الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة العقل في الإسلام / أبو العلاء نموذجا

إبراهيم مشارة

2017 / 2 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"زنادقة الإسلام ثلاثة :المعري والتوحيدي وابن الراوندي"
قول مأثور

أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أحد أكبر شعراء العربية وأحد المنبوذين من قبل كثير من الناس – خاصتهم وعامتهم- حتى أن النعوت التي ألحقت به من نوع :الملحد، الزنديق، الأعمى تعييرا بعاهته يتميز عن الشعراء العرب بتبحره في العربية وسعة معارفه في الدين والفلسفة وهو من الذين تبنوا أسلوب حياة النباتيين فقد حرم على نفسه اللحوم والبيض والحليب وكل مشتقات الحيوان وكانت حجته أن الإنسان أثر ،محتال يأخذ ما ليس من حقه :
غدوت مريض الدين والعقل فالقني : لتسمع أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما: ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
والغريب هو إخلاص الرجل لمذهبه حتى في أحلك الظروف فقد مرض وأوصى الطبيب له بديك مع حساء فلما قربوه منه لمسه بيده ورفض أكله وقال كأنه يخاطب الديك:"استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد"
يعد المعري من الشعراء الذين كرسوا حياتهم وشعرهم وفكرهم لنقد الواقع وتعريته وهو أحد الذين انتبهوا بذكاء إلى فكرة السلطة قبل فوكو وعراها، كما تعرض لنقد رجال السياسة ورجال الدين معا:
مُلَّ المقام فكم أعاشر أُمة ... أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجراؤها


وقال في نقد رجال الدين:
رويدكَ قد غررت وأنتَ حرّ
بصاحب حيلة يعظ النّساء
يحرّم فيكمُ الصهباءَ صبحا
ويشربُها، على عمد مساءَ
تحسّاها فمن مزجٍ وصِرْف
يَعُلُّ، كأنَما ورد الحساء
يقولُ لكم: غدوتُ بلا كساء
وفي لذّاتِها رهَنَ الكِساء
إذا فعل الفتى ما عنه يَنهى
فمن جهتَين لا جهة أساء

كان المعري لا يني يفكر أن الإسلام ككرة الثلج بدأت صغيرة وانتهت كبيرة فالفقه مثلا ليس في جله إلا فكرا بشريا ألبس رداء القداسة فالبشري تماهى مع الإلهي ومن ثمة جاز الاعتراض عليه ونقده لأنه عمل بشري :

أجاز الشافعي فعال شيء: وقال أبو حنيفة لا يجوز
فضل الشيب والشبان منا: وما اهتدت الفتاة ولا العجوز
بل انتقد الأديان وشنع عليها واعتبرها سبب الفرقة والبغضاء وكأنه ينتقد الإيديولوجيا ويتبنى الدولة المدنية قبل ميلاد الفكرة اقرأ قوله:
في اللاذقية فتنة : مابين احمد والمسيح
هذا بناقوس يدق وذا: بمئذنة يصيح
كل يعزز دينه :يا ليت شعري ما لصحيح؟
أو قوله: عجبت لكسرى وأشياعه : وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يضام: ويظلم حيا ولا ينتصر
وقول اليهود إله يحب :رشاش الدماء وريح القتر
فوا عجبا من مقالاتهم: أيعمى عن الحق كل البشر؟
لقد انحاز المعري إلى لعقل ودافع عن العقلانية إذ دعا إلى إعمال العقل حتى في النصوص بل اعترض عليها :
كَذَبَ الظَنُّ لا إِمامَ سِوى ال
عَقلِ مُشيراً في صُبحِهِ وَالمَساءِ
فَإِذا ما أَطَعتَهُ جَلَبَ ال
رَحمَةَ عِندَ المَسيرِ وَالإِرساءِ
إِنَّما هَذِهِ المَذاهِبُ أَسبا
بٌ لِجَذبِ الدُنيا إِلى الرُؤَساءِ


