الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قضية الفعل (جَبَرَ) بين العقاد وجبران

نعيم إيليا

2017 / 2 / 6
الادب والفن


(( أما القصيدة فليس في استطاعتنا أن نسميها شعراً صحيحاً كما وصفها صاحب المقدمة، وإن كنا نتبين منها أن ناظمها يفكر تفكير شاعر. وأول ما نشير إليه أن مبنى التركيب وغلبة العبارة النثرية على النغمة الشعرية في أبياتها. وقد فتحنا الكتاب فوجدنا في أول شطرة من أول بيت خطأ في قوله:
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا. يريد أجبروا، ولم ننته من الصفحة إلا على خطأ ثان في قوله:
فأفضل الناس قطعان يسير بها صوت الرعاة ومن لم يمش يندثرُ
والواجب جزم يندثر في البيت. هذا وليس في الصفحة إلا أربعة أبيات! ولا نشك في أن ناظم القصيدة كان يحترس من الوقوع في مثل هذا الخطأ لو كتب بإحدى اللغات الغربية، فالاحتراس في الكتابة العربية أولى.))
جاء هذا في مقالة للعقاد ينتقد فيها مواكب جبران، نشرت بجريدة الأهالي في مايو أيار سنة 1919 والمقالة يضمها كتابه: الفصول. فهل أصاب العقاد، إذ زعم أن الفعل (جَبَر) لا يأتي في الاستعمال إلا على الصورة التي ذكرها وهي (أجبَرّ) ؟
الحق أنه لم يصب. فالفعل جبر يجوز استعماله بالشكل الذي استعمله جبران. وجواز استعماله على هذا الشكل، لست أنا الذي يتمحله لجبران، وإنما علماء اللغة. وما قال به علماء اللغة وأجازوه، ليس لمتأخر أن يخطِّئه.
جاء في لسان العرب لابن منظور:
" ويقال - ابن الأثير -  جَبَرَ الخلقَ وأَجْبَرَهُمْ، وأَجْبَرَ أَكْثَرُ. قال القتيبي: لم أَجعله من أَجْبَرْتُ لأَن أَفعل لا يقال فيه فَعَّال، قال: يكون من اللغة الأُخْرَى. يقال: جَبَرْت وأَجْبَرَتُ بمعنى قهرت. وجَبَرَ الرجلَ على الأَمر يَجْبُرُه جَبْراً وجُبُوراً وأَجْبَرَه: أَكرهه، والأَخيرة أَعلى. وقال اللحياني: جَبَرَه لغة تميم وحدها؛ قال: وعامّة العرب يقولون: أَجْبَرَهُ."
وجاء في القاموس المحيط للفيروز آبادي:
" و~ (أي جبره) على الأَمْرِ: أكْرَهَهُ، كأَجْبَرَهُ.
ولقد فصل االمرتضى الزبيدي المسألة تفصيلاً وافياً في تاج العروس حيث قال:
"جَبَرَه على الأمْر يَجْبُرُهُ جَبْراً وجُبُوراً : كأجْبَرَه فهو مُجْبَر الأخيرَةُ أعْلَى وعليها اقتَصَر الجوهَرِيُّ كصاحب الفَصِيح حكاهما أبو عليٍّ في فعلت وأفعلت وكذلك ابن دُرُسْتَوَيْهِ والخَطّابيُّ وصاحبُ الواعِي . وقال اللِّحْيَانِيّ : جَبَرَه لغةُ تَمِيم وَحْدَهَا قال : وعامَّةُ العربِ يقولون : أجْبَرَه . وقال الأزهريُّ : وجَبَرَه لغةٌ معروفةٌ وكان الشافعيُّ يقول : جَبَرَ السُّلْطَانُ وهو حِجازيٌّ فَصِيحٌ فهما لُغْتَانِ جَيِّدَتانِ : جَبَرْتُه وأَجْبَرْتُهُ غير أن النَّحْوِيِّين استَحبُّوا أن يَجْعَلُوا جَبَرْتُ لِجَبْرِ العَظْمِ بعد كَسْرِه وجَبْرِ الفَقِيرِ بعد فاقَتِه وأنْ يكون الإجبارُ مقصوراً على الإكراه ولذلك جَعَلَ الفَرّاءُ الجَبَّارَ من أجبرتُ لا من جَبَرتُ كما سيأْتي . ".

فأما الخطأ الثاني، فلا يمارى فيه. فإن مخالفته للقاعدة النحوية: (وجوب جزم جواب من الشرطية) مخالفة صريحة لا يمكن للمرء أن يوجد لها وجهاً من وجوه التخريج. ولكن هل من الحق أن يطرد العقاد شاعراً من فردوس الشعر لأنه أخطأ إذ لم يجزم ما حقُّه الجزم؟
فإن كان من الحق أن يطرد شاعراً من فردوس الشعر بسبب خطيئة كهذه، فله الحق أيضاً أن يطرد كلَّ شاعر قبله أو بعده أخطأ مثل خطئه. له أن يطرد امرأ القيس الذي أخطأ في قوله:
أيا راكباً (بَلَّغَ) إخوانَنا مَنْ كانَ من كنْدةَ أو وائلِ
وأخطأ في قوله: فاليومَ (أَشْرَبْ) غيرَ مسْتَحقبٍ إثماً من الله ولا واغلِ
. وأخطأ في قوله: لها متنتان (خَظَاتا) كما أكبَّ على ساعديه النَّمِرْ
وله أن يطرد لبيداً لأنه أخطأ إذ قال:
ترَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أرضَها أو (يرتَبِطْ) بعضَ النفوس حمامُها
وله أن يطرد الفرزدق حين قال فأخطأ:
وعضُّ زمانٍ يا ابنَ مروانَ لم يدعْ من المالِ إلا مُسْحتاً أو (مُجلَّفُ)
وحين قال فأخطأ:
بخيرِ يَدَي من كان بعد محمدٍ وجارَيهِ والمقتولِ لله (صائمِ)
وله أن يطرد غير هؤلاء من فحول شعراء العربية ومجيديهم ممن أخطأ: كطرفة، والأسدي، ورؤبة، ، والأقيشر، وأبي نواس، والمتنبي، وغيرهم ممن نوه بأغاليطهم القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، في كتابه: الوساطة بين المتنبي وخصومه. وهذا الكتاب، هو المصدر الذي استقيت منه ما تقدم من أمثلة.
ولكن هل يجرؤ العقاد - لو كان حياً - أن يطرد واحداً من هؤلاء؟.
وقد يظن بي أني أتبع ما يسمى عند بعض الدارسين بالمنهج الاعتذاري في الرد على العقاد والدفاع عن جبران. والمنهج الاعتذاري هو المنهج الذي يقوم على دفع الخطأ عن شاعر أخطأ، بذريعةِ أن شاعراً مشهوراً من قبله أخطأ. وهذا المنهج لعمري! أبعد ما يكون عن المنطق، ففي المنطق: الخطأ لا يعتذر له بخطأ، ولكن يُعتذر منه. فأنى لي أن أتبعه!؟
وإنما أردت أن الشاعر ذا الفطرة السليمة، والموهبة الصادقة المطيرة إذا لحن في لفظ، فإن اللحن لا ينتقص كثيراً من شاعريته، ولا يودي بشعرية إبداعه الشعري جملة. وعسى ألا يكون في هذا الرأي الذي سبق إليه الجرجانيُّ تشجيع للشعراء أن يلحنوا!










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ماهذا التعقيد؟؟؟
nasha ( 2017 / 2 / 7 - 04:34 )
الاستاذ الاديب نعيم ايليا المحترم
اسمح لي ان اتدخل فيما ليس لي فيه وهو(اللغة العربية والادب العربي) ولانه ليس تخصصي ساتدخل تدخلا منطقياً وليس لغويا....اللغة يجب ان يحكمها المنطق ككل مفهوم مجرد او وفعل معقول اخر.
اليست اللغة الحية (اية لغة) كائن حي تنمو وتتغير وتتفاعل مع البيئة المحيطة بها بمرور الزمن؟
ما الفائدة من التقيد بالاصل وهل يمكن الاحتفاظ بتركيبات ثابتة للغة كما هي دون تغيير الى ما لا نهاية؟
اليست اللغة وسيلة لنقل الفكر والمعرفة من عقل الى عقل؟ هل للغة مهمة اخرى عدى الاتصال بين عقول البشر .
اذا كانت للاتصال فقط لماذا يُجبَر القارئ للاستنجاد بالمعاجم حين يقرا نصاً كُتب حديثا؟
اعتقد ان المعاجم فائدتهاهي للبحث عن معاني مفردات قديمة وليست للمفردات المتداولة .
اليست هذه التعقيدات عائق يقلل من كفاءة الاتصال بين العقول ؟
تحياتي


2 - الأستاذ العزيز ناشا
نعيم إيليا ( 2017 / 2 / 7 - 10:20 )
شكراً لك على التعليق وإبداء الرأي
العقاد أزرى بشاعرية جبران، لأن جبران لم يلتزم بصحيح اللغة، ولا بقواعد النحو المتبعة، ولأسباب أخرى لم أشأ أن أذكرها.
وأنا على مذهب الجرجاني، أرى مثله أن الشاعر إن أخطأ في لفظ أو لم يلتزم بقاعدة، لا يسقطه الخطأ. وانطلاقاً من هذا المبدأ النقدي التفت إلى نقد العقاد لمواكب جبران.
والغريب أن العقاد خطَّأ جبران في استعمال لفظ جبر ولم يكن جبران مخطئاً في استعماله له كما تشهد على ذلك معاجم اللغة التي استعنت بها. فجبر يجوز استعماله على فعل وإن كان الأشهر استعماله على أفعل
والأغرب من ذلك أن لم يقل أحد للعقاد إنك أخطأت.
أؤيد رأيك في أن اللغة وسيلة للاتصال والتفاهم وتبادل المعلومات، ولكن لها في الأدب قيمة جمالية، وإلا لم يكن من داع لأن يكون في ثقافات الأمم أدب.
وغرضي البعيد أن أقول: إن النقد يغدو تعسفاً، حين تحركه أقلام لم تتنزه عن الأهواء الشخصية.
وكان العقاد ذا أهواء شخصية.
شكراً لك ثانية


3 - شكرا
nasha ( 2017 / 2 / 7 - 10:47 )
شكرا استاذ عبرت عن ما يجول في خاطري بطريقة مباشرة.


4 - شكرا
أنور عبد النور ( 2017 / 2 / 8 - 08:50 )
شكرا .. للكاتب الأديب . ولتعليق أ . ناشا
صحيح انه لا ضرورة للتقيد الدائم بالأصول والمراجع اللغوية - فاللغات تتطور وتتغير تلقائياً باختلاف العصور - والمنطق يحكم . للوهلة الأولي , أحسست بان العقاد لم يكن علي صواب .. ولكن لا مفر من الاحتكام للأصول وللمراجع عندما يحتدم الخلاف - تحياتي


5 - شكر متأخر
نعيم إيليا ( 2017 / 2 / 13 - 22:57 )
أعتذر عزيزي الأستاذ أنور.. تأخرت في شكرك على كلمتك الطيبة الموزونة
ما تواخذني لم تصلني على بريدي
أحييك مكررا شكري


6 - العقاد طرد كل أدباء عصره لينفرد بالأدب والفكر
ليندا كبرييل ( 2017 / 2 / 14 - 05:29 )
تحياتي أستاذ نعيم إيليا المحترم
وسلامي للحضور الكريم

أنقل إليك ـ بشكل غير حرفي ـ ما قرأتُه في كتاب(في صالون العقاد)للأديب أنيس منصور
عبد الرحمن بدوي جاهل ولويس عوض أجهل منه، وطه حسين عمى الأدب، وتوفيق الحكيم بخيل وله عيوب أخلاقية، محمد عبد الوهاب الفنان مغضوب عليه لأنه لم يلحّن قصيدة من قصائده، كذلك أم كلثوم، ويكره كرها معلنا الشاعر أحمد شوقي،ومحمد مندور أدب منحوس لأديب ملحوس. ولم ينجُ من أوصافه سلامة موسى وشبلي شميل ولطفي السيد وماركس وسارتر وروسو ...
ورأى نفسه الأهرام
نعم الأهرام، الذي يتسوّل أمامه الجامعيون الأجلاف وأقصى ما يستطيعه أحدهم هو أن يشير بإصبعه إليه ليستحق أعلى جائزة أدبية!
فقط لأنه أشار إلى الأهرام

مثل هذا المنطق الحديدي لا بد أن يطرد الجميع لينفرد هو كالأهرام في أرض الأدب والفكر والسياسة
فهل على رأس جبران ريشة لينجو من نقده؟

ترى الطرافة عندما ينبري ناقد لرصد أخطاء نحوية في مقال لزميله ونقده وكتاباته من أولها إلى آخرها تعجّ بالأخطاء القواعدية

لغتنا بديعة حتى لو وقعنا في الأخطاء

لم أنتبه إلى هذا المقال،لفت نظري ردّك الكريم في شريط التعليقات فقلت ألقي السلام
تقديري

اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في