الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقالة نقدية...

يعقوب زامل الربيعي

2017 / 2 / 17
الادب والفن


( صمت الغرانيق ) ليعقوب زامل الربيعي
رافد قصصي في نهر الابداع العراقي..
...
الناقد والباحث العراقي شكيب كاظم
....
منذُ سنوات وأنا أتابع المنجز الابداعي للقاص يعقوب زامل الربيعي الذي توزع على الصحف والمجلات العراقية فضلا على العربية، ولقد جمع بعض هذا المنشور وبعض هذا الذي لم ينشر بين دفتي كتاب صدر عام 2008 عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد وحمل أسم ( صمت الغرانيق ) المجموعة القصصية هذه احتوت على اثنتي عشرة قصة قصيرة كتبت أولها عام 1972 وكتبت أخيرتها عام 2001 وهو نتاج قليل إذا ما قيس بالمدة الزمنية الطويلة التي مضت بين النتاجين، مع أني موقن أن (صمت الغرانيق) لا تمثل كل الجهد الابداعي للقاص يعقوب زامل الربيعي بل جزء منه اختاره القاص بعناية ودراية كي يمثل مثابات واضحة من مسيرته في دنيا الكتابة والابداع كذلك هي تمثل شذرات من هذا النتاج القصصي أو أجمل الشذرات مبحراً في عوالم متعددة منها القصة السياسية التي تبحث قضية المقامة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني والموسومة بـ " سيناريو الحلم والانهيار "والمنشورة عام 1973 في مجلة ( الهدف ) البيروتية الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فضلا على قصص مستمدة اجواءها من الحياة العراقية، معرجاً على قصة الحرب التي لم يخل منجز قصصي عراقي منها.
القاص يعقوب زامل الربيعي يقدم لنا اجواء الحرب التي تركت ظلالها القاتمة والمدمرة على الحياة العراقية بسبب تطاولها إلى ثماني سنوات سابقة بذلك حتى سنوات الحرب العالمية الثانية البالغة ست سنوات وكثرة فجائعها وخاصة ثيمة لن يعود بسبب الاستشهاد أو الفقد أو الأسر الطويل، ولكن ذويه لا يريدون الاصطدام بالحقيقة الموجعة. حقيقة الفقدان الابدي والغياب الذي لا عودة فيه، يرضون بذلك ذواتهم المكلومة الموجعة بعذابات الغياب بآمال واهية وأمنيات غاربة ذاوية.
ففي قصته الجميلة ( غاز .. غاز ) تظل الزوجة الشابة تحيا على أمل واهٍ .. أمل عودة زوجها الذي تركها في الأيام الأولى للحرب وزرع في رحمها بذرة جنين، تظل متشبثة بأمل عودة هذا الزوج الغائب مع ان هذا الجنين أضحى فتى له من العمر عشر سنوات. هذه الفكرة التي تتشبث بها فكرة عودة الزوج الغائب تجعلها مشدودة إلى الحياة بحبل سري يضفي عليها شيئا من الأمل الواهي لأنها لو وصلت إلى الحقيقة المدمرة .. حقيقة أن هذا الزوج ذهب من دون رجعة وأنه أكلته الحرب في من أكلت من رجال العراق وشبابه، ستجعلها تقع في مهاوي الجنون أو الموت : " في ليلة، تجرأت أن تترك روحها على سجيتها، في تلك الليلة فعلت ذلك. المرة الوحيدة التي أشعرتها غريزتها كامرأة ناضجة أن عليها أن لا تهرب أو تختفي كأنما أدركت لأول مرة أن افكاراً صغيرة منبعها الحب ليست ضارة!". " ــ عليك أن تخبرني بالله يا رجل. أصدقني القول. ــ لقد رأيته بعينيّ هاتين، يسقط في ساحة المعركة. صمِتت وكان وحش الألم يأكلها . أصاب حيويتها أولاً ثم أفكارها. ــ لكنكم في لباسكم الموحد متشابهين ( الصحيح: متشابهون) كيف ميزته؟. ــ أعرفه جيداً حتى من قفاه. أصابع مخملية لامست قلبها وثمة ضباب مخدر انطبق فوق عينيها. قالت وهي تبحث في وحل هزيمتها عن خرزة اليقين: " ألم يشتبه العرض في تلك الليلة؟ ".
ــ ما زالت صورته واضحة أمامي حتى الآن.( ضاق صدرها. غطت وجهها. بدت عاجزة عن فعل شيء. سمعها تشهق بالسؤال: ــ هو؟. ــ هو ليس لي صديق سواه!). " وتظل تسأل بائع الغاز عن تفاصيل أخرى، لكنها حين لاحظت الدموع تترقرق في عينيه، سكتت. لم يكن أمام ( سنية ) وقد آل جدار أملها للسقوط، إلا أن تهرب لزاوية من بيتها لتبكي بملء قدرتها".
قصة ( غاز .. غاز ) هذه، ثيمة البحث عن الغائب وانتظار عودته، أبناً أو أخاً أو زوجاً ، تعيد للذاكرة رواية ( امرأة الغائب ) للقاص والروائي العراقي المبدع مهدي عيسى الصقر، الصادرة طبعتها الأولى عن دار المدى سنة 2004 فضلا على العديد من القصص الجميلة والموحية التي اودعتها القاصة العراقية المغتربة ( بثينة الناصري ) في مجموعتها ( الطريق إلى بغداد ) وخاصة قصة ذلك الأبن الذي لا يعرف أباه العائد من الأسر بعد سنوات طويلة ويستنكر علاقة أمه به ويعده رجلاً غريباً مما يجبر أبوه على مغادرة منزل أسرته نحو الا أين.. نحو المجهول. وقبل أن تدب الحركة في الدار ويستيقظ ابناؤه من نومهم حاملا بعض حاجياته.
وفي القصة الثانية من قصص الحرب التي فرضت نفسها على الأب العراقي والموسومة ( الفشل حين سقط ضاحكاً ) ينقل لنا القاص يعقوب الزامل أجواء الحرب في ذلك الموقع المتقدم من الجبهة، يطعم قصته هذه بالاسترجاع وانثيال الأفكار عائداً إلى ذكريات ( سالم بن جميلة ) أيام حياته المدنية " ليس سوى الظلام العريض.. السميك.. المحدب.. الملثم، تتقاذفني الريح ، ويلطم وجهي رذاذ كأنه الابر من بحر السماء الثقيلة الراعدة ". ولكي يرصد أحداث قصته، يعود إلى ذكرياته " فكر بالزنجي الودود الذي كان يمرح في الغدران. يتقافز بين القطعان كالمجذوب، يلهث خلف الكلاب النابحة والطيور المذعورة والضفادع" ، ثم يعود إلى واقعه باحثاً عن المرصد اللعين محدثاً نفسه : " أين ولى المرصد اللعين. المرصد ليس بعيداً أنه على بعد مئة خطوة من باب الملجأ " . لكنها الظلمة البليلة العاتية الراجفة تهز حقائق وعيه. وبعد لأي ومصاعب ومخاوف، يصل إلى المرصد. لكن وجده هناك. ولم يكن فيه غير الذئب. ذئب يوسف. ويوغل القاص يعقوب في استخدام بنى التضاد للوصول إلى النهائيات غير المتوقعة لينهي قصته الأنيقة هذه بغير المتوقع والمضاد لكل الاحتمالات كما أنهى الفيلسوف جان بول سارتر قصته الرائعة ( الجواد) الذي أحسن الراحل الكبير ( جواد الطاهر) صنعاً إذ ترجمها للعربية ونشرها ضمن مجموعة قصصية من القصص المترجمة عن الفرنسية بعنوان ( الأبن وسبع قصص أخرى ). نشرها دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد بطبعة ثانية عام 1968. لكن عندما لاح للفجر أول خيط على المكان أنسلت البهيمة. أنسل ذئب يوسف خارجاً فأطلق سالم بن جميلة لأخيلته العنان ويسلم نفسه إلى نوم هانئ لذيذ. بعد أن حصل ما لم يكن بالحسبان وما لم يكن متوقعاً أبدا.
يبرع القاص يعقوب زامل الربيعي في الوصف، تضاريس أجساد النساء. واذا ما تقرأه تحس نفسك كأنك تقرأ في كتاب ( الروض العاطر في نزهة الخاطر) للعارف النفزاوي. أو في كتاب ( أخبار النساء ) لابن الجوزي أو ( تحفة العروس ونزاهة النفوس ) لابي القاسم التجاني أو حتى ( رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه).. " كانت سلوى ممتلئة بنعمة نضوجها وغضارة انوثتها رغم بساطة ملبسها وتصفيفة شعرها مثل قنينة عسل فاض محتواها (..) قامة فرعاء ميساء ، وأرداف مغرية بوجه صبوح مجبول بملاحة ريف الجبل الخالصة. كما أن اطرافها التي تناسقت جميلة ملفوفة. كانت تُرى مع طول قامتها على أكمل وأرق وجه. ( في قصة اسفنديار ).
القاص يعقوب الربيعي يكتب القصة النفسية، وهو لون من ألوان الكتابة القصصية لم يكتب فيه إلا القلة من قصاصينا مثل القاص والروائي العراقي المبدع حنون مجيد، كما في العديد من قصص مجموعته ( الطائر ). فهو ينقل أجواء الرتابة التي تقتل بهجة الحياة الزوجية وتحيلها ركاماً. الأمر الذي يدفعهما ــ الزوج والزوجة ــ إلى البحث عن منفذ أو منقذ يجددان خلاله الحياة اليومية الرتيبة. أو كما أبدع لنا المسرحي والشاعر العراقي المبدع الراحل يوسف الصائغ، عمله الروائي المسرحي الجميل ( اللعبة ) الذي أقامه على مكالمات هاتفية مطولة يجريها الدكتور رافع من عيادته متقمصاً شخصية محب وله مع زوجته ( غادة ) كاسراً الرتابة مفصحاً عن مرض نفسي يعانيه وهو ما سبق لي أن تناولته وأنا أتحدث عن رواية ( اللعبة.. رواية الحيز الضيق.. رواية نفسية ) في حديثي النقدي المنشور بجريدة " الثورة " يوم الأثنين 25/ربيع الاول/1416 ــ 21/ آب/ 1995 ــ العدد 8799 .
في قصة يعقوب الربيعي الجميلة ( الغريبان والعنكبوت ) يصور لنا القاص علاقة زوجة يعتورها الخواء والعدم والذبول يحاول الزوجان تجديد حياتهما بالخروج للتنزه ولبس ملابس ترضي رغبات الآخر، فضلا عن تقمص شخصية العاشق.. " في مكان معزول بعيداً عن رقابة العيون، جلسا متجاورين، كل منهما يلتهم وجه الآخر. كان لعينيها السوداوين بريق منفعل وفم مغزلي طري ورأس محفوف بشعر أسود ناعم يبعثره الهواء على كتفيها (...) على أن صاحبة هذا الوجه ما برحت تعاني علّة (...) ــ كان ذلك في زمن مضى. قديماً كان يعرف كل شيء حتى تفصيلات ملابسي. كنا معنيين ببعضنا، أما الآن (...) لقد أصبحنا مثل ورقتي توت جافتين. لم يعد لنا غير الماضي الذي أنزوى بعيداً. تخيل كيف تسرب الماضي مثل ماء بين صخور !!! (...). ويصل الزوجان إلى الحقيقة التي لابد منها، كي يعيدا شيئاً من النضارة والبهجة لحياتهما المقفرة المصحرة الذاوية فبعد أن كانا يعانيان الفراغ والخواء والعتمة التي أنهت ما قد بدأه من حياتهما السالفة، يصلان إلى نتيجة مضادة لهذا الخواء مفادها: " الامتلاء، الامتلاء وحده هو من سيعيد العافية لحياتنا المجدبة المريضة " التي قرار مغادرتها وعيش حياتهما كما يجب أن تحيا وتعاش. وبعد فأن الجهد القصصي لقاصنا يعقوب زامل الربيعي ممثلاً بهذه المجموعة فضلاً على نتاجه الموزع على الصحف والمجلات في العراق ودنيا العرب ليعد رافداً يصب في نهر الابداع القصصي العراقي الذي عرف بمبدعيه عبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمد خضير ومحمود عبدالوهاب وأحمد خلف وحنون مجيد وعبدالستار ناصر وفهد الأسدي وجمعة اللامي وكاظم الأحمدي.
................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع