الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دبدو: بين أنوار منير وهزيمته

خالد العارف

2017 / 2 / 14
الادب والفن


يمكن قراءة رواية "موت مختلف" لمحمد برادة الصادرة عن دار الفنك ودار الآداب في 2016، باعتبارها حلقة ثانية في معرض استراجعه التقييمي والناقد للاشتراكية، بعد أن تعرض للتجربة الاشتراكية في المغرب في رواية "بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات" (2014). ويمكن كذلك مقاربتها انطلاقاً من عودة تقنية راوي الرواة التي استعملت أول مرة في روايته "لعبة النسيان؛ وهي التقنية التي يعيد محمد برادة استعمالها في رواية موت مختلف؛ خصوصاً أن هذه الأخيرة تستعيد بلدة دبدو كفضاء هامشي، والذي كان حاضراً أيضا في لعبة النسيان. لكنني أود هنا أن أركز الحديث عن شخصية منير الدبدوبي في "موت مختلف".
منير؛ اسم يحيل على النور والأنوار. إنه اسم يختزن دلالة رمزية، وهو في ذلك لا يختلف كثيراً عن باقي شخصيات محمد برادة الروائية. هو أيضاً يشبه الشخوص الروائية الأخرى من حيثُ تشككها في القدرة على القبض على الحقائق والأشياء من داخل مصفاة الذاكرة. لكن أهم شيء مثير في هذه الشخصية هو كونها شخصية تلفيقية ومخاتلة بامتياز. حين أتحدث عن الشخصية بهذه الطريقة، فإنني أعي تمام الوعي أنها ليست شخصية حقيقية؛ هي شخصية ورقية تتخلق من رحم اللغة، وهذا بالضبط ما يجعلها خطيرة لأنها تحمل إيديولوجيا يجب تفكيكها لتعرية تناقضاتها. فاللغة تخلق الحقيقة والسلطة.
يُفتتح السرد من شقة في باريس ليضع القارئ في قلب العالم الفكري لمنير الدبدوبي ووسط هواجسه. يمر منير الدبدوبي من مرحلة أزمة تتخلق أبعادها من عدة أشياء منها الهوية، الانتماء، النضال، الحلم الضائع، التفكك العائلي والهزيمة. غير أن أهم شيء في هذه الشخصية هو محاولتها التلفيقية والتبريرية في آن معاً. فعوض أن يحاول منير الغوص عميقاً في شخصيته ليميط اللثام عن خصائص المرحلة الحياتية التي يعيشها (وهو ما يحاول فعله جزئياً حين يتحدث عن علاقاته الغرامية العابرة بعد الطلاق)، هذه المرحلة التي يعدّها ميشيل فوكو ضمن الهيتيروتوبيات المأزومة؛مرحلة بداية الشيخوخة، نجده يهرب إلى الأمام مرة أخرى (بعد أن هرب إلى الأمام حين هاجر للدراسة في فرنسا وهو ابن العشرين سنة، تاركاً بلدته دبدو غارقة في التخلف) ليذهب في اتجاه التفكير "العقلاني" الذي أسس فكر الأنوار. يحشد منير أسماء كثيرة: فوكو، دريدا، بورديو، دولوز، رورتي، لكنه يُوَلّف الرؤى التي أتى بها هؤلاء المفكرون ليجعلها تتحلل داخل نظرته التي تنتصر للأنوار رغم أن جل هؤلاء وجهوا سهام نقدهم لفكرة الأنوار والعقلانية وحاولوا تقويض أسسها. قد تستقيم نظرة منير التوليفية فقط في إطار رؤية هبرامسية تنظر إلى نقد الحداثة باعتبارها مشروعاً لم يكتمل بعد. لكن ما يهم ههنا هو الاقتراب من نظرة منير المثالية جداً.
باستثناء اللحظات القليلة التي اقتنصها مع فطومة في دبدو قبل الهجرة، لم يكن منير حياً بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ لقد مرّ من دبدو مرور الكرام. لقد كان ميتاً بشكل رمزي، فهو لم يشارك في احتجاجات التلاميذ ولا في الحياة العامة. صحيح أنه نبش في تاريخ دبدو، لكن ذلك حصل فقط في إطار "التعرف" على مكان الزيارة بعد أن أضحى فريسة لهواجسه وخوفه وانهزامه؛ إنه في ذلك مثل أي واحد من الرحالة الأوروبيين الأجانب الذين كانوا ينقبون في تاريخ المستعمرات قبل التوجه إليها. أضف إلى