الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة التسويغ -2-

جميل حسين عبدالله

2017 / 2 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عقيدة التسويغ
منعرجات فكرية
-2-
يتبع
وحقا، إن ممارسة عملية التوجيه للفرد، والجماعة، قد تتحكم فيها طبقة النبلاء الذين يسوقون الزناد والعواطف بمنتهى ‏فصاحة العقل الثاقب، أو يتعالى فيها صوت ما اصطلح عليه بعنصر النخبة الواعية بطلبات المستقبل، وضرورات الحاضر، ‏فيكون المعنى المراد من الجماعية والفردية قابلا لذلك الوضع الأصلي الذي تهيأ له، وحاملا لثوابته، وجامعا لخصائصه. ‏وحينئذ يكون النقاش الذي يثار حول القضية علميا، والحوار الذي يجري بين النخب رصينا، وربما قد تتوافر له أسباب ‏الموضوعية التي تسلك بالأشياء مسلكها الخاص بها، فيصير حقيقة فعالة في صناعة الذات المبدعة، والعقل المفكر، وإن ‏أدى خلل مَّا إلى واجب المراجعة لقيم التوازن فيه، كان المعنى الأول الذي تواطأ عليه الجهد الكلي في بناء النظام الجماعي، ‏هو الفيصل المحدد بين المعاني الصادقة، والكاذبة. لكن إذا حدث الاختلال في وظيفة الرتب، والمقامات، وغدت الصفة ‏مراما لمن يستهوي جمال رونقها، وبهاء بريقها، فإن ما سينشأ عن هذا من أوضاع آسنة، وحقائق كاسدة، لن تترك دور ‏انتقال المعاني إلى قوالبها الحقيقية في الصيرورة البشرية، إلا لتلك العواطف الجانحة التي تشبعها غرائزها الممتحنة بمتعة ‏الوجود، والكينونة. ولذا يكون فعل الجماعة مضرا بنقضه لأسس وضعه، ولكنه لازم لما فيه من حصانة للمجتمع، ولو لم ‏يتشبع بما في أصله من مبنى، ومعنى، لأنه فتح باب التوجيه على مصراعيه، وانتحى وجهة مجافية لما تواتر حوله من ‏حكايات الضبط، والاستقامة، فزالت بذلك قيمة الكفاءة المطلوبة للأشياء التي لها ميزة، ومرتبة، واحتدم على بساط ‏الحياة صراع المنافع المقدرة بالذوات المسعورة بالقوة، والغلبة. ومن هنا، يكون الفعل البشري غير مرتبط بعضه ببعض في ‏السياق العام، ولا متصل بين حلقاته التي تستجمع التواريخ في تاريخ متصل، وغير منفصل، ولا منسجم في أدواره، وقصود ‏وظائفه. لأن استحواذ أنانية الفرد في مجتمع شرب حميا الجماعة المفرغة من محتواها، والمبددة في مكوناتها، يعني أن كل ‏واحد سيجسد شخصيته، وذاتيته، وسيمثل حقيقته، وطبيعته، لا مدلول تلك الصفة التي يحملها، أو تلك المكانة التي ‏يعتليها. إذ غاية التكليف في الأشياء بالحقيقة، هو احترام علاقتها بذاتها التاريخية، وبغيرها من الحقائق التي تتأسس عليها ‏كليتها في الطبيعة، ثم تسديد ارتباطها بما تضيفه إلى المقصود بها من أمل مقرور في وجودها، وسواء ما تقوم به في حاضر ‏الإنسان الذي يبحث عن لذة الأشياء، أو ما تنتظر به المستقبل من آمال جميلة، ووديعة. ‏
ومن ثم، فإن امتزاج الذاتية بالجماعية في مركب نقص، يفتقر إلى الدوافع، والحوافز، ويحتاج إلى إدراك يتميز به الوهم عن ‏الحقيقة، وينفصل به الكذب عن الصدق في المعاملات الإنسانية، لا يستقيم اجتماعيا إلا في الثقافات التي تقدس عملية ‏الاجتماع المطلق، ولكنها لا تجرد له ماهية تدل على ضرورته بين كل الأفعال المكونة للكون، والطبيعة، والحياة، والإنسان، ‏ولو أدى بها ذلك الاعتقاد إلى التناقض، والاغتراب، وجرها إلى أن تعيش الانفصام بين ذاتها العاقلة، وواقعها المترع ‏بالمنغصات، والمهلكات. لأن المنطق الذي يتحكم في قضايا هذه الصيرورة المتعارضة أدوات قياسها، والمتصادمة مواهبها مع ‏حيلها، هو هدف لإيديولوجيات تختلط فيها مساحات الحدود، وتمتزج فيها مسافات الحرية، والقيود، فتغدو غير متساوية ‏في النسب التي تكتب النتيجة، وتصوغ الحصيلة. وإذ ذاك يتحول ما فيها من ألفاظ إلى معان لا تقبلها فطرة اللغة السليمة، ‏ولا ترضاها تجربة العقول الصحيحة. لأن فقدان المعنى في الفلسفة الجماعية، وغياب الوعي في المدركات البشرية، لم ينشأ ‏إلا من عدم قدرتها على تحقيق القناعة المطلوبة منها لإقامة حجة الإلزام، والالتزام. إذ الرغبة الأكيدة التي يتقاسمها نوع ‏الإنسان في التعبير عن الحاجة، والافتقار، هي أن يكون كل شيء حقيقة موضوعة على معناها، وأن يكون السبب نازلا ‏على مسببه، والعلة حادثة مع معلولها، لأن تخلف تطابق النتيجة للمقدمات، لا يعني لزوم الفصل بينهما في الاعتبار، بل ‏يعود أمر تباين المقدمات والنتائج إلى اختلال في ميزان الشروط المناسبة لإحداث الأثر في المعاني المرغوبة، وإلا، فإننا ‏سنسمي الأشياء بغير أسمائها، ونصفها بغير أوصافها، ونعدل في تاريخ إنجازها، ونبدل في صيرورة تقدمها، وفي ذلك ‏خراب للقيم، والمثل، وضلال للحقيقة، والطبيعة. إذ ما انتقص الإنسان قيمة الأشياء التي يحمل معناها رمزا، أو إشارة، ‏وانفعل مع ما يعاديها من أضدادها، وأشباهها، إلا لكونها لا تنتج ذلك التماسك الذي يربط بين الأفعال في انسجام، ‏ووحدة، ولا يأتي منها ما وسمت به من غايات متبادلة بين عناصر صورها المحققة لكليتها في الطبيعة، ولو سوغ ذلك ‏بمركبات العجز، والنقص، وبدد كل ما يعترض سبيله من تناقض، ‏وحشو، وحسرة.. ‏
قد يكون لائقا بي من الناحية المنهجية أن أبين سبب توارد هذا السؤال عندي في البداية، لكنني لم أذكر مصدر تنبع تلك العلة ‏التي تصوغ إشكالية تساؤل عقلي، "كيف يسوغ الإنسان المتعاظم بالطهارة ما يخالف جهازه المعرفي.؟" لأن تجسد هذه الحقيقة ‏المرة في ملموس واقعي، ومداخل حياتي، لا يكاد يفارق كثيرا من مسارات تحولاتي، بل تشاكسني هذه العلة حين ألمس وجوها ‏لماعة على عقول كاسدة، وأشهد أفعالا خشنة على ذوات ناعمة، فأشعر بأنني محاط بقيود تمنعني عن مقابلة دور الباطن ‏بالظاهر، ومقايسة الأثر بالمؤثر، لا لكونه مما اختفى عينه في الحكم عليه، ولا مما لا يجوز لنا دركه، بل لإحساسي بأن الخارج ‏يتأثر بما يعتريه من سياقات، وأنماط، وينحاز إلى ما يترجم إحساسه بالحقيقة، والوجود، ولو تظاهر بمظهر الوفي لعمق ‏داخله، وتفاعل مع تجربته التي يلتبس فيها التناقض، والانفصام. وذلك مما يوحي إلى بوجود شيء يستنهض الفوضى في أنجاد ‏الذات الغائرة، ويستفز الخصوصية الشخصية، ويدفع بها إلى الحيرة، والارتياب، فإما أن نسير معه على رغم معاركة ذلك ‏المعيق الذي يمنح كل واحد منا صفة معينة، ونكون بذلك قد حققنا بعض محددات الحرية في معادلة الحقيقة، وإما أن نستمرئ ‏المقام الذي لا يستوجب التضحية من أجل العناوين الكبرى في الأحلام، والآمال، ثم نبحث في ضرورة التفاعل مع ما هو ‏مسطور لنا عن دليل آخر يمتعنا بما يضفيه علينا جبن الخداع من ألوان زاهية. ‏
إنهما قراران نمتلكهما في طي هذه المعادلة البائسة، ونحرص على مجاراتهما في تصادم الذات مع القيم المتهافتة بين زوايا الفعل ‏البشري، وأقواس الحاضن الاجتماعي، لكي نحكم على قدرتنا بالنفي، أو بالإيجاب، ونعلن إفلاسنا في طي لواعج هذه الأمداء ‏المستعصية على التحديد. وما دمنا لا نمتلك فضاء لهذا القرار الذي نعدل به من صيغ المعاني في القيم المتداولة، فإننا لن نحيد ‏عن تلك اللحظة التي فارق فيها الإنسان الجدوى، وصار حاوية لألفاظ متنافرة المبنى، لا يركبها في تضارب مهاد حياته، حتى ‏تبدو متشاكسة، وتنزو متشاغبة، لأنها تدل على انتهاك حق الذات في تحريرها من الأوهام المسيطرة عليها بمقتضى تلازم ‏المصالح بين المتصارعين على حصة التوسع، والامتداد، وتفاعلها مع نشاط المنظومات التي تحركها حركة غير متوقعة، وتشير ‏إلى ارتباك سير العقل في تحديد المناط المحدد لطرفي الوجود، والعدم، وتبين السبل التي أظلمت آفاقها عن توضيح مبدأ الحق، ‏ومعنى الواجب.‏
‏ ففرق كبير بين ما نعيشه بالضمير، وما نعيشه بالناموس، لأن لكل واحد منهما مداره الخاص الذي يحتوي على ماهيته، ‏ومجاله الذي يبرز فيه حين لا يشعر بالخوف على مصيره، ومقامه الذي يفصل فيه بين حقه، وحق نظيره المقارن له من جانب ‏آخر، إذ ما يكون وجود الباطن فيه هو الحاكم، لا يأتي منه إلا ما هو صريح في العمق، ومكبوت بالذات، وممنوع في الخارج، ‏لأن الإنسان لا يكون متوافرا في حقيقته، إلا حين تزول بين عينيه معالم غيره، فيصير كما هو مريد في الطبيعة، ويغدو صاحب ‏اختيار، وقدرة. وإذا كان هذا فعلا موجودا بين الحقائق بالضرورة، ومنتقل بينها، ومرتحل مع الزمان، والمكان، ولا نكاد ‏ننكره، ولا نغالي في إثباته، فإن ما نساير به الناموس من عقيدة الاستسلام، وشريعة الخضوع، قد يكون مرغوبا بمنطق الحفاظ ‏على هوية الذات القادرة على إرغام المنطق تسويغا لواجب الوجود، لكونه يجسد الأمن في كسب رهان الحياة التي تتحدد فيها ‏مظاهر القوة بدرك موارد الضعف. وإن لم يكن محققا لهذا الاطمئنان، والانشراح، فإنه يكون منبوذا في الطرف المقابل، وهو ‏الذي يصير به الكيان مستجمعا لأدوات اختياره، لأنه يحتمل المعنيين اللذين يردان على الإرادة في استطاعتها على استعراض ‏مخزون وعيها بالبقاء، والفناء، فيكون أحدهما نافيا للآخر، أو معطلا له إلى حين تواجده في محضن يؤمنه على سبيله.وقِوامه ‏هو ذلك الإحساس الذي نشعر به تجاهه، أو تلك الرغبة الجامحة التي ترسخ عندنا مبدأ الضعف أمام شواهق الحاجات ‏الطبعية. ‏
وإذا كان المناط الذي تتأسس عليه الحياة في ذات كل واحد محصلا عليه بالانسياق مع الغالب من الطباع، والأخلاق، ‏وموجودا بالتبعية للنظام الذي يحرر الأنصبة في سياق الاشتراك، والتعدد، فإن تمام الوجهة في القصد الذي يتولد به الرضا عن ‏الحقيقة المتضمنة للنزوع نحو البقاء، أن يكون الانحياز إلى ذلك محبوبا في النظر الشخصي، ما لم تتم معارضة ذلك بحق يستحوذ ‏على حقوق الغير، ويستولي على تمام الحصة بكليتها الماهوية، لأن الرغبة في ذلك تتجذر مع امتداد مراحل العمر الذي يبني ‏دلالة الحياة على تأويلات، وتسويغات، وتتأكد بما يسوغ به الإنسان ذلك الانحياش إلى تلك الوسيلة الموثوق بصلتها، ووصلها. ‏وإذا تعارضت الرغبات في خصوبة الأماكن بما يدفع إلى الدهشة، أو الخشية، ووقع العراك على محل الاتفاق، وخضع القرار ‏للموقف المتجبر، وكان كل واحد حذرا من عين الآخر المواجه لاعتباره الشخصي، فإن الانتماء إلى الذات هو المطلب الأساس ‏الذي يحدث به الانفلات من خط الجماعية الفاقدة للتحفيز على المعنى المقدس، ولو بدا في صورة ذهنية تحمل وعي الإنسان، ‏واحترامه لطبيعته في تحديد المسؤولية، لأن حمايتها أقرب إلى الإحساس من حوض معارك حول رغبات لم تتحدد نياتها، ولا ‏مطالبها. ‏
ومن هنا، فإن مجرد الانسياق لأي نظام تحكمه بنية مفهومية خاصة، تقطع الواقع إلى مناطق متعددة، وتقسمه إلى مظاهر ‏عامة، تكون كلها في تكاثفها ملامحه الخاصة، ومهما كانت الحجة القائمة قوية على ضرورته، وصارت الأدلة صريحة على أن ‏كمال الفرد مقرور بالعلاقة التي تربطه بالمجتمع كلية، وبالانتماءات الجزئية التي تتفرع عن الانتساب الأعلى إلى منظومة ذات قيمة ‏معينة، ومحددة، لا يعني دائما الالتفاف حول مبدأ الجماعة التي لا تعترف بالحالات العرضية، ولا بالغايات المنفردة، بل يعني أن ‏من وراء ذلك معلما آخر غير الذي نصادفه عند أول قياس نقيمه على وجوب العيش المشترك، وضمن منظومة قيمية متعارف ‏عليها، لا يتحدد إلا في الذات التي تتحكم فيها تنسيقات موجَّهة بالخيارات الفردية، وهي التي تصوبه، أو تخطئه. وإذا كان ‏هذا محل الخطأ في معيارها الذي تتميز به، وتعتبره خاصيتها التي تخلص بها أفراحها من أتراحها، ولم تجد محيدا عنه، ولا مراما ‏تحصل فيه وعيها بهويتها، وكيانها، ابتغت لها وسائل التسويغ كأولوية تتداعى إلى الذهن عند نزع المفهوم عن الذات، لعله ‏يكون أريح لها في علاقتها بالخارج، وأبعد عن الندم والضجر والقلق في صلتها بالداخل، لأن تفاوت الناس في المدرَك باللغة، أو ‏بالتجربة، ليس في امتلاكهم للأشياء بمقتضى المعرفة لمكونها الذاتي، بل فيما تحدثه من أثر بين الأعماق التي تطيق أن تجعل ‏التفكير خارج المعنى، فيكون معقولا لا تدل عليه الألفاظ، وإنما يأخذ معناه من القوى المحايدة في صناعة قرار الظاهر. ‏
وإذا لم تكن الحقائق التي تعيش حيوات متعددة ممتزجة بالذات في إدراكها، ووعيها، فلن تفني مهجتها من أجل بقائها، لأنها ‏منفصلة عنها في غاية التحرر من عبء الوضعيات الفاسدة، ولا تستحق أن تكون قضية ينتظم فيها ما تنطوي عليه من ‏خصائص، ومكامن. وما دامت لا تطيق تقديم قربان روحها لذلك القصد الذي يرعبها، ويخيفها، فإن في تكهن صورة غدها ‏شيئا آخر أجدر بأن تهبه كليتها، وتمنحه زمامها، لأن الالتجاء إلى لبس القناع في العلاقات الاجتماعية، هو نوع من اللغة التي ‏تعبر بألفاظها وكلماتها عن شيء مستعار، أو مستطرد، يلمح عن بعد، وهو المستور وراء الجبة الفاتنة ببهرجها، وزخرفها. ‏ولذا، لا يستقيم في الصوغ أن نجعل الجماعية مبدأ حصل بالاتفاق بين كل مكوناتها المتممة لمجموعها، بل هو رأي الأغلبية التي ‏راكمت التجربة على مدار التاريخ البشري، واستطاعت أن تنتقي منها ما هو قابل لتحقيق الأمن النفسي، والسلم ‏الاجتماعي، أو ما هو مناسب لتنظيم مسارب الحياة، وخلوها من الصراع الذي يفسد العلاقات، ويفكك المجموعات، ويجعل ‏المكان منطويا على نيات متعارضة، وشهوات متصارعة. لأن ضرورة الالتفاف حول العقد الاجتماعي الذي يضمن الهوية ‏المشتركة، وهي جماع كل المعاني التي تتضمن القيم الكبرى في الإنسان، والجماعة، يفرض وجود الأساس الذي أقيم عليه ‏الشعور بالنص الأول، وهو إحداث الاعتدال بين الصيرورات المتعددة المناطات، وتهذيبها حتى لا تطغى فيها صورة على ‏صورة، وتفضل فيها كلية كلية. ‏
وهكذا، يغدو لزاما علينا إذا أردنا أن نصبح عين العقد الذي يلم شتات أحلامنا، ورغبات أمانيننا، ونفرض الالتزام بمقتضاه، ‏والاعتداد بمفاهيمه، لئلا يحدث الانحراف عنه، وتنفصم العرى معه، وتنفصل الذوات عن بعضها، أن ننظر إلى كنه هذه العلاقة ‏بطرفيها المستمجعين لخصائصها، وثوابتها، لأن انفراد طرف بالاستعلاء على ما سواه، سيؤدي حتما إلى نقض العهد مع هذا ‏الميثاق، وخيانة الضمير الجماعي، وإذ ذاك تستحيل الجماعة ظالمة، وهكذا الفرد في دلالة فعله على أنانيته المفرطة، يتحول ‏إلى متوسل بكل القيم الموصلة إلى غايته، ومتوسط إلى تعايشه بأخلاق يستلهمها من تعسف المكان، والحال، إذ وجود هذا ‏الالتئام حول معنى ملزم بنصه، وفصه، يستدعي أن يكون هناك حد مشترك بين طرفي المجموع الذي تآلف منه المجتمع، ولو ‏صوريا، ويستلزم مضمونا يحدد طرق التفكير في البقاء، والنماء، لأن الانتهاء في حتمية الانحراف عنه إلى احتقاره، وامتهانه، ‏يعني الدخول في عالم الفوضى، والولوج إلى غيابات أمراض تسبب خللا في بنية العلاقات الاجتماعية. وإذ ذاك يكون كل واحد ‏غريبا عن الآخر، وبريئا في ذاته، ومتهما عند غيره، ومدافعا عن حوزته، ومدفوعا عما يحقق له حريته، بل لا ينظر إلى ‏خارج جونه إلا بعين متوحشة، ولا يشهد فيه إلا معالم خراب بيت مصالحه. ‏
ولا حرج إذا نشأت في المجتمعات عقليات تحارب الوعي، وتقصي دوره، وتلغى الالتفاف حول مفعوله، لأنه هو الذي يعيد أمر ‏هذه العلاقة إلى نصابها، ويرتب سياق التفكير في الوجهة المثلى، ويحدث فيه الفاعلية، ويصفه بالتوازن، والاعتدال. وغيابهما ‏يعني أن نعيش على ثيمة الصراع بين المجذوذين بالجماعية المزيفة، والمحرومين بالفردية المغتالة. وحينئذ لن يشعر الفرد بأنه ‏مسؤول عما يدور في محيط مجتمعه، ولا معني بما يموج في حياته من أحداث، ووقائع، لأنه فقد الصلة به في قرارته، وصار محلا ‏لقلقه، ومنزعا لوجعه. وقد يزداد هذا الإحساس ألما حين يكون كن عيشه ملطخا بالسواد، وزاده ضنينا بالقوت، ويده شلاء ‏عن الفعل، وإذ ذاك، لن يكون مكلفا برعاية الأشجار، والأحجار، والوديان، والسهوب، وهي موضع تجلي جماعته من ‏ذاته، ومعبد تدفق طهره، ونقائه. وإلا، فإن ساكن الخراب في وجوده المعنوي، لن يتألم لخمود حس العمارة، ولا لبكم معنى ‏الحضارة، ولا لفقر الديار، ومرض الأبدان، وخلل الأوزان، لأنه لا يتأتى له ذلك الإحساس الإنساني، إلا إذا كانت العلاقة مع ‏المجتمع قائمة على مبدأ النفع العام، وواقعة عليه قبل أن يترجمها إلى مقاصد العمل في اختياره الاتم، وإن لم تكن متحررة من ‏النظر المتشائم إلى المجتمع الذي أجهض كل القدرات القادرة على إحداث النمو، وإخصاب التقدم، فإنها ستخلق بيوتا فارغة ‏من محتواها، وعقولا راكدة في معناها، وفي ذلك إنشاء لمجتمعات لا يحددها قاسم مشترك، ولا يسيرها سياق متشابه، بل ‏يجمعها ما يربو بين الأماكن من وحشة، وظلمة، تضيع معها قيمة الأرض في الإنسان، وترتبك فيها نظرته إلى السماء. ‏
ومن هنا، يكون نظام الجماعة غاية لما ينجزه في الفرد والجماعة، ووسيلة لتحقيق مستوى كل واحد منهما، وإذا تجاوزته إلى ‏ما عداه من مقتضيات تبدد صريح تلك الرابطة الأدبية، والأخلاقية، اقتضى ذلك أن يكون ظاهر المجتمع سليما، وباطنه ‏سقيما. وذلك مما يؤدي إلى خلق أزمات نفسية على مستوى الفرد، ثم يتلوه بالتبع وجود معضلات اجتماعية في نطاق ‏الجماعة، يشكلها الهامش الذي ينفرد بإظهار كل الظواهر التي يحاربها المجتمع بفلسفته الأخلاقية. وإذا حدث ذلك، ولو لم يكن ‏متوقعا، لأن افتراض وجود الأخلاق في كل السياقات، هو حلم قديم لكل الثقافات التي تقيس الحقائق بنظرتها الكونية، فإن ‏العيش الكريم، سيفقد مكمن حريته، وإذ ذاك، سينخرط المجتمع في بؤس المورد، ولؤم المصدر، إذ ما سيعانيه الإنسان من ‏محدودية أخذه، وعطائه، سيجعله عرضة للرفض، والنبذ. وفي ذلك تهميش للفعل الفردي، وإلغاء لدوره في تثوير المعاني ‏المشتركة.‏
وحقا، إن نظام الذات، ليس هو نظام الجماعة، لأن نظامها فطري، وهو موجود فيها بحكم الوجود، بينما نظام الجماعة ‏اتفاقي، وأساسه هو ما تآلف الناس حوله من منافع مشتركة، ومتبادلة، لأنه يسخر كلية الطاقات والقدرات والمواهب في ‏خدمة المعنى الأعم الذي يحقق القيمة الخلقية، والكونية. ولذا، فإن تنافي المقاصد بين شريعة الذات، وشريعة الجماعة، هو ‏الذي يمهد مساحات للاختلال بين العقل، والمجتمع، لأن اعتبار الجماعية مثالا أعلى، مرهونا بنتائجه في فعل الخير، والنفع، ‏يعني أنها تنتمي إلى دائرة العقل الأوفر الذي يبدع قوالب السكن، ومهاد التعايش، إذ اجتماع العقول على حقيقة جامعة، ‏ومانعة، لاسيما تلك التي تمتلك الإرادات النبيلة، والاختيارات الجميلة، هو الذي يضفي عليها سمة الكمال، ويمنحها القدرة ‏على توزيع الأدوار بين الطاقات الفاعلة. وذلك متوافر في التجارب الناجحة، ومتواجد في القيم الخالدة، ولو على مستوى ‏التنظير، والتأطير. وهي كل تجربة جعلت أمن الإنسان وسلامته وسموه هدفا، وحريته كرامة، ومساواته عدالة، لكن إذا نزل ‏العقل الجماعي عن ذكائه بين مدارات اهتمامه، واستولى الدهاء على موارده، فإن صوت العقل يغدو متنافرا، ومبعثرا، ويصير ‏معه الفعل محتالا، ولصا، لأنه فقد خصوصيته التي متعته بميزته، وهي كونه جامعا لما تفرق بين العقول من فضيلة.‏
وإذا فقدها باستخدام رغباته غير المهذبة، احتار العقل الفردي في صميم الذات، وشك بضميمة التخلي عن قوة فعله في منتهى ‏أمله، فإما أن يرسم الطريق كما خطه قلم العقل في الترتيب الأول، وإما أن ينحرف عن المسار الذي تولدت فيه أهداف غير ‏جليلة، فيناله البؤس بين الديار، ويشقى بفرحه،ويألف سواده، وهو ما وجد إلا لكي يبتكر أنجع السبل في حماية ما يحوم ‏حوله من قصود جميلة، يكشف بها عن دوره في محاربة كل ما يعيق السير العام للجماعة. فإن اختار الممازجة بينهما، وقع في ‏بركة التسويغ، لأن الملتجئ إليه دائما، هو الذي يمزج بين حقيقتين متنافرتين، فيحدث في اختلافهما روح صراع ذاته، وانفصامها ‏بين الظاهر، والباطن، ثم يغذيهما بالمطلقات التي تستحوذ على حياته، لكي ينسلخ عن خوفه على ذاته، وخوفه من جماعته. ‏وهنا ينتج الخوف في الغالب رغبة البحث عن التلفيق لإراحة الذات من آلامها، وأوجاعها، وإزاحة ما يتعرض صيرورتها من ‏أعراض تهدد ديمومتها، واستمرارها. ‏
لعل هذا هو ما يدفع بكثير إلى الانطواء، والانعزال، لأنهما ومهما كانا محجين لصناعة الاستقرار الباطني، والامتداد الظاهري، ‏فإن فيهما نفَس البعد عن الطريق الممتلئ بصخب المارة، وضجر الراحلين، وعبث المعربدين، إذ الاعتزال، هو إبعاد شيء عن ‏الذات غير مرغوب فيه، وسواء كان محبوبا في نضال الكينونة، ولكنه ممنوع في حتمية الصيرورة، أو كان مشنوءا في الذوق ‏العام، ولكنه في النفس محل طمع، وصراع. وإلا، فإن الاعتزال على اعتباره انعزالا، لا يكون واقعا حقيقيا في الشعور بالوحدة ‏المشتركة المفقودة، إلا إذا أثمر تلك الراحة التي يحرمها الإنسان في صفة الاختلاط بغيره من الأنواع. لأن كسب كل ما يبهج ‏الذات مطلوب في النهاية بالمطابقة، إلا إذا كان تأليمها مسوغا لحقيقة انتهاكها. وذلك مسرب وعر في التربية، وهو مؤسس ‏على قيمة كره الجسد المطلول بالشهوات، ونتيجة طبعية للهروب من الذات المجردة إلى الماهية الطلقة. وعسره يتجلى في شراسة ‏الذات، وصعوبة تمرينها، وحزونة ترويضها، لأنها تلامس غيرها، وتناظره في اتجاه المصالح، واحتكاكها به، ومشاكستها له، ‏لا يفضي إلا إلى الحرص على حيازة الحصة بين الحصص، والخوف على فقدانها بعد الامتلاك، والاستحواذ. ‏
ومن هنا لم يثمر الانعزال ذلك الوهج والألق في العمق، لأنه تقوَّم بما يعتبر جهلا بما تحتويه الذات من أبعاد تحضر، وتختفي، ‏وتتكون عند الشعور بحماية الهوية، وتنفصل حين تتوقع النهاية. إذ المثير الذي يستفزها خارجي، والاستجابة كامنة فيها، ‏ولو قلنا بجدلية الصورة، وموضوعها. وما دامت باطنية في إدراكاتها المحددة بوضعيات سياقها الفكري، والمعرفي، فإن الصور ‏الذهنية المركبة منها من الملموس، والمعقول،قد تكون محفزة، وباعثة على الاستكانة لما يرد عليها من ضغوط قاهرة، بل حتى ‏رسوم الأفكار المعنوية التي تواترت عليها من لزوجة الأحداث والوقائع التاريخية، تحدث فيها انفعالا ظاهريا، فتستلين للمعنى ‏المراد منها، وتستكين لما يقتضيه من بذل، وتضحية، ولو كان مترعا بالخيال، والحلم، والوهم. ومن هنا ظن المعتزل هروبه ‏نجاة من نيران واقعه، وفرارا من ضوضاء حياته، وهو لا يدري أن ما انطوى في ذاته، هو أشد حرصا على منازلة ما ‏يكرهه، لأن ما تفتق في المجتمع من كفاح ونزاع مطرد، ما هو إلا دليل على إفراز ذات كل واحد منا، وبرهان على انطباعه بما ‏يعيش في أعماقنا من إرادات غامضة. ولذا، يكون الاعتزال رفضا لناموس الجماعة التي لم تلتزم بقواعد الممارسات ‏الاجتماعية، وهو مشاكل لكل الأفكار التي تعيش في المجتمع، ولكنها في أرقامها غير معروفة لمن لا اهتمام له بما ينمو بيد الدور ‏من ظواهر، ومشكلات، وأزمات. ‏
وهكذا، نخلص إلى أننا أمة تتحرك بين أمواج محيط كوني تعيش فيه بدون طوبى، لأننا ما فتئنا ننتظر مما هو قائم فينا من مجد ‏التاريخ أن يحررنا، ثم يطلق سراحنا بين الأمم، والشعوب، لكي نفصح عن مخزوننا في القضايا الأخلاقية، والإنسانية. وإلا، ‏فماذا سخرنا في طريق الإنسان، لكي ننتشله من المرض، والفقر، والجهل.؟ إن لم نطق أن نجيب عن هذا السؤال الجوهري، ‏فإننا سنصر على تقرير نظرية المؤامرة في عقول شبابنا، وتسويغها لهدوء شيوخنا، لعلنا نكسب حقدا لهذا الوارد الطاغي، ‏ونجامل غرورا تاريخيا في أعماقنا البادي. وإذا ما عن لنا أن نستلين لهذه الفكرة المعبرة عن إدراك الخلل بين الذاتي، والجماعي، ‏فإن ما سنقوم به من تسويغ للكراهية، والقتل، والدمار، هو الوجه الأفصح عن تناقض الذات في تحقيق ما يحكم عليها من ‏أفكار غائرة، وتباين صور الذهن عما هو قائم في الواقع من تنظيمات مغالية في عبادة الأنانية، ورعاية الإقطاعية، لأن انتفاء ‏العلاقة بين الذات ومحيطها الخارجي، هو الذي يخلق فيها مناطق فارغة، لا يمكن امتلاءها إلا بما نعيد صيغته من قيم المعنى، ‏والجدوى. وذلك هو المحدد لعمل الجوارح قبل عمل القلوب، إذ قوة الملموس أشرس في نقش الصورة من تجريد المعقول. ومن ‏ثم، تنفصل العرى بين العلم، والعمل، والقول، والفعل، لأن خيط الربط فيما بينهما، هو الذي يصير الذات مسؤولة عن ‏صيرورتها في ذاتها، وفي جماعتها، وإلا، استولت على غير حقيقتها، واستقوت بما تكسبه من قوة، ومناعة، ومهما كانت ‏الوسائل المسوغة حقيرة، لأن ما تنطوي عليه الذات من فطرة، لا ينجلي إلا إذا سادت فطرة المجتمع على تضامنه، وتراحمه، ‏إذ صيرورة المعاني، تقتضي الوصل بين الحقائق، وإن تشظت، وصارت متفرقة، صار اكتساب بعضها غير كاف في نيل قيمة ‏الكل الذي يشعرنا بالسعادة، والطمأنينة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يواجه محاكمة جنائية بقضية شراء الصمت| #أميركا_اليوم


.. القناة 12 الإسرائيلية: القيادة السياسية والأمنية قررت الرد ب




.. رئيس الوزراء العراقي: نحث على الالتزام بالقوانين الدولية الت


.. شركات طيران عالمية تلغي رحلاتها أو تغير مسارها بسبب التوتر ب




.. تحقيق باحتمالية معرفة طاقم سفينة دالي بعطل فيها والتغاضي عنه