراث وفقا لقوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية مانع اختلاف الدين- الجزء الأول

محمد ابداح

2017 / 2 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


موانع الميراث
وفقا لقوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية
مانع اختلاف الدين- الجزء الأول

المقصود باختلاف الدين في الميراث هو كل حالة لا يكون فيها دين المورث ودين الوارث واحدا، سواء تعلق الأمر بميراث بين مسلم وغير مسلم، أو بميراث بين أتباع بقية الديانات، أو مع من لا دين لهم، فقد كان و لازال مانع اختلاف الدين دون سواه من بقية موانع الإرث مثار جدل كبير، وهذا ما سنتناوله في هذا القسم من البحث، فإذا كان أحد طرفي العلاقة الإرثية مسلما و الأخر غير المسلم فهل يرث أي منهما الأخر؟ وبصفة عامة هل يعد اختلاف الدين مانعا من موانع الإرث وفقا لقوانين الأحوال الشخصية العربية؟
حسم الفقه الإسلامي الإجابة بشكل واضح وبسيط وهو نعم، وذلك على أساس التأويل الفقهي للحديث النبوي :"لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" و"لا توارث بين أهل ملتين"، ورغم أنه لم يتعرض أي من صحيحي مسلم أوالبخاري لهذا الحديث في حين وقع إخراجه فقط في سنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجة، إلا أن (القول الراجح) من أئمة وعلماء الفقه الإسلامي ينص على أن اختلاف الدين مانع للميراث، وهذا ما أخذت به تشريعات الأحوال الشخصية في كافة الدول العربية، عير أنه وكما أوضحنا في القسم الأول من هذا البحث، فإنه نتيجة للضغوط الغربية على الدولة العثمانية لتعديل قوانين الأحوال الشخصية، بحجة حماية الطوائف الغير مسلمة، واستمرار تلك الضغوط بشكل أشد تأثيرا بعد فسخ الخلافة العثمانية، ونتيجة للتوجهات العلمانية في بعض الدول العربية كسوريا وتونس ولبنان والمغرب وغيرها، والتي باتت فيها مصادر الفقه الإسلامي شكلية عند سن القوانين، كما في القطاع السياحي وقطاع البنوك والسياسات النقدية، ومؤخرا في نصوص قوانين الأحوال الشخصية، كالتبني وقواعد الميراث في الشريعة الإسلامية.
ويبدو بأن هذا الموقف قد بات يميل إليه شق لا بأس به من الفقه والقضاء في معظم الدول العربية والإسلامية، والذي يرى ضرورة المساواة في المعاملات بين المسلم وغير المسلم سواء كان وارثا أو مورّثا، وخصوصا مع تراجع الدور الريادي لعلماء الفقه الإسلامي - رغم كثرتهم وخصوصا على الفضائيات- في تقديم أي جديد في عصر تتطور فيه القوانين كل يوم، وانحساره في ندوات ومؤتمرات فتاوي حكم التيمم بمسحوق الطبشور، أوالوضوء بماء العصير، وحكم خمار المرأة وتبرجها، كما حدث بمؤتمر الرياض لطلبة الفقه والشريعة والدراسات الإسلامية عام 2016.
يعد الخلاف حول اعتبار اختلاف الدين مانع للإرث هو جدل أقل ما يقال فيه أنه في تجدد مستمر لارتباطه بمسألة حيوية وهي تداول الثروات بين الأجيال، فقد أثير النقاش حول هذا المانع بمناسبة عدة قضايا عرضت على أنظار المحاكم بمختلف درجاتها وتمسك فيها أحد الخصوم بضرورة اعتبار اختلاف الدين من موانع الإرث، وفتح موقف القضاة في تلك القضايا الباب أمام جدل فقهي يتجدد بمناسبة كل حكم أو قرار، فإذا كان أحد طرفي العلاقة الإرثية مسلما والأخر غير المسلم فهل يرث أي منهما الأخر؟. وبصفة عامة هل يمكن اعتبار اختلاف الدين مانعا للإرث في كافة قوانين الأحوال الشخصية العربية ؟
لاريب أن كافة قوانين الأحوال الشخصة تعتبر اختلاف الدين مانعا للإرث، غير أن الخلاف يتم عند تأويل القضاء للنص القانوني في بعض القضايا المنظورة أمام بعض المحاكم الشرعية العربية، ففي القرار التعقيبي المدني التونسي عدد 3384 صادر في 31/1/1966(قرار حورية)، والمنشور في (المجلة القانونية التونسية، لسنة 1968 ص.194)، تتلخص وقائع القضية في أن حورية تزوّجت سنة 1945مواطنا فرنسيا وبعد وفاة أمها سنة 1964 طالبت حورية بميراثها من أمها فنازعها أحد أشقائها في حقها لأنها تجنست بجنسية زوجها وحكم المتجنس بجنسية دولة غير مسلمة هو الردة التي توجب الحرمان من الميراث بالرّجوع إلى التشريع الإسلامي، حيث اعتبر النائب العام ان زواج حورية بغير مسلم يجعلها مرتدة، والردة واختلاف الدين هما من موانع الإرث ولو أن الفصل 88 من قانون الأحوال الشخصية التونسي لم يتعرض لهما صراحة لكن استخدام "من" التبعيضية يدل على أن المشرع لم يلغ الموانع الشرعية الأخرى، لكن محكمة التعقيب لم تجار النيابة العامة في موقفها مؤكدة أن :"تزوج المسلمة بغير مسلم هي من المعاصي العظمى، كما لا جدال أن الشريعة الإسلامية تعتبر الزواج باطلا من أساسه لكن مع ذلك لا تراه ردة إلا إذا ثبت أن الزوجة اعتنقت دين زوجها غير المسلم وهو ما لم يثبت حتى يصح القول بأن حورية مرتدة"، أما وجهة النظر الثانية فقد مثلها دفاع الطاعن الذي اعتبر ان تجنس حورية بالجنسية الفرنسية باختيارها يدل على نبذها البقاء تحت الأحكام الإسلامية ويجعلها مرتدة بالإجماع، وهو موقف جارته محكمة التعقيب من حيث المبدأ لكنه ردته باعتباره دفعا موضوعيا كان يجب التمسك به أمام قضاة الأصل، ويتضح مما سبق أن محكمة التعقيب تعاملت مع مسألة اعتبار الردة من موانع الإرث تطبيقا لأحكام الفصل 88 كأمر مفروغ منه لا يحتاج إلى جهد تأويلي، كما أنها وقعت في خلط خطير بين الجنسية والدين مع أن النيابة العامة في ملاحظاتها بينت أن الدين غير الجنسية، ومع كل ذلك فإن محكمة التعقيب برفضها مطلب التعقيب أصلا تكون قد أبقت على حق حورية في الإرث طبقا لما قضى به قضاة الأصل من أن مجلة الأحوال الشخصية لم تبن قواعد الميراث على اختلاف الأديان، وخلافا لما هو سائد فإن موقف قضاة الأصل في قضية حورية يؤكد قدم وعمق الجدل حول تأويل النص القانوني الخاص باختلاف الدين كمانع للإرث.
وفي القرار التعقيبي المدني عدد صادر في 17/1/2007. (قرار ورثة "جورج") بعد وفاة "جورج آلت تركته إلى إخوته "جان ك. وجان إ. وأونج روجي إ." الذين قاموا بقضية لمطالبة المكتري بأداء معلوم الكراء إلا أن المتدخلتان في القضية وهما ورثة محمد حبيب المتمثلتين في وزوجته وابنته طعنتا بأن هؤلاء الأجانب ليس لهم الحق في المطالبة بالكراء باعتبارهم غير مسلمين لا يمكنهم أن يرثوا من تركة أخيهم المسلم وأنهما هما الوريثتين الشرعيتين لتلك التركة، وبالتالي فإن الكراء يجب أن يؤول إليهما، وهو موقف لم يجاريهما فيه قضاة الأصل. فها هي محكمة الاستئناف تقضي بأن " الفصل 88 من مجلة الأحكام الشخصية التونسية لم يكن صريحا في اختلاف الدين باعتباره مانعا من موانع الإرث". مما دفع بالمتداخلتين إلى الطعن بالتعقيب على أساس" أن هذا التعليل مخالف لمقتضيات الفصل 88 م ا ش وما أراده المشرع من سنه لهذا الفصل الذي وإن تعرض لصورة واحدة من موانع الإرث فإن تلك الصورة لم تكن واحدة حسب مقصد المشرع إذ لم يأت النص بصورة محصورة وإنما بالإشارة إلى التبعيض... وأحال الفقهاء على المصادر التكميلية ويكون من الضروري الرجوع إلى مصادر الفصل وأهمها التشريع الإسلامي وخاصة المذهب المالكي واعتمادا على القاعدة الفقهية المالكية في أنه لا توارث بين ملتين وقول الرسول (ص) لا يرث المسلم الكافر و لا الكافر المسلم فإن اختلاف الديانة يصبح من موانع الإرث". وما كان من محكمة التعقيب إلا أن أيدت موقف الطاعنتين ونقضت القرار المذكور على أساس أنه: " خلافا لما ذهبت إليه محكمة القرار المنتقد فإن اختلاف الدين يشكل مانعا من موانع الإرث فلا توارث بين ملتين حسبما استقر عليه الفقه والقضاء وما يتماشى وأحكام الفصل 88 م.أ.ش. وحيث كان على محكمة القرار المطعون فيه أن تبحث في ضوء ما أثير لديها فيما إذا كان المعقب ضدهم الآن وشقيقهم المتوفى "جورج / جابر س." ينتميان إلى ملة واحدة حتى يصح التوارث بينهما. وحيث أن الحسم في تلك المسألة له تأثير على وجه فصل القضية إذا لو ثبت أن المدعين المعقب ضدهم لا يرثون شقيقهم المذكور فإنهم يكونون غير ذوي صفة في القيام بهذه الدعوى الرامية على طلب قبض معينات كراء المحل الذي كان سوغه شقيقهم في قائم حياته"، ومن الواضح أن محكمة التعقيب في قرارها هذا كانت على درجة عالية من الحسم جعلتها تتجاهل الواقع القانوني، وتعتبر أن إعمال مانع اختلاف الدين في الميراث يتماشى و أحكام الفصل 88 م ا ش دون أدنى تعليل لتتوج بموقفها الحاسم هذا ما جرت عليه في قراراتها السابقة الصادرة في نفس الاتجاه، و لكن عن أي فقه و فقه قضاء مستقرين تتحدث محكمة التعقيب و الكل يعلم مدى الجدل القائم حول هذا الموضوع، فقها و قضاء، وهو جدل يؤكده وجود جملة من القرارات والأحكام التي لا ترى أن اختلاف الدين مانع من موانع الإرث.
إن جوهر الجدل و منطلقه هو تباين الآراء بين الشراح حول مدى إمكانية اعتبار التشريع الإسلامي مصدرا لتأويل أحكام قانون الأحوال الشخصية أم لا، إذ يرى البعض أنه لا يمكن أن يعتبر التشريع الإسلامي مصدرا تفسيريا أوتكميليا للقواعد الناقصة أو الغامضة، في حين يذهب شق أخر من الفقه إلى خلاف ذلك متمسكين بضرورة الرجوع الى الشريعة الإسلامية لتفسير و إتمام نص القانون. ومن هذا الجدل العام تولد جدل فرعي يتعلق بمدى إمكانية العمل باختلاف الدين كمانع للإرث، عند تأويل أحكام قوانين الأحوال الشخصية، بين مؤيد لاعتبار اختلاف الدين مانع من موانع الإرث ومعارض لذلك، فهل يوجد فعلا فراغ أو غموض نص؟
من القواعد الأصولية القانونية أن القاضي يطبق القانون ولا يصنعه، فوظيفة القاضي الأساسية هي إعمال حكم القانون وليس إنشاؤه، ولكن من المتفق عليه أيضا أن تفسير النّصوص القانونية هو من صميم و جوهرعمل القضائي والذي يعمد لتأويل النصوص حتى في صورة وضوحها إذ بالتّأويل وحده نحكم على وضوح النّص من عدمه، وبه نتأكد إن كان ثمة فراغ تشريعي، فغموض النّصّ القانوني هو الحالة التي يوجد فيها نص لكن تحديد مفهومه وضبط معناه يستعصي على القاضي أو رجل القانون عموما سواء من الناحية اللغوية أو الإصطلاحية أو كلاهما معا، أما الفراغ التشريعي فهو الحالة التي يتعذر فيها على القاضي أو رجل القانون بعد أن يبحث في المجلاّت والقوانين النّافذة أن يعثر على حكم ينطبق على الواقعة المعروضة عليه أي أنه حالة سكوت النص، و لا يمكن القول إن غموض القاعدة القانونية يمثل حالة من حالات الفراغ التشريعي، فتأويل القانون لسد ثغراته أو رفع الغموض عنه عمليتان مختلفتان تماما، ففي حالة الغموض يبحث المؤول عن الإرادة الحقيقية للمشرع بعد أن عجزت عبارات النص ومفرداته عن الإعلان عنها صراحة، فالمشرع ضبط لعنصري القاعدة القانونية (الفرض والحكم)، ولكن بأسلوب يستوجب إعمال تقنيات اللغة والاستنتاج المنطقي لجلاء حقيقة مقصده، برفع غموض أو على الأقل التباس مفردات النص، فنقطة الانطلاق بالنسبة إلى المُفسر في حالة غموض النص هو ذات النص الموجود بين يديه، فيبحث عن مدلول عباراته و مفرداته، بإتباع قواعد التأويل اللغوي والقصدي وفق القانون، بينما في حالة غياب النص، فمنطلق البحث هو المحيط القانوني الذي يوجد فيه المفسر، سعيا وراء قاعدة متحدة في العلة مع القاعدة المعروضة عليه للقياس عليها، وإن بقي لديه شك بحث عن قاعدة عامة يستخلص منها الحكم المناسب لمعالجة الفرض الذي غفل عنه المشرع فلم يورد حكم له.
أي أن المفسر في صورة غياب النص يبحث عن الإرادة المفترضة للمشرع، وذلك من خلال طرح السؤال التالي: لو عرض هذا النص على المشرع فما هو الحكم الذي كان سيقرره؟ والجواب من خلال عملية القياس و"إن بقي شك" من خلال اعتماد القواعد العامة للقانون، فأي الأسلوبين سيقع اعتماده عند تأويل النص، فهل هو نص غامض ؟ أم أنه نص ناقص سكت فيه المشرع عن بيان حكم اختلاف الدين في الميراث؟. تجنبا للخوض في الجدل الذي برز من خلال ميل بعض المحاكم إلى التعامل مع المسألة على أنها حالة غياب نص، في حين ذهبت أخرى إلى كونها حالة غموض نص، فإنه لابد من بيان أن النتيجة النهائية لكل الطريقين واحدة، وهو ما سيتبين من خلال تحليل فرضيتي غياب النص وغموضه.
فيما يتعلق بفرضية غياب أو سكوت النص، فقد عالج المشرع هذه الفرضية في كافة قوانين الأحوال الشخصية العربية، وكقاعدة عامة إذا تعذر الحكم بنص صريح من القانون يؤخذ بالقياس فإن بقي شك جرى الحكم على مقتضى القواعد العامة للقانون، فوقا للدستور فإن الترتيب الذي يجب أن يتبعه القاضي لسد الفراغ التشريعي يأتي القياس أولا ثم القواعد العامة للقانون، فالقياس وهو تطبيق قاعدة منصوص عليها تنّظم حالة معيّنة على حالة جديدة لم تضمن صراحة بنصّ قانوني، وذلك عندما تكون علة كل من الحالتين واحدة أي بينهما تماثل، والتماثل ينبغي أن يسّلط على العنصرين الأساسيّن للحالتين- الفضيتين- الخاضعتين للقياس علما بأن القياس له أربعة أركان هي: الواقعة الوارد فيها حكم ثابت و هي الأصل الذي يطلق عليه أسم "المقيس عليه"، ثم الواقعة الجديدة التي ليس لها حكم شرعي و تسمى "المقيس"، و بعد ذلك العلة وهي سبب إقرار الحكم بالنسبة للأصل والتي يجب أن تتوفر في الواقعة الجديدة، و أخيرا الحكم المقرر للأصل والمراد تنزيله على الفرع بطريق القياس، وفيما يتعلق بمانع اختلاف الدين في الميراث فما هو الحكم الذي يمكن القياس عليه؟ يرى المعارضون للعمل بمانع اختلاف الدين انه طالما جازت الوصية مع اختلاف الدين فلماذا لا يجوز الميراث وكلاهما تمليك مضاف إلى ما بعد الموت؟ فهل يمكن قياس الميراث على الوصية فعلا؟ قد يبدو لأول وهلة أن هناك اتحادا ظاهريا في العلة، ولكن الحقيقة أنه ثمة تباين في علة إقرار كل من الميراث والوصية، فالميراث حق مقرر لجملة من الأشخاص مذكورين على سبيل الحصر، ومرتبين ترتيبا تفاضليا حسب جهة ودرجة وقوة القرابة ووفق فلسفة تشريعية آلهية روعي فيها حاجة كل منهم، لهذا فهو يتخذ صفة القاعدة الآمرة التي لا تحتمل التعديل أو التغيير، ولا يكون فيه للناس أي مجال للنقاش، يقول سبحانه في سورة النساء: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا}[130-131] وبذلك يقطع الطريق على أي نقاش في مجال الأسهم في الإِرث، أما الوصية فهي الجزء المتروك لإرادة الإنسان يتصرف فيه تبرعا كما يرغب ولمن يرغب على أن لا تتجاوز الثلث منعا لإضرار بالورثة، وان لا تكون لوارث تجنبا لمحاباة أحدهم على حساب البقية، فعلة الميراث الخلافة الآلية التداولية للثروة دون تدخل إرادة من كان صاحبا للمال، وعلة الوصية الخلافة الإرادية التبرعية من خلال تحديد مقدارها ومستحقها وفق شروط معينة وبإرادة من كان صاحبا للمال، واعتمادا على ما سبق فإباحة الوصية مع اختلاف الدين حكم له علة لا توجد في الميراث مما يحول دون إمكانية القياس، وطالما استحال القياس فلابد من الانتقال إلى الحل الاحتياطي في سد الفراغ وهو القواعد العامة للقانون قطعا لكل شك.
أما فيما يتعلق بالبحث عن القواعد العامة للقانون والتي هي قوام عملية سد الفراغ، لا تتم بالنظر إلى القواعد التي تحكم الحالات المتشابهة فحسب، لكنها تأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات الموجودة في صلب النظام القانوني، وهذا ما يجعل تلك القواعد نابعة من النظام القانوني بأكمله وليست مقتصرة على التشريع فحسب، فالقاضي لا يقتصر في بحثه على مجرد مقارنة بين القواعد القانونية التي تحكم الحالات المشابهة للحالة التي لم يرد فيها نص (القياس)، بل يضيف إليها كل العوامل التي من شأنها توجيه الحكم الذي سيقرره والتي لم يرد حولها نص تشريعي، ومن هذا المنطلق تصبح عملية سد الفراغ بمثابة الرؤية الشاملة للمنظومة القانونية، تأخذ بعين الاعتبار كل الاتجاهات التي تحكم النظام القانوني برمته، ومرد هذا إلى وفرة هذه النصوص وإلى ضرورة تحقيق التناسق داخل المنظومة القانونية باستنباط حلول نابعة منها ومتماشية مع روح التشريع العام الذي ينظم المجتمع ممثلا في ظروفه السياسة والاقتصادية والاجتماعية بل الفكرية، والروحية، أي يمكن استلهامها من فلسفة القانون ذاته وغاياته وأهدافه كمبدأ حريّة التعامل في الأنظمة الرأسماليّة اللّيبراليّة وحريّة ممارسة التجارة وحريّة الإرادة والحرّيات الفرديّة والسيّاسية ومبدأ المساواة إلى غير ذلك، فهي تختزل جملة القيم التي تسعى المنظومة القانونية إلى ترسيخها وحمايتها، فأغلبية القواعد العامة للقانون ليست قواعد مدونة تحت عنوان "قواعد عامة"، بل يقع استقراؤها من مختلف المصادر التي تغذي المنظومة القانونية، وهو ما يتبناه القضاء صراحة حين يستهدي بروح التشريع ومقاصده وأن يتلافى ما قد يظهر من ثغرات في أحكامه عن طريق القياس أو قواعد القانون العمومية، ولهذا فإن اللجوء إلى القواعد العامة لا يعتبر تطبيقا لقاعدة قانونية ناشئة عن مصدر بعينه من مصادر القانون، ولكنه استلهام للأفكار الأساسية الموجودة في جميع أجزاء المنظومة القانونية، فإذا ما رجع القاضي للقواعد العامة، فإن ذلك يكون على سبيل الاسترشاد والاستئناس فحسب، فهو لا يستطيع تطبيق هذه القواعد في حد ذاتها، بل يستطيع في ضوئها استنباط حل للنزاع المعروض عليه، فالمبدأ يحتوي عادة على فكرة موجهة، ومن هنا يمكن القول أن القاضي لا يقوم بتطبيق القاعدة العامة مباشرة، بل هو ينطلق من الفكرة التوجيهة التي تحتويها القاعدة ويصوغ من خلالها قاعدة خاصة يكون فيها كل من النص والحكم متماشيين مع هذه الفكرة الموجهة، وتنقسم القواعد العامة إلى قواعد عامة مدونة ضمن الالتزامات والعقود وقواعد عامة غير مدونة.
غير أنه لا يقترض بالمفسر أن يتوسع في ميدان الاستثناء، فطالما أن الأصل في الأمور الإباحة، فإن أي خروج عن هذا الأصل يجب فهمه في أضيق نطاق دون التوسع فيه احتراما لمقتضيات مبدأ العدالة الذي يحكم جميع فروع القانون فلا يجوز حرمان شخص من حق أو منحه لآخر إلا بموجب نص صريح وواضح لا لبس فيه، وبالتالي فإن سكوت المشرع عن ذكر مانع اختلاف الدين في بعض قوانين الأحوال الشخصية الغربي، كما هو الحال في قانون الأحوال الشخصية التونسي، حيث أن اختلاف الدين هو حالة من حالات الحرمان من حق وهو الميراث، وفقا للشريعة الإسلامية والتي تعتبر المصدر المادي لنصوص قانون الأحوال الشخصية في الدول العربية، فلا يفترض بالقاضي أن يؤول النص باتجاه إقرار هذا المانع، وبعبارة أخرى فإذا دعت الضرورة لتأويل القانون جاز التيسير في شدته ولا يكون التأويل داعيا لزيادة التضييق أبدا.
لقد ضبطت القواعد العامة في القانون الوجهة التي يتوجب على القاضي أن يسلكها عند التأويل سدا لفراغ تشريعي، وهي وجهة التيسيير والابتعاد عن التضييق على الحقوق، وبالتالي لا يجوز للمفسر ان يتشدد في فهم نص من النصوص بما يؤدي الى حرمان شخص من حق أو منحه، بل عليه بذل كل الجهد في اتجاه الليونة والمرونة دونما إفراط ولا تفريط، وبإعمال حكم هذه القاعدة القانونية فإنه لا مجال لتأويل النص المذكور باتجاه الأخذ بمانع اختلاف الدين لما في ذلك من تشدد و تضييق.
وفقا لقاعدة (الممنوع قانونا لسبب معلوم يحال جائزا بزوال السبب)، فإن تلك القاعدة يمكن التمسك بها في مرحلة ثانية من التأويل، فعلى فرض مجاراة النص القانوني- الواجب التطبيق- عند اختلاف الدين في الدعوى كمانع للإرث، فإنه وعملا بأحكام موانع الميراث، فإنه يجب عند تطبيق هذا المانع عدم اعتماد الرأي الفقهي المتشدد القائل بان إسلام الوارث اللاحق لوفاة المورث لا يصلح أساسا للميراث!، وهو رأي عملت به المحاكم الشرعية وفقهاء القضاء الشرعي قبل وبعد العهد العثماني، فطالما أن علة المنع حسب أصحاب هذا الرأي هي الاختلاف في الدين، وهذه العلة أو "السبب" زالت قبل قسمة التركة، فالحق في الميراث قائم، ويتجه بالتالي العمل بالرأي الفقهي المرن الذي يقبل توريث من أسلم قبل قسمة التركة ترغيبا للدخول في الإسلام، ويستخلص من جملة القواعد العامة السابقة أنه لا يمكن تأويل نص قانوني باتجاه تكريس أي مانع للإرث ومنها اختلاف الدين، وهو ما ستؤكده أيضا القواعد العامة الدستورية، والتي هي بدورها مجموعة من القواعد التي لم ترد بصفة صريحة ومباشرة تحت مسمى قواعد عامة للقانون، وإنما تستنتج من مجمل المبادئ التي يقوم عليها النظام القانوني للدولة وبخاصة من خلال الأحكام العامة الواردة في كافة دستاتير الدول العربية.
يُستخلص العمل بمانع اختلاف الدين من خلال أحكام قوانين الأحوال الشخصية وفق مبدأ عام يقضي بأن أي قاعدة تتعارض مع الشريعة الإسلامية هي قاعدة غير دستورية، وأن تأويل النصوص يجب ان يراعى فيه دين الدولة - أي الإسلام - ولكن من الواقع العملي فقد يتم استثناء هذا الإعتبار عند تأويل النصوص رفعا للغموض أو سدا للفراغ التشريعي، بحجة أن الفرق بين دين الدولة (الإسلام) وبين كونها دولة إسلامية، هو أن الأخيرة تستلزم أن تكون كافة قوانينها ضمن المنهج الإسلامي بحيث يعرض كل قانون على مبادئ العدالة الإسلامية فما يطابقها يُقر، وما يخالفها يُلغي، وذلك بخلاف الواقع الساري بمعظم الدول العربية والذي غالبا لا يتقيد بالمعنى الحرفي لتطبيق المنهج الإسلامي، ناهيك عن عدم مراقبة مدى مطابقة أو ملائمة القوانين للدستور، والذي ينص على أن حكم الدستور موجه للمشرع ولا يجوز للقاضي العمل به من تلقاء نفسه، وهو موقف اتخذته المحكام الشرعية رغم ان كافة الدساتير العربية تقر صراحة ان الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع الأساسي للقوانين.
كفلت الدساتيرالعربية حرية المعتقد والتسامح وكافة حقوق الإنسان المنصوص عليها في الإتفاقيات الدولية، ويشمل ذلك كافة المواطنين على كافة معتقداتهم الدينية، وعملا بمقتضيات القواعد العامة الدستورية فإنه لا يمكن للقاضي عند قيامه بعملية التأويل أن يستخلص حكما فيه مس بحرية المعتقد أو ينطوي على حالة لا تسامح بسبب الدين أو الجنس أو السن، وهو ما ذهبت إليه بعض المحاكم الشرعية عند رفضها إقحام مانع اختلاف الدين في بعض أحكامها، ومن الثابت في سجلات السوابق القضائية أن ربط استحقاق الميراث باتباع ديانة معينة قد أثر على حرية المعتقد، فيكون الشخص الطامع بنصيب من الإرث ملزما على تغيير دينه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المشهديّة | المقاومة الإسلامية في لبنان تضرب قوات الاحتلال ف


.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب




.. مأزق العقل العربي الراهن


.. #shorts - 80- Al-baqarah




.. #shorts -72- Al-baqarah