ذلك أن بحثه في تاريخ دبدو جاء نتيجةً للحظة المأزومة التي يمر منها... ستكون ولادته في فرنسا وتحديداً في باريس؛ مدينة الأنوار. يقول: "كأنني سعيتُ، منذ وصولي إلى باريس، أن أمحو دبدو وحمولاتها الذاكرية من سجل طفولتي ومراهقتي لأفتح صفحة بيضاء أنطلق منها على أرض فرنسا التي فُتنتُ بها خلال سنوات دراستي الثانوية بمدينة وجدة." (ص. 13) ثم يعدّل هذا التوصيف فيقول: "كنت كأنني قيد الولادة مرة ثانية". (ص. 14) وحتى قبل أن "يولد" مرة ثانية كما يقول هو نفسه، كان معميا بثقافته الأوروبية ومبهوراً بها، إذ حينما كان يحكي لأبيه عن "وقائع من تاريخ أوروبا"، كان الأخير يحثه "على قراءة تاريخ المغرب أيام أمجاده الامبراطورية، وأيام مقاومته الاستعمار الفرنسي." (ص. 15) لقد تأخر اكتشافه لتاريخ بلدته ووطنه كثيراً. من جهة أخرى، وبغض النظر عن الأسباب التي يسوقها منير لتبرير هجرته إلى فرنسا، والمتمثلة أساساً في المعرفة والتحرر، يبقى مع ذلك متردداً وحائراً. وسبب ذلك هو التناقض الحاصل بين وعي منير وبين واقعه المادي حين كان يعيش في دبدو، وهو التناقض الذي يصبح عرضة للتحلّل في قلب لعبة الذاكرة والتذكر. على القارئ ألا ينسى أن والد منير رجل "كسّاب" وأن دبدو لا تعدو أن تكون بلدة شبه ميتة مادياً ورمزياً (اعتماداً على توصيف الرواية بطبيعة الحال). في فرنسا سيتضخم التناقض ليتخذ شكلا فكرانياً. والفكرانية إنما تبحث دائماً عن إحلال الإيديولوجيا بما هي أفكار محل الواقع المادي لتبرير الانوجاد في بؤرة هيمنة الطبقة الحاكمة. حملت ثورة 68 في فرنسا منير على أجنحتها ليعتنق الفكر الاشتراكي ويوقع على مسار ناجح متوجاً إياه بوظيفة في التعليم الثانوي كأستاذ للفلسفة. يتشرب منير مبادئ الأنوار رغم أن هذه الأنوار هي التي أدت إلى ويلات الاستعمار، ويريد أن يصدرها إلى دبدو؛ هذا هو حلمه: أن يبني فندقا ويعيش بين المغرب وفرنسا. هو يحلم أيضاً أن يستفيد الدبدوبيون من "معرفته"؛ يقول منير في هذا الصدد: "سأقول لهم إن أهم شيء، احترام حق المواطنة وحرية الفرد في التعبير والاعتقاد" (ص. 240) إن منير ينفّس عن أزمته بالموعظة، فها هو يقول: "سأتساءل معهم: ما الذي يمنع هذه البلدة التي عرفت ازدهاراً، منذ قرون، من أن تستعيد أسباب التجدد والانخراط في سيرورة التحول؟" (ص. 241) قبل أن يضيف متوجها إلى الشباب في مخيلته (فهو على كل حال ما يزال بعيداً عن دبدو): "قد تحلمون بالهجرة، لكنها ليست دائماً هي الحلّ. أظن أنكم تستطيعون، هنا، أن تستكملوا صيْرورَتكم باتجاه الانفتاح على الهويات المتباينة التي يتكون منها عالم اليوم لتتفاعلوا معها، لأن هويتكم تتأكد بمعانقتكم التعدد والانفتاح..." (ص. 241). يبدو لي أن لا فرق، في العمق، بين منير، الحامل للأنوار الفرنسية، والفقيه الذي يقدم الوعظ والإرشاد..كلاهما يتموقع في منطقة أعلى من المخاطبين. منير يصرّف أزمته النفسية، لا أقل ولا أكثر. ثم على فرض أن هذا الكلام يمكن أن يكون مثمراً، لماذا إذن عاد إلى الوطن؟ ألم يعد بعد انهزام اليسار الاشتراكي وصعود اليمين كما جاء في الأمثلة التي قدمها السرد إلينا بواسطة منير وراوي الرواة؟ إن منير في آخر المطاف ليس إلا ذلك القناع الأبيض (بتعبير فرانز فانون) الذي يتواجد وراءَهُ منير الأسود، المتخلف؛ منير الذي يتموقع في موقع التلميذ حيال صديقه ألبير سالاس الذي يبقى مرجعه في النضال من أجل الحقوق الفردية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في