وقسم الناس إلى فئتين :أصحاب العقول وهم الباحثون عن الحقيقة الذين لا يغريهم الشكل كسلطة الحاكم وسلطة رجل الدين وسلطة الرمز وسلطة الماضي ، وقسم هم العامة أو القطيع والذين يصنعون طواغيتهم بأنفسهم:
إثنان أهل الأرض ذو عقل بلا :دين وآخر دين لا عقل له
وانظر إلى اعتراض الشاعر على النصوص المقدسة:
يد بخمس مئين عسجد وديت: ما بالها قطعت في ربع دينار؟
تناقض ما لنا إلا السكوت عنه: وأن نعوذ بمولانا من النار:
ولقد اعترض جهرا على الخالق:
أنهيت عن قتل النفوس تعمدا: وبعثت أنت لقبضها ملكين!
وزعمت أن لها معادا ثانيا:ما كان أغناها عن الحالين
لقد كان المعري بمقالنا الحديث رجلا تنويريا ميالا إلى المجتمع المدني نصيرا للعقل ، مثالا للرجل المخلص لعقيدته لا يطلب دنيا ولا جاها ومن أجل ذلك الإخلاص قطع رجاءه بمغريات الحياة واكتفى بالنزر اليسير حتى لا تسوقه أطماع النفس إلى خيانة الضمير وقد انتقد رجال الدين الذين لبسوا المسوح وكانوا طلاب دنيا لا طلاب علم ولا آخرة بل أعلن صراحة أن دين الناس هو الرياء:
أرائيك فليغفر لي الله زلتي :بذاك ودين العالمين رياء
وقد يخطئ الإنسان ظن عشيره:وإن راق منه منظر ورواء
إن كثيرا من الأفكار التنويرية والحداثية تجدها عند الشاعر ولا يعوزها إلا المصطلح الحداثي مثل: المجتمع المدني ، العقلانية، النقد الهدام لتوليد المعنى، الإنسانية في مقابل اللاهوتية أو الناسوت كأولوية على اللاهوت ....
والعجيب أن الشاعر صبر على الأذى ولم يستسلم ولم يتب بتعبير فقهاء اليوم عن حالة بعض المفكرين والفنانين الذين يقضون أعمارهم دفاعا عن مذهب ثم ينكصون في أرذل العمر ولن تعدم أمثلة من الوسط الفكري أوالفني ولكن تجد المعري صامدا غير مبدل ولا هياب فالمعري هو المعري شابا وكهلا وشيخا وهو أمر جدير بالاعتبار حين نفكر في المثقفين الذين يهرولون نحو السلطة رياء وطمعا في جاه ومركز، أو المثقفين الذين يخافون من السلطة ويسكتون عن الظلم إيثارا للسلامة غير أن العجيب هو حالة التفتح في المجتمع العربي في القرنين الرابع والخامس الهجريين فالمعري المعترض على النص ، المقدم للعقل على النقل، الناقم على السلطة السياسية والدينية لم ينله سوء فلم تتم تصفيته وغاية ما ناله هجاء وانتقاص- على فداحته- من النوع الذي ذكرناه آنفا فأي ردة أصابت مجتمعنا العربي حين نفكر في حالة فرج فودة ومهدي عامل ،حسين مروة وشكري بلعيد وغيرهم هل المجتمع العربي في القرن الرابع أكثر حداثة من المجتمع العربي في القرن العشرين وهو القرن الذي عاش فيه أولئك الأعلام وتمت تصفيتهم؟
نتساءل حقا ونحن نرى موجة أسلمة العلوم، وأسلمة الأدب وتحريم الفن، وتبديع الديمقراطية ، وتقسيم الناس إلى كفار ومسلمين، والدعوة الحثيثة إلى إحياء الماضي والعيش في أسماله وعدم احترام الحرية الشخصية وإهانة المرأة هل العالم العربي مستعد لنقاش جدي حول المسائل الثلاث المستعصية: الله‘ الجنس ٌ السياسة؟
هل يقبل مرجعية عقلانية إنسانية غير المرجعية الماضوية تلك التي تتأسس على تقديس السلف وتبجيل الماضي عوض تقديس الإنسان واحترام الحق الإنساني في كيفية العيش ونمط التفكير وحرية المعتقد وحرية الجسد بلا وصاية كهنوتية؟
إن الدولة الدينية خطر على الدين ذاته وخطر على الحريات الأساسية وعلى الثقافة والإبداع والفنون إنها تطمح إلى إلغاء الفروق والتباين وتنميط المجتمع في نمط موحد اللباس والتفكير والشعور مهووس بإيديولوجيا الكفاح والتبشير وهو ما أسميه مجتمع علبة السردين: حجم واحد وطعم واحد ورائحة واحدة وهو أمر ضد الدين ذاته الذي يقر باختلاف الناس ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة.
بالتأكيد إن الغرب في منزعه الاستعماري وطموحاته الكولونيالية ورغبته في أسر العرب والمسلمين إلى الأبد لم يجد أفضل من الدين لا ستغلاله ضد الدين الحقيقي أقول هذا وأنا لا أستبعد ضلوع الغرب في إحياء الوهابية، وتكريس الخلاف السني الشيعي مع أن العقل يرفض النقاش في العقائد لأن الإيمان مسألة شعورية وليست عقلية وانظر إلى الأشلاء المتناثرة والدماء المسفوحة والبنيات التحتية المهدمة في العالم العربي تعطيك فكرة عن خطورة الصراع الديني والطائفي والمذهبي
لا حل إلا بدولة مدنية كما حلم بها أبو العلاء فقد كان مفكرا وشاعرا حداثيا كما نقول اليوم ونص على كثير من القضايا المصيرية وبت فيها بعقله وحده.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محنة العقل في الإسلام
مصطفى خروب ( 2017 / 2 / 3 - 22:59 )
تحية استاذ إبراهيم
غريب انك نسيت الكاتب مصطفى جحا صاحب كتاب محنة العقل في الإسلام في حين إقتبست عنوانك من عنوان كتابه وهو قد دفع ايضا حياته ثمنا لما كتب
سلام


2 - جهد تنويري ولكن...
رفيق التلسماني ( 2017 / 2 / 4 - 23:46 )
جهدك في التعريف بهذا الجانب من فكر المعري جهد تنويري حقا. لكنه يبقى انتقائيا. فالمعري له مواقف لا عقلانية مغرقة في الرجعية، منها موقفه السلبي العنصري من المرأة، ومنها شدة تشاؤمه، وتثبيطه للعزائم، ومنها تذبذبه بين الإيمان والإلحاد...
مع ذلك يبقى المعري كبيرا.
لكن المقالة احتوت على بعض المواقف غير العقلانية:
القول بأن: (الدولة الدينية خطر على الدين ذاته) غير صحيح، لأن هذا يعني أن الدين بريء من رجاله وتعاليمه ليست ضد الحريات الأساسية والثقافة والإبداع والفنون وشرعنة الفروق والتباين وتنميط المجتمع في نمط موحد. كما قلت. الدولة الدينية هي دولة الدين، ومن غير المعقول التمييز بين الدين ورجاله.
القول: (بالتأكيد إن الغرب في منزعه الاستعماري وطموحاته الكولونيالية ورغبته في أسر العرب والمسلمين إلى الأبد لم يجد أفضل من الدين لا ستغلاله ضد الدين الحقيقي..) قول لا يستقيم عقلا. وكأن هناك دينا حقيقيا عقلانيا عجز المسلمون عن فهمه والعمل به طوال 14 قرنا. أو بالعكس عملوا به وازدهروا حتى جاء الغرب مؤخرا وأضلهم وتسبب في انحطاطهم.
الواقع أن حال المسلمين تنطبق عليه حكمة ( من يهن يسهل الهوان عليه)
تحياتي

اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص