الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكرياتٌ و خواطر لا يسعها عنوانٌ واحد- 4

سعدون الركابي

2017 / 2 / 20
سيرة ذاتية


" الحياة فريسة الشاطر "

بدأ العراق و منذُ بداية السبعينيات, يسيرُ بِخطىً ثابتةٍ نحو النهوض في مُختلفِ المجالات. و لقد ساعد هذا النهوض, التصاعدُ المُستمر لأسعارِ النفط. كانت أرضُ العراق, أرضآ مُعطاءآ. كانت حقآ, أرضُ الرافدين الخضراء. كُنّا نحنُ الصبية, و في طريقنا نحو المدرسة, نضيعُ بين السنابل العنقاء. و لم نكُن نشعرُ بأننا فقراء, نحنُ أبناءُ الريف. إذ كُنا نمتلكُ المواشي و الدواجن. بينما كانت أراضينا التي تتدَفّق عليها مياهُ الرافدين بغزارة, تدُرُّ علينا بالمحصولِ الوفير من الحنطة و الشعير و الذرة و غيرها من الحبوب. إضافةً لذلك, كُنّا نزرع الخضروات, مِثلَ البطيخ الأصفر و الأحمر و الطماطم و الخيار و غيرها. أمّا في حديقتنا المُلاصقةِ للبيت, فقد كُنّا نزرعُ ما نحتاجهُ من خضروات. و أذكرُ إنَّ والدي كان يزرعُ حتى التُبغ. إذ كان المُدخِّنون, يطحنون ورود التبغ بعدَ تجفيفها. ثُمَّ يصنعون منها السجائر الملفوفة يدويآ. و كانت الجداول و السواقي بالكاد تُوقِفُ المياهَ الطافحةِ عن الفيضان. بينما تسبحُ أنواع الأسماك أمام أعيُننا. إذ كُنا نصطادُ ما نشاءُ منها. لقد كانت أراضي بني ركاب, خضراء على مذِّ البصر. إذ كُنّا نحنُ التلاميذ نجلسُ كُلٌّ في أرضِ أهلهِ. نُذاكرُ دروسنا و نحنُ نفترِشُ الحشيش بالقربِ من السواقي و مياهها الصافية. نستمتعُ بزقزقةِ الطيور, و ألحانِ البلابل و نقيق الضفادع, و النسيم المُعطّر بعطرِ النباتات و الزهور. كان الريف جنةً في الأرض. و لم يكن ليحلمُ إبن الريف أن يسجِنَ نفسهُ بين أربعة حيطانٍ في المدينة. بل هو سيشعرُ بالإختناق, إذا ما تركَ حياةَ الحُريةِ بين الأرضِ و السماء في الريف, و إندّسَ بين أزِقَّةِ المدينةِ وروائح مجاريها. هكذا كان إبن الريف شامخآ مثلَ نخلِ العراق. بينما يتسابقُ أهلُ الريف اليوم, للإختفاء بين درابين المُدن, بعد أن تحوّلت أراضيهم الخضراء الى أراضٍ جرداء تغزوها الأملاح. و لقد بكيتُ و نزلت دموعي عند زيارتي للعراق سنة 2000, و أنا أرى من شبابيك السيارة المُنطلقة من بغداد الى كربلاء, كيف كانت أشجارُ النخيلِ ذابلةً, مُنكسةً رؤؤسها, خجلآ من مأساتها التي هي ترجمةٌ لمأساةِ العراق كُلَّهُ. و كان العراق ينطلقُ نحو الأمام في جميعِ المجالات. فمن مُحاربة الجهل و محو الأُمية, خاصةً في الريف, الى البناء و الإعمار. و بناء المعامل و المصانع, الى الإبداع في مُختلفِ المجالات. و في مِثلِ هذهِ الأجواء, يبزغُ نجمُ الفنِ و الفنانين. إذ برزَ خِيرة فناني العراق في تلكَ الفترة. فمن ياس خُضر الى حسين نعمة الى سعدون جابر الى حميد منصور الى سيته هيكوبيان الى طالب القرغولي و غيرهم الكثير. و لقد حالفني الحظ - فيما بعد - و إلتقيتُ ببعض الفنانين النجوم عن قُرب, مثل ياس خضر و حميد منصور و محمود أنور, كما سأشرحُ ذلك فيما بعد. إضافةً الى الأُدباء و الشعراء و فناني السينما و التلفزيون. كُنا نشعرُ ببحبوحةٍ من العيش و بِنفسِ الوقت, بفُسحةٍ من الحُرية. و كُنّا نشعر بالفخرِ و الكبرياء, لأنَّنا عراقيون. لذلك يمكن إعتبار فترة السبعينيات, هي الفترةُ الذهبية بحقٍّ في تأريِخِ العراق الحديث! كانت فترة الرئيس المرحوم أحمد حسن البكر, فترةَ سلامٍ و إنفتاحٍ و تسامُحٍ و رخاءٍ و أملٍ و فخر و حُرية. و لقد بكيتُ بحقٍ, بعدما سمِعتُ خطاب البكر في 17 تموز 1979, و الذي أعلن فيهِ الإستقالة. و كأنني أدركتُ بحدسي, ما سينتظرُ العراق من بعدهِ. و لقد كُنّا نتهامسُ, بأنَّ ما حدثَ كان إنقلابآ. و لم ينتظر ذلك السفاح طويلآ, حتى يُرينا وجههُ الدموي. و أذكرُ إنَّ مديرية الأمن الإجرامية, كانت قد أُفتُتِحت ضمن مبنى شرطة قضاء الرفاعي, بعد مجيء صدام حسين. إذ لم يكن سابقآ, سوى مركز شرطة القضاء و القائممقام. و كان أهلُ القُرى يرتعبونَ لرؤيةِ الشرطي ( أبو إسماعيل ). إذ كانت لهُ سلطةٌ و هيبة. و لقد كُنتُ أسمع أحاديث أهل القريةِ عن الشرطة. و لكنني رأيتُ بنفسي مرَّةً, كيف أمسكَ رجالُ الشُرطةِ, بعد مُطاردةٍ و هم على خيولهم, أحدُ المُتخلِّفين عن خدمة العلم أو الهاربين من الجيش, و إقتادوهُ مثل الخروف, مُكبَّل اليدين يركضُ أمامَ خيولِ الشرطة, تتبعهُ السياط. بينما كان يُدوّي في القرية صراخ النساء خلفهُ, و كأنهُ يُساقُ الى الإعدام. بينما كان الرجال يقفون عاجزين لا حولَ لهم و لا قوّة!! كُنت أجلسُ مساءآ مع عائلتي على سطحِ الدار, بينما كان صوتُ مذياعي يُسمعُ عاليآ في كُلِّ القريةِ. و فيهِ يصدَحُ صوت إبن الرافدين من إذاعةِ أورشليم القُدس, الذي يختمُ برنامجهُ الليلي, حول الثورجية العرب, بِحكايةٍ كدليل على حديثهِ في تلك الليلة. إذ يقول و بلهجةٍ عراقية خالصة, إذ هو عراقي الأصل؛ هاي هِيَّ القصة, إتفضَّلوا إسمعوها. و يحكي حكايتهُ. و بها يختتمُ برنامجهُ. أو كُنتُ و أهلي نستمعُ لراديو الأهواز الذي كان يصدحُ عاليآ. إذ كان الشاعر العراقي المُعارض, يهزجُ؛ " وين جيش الشعب هز أركانه خلي معشر ينّصب ميدانه خلي معشر ينّصب بيه الحساب تحاسبونه للبكر و أعوانه ". كان ذلك في عهد الشاه, و قبل إتفاق الجزائر سنة 1975. و لم نكُن نخاف الإعتقال. و لقد كُنتُ مُعجبآ بأسلوبِ السادات في الخطابة. إذ كان يُكثر الخُطب. و كانت إذاعة " صوت العرب ", تبُثُّ خطاباتهِ بعد أخبار الثانية عشرة ليلآ. إذ كُنتُ أسهرُ أحيانآ حتى الساعة الواحدة أو الواحدة و النصف بعد مُنتصفِ الليل, لمُتابعةِ خطاب السادات. و كانت والدتي تجلس ساهرةً معي و هي تغزلُ الصوف. و رغم ذلك, أستيقضُ فجرآ للذهابِ الى المدرسة. و في الطريق, ألقي أمامَ زملائي مُقتطفاتٍ من خطاب السادات, و بِلهجتهِ المصرية. كما كُنتُ أُتابعُ بإستمرار, مختلف الإذاعات, مثل إذاعة موسكو, و إذاعة ال بي بي سي و صوت أمريكا. و المُسلسلات و البرامج التأريخية من إذاعة الكويت. و مُسلسلات أبو صيّاح و أم صيّاح من إذاعة دمشق, و غيرها الكثير. و لكن بدأ الخوف يدُبَّ في أوصالِ العراقيين, بعد مجيء فترة الرُعب الصدامية. إذ أثارت ثورة الخميني الإعجاب, لدى الكثير من العراقيين و خاصةً الشباب. فتبارى الكُتاب و الشعراء على كيل المديح و الإعجاب للخميني و ثورتهِ في كتاباتهم. و لكن بعد أن غدر الديكتاتور برفاقهِ, صارحتُ والدتي بمخاوفي. فإنتظرنا حتى نام والدي و إخوتي. فأحرقنا بالتنور, أشعاري و كتاباتي.
رُبَّما سيسخرُ البعض, بأنني أعيشُ في عالمٍ آخر, و أتكلَّمُ عن أُمورٍ تافهةٍ! في حقيقة الأمر, إنَّ لكُلِّ إنسانٍ عالمهُ الخاص. و هو يدورُ في فلكِ هذا العالم, حتى و إن تظاهرَ بأنَّهُ مُندَّمِجٌ في عالمِ الآخرين.
كان بعضُ الرجالِ القرويين يمتطون خيولهم في طريقهم الى مدينة الرفاعي. و يستودعون هذهِ الخيول لدى بيوت قرية سوق سِعدة, بينما يسافر الآخرون باللوري أو مشيآ على الأقدام. كان عدد بيوت سوق سِعدة لا يتجاوز العشرين بيتآ. بينما تنتشرُ المقاهي و بعض الدكاكين قرب شاطيء نهر الغرّاف. و كان عبور نهر الغرّاف الى مدينة الرفاعي في الجهة المُقابلة, يتمَّ بزوارقٍ مربوطةٍ بسِلسلةٍ مُثبتةٍ في ضفتي النهر المُتقابلتين. و يتمُّ سحبَ السلسلةِ يدويآ, فيتحرّكُ الزورق " البلم ". كما توجد وسيلة كبيرة أخرى, يتِمُّ فيها نقل عدد أكبر من الركاب مع المواشي التي يجلبها القرويون الى المدينةِ لبيعها. و هذهِ الوسيلة, هي عبارة عن خزاناتٍ حديديةٍ فارغةٍ و مصنوعةٍ بشكل الزوارق, و كانت مربوطةٌ فيما بينها. و فوقها سُقفت بالألواح الخشبية الثخينة. و أُحيطت جوانبها بسياجٍ حديديٍ مُشبّك. و يُحرِّك هذهِ الوسيلة التي تُسمّى " الطبكة ", يُحرِّكها موطور ديزل. كُنّا نذهبُ للمدينة لشراء ما نحتاجهُ من السُكّر و الشاي و الرز و الملابس و بعض الحاجيات. و في أكثر الأحيان, كان القرويون يذهبون لأصحاب الدكاكين الذين يعرفونهم جيدآ. و يشترون منهم ما يحتاجونهُ من بضاعة على الحِساب " بالدَين ".
و في أواخر السبعينيات, أنشأت الحكومة جسرآ مؤقتآ. كان على ما يبدو جسرآ عسكريآ. إذ ثُبِّتَ بجانبي النهر بالأسلاك الحديدية القوية. و لكن أصحاب الزوارق الذين تضرّرت تجارتهم, لم يستسلموا لِلأمرِ بسهولةٍ. إذ فكّوا الأسلاكَ الحديدية من وثاقها في جُنحِ الظلام. و لقد تمَ العثور على ذلك الجسر العائم, تجرفهُ أمواج نهر الغراف القوية, قُربَ مدينة النصر. بعد ذلك و في بداية الثمانينيات, تمَّ بناء جسر الرفاعي الحالي. ما أن جاء الخُميني بثورتهِ, حتى جنَّ جنون صدام و نظامهُ, و راحت الشتائم المُتبادلة, تعلو على العقل و حسن الجوار. و بينما كُنتُ في كُلّيةِ الإدارةِ و الإقتصاد, حدث تفجير المُستنصرية. و ذلك في أواخر سنة 1979. إذ جاء ذاتَ يومٍ, السيد طارق عزيز الى المُستنصرية, لحضورِ مؤتمرٍ طلاّبي. و لم يكُن عزيز وقتها مسؤؤلآ كبيرآ. و بينما كانت سيارتهُ تدخلُ بوّابةَ جامعة المُستنصرية, مُحاطةً بالطلبةِ المُستقبلين, أُطلقت قنبلةٌ أو إثنتان على الموكب, فسقط عددٌ من الطلبة, بين قتيلٍ و جريح, كما جُرج طارق عزيز. و لقد مرّت السنين, و رأيتُ طارق عزيز عن قربٍ و لعِدَّةِ مرّاتٍ في مؤتمرِ المُغتربين العراقيين. و لقد كان هذا العمل الإرهابي الإجرامي غير مُبرّر و غير مقبول على الإطلاق, بغضِّ النظر عن الفاعل . لأنَّ المكان هو مكانٌ مدني و حرمٌ جامعي. و لقد نوديَ في كُليتي, كُلِّية الإدارة و الإقتصاد, أن نتواجد في ساحةِ الكُلية. إذ شرح لنا مُمثِّلٌ من أتحاد الطلبة, ما تعرّض لهُ زملائنا في الجامعة المُستنصرية. و لقد أتُهمت الحكومة الإيرانية صراحةً, بأنها تقفُ وراء هذا العمل الإجرامي. و طلبوا مِن طلبة الكُلية الخروج في مظاهرةٍ من ساحةِ الكُلية حتى القنصلية الإيرانية. إذ توجَّهنا الى القنصلية الإيرانية الواقعة في بداية راغبة خاتون, في مواجهة سكة الحديد المُعلَّقة على طريقٍ مُرتفع, بشكلِ تلّةٍ طويلة. إذ كانت السيارات تمرّ من تحتهِ عن طريق الأنفاق. و بينما كُنّا نتظاهرُ بهدوءٍ و بشكلٍ سلمي, رمونا من داخل القنصلية الإيرانية بقنبلتين يدويتين, سقطت إحداها بالقرب مني, و لكنني لم أُصب بأيِّ أذى. و لقد تساقط زملائي جرحى بالقربِ مني. إذ إنَّ قميصي كانت قد تلطّخت بالدماء من دماء زملائي الجرحى, أثناء مُشاركتي في نقلهم الى سياراتِ الإسعاف. و لكي لا يعتقد أحدٌ بأنني كذاّب أبيعُ بطولاتٍ, فإنني أمتلكُ صورةً لي قرب القُنصلية الإيرانية. أبدو فيها في حالةِ رُعبٍ بالقرب من أعدادٍ كبيرةٍ من الطلبة. و يبدو إنَّ أحدَ الصحفيين كان مُتواجدآ في الموقع, هوَ من إلتقط الصورة. بعد ذلك, هرعنا خلف سيارات الإسعاف التي نقلت زملائنا الطلبة و الطالبات الجرحى الى مدينةِ الطب القريبةِ جدآ من مكان الحادث. و في المساء, إستمع العراقيون و العالم, الى خطاب صدّام حسين, الذي أقسَمَ فيهِ قَسَمَهُ الشهير: " و الله.. و الله, إنَّ الدماء التي سالت في المُستنصرية, لن تذهبَ هدرآ.." و لستُ أدري, لماذا نسي دماء زملائي, الذين سقطوا جرحى في منطقة راغبة خاتون قرب القنصلية الإيرانية؟ رُبَّما, لأنَّ دماء طارق عزيز, كانت قد سالت في المُستنصرية. و لو كان صدّام رجُلآ حكيمآ, لإكتفى بالتهديد و الوعيد, كما يفعلُ أيُّ سياسيٍ عاقل. و لكِنَّ صدّام كان يُنفِّذُ مُخطَّطآ أكبرُ منهُ. و إذا كان نظامُ صداّم مُتهوِّرآ و أرعنآ, فإنَّ نظام الخميني, لا يقِّلُ عنهُ رعونةً. و إلاّ, ماذا نُسمّي إطلاق دبلوماسيين إيرانيين ضيوفآ في بلدٍ جار, و يُمثِّلون إيران, إطلاقهم القنابل و من داخل سفارةِ دولتهم في العراق, على مُتظاهرين مُسالمين تمامآ و من فِئةٍ إجتماعيةٍ مُميّزةٍ, ألا و هم طلبة الجامعات؟؟ لقد كانت تعوز الثوار الإيرانيين في بدايةِ الثورة الإيرانية, الحِنكةِ و الحكمة. و هذا ما جعل الديكتاتور صداّم يصغي لتحريض الوهابيين السعوديين خاصةً و الخليجيين عامةً و القوى الأُخرى, الذين يكرهون العراق أشدَ من كُرهِهم لإيران. فأرادوا أن يتناطح الثوران الأرعنان حتى الموت. و لقد نجحوا في ذلك. إذ جُرح الثوران معآ جراحآ بليغةً. و أذا كانت إيران قد تمكَّنت من لعقِ جراحها و النهوض, إلا أنّ العراق, كانت قد توالت عليهِ المصائب و النكبات, الواحدةُ بعدَ الأُخرى, حتى أمسى جريحآ مُعاقآ مُقعدآ على الفراش, مثل أسدٍ جريح, تنهشُ في جسدهِ الذئاب و الكلاب و الثعالب. و لم يستطع أيُّ طبيبٍ من معالجتهِ, كما لم يستطع أحدٌ التكَهُّن, إذا ما سينهضُ العراق سالمآ يومآ ما, أم سيموتُ مُقطّع الأوصال؟ إذ لم يتوقّف كلاب الخليج عن القتلِ اليومي لأبناءِ العراق و تدميرِ كيانهِ. و أرسلوا جيوشآ من السفاحين المُجرمين, الذين دمّروا البشر و الحجر و آثار بلاد الرافدين. حتى دجلة و الفرات, قاموا بتجفيفهما. و ذلك بتمويلِ عشراتِ السدود التركية عليهما. فقط لتحويلِ أرض العراق الى صحراءٍ قاحلةٍ, مِثلَ صحاريهم الجرداء. و إجبار العراقيين على ترك بلادهم و الهجرة الى قارات الأرض. أذكرُ ذاتَ يومٍ, و أثناء فترة دراستي في كُلِّيةِ الإدارةِ و الإقتصاد, كُنتُ أقفُ في ساحةِ الميدان, قريبآ من شارع الجمهورية. لستُ أدري إذا ما كان الوقتُ صباحآ أو ظهرآ. و لستُ أدري لماذا نظرتُ بإتجاهِ شارع الجمهوريه. هل بمحضِ الصِدفة أم رأيتُ آخرين ينظرون فإلتفتُ لأنظر بإتجاه الشارع مِثلهم. كُلُّ ما أذكرهُ, إنني رأيت الرئيس صدّام حسين, يقودُ سيارة مرسيديس صفراء اللون قديمة, صناعة السبعينيات. و كان يرتدي ملابس بسيطة, و يضعُ كوفيةً بيضاء بخطوطٍ صفراء, ملفوفةً على رأسهِ على الطريقة البغدادية. و كان يقود السيارة لوحدهِ, و قد أنزلَ زجاجَ نافذتهِ بالكامل. مُتكِئآ بيدهِ على باب السيارة. و لم أر بجانبهِ أحدآ و لا خلفهُ. إذ إنَّ السيارة لم تكُن مُظلَّلَةً. و لم ألحظ أمامهُ سيارات حماية, على طريقة المواكب الرسمية. رُبَّما كانت هناك سيارة حماية أو أكثر مُتنكِّرةً عن الأنظار. و كانت سيارة الرئيس تسيرُ بين السيارات, حالها حالَ أية سيارةٍ أُخرى. و لم يهتف لهُ أحدآ, كما هو كان ينظرُ الى طريقهِ و لم يُحيّ الناس. و لقد دُهشتُ ساعتها, كما دُهشَ الناظرون. و إبتسمتُ كما إبتسمَ الآخرون. كانت هذهِ هي المرَّةَ الوحيدة التي رأيتُ فيها الرئيس المخلوع صدّام حُسين عن قُرب.
لقد كانت كُلية الإدارة و الإقتصاد, بعيدةً كُلَّ البُعد عن طموحاتي و عن ثقافتي. حتى إنّني تمنيتُ لو إنَّني إخترتُ كُليةِ القانون و السياسة, جارة كُليّة الإدارة و الإقتصاد, و المجال القريب من ثقافتي, بدلآ من الفواتير و إشترى عمر بضاعةً زيدٍ. و لقد أرسلتُ إلتماسآ الى رئاسة الجمهورية, للموافقة على نقلي من كُلِّية الإدارة و الإقتصاد الى كُلِّية القانون و السياسة, على إعتبار إنَّ مُعدّلي يُأهلني الى دخول الأخيرة. و لم أستلم أيَّ جوابٍ أبدآ. فكان الأمل الوحيد الباقي, هو محاولة السفر الى أوروبا. رغم ذلك, و رغم حالتي النفسية التي وصلت الى أسوءِ حالٍ, خلال السنة التي أمضيتها في كُلِّيةِ الإدارةِ و الإقتصاد, إلا إنني كُنت ناجحآ في دراستي. كما إنني شاركتُ في مُسابقةٍ شعريةٍ على مُستوى جامعةِ بغداد. إذ قيلَ بأنَّ أحد أعضاء لجنة الفحص, كان الشاعر شفيق الكمالي. و لقد أُهملت قصيدتي. فأنا أعترفُ بأنني لا أُجيدُ كتابةَ الشعرجيدآ. رغم ذلك, فقد وجدتُ قصيدتي في نشرة الكُلّيةِ الجدارية. و لقد نُسبت لأحدِ الطلبة! كانت تلكَ أولُ سرقةٍ أدبيةٍ أتعرّضُ لها. و لقد كُنتُ في أشدِّ الحماس في حربِ تشرين " الخُدعة ", عندما كُنتُ طالبآ في الصف الأول مُتوسُّط في مدرستي العزيزة, مدرسة النبراس. إذ كُنتُ أكتبُ مشاعري أثناء تلكَ الحرب. بإسلوبٍ كُنتُ أظنُّهُ شعرآ, و لكن لم يكن بشعرٍ. و لقد كُنتُ أُلقيها في الصف أمام الإستاذ و الطلبة.
لقد كان الهدف من سفري الى أوروبا, هو أن أعودَ بالشهادةِ المرجوّةِ و أن أكونَ ناجحآ في مجالي. كي أُثبتُ لِمن يحبني و لِمن يكرهني, بأنني جديرٌ بالإحترام و التقدير. و ذهبتُ و ناضلتُ و إجتهدتُ و نجحتُ و حققَّتُ الهدف شُبهَ المُستحيل, و لكنني لم أعُد! و لقد كان الناسُ في منطقتي يتسائلون طيلة أكثر من ثلاثين سنةٍ خلت: أين إختفى هذا, و ما هو مصيرهُ, و لماذا لم يعُد إذا كان ناجحآ حقآ في مُهمَّتهِ؟ و كان الأهلُ يشعرون بالإحراج, و هم لا يعرفونَ بماذا يُجيبون. و في حقيقة الأمر, فإنَّ الإنسانَ شاطرٌ في مديحِ نفسهِ عندما يفوز, أنا و أنا و أنا... يقولُ أناتولي فرانس : " يُلامُ الناسُ الذين يتحدّثونَ عن أنفسهم, و لكن هذا هو أحسن موضوعٍ يُجيدونَ الحديثَ فيهِ ". لقد قال مرةً, ثعلبُ السياسةِ الأمريكية, هنري كيسنجر: الحياةُ فريسةُ الشاطر. و أنا أزعمُ, بأنَّني, و في بدايةِ مشوارِ حياتي الصعبة جدآ, تمكَّنتُ من الحياة, فجعلتها فريستي. و لكنني تخاذلتُ فيما بعد, و ذلكَ بعدَ أن تحقّقَ الهدفُ كاملآ! و إستسلمتُ للحياة, نتيجةً لضروفٍ موضوعيةٍ قاهرة, و نتيجةً لحساباتٍ خاطئة, فأصبحتُ أنا فريسةً لهذهِ الحياة! هذا ما حذّرني منهُ المرحوم والدي, ذاتَ مرةٍ. إذ قالَ لي: أخافُ يا إبني أن يتبعَ حماسكَ هذا, و نجاحاتكَ المُتلاحقة, و المديح الكبير الذي يلاحُقِكَ بهِ الناس, أن يتبعهُ فشلٌ و خيبةُ أملٍ. و هذا ما حصلَ معي بالفعل. إنَّ هُناك إمورآ تستحقُّ أن تُذكر و أُخرى لا. إضافةً الى إنَّ الطريق ليست سالِكةً تمامآ دائمآ. إذ أنتَ تمشي بين الأشواك و الورود. فأنت تمشي بحذرٍ, كي لا تسحق الأشواك فتؤذيك, و لا تسحق الورودَ فتُؤذيها. و أقولُ لجميع هؤلاء و بكُلِّ الإحترام, و بغضِّ النظر عن النوايا و المشاعر, رُبَّما غير الطيِّبة تجاهي, و التي قد يضمرُها البعض, و التي يهدفُ الكثيرُ منها, تفنيد الهالة التي بناها بعض الطيبين حولي. و التهديم و التحطيم بالمعاولِ الحاقدة, و الإساءة - قدر الإمكان - لِكُلِّ حالةٍ مُتميزةٍ عن الآخرين . و دون الأخذ بعينِ الإعتبار, بأنَّ هذا الإنسان, كان قد ناضل و سعى و ضحى و جدَّ و لوى القدر و الصعاب, بشكلٍ لا يستطيعهُ الآخرون أو رُبَّما لم يُكلِّفوا أنفسهم لِلحاقِ بهِ. فلم يبق أمامهم سِوى الإساءة إليهِ و التقليل من شأنهِ و الترويجِ لفشلهِ! أقولُ لِكُلِّ هؤلاء, كي أُفرحهم: إنَّكم على حقٍ تمامآ. و إنَّني - بالنتيجة و المُحصِّلة النهائية – إنسانٌ فاشل. و هذا ما سوف يكتشفهُ من سيقرأ شهادتي الذاتية هذهِ حتى النهاية. و ذلك إنني سافرتُ و إغتربتُ و ناضلتُ كثيرآ و عانيتُ كثيرآ و عانى أهلي, بل إنني حطَّمتُ المستحيل, في بعض مراحل مسيرتي, و ذلك كي أُحقق هدفي و أعودُ بالشهادة فائزآ. و بما إنني لم أعد الى بلدي و ناسي, بما إغتربتُ من أجلهِ, إذآ فأنا إنسانٌ فاشلٌ! بغضِّ النظر عن كُلِّ التبريرات, التي سأحاولُ التستُّرَ خلفها من الناس. المشكلة, إنَّ الناس عندما يتوسَّمون خيرآ من أحد, فإنهم يتناسونَ بأنهُ إنسانٌ بسيطٌ مثلهم. فمثلما عندهُ صفاتٌ مُميَّزة و إيجابية, فلديهِ نقاطُ ضِعفٍ و هفواتٍ و أخطاء. و أنا لا أدّعي بأنني ملاكٌ. ذلك إنَّهُ ليس هُناك ملاكٌ في هذهِ الأرض, بل كُلُّنا بشرٌ تُثقلُنا الذنوبُ و المعاصي و الأخطاء. ثُمَّ إنَّ أخرَ الملائكةِ كان جبرائيل, الذي كان قد أُرسِل الى النبي مُحمَّد. و الإنسانُ مهما كان طموحآ و مُناضِلآ و صلِبآ, فهو أيضآ ضعيفآ, و لديهِ مطباتٍ. ثُمَّ إنَّ قوى القدر و الضروف و الحياة, لا تَفرِشُ دائمآ, السِجّادَ الفارسي الفاخر في طريقنا, بل قد تضع في أكثر الأحيان, ليس العوائق مُمكِنةَ الإختراق, بل المُستحيلات و أكثر من القدر. و أنتم ترون, كيف إنَّ قوى القدر و البشر, تُحطِّمُ دولآ قائمةً و طموحة, بل و تُدمِّرُها, فكيف بإنسانٍ وحيدٍ و ضعيف؟ و لكِنَّ هذا الإنسان لا يعرفُ الإعترافَ بالفشلِ و الهزيمة. بينما من المفروض عليهِ أن يعرف, بأنَّ الحياةَ نهوضٌ و سقوط. و الإنسان عادةً ما يحصد ما يزرعهُ بيدهِ. و لكن مهما كان الإنسانُ قويآ, فقد لا ينتصرُ دائمآ على عواصف الحياة و القدر المُعاكسة لهُ و لإرادتهِ. سوف أحكي الحكاية من البداية و حتى النهاية. " من طقطق حتى السلامُ عليكم " كما يقولُ أخوتنا السوريون. رغم إنَّني لا أستطيعُ أن أذكُرَ كُلَّ شيءٍ. فهذا أمرٌ مُستحيل. بل سأذكرُ مُجرَّد رؤؤس الأقلام. إنَّ أحدَ أهَمّ أسباب فشل الإنسان هو الإعتداد بالنفس, و عدم الإستماع لنصائح الآخرين و منهم الأهل!! و عندما سيصحو و يكتشف الواقع, سيكونُ قد فاتَ الأوان, و لم يعُد ينفع الندم!! و على كُلِّ حالٍ, فأنا لم أفقد أخلاقي و حسن سلوكي و تربيتي. و لم يمُت ضميري أو أنس ذكر الله و الخوف من عقابهِ. كما لم أنس أن أشكر الله كثيرآ على نِعمتهِ التي أنعمَ بها عليَ, و بحبوحة العيش التي قد يفتقدُها الكثيرون. الحمدُلله كُلُّ الحمد. و في هذهِ المُناسبة, أدعو كُلَّ من يعرفُ عني شيئآ من سوء الأخلاق, فليقل دون تردُّد. فمن يعرف عني, بأنني كُنتُ سكيرآ أتسكّعُ بالشوارع و الحانات, كحالِ البعض, فليقل. و من يعرف عني بأنني سرقتُ أحدآ بشيءٍ أو نصبتُ على أحدٍ بشيءٍ أو ألحقتُ الأذى بأحدٍ عن قصدٍ و سوء نية, فليقل. و من لهُ عندي دَينٌ أو حقٌ ما أو لغيرهِ, فليقل. في رومانيا أو في أيِّ مكانٍ آخر. و حق الرد مكفولٌ, لِمن يشعرُ إنَّ لهُ هذا الحق. أو إنني لم أكن مُثابرآ مُجتهدآ في دراستي في الكُلية أو في الدراسات العليا كطبيب. أو كُنتُ أنجحُ بإستعمالِ أساليبٍ أُخرى, كما كان يفعلُ البعض, فليقل. و من يعرف بأنني إمتلكتُ دولارآ واحدآ بغيرِ عناءٍ و بغيرِ عرق الجبين, و بشهادةِ ربِّ العالمين, فليقل. إذ لابُدَّ لنا أن نعترف, بأنَّ الكثير ممَّن جمعوا المال في هذا العالم, لم يبذلوا عرقَ الجبين. و في الختام أقول: إنَّني ذهبتُ لأدرس, كي أعودُ ناجحآ بشهادتي التي سأخدمُ الناسَ بها, و لم أعد بهذهِ الشهادة و لا بشيءٍ آخر! إذن, فأنا سأعترفُ بأنَّني قد فشلتُ في مُهمتي. و بهذا يمكن القول, بأنَّني إنسانٌ فاشلٌ. نقطة رأس السطر.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في


.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا




.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا


.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء




.. اعتصام بجامعة سيدني الأسترالية تنديدًا بالعلاقات مع إسرائيل