الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المهاجرون في مصر المعاصرة

طارق المهدوي

2017 / 2 / 22
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


المهاجرون في مصر المعاصرة
طارق المهدوي
(1)
قبل عشرات ألوف السنين بدأت الهجرة البشرية الجماعية الاضطرارية الأولى من الغابات الطبيعية المكشوفة إلى الكهوف الحجرية المغطاة هرباً من خطر الانقراض بين أنياب الوحوش المفترسة وكوارث التقلبات المناخية، لاسيما في ظل اكتشاف الجنس البشري لكيفية إشعال النار وإطفائها مما سمح لاحقاً باستخدامها على بعض الأصعدة الحياتية، مع استمرار الهجرات الاضطرارية لسكان الكهوف الجدد الذين لم يتوقفوا عن تحركاتهم المتقاطعة أثناء ترحالهم التبادلي بين كل الكهوف المنتشرة في كافة المناطق الجغرافية سعياً خلف جمع والتقاط واصطياد أرزاقهم وتخزينها بعيداً عن الوحوش المفترسة والمجموعات البشرية الأخرى الطامعة، الأمر الذي أشعل بين أولئك المهاجرين الأوائل عدة منافسات حول الغنائم تطورت إلى صدامات ثأرية كان لا بد أن تترتب عليها صراعات دموية ثم حروب إبادة أسفرت عن منتصرين ومنهزمين، ليقوم المنتصرون أحياناً بقتل المنهزمين وأكل لحومهم ويقومون في أحيان أخرى بتقييد المنهزمين واستعبادهم لتسخيرهم من أجل تأدية الأعمال الجسمانية الصعبة والخطيرة، المتعلقة بإشعال النار وإطفائها وبجلب مياه الشرب وبرعاية النباتات والحيوانات المستأنسة والمدجنة وبحراسة الطعام السابق تخزينه وبنصب كمائن وأفخاخ الصيد وبتحصين الحواجز الدفاعية المخصصة لحماية كهوف المنتصرين وغيرها، إلا أن السلوك الأكثر شيوعاً لدى المنتصرين آنذاك كان لا يخرج عن احتلالهم الاستيطاني لكهوف المنهزمين والأراضي المحيطة بها عقب طردهم خارجها، فيجد أولئك المنهزمين المطرودين أنفسهم مضطرين إلى الهجرة نحو مناطق جغرافية جديدة، مع استمرار الهجرات البشرية الاضطرارية المؤقتة للمنهزمين الآخرين هرباً بجلدهم من احتمالات القتل والاستعباد، دون أن يتوقف المنتصرون ذواتهم عن الهجرة نحو مختلف المناطق الجغرافية الأفضل لهم سواء من حيث وفرة الطعام والماء واعتدال المناخ أو من حيث الابتعاد الآمن عن الوحوش المفترسة والمجموعات البشرية المنافسة أو الطامعة، وقبل حوالي عشرة آلاف سنة شكلت المنطقة الجغرافية الواقعة عند أقصى الشمال الشرقي لقارة أفريقيا تحدياً كبيراً ومكافأة أكبر لجميع المنتصرين والمنهزمين الذين هاجروا إليها في هجرات مؤقتة مدة كل منها ستة شهور فقط سنوياً، يعودون بعدها مجدداً إلى التخوم الأربعة التي كانوا قد وفدوا منها لتلك المنطقة حتى يتحاشوا تقلبات دورة المياه في المنطقة الجغرافية الجديدة، حيث الجفاف الشديد المتواصل لثلاثة شهور تعقبها ثلاثة شهور أخرى من الغرق تحت مياه نهر دافق عفي يحول مجمل الأرض إلى مستنقعات قبل أن يمتص البحر فائض المياه لتبدأ شهور الرخاء الستة الصالحة للإقامة المؤقتة بأمان واستقرار حول ضفاف النهر، الذي يكون قد هدأ لتوه في تدفقه من الجنوب نحو الشمال متخذاً لجريانه وادياً واحداً يتفرع قبل نهايته إلى سبعة مصبات، تجف خمسة منها تباعاً خلال موسم الجفاف التالي ليبقى المصبان الاثنان الأعمق المعروفان حالياً باسم فرعي دمياط ورشيد يكافحان مع مجرى الوادي الأكثر عمقاً المعروف حالياً باسم وادي النيل حتى لا يجف النهر كله في انتظار المدد المائي الوارد مع موسم الفيضان التالي وهكذا دواليك، ولكن سرعان ما واجه المهاجرون المؤقتون إلى تلك المنطقة الجغرافية الواقعة عند أقصى الشمال الشرقي لقارة أفريقيا تحدياً تاريخياً فاصلاً بين الحياة والموت، تمثل في استحالة عودتهم مرة أخرى إلى مناطقهم الأصلية بعد أن تم احتلالها بواسطة مجموعات بشرية مغايرة كانت قد هاجرت واستوطنت تلك التخوم أثناء خلوها من أصحابها الأصليين، لاسيما في ظل حرص المهاجرين الجدد للتخوم على استخدام أقصى درجات العنف مع استغلالهم لاحتلالهم الاستيطاني كأمر واقع ميداني يمنع المهاجرين العائدين من استعادة مواقعهم السابقة في مناطقهم القديمة الأربعة، الموزعة بين منطقة فارس والرافدين والهلال الخصيب إلى جانب منطقة الأناضول والقوقاز والضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط بالإضافة إلى منطقة الحبشة والصومال وبونت والشرق الأفريقي وأخيراً منطقة الوسط الأفريقي والضفاف الجنوبية الغربية للبحر الأبيض المتوسط، وهي مناطق كانت وما زالت تشكل الامتداد الطبيعي جغرافياً وبشرياً للمنطقة الواقعة عند أقصى الشمال الشرقي لقارة أفريقيا، والتي أصبح المهاجرون المؤقتون إليها عاجزين عن البقاء فيها خلال موسمي الجفاف والفيضان وعاجزين في الوقت ذاته عن مغادرتها للعودة إلى مناطقهم الأصلية الواقعة تحت الاحتلال الاستيطاني، فلم يجدوا أمامهم للحفاظ على حياتهم سوى العمل معاً بهدف تحويل إقامتهم المستقرة الآمنة في المنطقة الجديدة من طابعها المؤقت نصف السنوي إلى الطابع المستديم، واضطروا رغم مجيئهم من أربعة تخوم جغرافية مختلفة وبالتالي انحدارهم من أربع مجموعات سلالية متباينة إلى التعاون المشترك فيما بينهم لترويض نهر النيل والسيطرة عليه، سواء برفع المياه المنخفضة عبر أدوات الري اليدوية البدائية كالساقية والشادوف في مواسم الجفاف أو بتشييد السدود الحجرية والترابية مع تعليتها وتقويتها وحفر الترع والمصارف الجانبية مع توسيعها وتسليكها حسب ارتفاع مناسيب المياه في مواسم الفيضان، أما أثناء مواسم الرخاء فكانوا يتعاونون لتوزيع المحاصيل الزراعية والبذور مع ادخار وتخزين ما يصلح من فوائضها بهدف استخدامه خلال مواسم الجفاف والفيضان التالية، وإزاء استمرار تعاونهم بمضي الزمن أخذوا يتقاربون فيما بينهم حتى اندمجوا معاً ليشكلوا قبل حوالي سبعة آلاف سنة شعباً أسموه "عبيد الإله رع" وهي الترجمة العربية الحرفية للعبارة الهيروغليفية القديمة "ما - سي – رع" التي كنا وما زلنا حتى اليوم ننطقها "مصر"!!.
(2)
ظهرت المؤسسة المركزية الدينية الأولى في العالم مع استمرار احتياج قادة المصريين القدماء إلى تعبئة العوام حول هوية روحانية مشتركة توحد مشاعر الانتماء والولاء بينهم رغم اختلاف أصولهم السلالية المنبثقة عن أربعة تخوم متناثرة جغرافياً وبالتالي ذات هويات روحانية متباينة، كما ظهرت المؤسسة المركزية البيروقراطية الأولى في العالم مع استمرار احتياج قادة المصريين القدماء إلى تقسيم العمل اليدوي فيما بين العوام خلال مجهوداتهم الجسمانية الشاقة والمتواصلة، سواء لترويض نهر النيل والسيطرة عليه أثناء موسمي الجفاف والفيضان أو لجني المحصولات النباتية في موسم الرخاء أو لتخزين فوائض تلك المحصولات بعيداً عن التلف والأمطار والطيور والقوارض والحيوانات واللصوص، حتى يتم توزيعها على القادة والعوام عند حلول موسمي الجفاف والفيضان التاليين، بينما ظهرت المؤسسة المركزية العسكرية الأولى في العالم مع استمرار احتياج قادة المصريين القدماء إلى حماية الحدود الطبيعية المتباعدة جغرافياً والمحيطة بأرض "مصر" التي استوطنوها حديثاً في مواجهة أخطار الغزوات الخارجية المحتملة من قبل سكان التخوم الجدد الطامعين، ومع احتياج تلك المؤسسات المركزية الثلاث الوليدة للتنسيق فيما بينها من خلال التوجيه القيادي الأعلى فقد ظهرت مؤسسة "الفرعون" الشمولية السيادية الآمرة الناهية لتكتمل بذلك أركان دولة الاستبداد الفرعوني المستمرة حتى اليوم في "مصر"، رغم أن الاندماج السابق حدوثه بين المجموعات البشرية الأربع المهاجرة ذات الأصول السلالية المختلفة بما أنتجه من تسامح وترحيب واستيعاب متبادل للتعددية ظل هو الطابع المميز لعوام المصريين، الذين لم يتوقفوا أبداً عن حسن استقبال الهجرات الجماعية والفردية المتتالية إلى وطنهم منذ ظهوره المبكر وحتى بداية المرحلة التاريخية المعاصرة مروراً بكل مراحل التاريخ القديم والأوسط والحديث، حيث تزامن الظهور المبكر للوطن المصري مع استمرار تدفق أفواج المهاجرين الوافدين إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط المصرية عبر القوارب هرباً من النزاعات الدموية المتبادلة بين سكان الجنوب الأوروبي آنذاك كالإغريق والبيزنطيين والرومان وغيرهم، ليستوطنوا المناطق الشمالية والغربية في "مصر" قبل اندماجهم التدريجي مع عوام المصريين وصولاً إلى ذوبانهم الكامل داخل المجتمع المصري، وهو نفس ما تكرر في التاريخ القديم مع أفواج المهاجرين الوافدين إلى مختلف الربوع المصرية عبر صحراء سيناء والبحر الأحمر هرباً من نزاعات دموية مماثلة بين سكان فارس والعراق والشام واليمن والجزيرة العربية والذين استوطنوا المناطق الشرقية والوسطى والجنوبية في "مصر" قبل اندماجهم وذوبانهم، وكذلك شهد التاريخ الأوسط عدة هجرات جماعية متتالية لمسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم وفدوا براً وبحراً من التخوم القريبة والبعيدة سواء كانت عربية أو أفريقية أو آسيوية بحثاً عن حياة أفضل في "مصر" التي سرعان ما استوعبهم أبناؤها بالاندماج ثم الذوبان، واختلف الأمر قليلاً بالنسبة لآخر الهجرات الجماعية الوافدة إلى "مصر" خلال التاريخ الحديث وتحديداً في الفترة الممتدة بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين لمجموعات الأرمن والطليان واليونانيين والسلافيين وغيرهم الهاربين من الاضطهاد في بلدانهم الأصلية، والذين اندمجوا مع العوام دون ذوبان داخل المجتمع حيث تمسكوا بخصائصهم الموروثة عن جذورهم الأصلية رافضين تغييرها لتوائم محيطهم الجديد، ورغم ذلك فقد استمر المصريون في احتضان هؤلاء المهاجرين واستيعابهم كما هم والتسامح إزاء أفكارهم وآرائهم وسلوكياتهم المختلفة عما اعتاده المصريون بل والاستفادة أيضاً من هذه الاختلافات، إلا أن أحوال الهجرة الدائمة والمؤقتة في "مصر" انقلبت رأساً على عقب بحلول سنة 1952 عندما تولى الحكم تنظيم "الضباط الأحرار" الذي كان الامتداد المعدل لجمعية "الحرس الحديدي" النازية، حيث وجد المهاجرون إلى "مصر" أحلامهم بالأمان والحرية والرخاء تتحول لكوابيس فتبدلت مسارات الهجرة من استهداف دخول "مصر" إلى السعي الحثيث لمغادرتها، حتى أن السلطة التنفيذية أصبحت تشكو من تراكم طلبات التنازل عن الجنسية المصرية بعد أن كانت تشكو فيما سبق من تراكم طلبات الحصول عليها، بينما أصبحت السلطة القضائية تستخدم عقوبة مشددة هي المنع من مغادرة "مصر" بعد أن كانت العقوبة المشددة فيما سبق هي المنع من دخولها!!.
(3)
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1944 لم يتغير التناقض الرئيسي الذي كان قبل بداية الحرب سنة 1939 قائماً على المستوى العالمي بين قطبين اثنين، هما معسكر الرأسماليين الاستعماريين المتمسكين بمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السابق لهم اكتسابها على حساب فقراء بلدانهم الأصلية وشعوب البلدان الأخرى الأقل نمواً الموصوفة بالمستعمرات، في مواجهة المعسكر الذي يضم هذه الشعوب وهؤلاء الفقراء الساعين معاً للتحرر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وصولاً إلى تحقيق التنمية المستقلة الشاملة التي تلائم كل بلد حسب أوضاعه واحتياجاته، رغم ما شهده النصف الثاني لأربعينيات القرن العشرين من تغييرات هامة على مختلف المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، حيث تمثلت أبرز ملامح تلك التغييرات على المستوى العالمي في إعادة ترتيب صفوف المعسكر الرأسمالي الاستعماري باضطرار ألمانيا وإيطاليا واليابان إلى التراجع المؤقت نحو صفوفه الخلفية وتنحي بريطانيا وفرنسا اختيارياً عن الصفوف الأمامية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي انفردت بالصدارة، مع طرد تركيا وريثة دولة الخلافة الإسلامية العثمانية خارج صفوف المعسكر وظهور الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية كدولتين تديران مصالحهما الرأسمالية الاستعمارية بأسلوب جديد غير نمطي وتحت شعارات براقة مخادعة تعادي ظاهرياً المعسكر الرأسمالي الاستعماري، بينما كانت أبرز ملامح تلك التغييرات على المستوى الإقليمي هي زرع "إسرائيل" كدولة معترف بها عالمياً في قلب الإقليم وعلى حساب سلامته وحقوقه ومصالحه وأحلامه لتصبح منذ سنة 1948 أمراً واقعاً عدائياً لا مفر من مواجهته، بالإضافة إلى إعادة ترتيب مكونات الهوية الرسمية الإقليمية بإنشاء جامعة الدول العربية سنة 1945 لتحل فكرة القومية العربية ذات الطابع المؤسسي الفوقي محل فكرة الخلافة الإسلامية التي كانت مؤسساتها الفوقية العثمانية قد أكملت انسحابها خارج الإقليم، لتتقوقع منذ سنة 1924 داخل حدود تركيا المتاخمة للإقليم والطامعة في العودة إليه أسوة بالمتاخمين الطامعين الآخرين في إيران والحبشة وإسرائيل والذين دفعتهم أطماعهم لتنافس بيني حول النفوذ الإقليمي، أما المتاخمين الأكراد فقد ظلوا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية على نفس تشتيتهم الذى سبق أن عاقبتهم به اتفاقية سايكس - بيكو الرأسمالية الاستعمارية بسبب انحيازهم لألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وعلى المستوى المحلي تمثلت أبرز تلك التغييرات في الخروج الدموي لجماعة الإخوان المسلمين من تحت إبط القصر الملكي المصري الذي استمر يرعاها منذ نشأتها سنة 1928 كامتداد معدل لجمعية "المنار" الدينية، حيث كان الجناح العسكري الإخواني قد شارك سنة 1948 في اغتيال الإمام "يحيى" ملك اليمن مما أثار المخاوف الشخصية للملك المصري "فاروق" فوجه أدواته الأمنية والقضائية نحو تضييق الخناق على ذلك الجناح العسكري وملاحقة قياداته وكوادره النشطة لاعتقالهم، فردت الجماعة بحملة اغتيالات أودت بحياة القيادات والكوادر الأمنية والقضائية الذين كانوا يلاحقونها فقام "محمود فهمي النقراشي" رئيس الوزراء الموالي للملك بحل جماعة الإخوان المسلمين وحظر أنشطتها، فردت الجماعة باغتيال "النقراشي" ذاته فعاقبها "فاروق" بنفس أسلوبها حيث تم اغتيال مؤسس الجماعة ومرشدها العام "حسن البنا" في فبراير سنة 1949، بينما تمكن الشيوعيون المصريون من إعادة تأسيس ثلاثة أحزاب شبه علنية لهم هي "طليعة العمال والفلاحين" و"الراية" و"الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني"، لتشترك هذه الأحزاب الثلاثة معاً في قيادة مختلف الأنشطة المعارضة على الأصعدة العمالية والطلابية بل والفلاحية أيضاً رغم حكم القضاء العسكري السابق صدوره سنة 1924 بحل الحزب الشيوعي وحظر أنشطته، وفي مقابل الاتساع النسبي لنطاق الفكر القومي بين أوساط القيادات الرسمية وكبار رجال الدولة فقد اتسع نطاق الفكر الليبرالي بين أوساط النخب المجتمعية وقادة الرأي العام، سواء كانوا من المحافظين الذين يمثلهم حزب "الوفد" صاحب الأغلبية النيابية وأحزاب الأقليات المنافسة له أو كانوا من الراديكاليين الذين تمثلهم جماعة "الطليعة الوفدية" والجبهة الوطنية للعمال والطلبة، وفي ظل استمرار العزوف التاريخي لعموم المصريين عن الاستدراج نحو الأعماق العقائدية والمشاريع الفكرية القومية أو الإسلامية أو الشيوعية أو الليبرالية، فإن القيادات السياسية لهذه الأضلاع الأربعة عجزت خلال الفترة الزمنية الممتدة بين سنتي 1944 و1952 عن تعبئة وحشد الجماهير الشعبية الواسعة خلفها اللهم إلا على الأرضية الوطنية الخاصة بمكافحة الاستعمار البريطاني فقط دون غيرها!!.
(4)
تراجعت ألمانيا إلى الصفوف الخلفية للمعسكر الرأسمالي الاستعماري بسبب هزيمتها سنة 1944 في الحرب العالمية الثانية التنافسية على المستعمرات، والتي أسفرت أيضاً عن سقوط الحزب القومي الاشتراكي النازي الألماني بعد إحدى عشرة سنة متواصلة بالحكم، وهو الحزب الذي كان "أدولف هتلر" قد سبق أن أنشأه سنة 1919 ليخوض فترة من العمل السياسي السري الاضطراري تحت ملاحقة السلطات الأمنية والقضائية، والمتمثلة في حل الحزب وحظر أنشطته واعتقال "هتلر" وبعض رفاقه من قيادات الحزب لمدد زمنية تتراوح بين عامين وخمسة أعوام خلال عشرينيات القرن العشرين، وهي نفس الملاحقة التي تكررت مرة أخرى عقب سقوط الحزب المواكب لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية سنة 1944 ولكن مع فوارق هامة من الناحيتين الكمية والكيفية، سواء على صعيد السلطات الأمنية والقضائية التي قررت قتل وإعدام كل قيادات الحزب وكوادره النشطة المستمرين على قيد الحياة بعد انتحار "هتلر" وبعض رفاقه مع اعتقال بقية الكوادر لمدد زمنية تتراوح بين ربع القرن ومدى الحياة، أو على صعيد الحزب النازي ذاته الذي كانت خبراته التنظيمية التراكمية قد استوعبت جيداً دروس الملاحقة الأمنية والقضائية السابقة فأسس عدة جمعيات داخل ألمانيا وخارجها لتبدو ظاهرياً وكأنها منفصلة عن الحزب ولكنها في حقيقتها تابعة له وتعمل بشكل سري من أجل صالحه، وحتى أثناء حكم الحزب النازي لألمانيا وهيمنته على عدة بلدان في أوروبا والعالم بين سنتي 1933 و1944 استمر الطابع السري يميز العمل السياسي لتلك الجمعيات النازية، التي كانت أبرزها جمعية أنشأها "هيربيرت هايم" الضابط الطبيب والكادر النازي النشط ورئيس محطة الخدمة السرية الخارجية الألمانية في "مصر" خلال ثلاثينيات القرن العشرين تحت اسم "الحرس الحديدي"، وهي الجمعية التي نالت إعجاب غريمه التقليدي "مايلز كوبلاند" باعتباره المنافس الاستخباراتي الذي تولى آنذاك رئاسة محطة الخدمة السرية الخارجية الأمريكية بمصر، فوصفها في كتابه الشهير "لعبة الأمم" بأنها "كانت أهم القواعد الثابتة المؤهلة لدعم وتلبية احتياجات أكبر المحطات الخارجية الألمانية وأهم السواتر الصالحة لتغطية مجمل أنشطة تلك المحطة"، ورغم حرص "هيربيرت هايم" على استمرار رئاسته الفعلية بنفسه لجمعية "الحرس الحديدي" السرية إلا أن وجود مركزها التنظيمي في "القاهرة" دفعه لتنصيب بعض الواجهات الشرفية المكشوفة على رأسها الظاهر من المصريين الموالين للنازية، مثل الفريق "عزيز المصري" رئيس أركان الجيش والمعلم الخاص للملك "فاروق" واللواء "يوسف رشاد" عضو الديوان الملكي والطبيب الخاص للملك "فاروق"، والعقيد "مصطفى كمال صدقي" قائد الأنشطة الميدانية للجمعية مع مجلس عسكري قيادي يضم عشرة ضباط جيش مصريين متوسطي الرتب، وامرأتين هما "ناهد رشاد" زوجة اللواء طبيب "يوسف رشاد" التي كانت آنذاك كبيرة ممرضات الجيش المصري وكبيرة وصيفات القصر الملكي، و"حكمت فهمي" سيدة الترفيه التي كانت آنذاك تدير أكبر شبكة استدراج وسيطرة جنسية لصالح ألمانيا النازية في مصر بواسطة فتيات أصبحن لاحقاً "نجمات" الدولة والمجتمع والسوق، وهؤلاء هم الذين اضطر "هايم" لأن يترك لهم الجمعية بكوادرها وأعضائها ومندوبيها وأذرعها وأصدقائها وتوابعها وأدواتها وأملاكها العينية المسجلة بأسماء الواجهات المصرية مع بعض أموالها المودعة في حساباتهم البنكية بمجرد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية سنة 1944، حيث هاجر للاختفاء المؤقت داخل أحراش "الأمازون" في أمريكا اللاتينية هرباً بجلده من الملاحقة الأمنية والقضائية ضده باعتباره أحد أهم الكوادر النازية النشطة، تاركاً في حساباته الشخصية بالبنوك السويسرية ملايين الدولارات المتبقية من الميزانية الضخمة التي كان الحزب النازي قد خصصها سراً للإنفاق على أنشطة الجمعية، ليتنازع ورثته على تركته المالية بعد وفاته كاشفين في نزاعهم الكثير من مستور "هايم" وجمعيته السرية، وهكذا وجد المصريون القائمون على رأس جمعية "الحرس الحديدي" أنفسهم خلال النصف الثاني لأربعينيات القرن العشرين بين اختيارين أحلاهما مر فإما استمرار الجمعية تحت خطر الملاحقة الأمنية والقضائية أو حلها بما يعنيه من فقدان أدوارهم السياسية وضياع طموحاتهم الشخصية، فاختاروا الجمع الانتقائي الماكر بين مكاسب الاستمرار والحل معاً حيث تمسكوا بالفكر العقائدي النازي القائم على الشعور بالتميز والتعالي وإقصاء الأنداد واعتلاء العوام للاستئثار بالسلطة، مع كل امتداداته السياسية والتنظيمية والجماهيرية والدعائية كأساس مشترك يجمعهم ويوحد بينهم وأجروا في الوقت ذاته التعديلات الشكلية الكفيلة بمواكبة المستجدات العالمية والإقليمية والمحلية المحيطة بهم، وعليه فقد تم تغيير الاسم من جمعية "الحرس الحديدي" إلى تنظيم "الضباط الأحرار" مع تنحية الواجهات الشرفية المكشوفة عن الرئاسة لصالح عضو غير معروف بالمجلس العسكري القيادي هو المقدم "جمال عبدالناصر" الذي استفاد من غياب "هيربيرت هايم" ليصبح هو رئيس التنظيم الجديد شرفياً وفعلياً رغم تنازله المؤقت عن الرئاسة الشرفية فيما بعد إلى اللواء "محمَّد نجيب"، ولنقل تبعيتهم من كفالة ألمانيا المنهزمة في الحرب العالمية الثانية إلى كفالة الولايات المتحدة الأمريكية المنتصرة على كفيلهم الألماني السابق، فقد استعان الضباط الأحرار بجمعية "الفلاح" التي كانت إحدى سواتر محطة الخدمة السرية الخارجية الأمريكية في "مصر" برئاسة "مايلز كوبلاند" الذي طالما سعى من جانبه لاجتذابهم نحو شخصه ومحطته ودولته منذ نشأتهم الأصلية تحت اسم جمعية "الحرس الحديدي"، وفور حصولها على ضالتها النموذجية المتمثلة في التنظيم العسكري السري الجديد سارعت الإدارة الأمريكية باتخاذ كل الخطوات والتحركات المحسوبة والمبرمجة بدقة ومهارة فائقة على كافة الجبهات، وصولاً إلى توجيه ضربة سياسية واحدة خاطفة تكفل تحقيق هدفين اثنين مزدوجين في ذات التوقيت ألا وهما إخراج قوات الاحتلال البريطاني من "مصر" وإسقاط نظام حكم الملك "فاروق"، مع تحاشي أن يصب خروج بريطانيا لصالح الاتحاد السوفيتي الذي كانت شعبيته تتسع آنذاك نظراً لنجاحه في رفع الشعارات التحررية الاستقلالية المعادية للمعسكر الرأسمالي الاستعماري، وتحاشي أن يصب سقوط "فاروق" لصالح الشيوعيين المصريين الذين كانت شعبيتهم تتسع آنذاك نظراً لنجاحهم في خوض حرب تحرير شعبية ضد قوات الاحتلال البريطاني لمصر، ولتوجيه الضربة الأمريكية الخاطفة ذات الأهداف المتعددة المتزامنة فقد تمت تهيئة المشهد المحلي من أجل اعتلاء "الضباط الأحرار" حكم "مصر" عبر انقلابهم العسكري الذي نفذوه بنجاح يوم 23 يوليو سنة 1952، عقب التمهيد الأمريكي لاعتلائهم الحكم بعدة عمليات عكسرية واستخباراتية وأمنية قذرة شنتها المكونات السياسية المحلية التابعة للإدارة الأمريكية، مثل العملية التي نفذتها الأيدي المشتركة لتوابع جمعية "الفلاح" وجماعة "الإخوان المسلمين" وتنظيم "الضباط الأحرار" تحت الإشراف المباشر لمحطة الخدمة السرية الخارجية الأمريكية يوم 26 يناير سنة 1952 والمعروفة في التاريخ المعاصر باسم حريق القاهرة!!.
(5)
بوجود شعب وأرض ودولة معاً يتكون الوطن، فإذا كان المقصود بالشعب هو مجموعة البشر الذين تجمعهم خصائص وسمات سلالية وعرقية وثقافية ومزاجية مشتركة فيما بينهم تميزهم عن المجموعات البشرية الأخرى، وتؤهلهم لأن يقيموا فيما بينهم نظاماً اقتصادياً واجتماعياً قابلاً للاستمرار والتطور بمعزل عن غيرهم من المجموعات البشرية، وإذا كان المقصود بالأرض هو الموقع الجغرافي الذي تقطنه تلك المجموعة البشرية بصفة دائمة مع كل ملامحه ومحتوياته، من مناخ وتضاريس وسواحل وحدود طبيعية ومصادر مياه ونباتات برية وحيوانات وحشية وثروات معدنية سطحية وجوفية ومعالم أثرية، فإن الدولة هي منظومة المؤسسات السيادية والعسكرية والبيروقراطية والدينية المسيطرة على تلك المجموعة البشرية تعبيراً عن موازين القوة الاقتصادية والاجتماعية بين مكوناتها المختلفة، وترتبط هذه المؤسسات المسيطرة فيما بينها بموجب عقيدة قتالية ثابتة ومستديمة يرى قادة المجموعة البشرية أنها الأنسب لتحقيق مصالحهم ومصالح المكونات الأقوى داخل مجموعتهم وحمايتها من المخاطر المؤكدة والمؤقتة والمحتملة، وهذه العقيدة القتالية التي يسميها القادة "ثوابت الأمن القومي" هي عبارة عن حزمة مترابطة من الأفكار السياسية الرئيسية الموزعة على مؤسسات الدولة لتقوم كل واحدة منها بترجمة ما يخصها إلى خطط طويلة ومتوسطة الآجال، بشرط أن تكون تلك الخطط قابلة لإفراز مواقف قصيرة المدى وخطوات ميدانية محددة يجري تنفيذها عملياً على أرض الواقع اليومي فيما يسميه القادة "قواعد الاشتباك"، ولما كانت الدولة المصرية قد أصبحت مستقلة رسمياً سنة 1956 بعد خضوع لبريطانيا دام أكثر من سبعين عاماً سبقه خضوع لدولة الخلافة الإسلامية العثمانية دام أكثر من ثلاثمائة وسبعين عاماً، فقد كان لابد من إعادة النظر في العقيدة القتالية الموروثة بما أفرزته من ثوابت أمن قومي وقواعد اشتباك قديمة وصولاً إلى صياغة عقيدة قتالية جديدة تلائم ولاءات ورؤى وأفكار الدولة المصرية الجديدة التي أصبح يحكمها تنظيم "الضباط الأحرار"، وبينما نجح القادة العسكريون الجدد بسهولة استناداً إلى حقائق التاريخ والجغرافيا في صياغة دوائر المصالح على نحو تراتبي محدد تأتي في مقدمته الدائرة العربية تليها الأفريقية ثم الإسلامية وأخيراً البحر أوسطية، إلا أن تعدد المخاطر وتقاطعها على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية دفعهم للاستعانة بالقواسم المشتركة بين ما ورثوه من عقائد قتالية عثمانية وبريطانية وما اعتنقوه من عقائد قتالية نازية وأمريكية حيث اتفقت كلها على ضرورة مكافحة الشيوعية باعتبارها دائرة الخطر المؤكد الأولى، فالدولتين العثمانية والبريطانية تعاديان الشيوعية منذ ظهورها كأفكار سياسية عند منتصف القرن التاسع عشر، فيما يتطابق مع العداء النازي للشيوعية والذي أعلنه "أدولف هتلر" وظل متمسكاً به منذ عشرينيات القرن العشرين حتى انتحاره عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية سنة 1944، بعد أن كان تابعه الكادر النازي النشط "هيربيرت هايم" قد ضخ ذلك العداء داخل عروق أتباعه المصريين في جمعية "الحرس الحديدي" ليظلوا بدورهم متمسكين به حتى عندما أصبحوا لاحقاً حكام مصر الجدد، لاسيما وأنهم سرعان ما أعادوا "هايم" من أحراش أمريكا اللاتينية ليعمل كمستشار أمني لهم تحت اسم مستعار هو الدكتور "طارق فريد حسين"، حيث أقام في "القاهرة" منذ سنة 1956 حتى وفاته سنة 1992 بشكل سري هرباً من تنفيذ أحكام إعدامه العديدة التي كانت قد أصدرتها ضده عدة محاكم على مستوى العالم، وامتد العداء للشيوعية إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية متمثلاً في الحملة الموسعة التي تبناها الكونجرس سنة 1950 ليجري تنفيذها على أرض الواقع الميداني اليومي بمعرفة كافة الأجهزة السيادية والعسكرية والبيروقراطية والدينية تحت إشراف عضو الكونجرس "جوزيف مكارثي"، وهي الحملة التي قام الرئيس الأمريكي "دوايت إيزنهاور" بتطويرها وتصديرها إلى "مصر" عندما أعلن سنة 1956 مشروعه الشهير لمكافحة الشيوعية في الشرق الأوسط، وهكذا وضع الضباط الأحرار الشيوعية على رأس دوائر المخاطر الداخلية كما وضعوا الشيوعيين المصريين على رأس قوائم أعداء الداخل المؤكدين، مع إدراج دول العالم المختلفة ضمن دوائر المخاطر وقوائم الأعداء في الخارج عند تأييدها للشيوعيين المصريين وتبعاً لمدى ونوعية هذا التأييد!!.
(6)
يستوعب الشيوعيون جيداً حقائق التاريخ المعاصر على الأصعدة العالمية والإقليمية والمحلية بهدف تحليل طبيعة المرحلة الراهنة، لمعرفة ماهية التناقض الرئيسي والتباينات الفرعية المنبثقة عنه أو المحيطة به والاختلافات الهامشية الأخرى داخل مؤسسات الدولة وأروقة المجتمع، وصولاً إلى تحديد موضوع الصراع الرئيسي المؤكد وقطبيه المتصارعين فيما بينهما حوله وأنصار كل قطب منهما، مع تحديد موضوعات المنازعات الفرعية المؤقتة والمنافسات الهامشية المحتملة وهوية الأطراف المرشحة للانخراط في هذه المنازعات وتلك المنافسات، ليستند الشيوعيون على معرفتهم في اختيار المواقع الأنسب لهم داخل منظومة خرائط التحالفات والمخاصمات، بما يفرزه ذلك الاختيار من مواقف سياسية مبرمجة يكون عليهم اتخاذها في الآجال الطويلة والمتوسطة والقصيرة لمواجهة الموضوعات الأكثر أهمية، المتعلقة بالحريات العامة والخاصة والتحرر الوطني والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والابتكارات الفكرية والعلمية بتطبيقاتها العملية والإبداعات الأدبية والفنية بانعكاساتها الجماهيرية، وما يفرزه اختيارهم أيضاً من خطوات ميدانية مباشرة يكون عليهم اتخاذها للتفاعل مع الأحداث اللحظية المتعلقة بالموضوعات الأقل أهمية مثل ترتيب بعض مراكز السلطة والنفوذ واقتسام بعض المكاسب المالية والإدارية وتوزيع بعض الأنشطة الثقافية والأدوار الإعلامية، وقد أدرك الشيوعيون المصريون منذ أول ظهور لهم في نهايات القرن التاسع عشر أن موضوع التناقض الرئيسي المؤكد قائم في "مصر" بين قطبين متصارعين هما فريق الحرية والتحرر الوطني والتنمية الاقتصادية المستقلة والعدالة الاجتماعية ضد فريق الفاشية والفساد والتبعية لمعسكر الرأسمالية العالمية الاستعمارية، مما جعلهم يعلنون اختيارهم المبكر للانخراط الواضح ضمن صفوف الفريق الأول في مواجهة صريحة ومكشوفة ضد الفريق الآخر، إلا أن المواقف السياسية والخطوات الميدانية لكثيرين من الشيوعيين المصريين المعاصرين قد أصابها الارتباك الشديد إزاء حالات مخادعة وغير نمطية من المنازعات والمنافسات بين بعض أطراف التباينات الفرعية والاختلافات الهامشية، لاسيما مع اتخاذ تلك الحالات لأشكال تفوق في حدتها الظاهرية والصوتية حدة الشكل النمطي للصراع المؤكد بين قطبي التناقض الرئيسي ومع استخدام بعض أدوات الحسم الجذري للصراعات المؤكدة في تلك المنازعات والمنافسات المخادعة، وكان تنظيم "الضباط الأحرار" الذي شكل الامتداد المعدل لجمعية "الحرس الحديدي" النازية هو أبرز المخادعين في هذا الصدد بمجرد توليه حكم "مصر" يوم 23 يوليو سنة 1952، سواء بما أعلنه من شعارات براقة تنطوي على ادعاءات كاذبة بمكافحته للفساد والفاشية المحلية والإقليمية ومعاداته لمعسكر الرأسمالية العالمية الاستعمارية ولتوابعه المحليين والإقليميين، أو بما نجح في الحصول عليه من دعم حكومات دول المعسكر الشيوعي العالمي ضمن مصالحها المباشرة الضيقة التي كانت قد انحرفت بها بعيداً جداً عما تقتضيه المبادئ الشيوعية السليمة من قواعد للتحالفات والمخاصمات الدولية، وهكذا تحالف بعض الشيوعيين المصريين المرتبكين مع حكم "الضباط الأحرار" بأدواته السيادية والعسكرية والبيروقراطية رغم أنه لم يتوقف يوماً عن سعيه لتصفيتهم باعتبارهم عدو مؤكد له، وحتى يثبت هؤلاء الشيوعيون المرتبكون حسن نواياهم تجاه الحكم العسكري الجديد فقد هاجموا خصومه الذين كان من بينهم شيوعيون آخرون وبعض القوى الليبرالية الراديكالية الوطنية المدرجة ضمن خرائط تحالفات الشيوعيين متوسطة الآجال، ليشهد التاريخ المعاصر بأن الشيوعيين المصريين المرتبكين قد خرجوا عملياً عن صفوف الفريق الذي كانوا قد أعلنوا انحيازهم له كي ينضموا عملياً إلى صفوف الفريق المعادي وهو ارتباك لم يستطيعوا التخلص منه نهائياً حتى اليوم، أما بقية الشيوعيين الذين استعانوا بالوعي والضمير والمرونة معاً لاستيعاب متغيرات التاريخ المعاصر فأصبحوا قادرين على القراءة الصحيحة لطبيعة المرحلة الراهنة دون انحراف عن الثوابت المبدأية السليمة، فقد وضعوا أنفسهم بتلك القراءة الصحيحة في مرمى الكثير من النيران المعادية والصديقة على كافة المستويات العالمية والإقليمية والمحلية!!.
(7)
كشف "الضباط الأحرار" عن موقفهم الحقيقي المعادي للشيوعية والشيوعيين مبكراً جداً وبمجرد توليهم حكم "مصر" عقب نجاح انقلابهم العسكري يوم 23/7/1952، حيث أعلنوا ضمن شعاراتهم المخادعة ستة تعهدات كان التعهدان الثالث والرابع منها بالقضاء على رأس المال الاحتكاري المستغل وإقامة عدالة اجتماعية، فصدقهم الشيوعيون المخدوعون فيما أعلنوه وسارعوا يوم 5/8/1952 أي بعد عشرة أيام من نجاح الانقلاب وإعلانه لتعهداته الستة بتنظيم وقيادة عمال شركات الغزل والنسيج الثلاث القائمة آنذاك في مدينة "كفر الدوار" بمحافظة البحيرة، في مظاهرة احتجاجية كبرى تطورت إلى اعتصام سلمي للعمال داخل مقرات شركاتهم الثلاث وهى "الغزل الرفيع" و"الحرير الصناعي" و"صباغي البيضا"، حيث حاول العمال الضغط على رأس المال الاحتكاري المستغل من أجل تحسين أحوالهم المالية والمهنية والإدارية وصولاً إلى العدالة الاجتماعية المستهدفة وفقاً للتعهدات الواردة ضمن شعارات "الضباط الأحرار"، الذين سارعوا هم أيضاً من جانبهم برد فوري على المطالب العمالية تمثل في إرسال المدرعات والدبابات والطائرات الحربية التي دكت مواقع الاعتصام السلمي لفضه بالحديد والنار، مع إرسال أفراد القوات المسلحة والشرطة من راكبي الجمال والخيول المكلفين بالضرب "في المليان" كقواعد للاشتباك العنيف مع المعتصمين بهدف تفريقهم ثم مطاردتهم حتى قتلهم، لتشهد مدينة "كفر الدوار" يومي 13 و14/8/1952 أي بعد عشرين يوماً من نجاح الانقلاب وإعلانه لتعهداته الستة مذبحة بشرية مروعة راح ضحيتها مئات الشيوعيين والنقابيين والعمال والأهالي، مع اعتقال آلاف المعتصمين والمتظاهرين لإحالتهم إلى محاكمات ميدان عسكرية صورية عاقبت ثلاثين منهم بأحكام فورية قاسية كان على رأسها إعدام العاملين الشابين "مصطفى خميس" و"محمَّد البقري"، وهو الإعدام الذي سرعان ما تم تنفيذه فيهما باستاد المدينة الرياضي أمام الأهالي لترويعهم يوم وقفة عيد الأضحى الموافق 7/9/1952 أي بعد شهر ونصف من نجاح الانقلاب وإعلانه لتعهداته الستة المخادعة، ورغم أن مذبحة "كفر الدوار" التي كشفت معاداة "الضباط الأحرار" جذرياً للشيوعيين قد منحت المخدوعين منهم فرصة مبكرة لمراجعة بوصلتهم المنحرفة والتراجع عن مواقفهم الخاطئة فإن الكثيرين منهم عجزوا عن استيعاب الدرس واكتفوا بتحميل مسئولية ما حدث للإدارة الأمريكية والإخوان المسلمين، دوناً عن "الضباط الأحرار" الذين كانوا قد حصلوا بالفعل فيما ارتكبوه على الموافقة المسبقة للسفير الأمريكي بالقاهرة آنذاك "جيفرسون كافري" كما حصلوا على الدعم المطلق لجماعة "الإخوان المسلمين"، لاسيما وأن رئيس محاكمات الميدان العسكرية كان هو الضابط "عبدالمنعم أمين" عضو مجلس قيادة تنظيم "الضباط الأحرار" والمعروف بانتمائه أيضاً إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، ولما كان من الطبيعي أن يسفر انحراف الشيوعيين المصريين سياسياً عن تراخيهم تنظيمياً وغفلتهم أمنياً فقد منحوا للضباط الأحرار بذلك الوقت الكافي والأجواء المناسبة للانقضاض عليهم جميعاً، حيث شهد يوم 1/1/1959 حملة موسعة لاعتقال كل الشيوعيين وزوجاتهم وأطفالهم لإيداعهم بدون أية أوراق ثبوتية داخل السجون الحربية التي شرعت فوراً في تنفيذ ما صدر إليها من تكليفات بقواعد اشتباك نصت على تصفية هؤلاء السجناء العزل وإبادتهم مع زوجاتهم وأطفالهم، الذين كان من بينهم كاتب هذه السطور محمولاً داخل أحشاء أمه في البداية ثم معلقاً بعد ذلك على صدرها، الأمر الذي اضطر معه "نيكيتا خروتشوف" رئيس الاتحاد السوفيتي للتدخل غير المألوف في ظل تعدد المصالح المباشرة الضيقة المتبادلة بين الحكومتين آنذاك، باستنكاره في كلمته أمام المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي المنعقد بالعاصمة "موسكو" خلال شهر يناير 1959 لما يتعرض له الشيوعيون المصريون على أيدي "الضباط الأحرار"، قائلاً: "إن سياسة مكافحة الشيوعية والشيوعيين في مصر هي سياسة مرفوضة من جانبنا لأنها تفرق القوى الوطنية المصرية لصالح الإمبريالية والاستعمار والصهيونية والرجعية"، وبمجرد حصوله على موافقة المؤتمر الحزبي وجه "خروتشوف" رسالة استنكار خطية إلى الرئيس المصري "جمال عبدالناصر" الذي تسلمها من السفير السوفيتي بالقاهرة في فبراير 1959، وجاء فيها: "أن شعب الاتحاد السوفيتي ينظر إلى سياسة الحكومة المصرية الخاصة بمكافحة الشيوعية والشيوعيين باعتبارها خطأ تاريخي يضر كل الأطراف الوطنية والتحررية والتقدمية دون أن يفيد أحداً، وبالتالي فإن شعب الاتحاد السوفيتي يرفض هذه السياسة رغم استمرار حرص حكومتنا على عدم التدخل في الشئون الداخلية المصرية"، ليرد "عبدالناصر" خلال الشهر ذاته عبر نفس السفير السوفيتي في "القاهرة" برسالة خطية مخادعة إلى "خروتشوف"، حاول فيها تبرير موقفه قائلاً: "إننا وجدنا أنفسنا مرغمين على الدفاع عن بلادنا ضد النشاط المعادي الذي يمارسه الشيوعيون المصريون في الداخل وبالتالي ضد كل ما يحصلون عليه من مساندة محلية أو إقليمية أو عالمية بما فيها مساندتكم أنتم شخصياً لهم"، إلا أن محاولته لتقديم أية أدلة على ماهية النشاط المعادي الذي ادعى أن الشيوعيين المصريين يمارسونه في الداخل باءت بالفشل الذريع، إذ لم يجد سوى دليل واحد يصلح لتبرئتهم وليس لإدانتهم وهو حسب نص رسالته: "إن الأحزاب الشيوعية الثلاثة الموجودة بمصر قد اتحدت فيما بينها يوم 8 يناير 1958"، ورغم استمرار اعتقال الشيوعيين حتى سنة 1964 إلا أن "عبدالناصر" تراجع عن تصفيتهم وإبادتهم إلا قليلاً بعد تدخل "خروتشوف" وذلك حرصاً من "عبدالناصر" على مصالح حكومته مع الحكومة السوفيتية!!.
(8)
أدرك "الضباط الأحرار" مبكراً أن العقيدتين القتاليتين العثمانية والنازية تتفقان على معاداة الليبرالية والليبراليين بشكل كلي مطلق، وأن العقيدتين القتاليتين البريطانية والأمريكية اللتان تشجعان الليبرالية والليبراليين داخل مجتمعيهما وفي بعض أنحاء العالم تعاديان بشكل كلي مطلق الليبرالية المصرية والليبراليين المصريين، الحريصين من جانبهم على مكافحة الوجود الاستعماري القديم والجديد بدوافع مشتركة ومختلطة من مشاعرهم الوطنية ومصالحهم الاقتصادية والضغوط الاجتماعية لجماهيرهم عليهم، حتى أنهم لم يتوانوا عن الانضمام للشيوعيين المصريين في حرب التحرير الشعبية التي مارسوها بشكل نموذجي ضد قوات الاحتلال البريطاني لمصر خلال الفترة الزمنية بين سنتي 1946 و1952 والتي أوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى من البريطانيين، كما أدرك "الضباط الأحرار" مبكراً أيضاً وبشكل براجماتي نفعي أن نجاح انقلابهم في إسقاط الملك "فاروق" سنة 1952 لا يكفي وحده لإحكام قبضتهم الحديدية على الدولة المصرية، حيث اشترط ذلك إزاحة الليبراليين عن المقاعد والصفوف الأمامية للدولة والتي استمروا يشغلونها منذ سنة 1919 ليحل "الضباط الأحرار" محلهم في قيادة الدولة الجديدة، دون إغفال الدوافع الانتقامية الذاتية تجاه قادة الليبراليين بسبب مواقفهم الرافضة للممارسات الإرهابية التي سبق أن ارتكبها قادة وكوادر تنظيم "الضباط الأحرار" ضد المصريين خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين عندما كان تنظيمهم يحمل اسم جمعية "الحرس الحديدي"، لذلك فإن الليبراليين المصريين سواء كانوا من المحافظين الذين يمثلهم حزب "الوفد" صاحب الأغلبية النيابية وأحزاب الأقليات النخبوية الأخرى المنافسة له أو كانوا من الراديكاليين الذين تمثلهم جماعة "الطليعة الوفدية" والجبهة الوطنية للعمال والطلبة، قد وجدوا أنفسهم ضمن قوائم أعداء الداخل منذ تولى "الضباط الأحرار" حكم "مصر" سنة 1952 بانقلاب عسكري ناجح، الأمر الذي ترتب عليه اعتقالهم وتحديد إقاماتهم ومصادرة أموالهم وأملاكهم والتحفظ على استثماراتهم ومشاريعهم الاقتصادية وعزلهم من وظائفهم المهنية والإدارية وحرمانهم من حقوقهم السياسية والمدنية إلى جانب حل أحزابهم وحظر أنشطتها، أما المكونات المجتمعية المصرية المختلفة سواء كانت تعبر عن الأقليات كأبناء الجاليات ذات الأصول الأجنبية والأقباط واليهود والشيعة والنوبيين والبدو أو كانت تعبر عن الفئات الأضعف كالنساء والأطفال والشيوخ والمعاقين، فقد تفاوتت درجات استعلاء "الضباط الأحرار" عليها ومعاداتهم لها وفقاً لاختلاف المواقف تجاهها بين الكفلاء القدامى والجدد (العثماني والبريطاني والنازي والأمريكي)، وحسب رؤية "الضباط الأحرار" البراجماتية لاتجاهات المكاسب والخسائر الناجمة عن المستجدات العالمية والإقليمية والمحلية أولاً بأول، وهي نفس البراجماتية التي دفعتهم إلى استثناء الاتجاه القومي داخل الحركة السياسية المصرية بهدف اتخاذه كساتر لهم أسوة بما سبق أن فعله الحزب النازي في ألمانيا، وإلى استثناء المكونات المجتمعية للعرب المسلمين السنة الممتنعة عمداً عن ممارسة العمل السياسي كالجمعيات السلفية نظراً لكون أتباعها يشكلون الأغلبية المطلقة المطيعة في "مصر" والبلدان المحيطة بها والمجاورة لها، أما جماعة "الإخوان المسلمين" المعبرة عن الإسلام السياسي السني منذ نشأتها سنة 1928 كامتداد معدل لجمعية "المنار" الدينية، والتي كانت قد سبق أن نجحت بمناوراتها وألاعيبها في تحاشي استثارة العدائيات العثمانية والبريطانية والنازية تباعاً، ثم عادت مرة أخرى لتنجح في اكتساب رضا الإدارة الأمريكية عبر مشاركتها الفعالة يوم 26 يناير 1952 في تدبير وتنفيذ مؤامرة حريق القاهرة، الذي التهم أول ما التهم متاجر الخمور والأدخنة ودور السينما والمسرح ومقرات الأندية والمنتديات وغيرها من أماكن التجمعات الثقافية والفنية والترفيهية الموصوفة في القاموس الإخواني بأنها بؤر وأوكار ومواخير الكفر والفسق والفجور والمجون والخلاعة والرذيلة، ورغم أن مؤامرة حريق القاهرة قد أسهمت بالنصيب الأوفر في تهيئة المشهد المحلي لنجاح انقلاب "الضباط الأحرار" يوم 23 يوليو سنة 1952، إلا أن علاقات الحكم العسكري مع "الإخوان المسلمين" كانت هي الأكثر غموضاً وتعقيداً والتباساً ليس فقط في التاريخ المصري المعاصر ولكنها مازالت كذلك حتى المرحلة الراهنة وربما القادمة أيضاً!!.
(9)
كما سبق أن اصطدمت جماعة "الإخوان المسلمين" سنة 1948 بعنف شديد مع الحكم الملكي في إطار نزاعات السلطة والنفوذ فقد عادت سنة 1954 مرة أخرى لتصطدم بعنف أشد مع الحكم العسكري في إطار نفس نزاعات السلطة والنفوذ، وبينما أطاح صدام سنة 1948 برقبة مرشدها العام آنذاك "حسن البنا" وحده، فقد أطاح صدام سنة 1954 بخمسين رقبة من قادتها وكوادرها على رأسهم "عبدالقادر عودة" النائب الأول للمرشد العام والرجل الأقوى في الجماعة بعد تخفيف حكم المحكمة العسكرية الصادر بحق مرشدها العام آنذاك "حسن الهضيبي" من الإعدام إلى السجن المؤبد، ولكن إزاء الطابع الفرعي والهامشي للمنازعات والمنافسات المستمرة بين المجلس القيادي العسكري وجماعة الإخوان المسلمين بالمقارنة مع ما يخوضه كل فريق منهما على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية من صراعات رئيسية، لاسيما في ظل استمرار مشاركة الفريقين في المعاداة الجذرية للشيوعية وبدرجة أقل الليبرالية وفي الاستعلاء الفوقي على الأقليات والفئات المجتمعية الأضعف، وإزاء حرص كل فريق منهما على امتطاء الجسد الضخم للفريق الآخر بهدف استخدامه في حسم صراعاته الرئيسية بما يعنيه ذلك الحرص من استمرار احتياج كل فريق منهما لشراكة الآخر في موقع المطية وليس الندية، لاسيما مع إمكانية التوفيق بين الادعاءات الكاذبة للفريقين حيث لا يوجد تعارض بين ما يدعيه المجلس العسكري من احتكار الولاء الوطني وما تدعيه جماعة الإخوان من احتكار الإيمان الديني بل يكمل هذان الإدعاءان الكاذبان بعضهما في إحكام الحصار الوجداني حول المصريين، لذلك تكررت دورة الصدام ثم الوئام بين الفريقين عدة مرات حتى دفعهما الإنهاك المتبادل إلى الاعتراف المتبادل بضرورة الحفاظ على حالة الوحدة والصراع بينهما، فاضطر المجلس العسكري إلى التعامل الانتهازي مع جماعة الإخوان باعتبارها أداة مثالية للاختراق والتغلغل والسيطرة المجتمعية بينما اضطرت جماعة الإخوان إلى التعامل الانتهازي مع المجلس العسكري باعتباره أمير متغلب يجب طاعته شرعاً طالما التزم بشعائر الإسلام السني، وفي إطار تلك الانتهازية المتبادلة أبرم قادة الفريقين بمعزل عن الجسد الرئيسي لكليهما تسوية سرية ضمنية تم بموجبها توزيع السلطة والنفوذ والأدوار والمهام حصرياً فيما بينهما، على أساس منح قادة المجلس العسكري من العرب المسلمين السنة حق احتكار مقاعد الدولة الأمامية ومفاصلها المؤثرة بشرط ألا يكون لهم أي تماس حقيقي مع الشيوعية أو الليبرالية، مقابل احتكار قادة الإخوان المسلمين كأفراد وليسوا كجماعة لمقاعد المجتمع الأمامية ومفاصله المؤثرة بشرط ألا تكون لهم أية مطامع في الدولة، ويتقاسم الفريقان فيما بينهما سوق المال والأعمال ويلتزمان معاً باستمرار العمليات القذرة المشتركة أو المنفردة لمطاردة الشيوعيين والليبراليين وملاحقتهم، ليس فقط بهدف إقصائهم خارج مؤسسات الدولة وأروقة المجتمع وأنشطة السوق ولكن أيضاً بهدف إهدار دمائهم وأرواحهم ونهب حقوقهم ومصالحهم واستحلال أموالهم وأملاكهم دون أدنى محاسبة رسمية أو نخبوية أو شعبية، وبتحالف قيادات المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين تم إحكام السيطرة على الدولة والمجتمع والسوق معاً ليسقط الوطن المصري كله في براثن جمهورية الخوف التي كانت قد بدأت سنة 1952 ومازالت مستمرة حتى اليوم تحت الحراسة المشددة لتحالف الفاشية العسكرية مع الفاشية الدينية، رغم ما يشوب ذلك التحالف الفاشي المسيطر أحياناً من انتهاكات وانشقاقات واشتباكات عالية الصوت ومرتفعة الخسائر والضحايا بين قادة وكوادر وأعضاء الفريقين، اللذين سرعان ما يعودان إلى بعضهما لأن ما يتنازعان عليه يتضاءل كثيراً أمام ما يجمعهما معاً في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الداخلية والخارجية من قواسم مشتركة عديدة، ظهرت بوضوح خلال تصدي الفريقين للانتفاضة الجماهيرية الاحتجاجية ذات الأبعاد الاجتماعية والتي قادها الشيوعيون في يناير سنة 1977 بمصر، كما ظهرت أيضاً خلال تصدي الفريقين لقوات الاتحاد السوفيتي الموجودة على أرض جارته أفغانستان منذ سنة 1979 حتى سنة 1989 بناء على اتفاق الحزبين الشيوعيين اللذين كانا يحكمان الدولتين آنذاك، بينما استطاع الفريقان إخفاء تحالفهما في أحداث أخرى منها على سبيل الأمثلة لا الحصر حادثين يندرجان ضمن العمليات القذرة شهدتهما مصر خلال سنة 2005، عندما أحكم مجهولون إغلاق أبواب مسرح "بني سويف" الحكومي على عشرات الأدباء والفنانين الشيوعيين الغافلين الذين كانوا يحتفلون داخله بإحدى المناسبات الثقافية الرسمية العامة ليشعل مجهولون آخرون النيران التي أحرقت المسرح بكل من فيه، أما "ممدوح البلتاجي" الشيوعي السابق الذي أصبح وزيراً سيادياً ثم استعان بشيوعي سابق آخر هو كاتب هذه السطور كأحد مستشاريه فقد استطاع مجهولون إصابته بإعاقة صحية مستديمة أخرجته من موقعه الوزاري لتلزمه فراش المرض، بعد أن كان مجهولون آخرون قد استطاعوا إصابتي بإعاقة صحية مستديمة من نوع آخر ألزمتني أيضاً فراش المرض ولكنها منعتني في الوقت ذاته من تلبية الدعوة المريبة التي وصلتني للانضمام إلى الاحتفال الناري على خشبة مسرح "بني سويف"!!.
(10)
إزاء نجاح الفاشيتين العسكرية والدينية في إخفاء ما بينهما من تحالف استراتيجي حول القواسم المشتركة الرئيسية العديدة التي تجمعهما مع استمرار الفريقين في تبادل الانتقادات المعلنة حول بعض الاختلافات الهامشية، وتكرار نزاعاتهما الفرعية حول السلطة والنفوذ والتي بلغت حد الاشتباكات الدموية العنيفة في بعض الأحيان، ابتداءً بنزاع سنة 1954 بين "جمال عبدالناصر" و"حسن الهضيبي" حتى نزاع سنة 2013 بين "عبدالفتاح السيسي" و"محمَّد مرسي" مروراً بنزاع "جمال عبدالناصر" ضد "سيد قطب" ونزاع "أنور السادات" ضد "عمر التلمساني" ونزاع "حسنى مبارك" ضد "عمر عبدالرحمن"، فقد وقع ارتباك شديد في صفوف مختلف القوى السياسية والمكونات المجتمعية المصرية لاسيما الشيوعيين والليبراليين وأبناء الجاليات ذات الأصول الأجنبية والأقباط واليهود والشيعة والنوبيين والبدو والنساء والأطفال والشيوخ والمعاقين، حيث توهم المتضررون من الفاشية العسكرية أن جماعة الإخوان هي ملاذهم الآمن الوحيد بينما توهم المتضررون من الفاشية الدينية أن المجلس العسكري هو ملاذهم الآمن الوحيد، ولكن إزاء استمرار تحالف الفاشيتين العسكرية والدينية في ممارساته التي تهدد سلامة القوى السياسية والمكونات المجتمعية المذكورة وتطيح بحقوقها وتعطل مصالحها المشروعة، فقد تنامى الإدراك الجمعي لحقيقة أن التحالف الثنائي الحاكم يدفع عموم المصريين بمن فيهم أعضاء وتوابع الجسد الرئيسي لفريقي التحالف نفسيهما نحو حصار خانق داخل مثلث ضيق أضلاعه هي الاستبداد والفساد والتبعية الدونية للمعسكر الرأسمالي الاستعماري العالمي، لذلك أخذ المصريون يقفزون تباعاً وبصرف النظر عن العواقب ليس فقط خارج المثلث ضيق الأضلاع ولكن أيضاً خارج الحدود الجغرافية لجمهورية الخوف الجاثمة على أنفاس الوطن المصري منذ سنة 1952 حتى اليوم، لتبدأ الهجرة العكسية الاضطرارية مع انتصاف خمسينيات القرن العشرين بموجة هروب أولى لأبناء الجاليات ذات الأصول الأجنبية كالأرمن والطليان واليونانيين والسلافيين إلى جانب اليهود المصريين، متجهين نحو العودة لبلدانهم الأوروبية الأصلية أو نحو بلدان العالم الجديد في أستراليا والأمريكتين أو حتى نحو مجاهل آسيا وأفريقيا، ثم جاءت موجة الهجرة الاضطرارية الثانية مع بداية الستينيات بهروب الأقباط والمسيحيين المصريين إلى بلدان العالم الجديد، تلتها موجة الهجرة الاضطرارية الثالثة بهروب الحلفاويين من أبناء النوبة المصرية في منتصف الستينيات إلى منطقة "خشم القربة" الواقعة داخل الصحراء الشرقية السودانية الجرداء الموحشة، وتمثلت موجة الهجرة الاضطرارية الرابعة في الهروب المعنوي لبدو سيناء برفضهم النزوح إلى داخل العمق المصري واختيارهم البقاء تحت إدارة قوات العدو الإسرائيلي التي احتلت سيناء خلال الفترة الزمنية الممتدة بين سنتي 1967 و1982، فيما لا يختلف كثيراً عن الهروب المعنوي لبدو الصحراء الغربية من العرب والأمازيغ الذين اضطروا في بداية السبعينيات لاكتساب الجنسية الليبية وتمسكوا بها إلى جانب جنسيتهم المصرية، علماً بأن التحالف الحاكم مازال حتى اليوم يعاقب جميع البدو المصريين سواء كانوا يسكنون سيناء أو الصحراء الغربية على اضطرارهم للهروب المعنوي من ممارساته، واستمرت الموجة الخامسة طوال عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين بهجرة الأيدي العاملة المصرية الاضطرارية الكثيفة نحو بلدان النفط العربية المجاورة هرباً من قسوة الأوضاع المعيشية في مصر، لتأتي الموجة السادسة بهجرة الجهاديين الإسلاميين الاضطرارية أثناء عقدي الثمانينيات والتسعينيات إلى أراضي أفغانستان وباكستان والشيشان والبوسنة وبلدان الصحراء الأفريقية الكبرى بحثاً عما يفتقدونه في مصر من عدل ورحمة وآمان، ومع حلول القرن الواحد والعشرين بدأت الموجة السابعة مع الهجرة العكسية الاضطرارية لشباب وصبية وفتيات وصبايا يهربون من كافة المدن والقرى والربوع المصرية بحثاً عن حياة أفضل، ليمخروا عباب البحر الأبيض المتوسط متجهين صوب سواحل الجنوب الأوروبي بقواربهم الخشبية البدائية الصغيرة في مواجهة غير متكافئة وشبه انتحارية مع كل أنواع المخاطر الطبيعية والعدائيات البشرية على كافة المستويات، دون أن تتوقف العقول المتميزة سواء كانوا من المفكرين والباحثين السياسيين أو مبدعي الآداب والفنون أو نوابغ الابتكارات والتطبيقات العلمية عن الهجرة العكسية الاضطرارية من مصر إلى مختلف بلدان العالم التي تسمح لعقولهم بالاستفادة والإفادة خارج نطاقهم الجغرافي الطبيعي، ليصل عدد المهاجرين المقيمين بصفة دائمة في الخارج إلى خمسة عشر مليون مصري منهم حوالي نصف مليون شهيد سقطوا خلال المراحل المختلفة لهجراتهم الشاقة نحو مشارق الأرض ومغاربها، إلى جانب خمسين مليون مصري ذاقوا قسوة الهجرات المؤقتة للخارج ومع ذلك كانوا يودون لو أنهم لا يعودون مرة أخرى إلى جمهورية الخوف القائمة في مصر منذ سنة 1952، رغم امتلاء حلوقهم بأنواع متعددة من المرارات لكون ثمار جهودهم ومهاراتهم وإبداعاتهم يقطفها آخرون غرباء دوناً عن أهاليهم المصريين المحشورين داخل مثلث الاستبداد والفساد والتبعية الذي فرضته عليهم جمهورية الخوف، رغم أن هؤلاء الأهالي هم الأكثر احتياجاً من غيرهم لتلك الجهود والمهارات والإبداعات!!.
(11)
اقتحمت الجماهير الغاضبة مقرات جهاز مباحث أمن الدولة خلال سنة 2011 بهدف إنقاذ محتوياتها من الملفات الأمنية الهامة قبل إتلافها لإخفاء أدلة ثبوت جرائم الأجهزة السيادية على مدى العمر الزمني لجمهورية الخوف الأولى والذي بدأ سنة 1952 في مصر، وحسب الأوراق الرسمية الممهورة بخاتم شعار الجمهورية والتي احتواها ملفي الأمني بشقيه المعلوماتي والعملياتي فإن الأجهزة السيادية كانت قد أدرجتني ضمن قوائم أعدائها المحتملين منذ مولدي في أواخر خمسينيات القرن العشرين، كابن لأبوين كانا يتصدران آنذاك صفوف المعارضة الشيوعية التي رفضت مبكراً انقلاب "الضباط الأحرار" بوعي كامل لخطورة الحكم العسكري، ثم نقلتني الأجهزة إلى قوائم أعدائها المؤقتين عقب مشاركتي الشخصية مع أبناء جيلي من الشيوعيين في قيادة انتفاضة يناير 1977 الجماهيرية الاحتجاجية ذات الأبعاد الاجتماعية، لترفعني تلك الأجهزة لاحقاً إلى قوائم أعدائها المؤكدين عندما أصدر الحزب الشيوعي السري في بداية الثمانينيات كراسة تتضمن بحثي المعنون "حرب التحرير الشعبية هي طريق التحرر الوطني" رغم إخفاء اسمي عمداً بهدف حمايتي، أما جماعة "الإخوان المسلمين" والتي كانت قد أدرجتني أيضاً ضمن قوائم أعدائها المحتملين منذ مولدي في أسرة شيوعية "كافرة" حسب التصنيفات الإخوانية المنحرفة، فقد نقلتني إلى قوائم أعدائها المؤقتين خلال النصف الثاني لسبعينيات القرن العشرين بمجرد إصدار جامعة القاهرة لكراسة تتضمن بحثي المعنون "الإخوان المسلمون على مذبح المناورة"، في إطار مشروع التثقيف الجامعي الذي قاده بعض الوزراء السابقين واللاحقين أمثال "رفعت المحجوب" و"فتح الله الخطيب" و"بطرس غالي" و"مصطفى السعيد" و"جودة عبدالخالق" وغيرهم، ممن تم وضع أسمائهم على أغلفة الكراسات بنفس بنط اسمي رغم كوني مازلت طالباً وهم أساتذتي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم رفعتني جماعة "الإخوان المسلمين" لاحقاً إلى قوائم أعدائها المؤكدين مع إعلاني المبكر لما في حوزتي من معلومات وتحليلات حول الانقلاب العسكري الذي تم تنفيذه بنجاح خلال شهر يونيو سنة 1989 في السودان، بتواطؤ ماكر ومخادع بين العسكريين السودانيين وإخوان السودان تحت الرعاية المستترة لقيادات هؤلاء وأولئك في مصر، الأمر الذي دفع الرئيس "حسني مبارك" إلى تكليفي بوظيفة المستشار الإعلامي للسفارة المصرية في السودان طوال النصف الأول من التسعينيات حيث أحبطت إفاداتي المعلوماتية الدقيقة والسريعة بعض شرور التحالف العسكري الإخواني السوداني تجاه المصريين، وحسب الأوراق الرسمية الممهورة بخاتم شعار الجمهورية والتي احتواها ملفي الأمني فقد طالني بمجرد عودتي من السودان سنة 1997 خليط من عمليات الاستهداف سواء بالأيدي المنفردة لتوابع الأجهزة السيادية أو بالأيدي المنفردة لتوابع جماعة "الإخوان المسلمين" أو بالأيدي المشتركة لتوابع الفريقين معاً، ابتداءً بمحور الاحتواء والتطويق صعوداً إلى محور التشتيت والإنهاك، وصولاً لمحور الإزالة النظيفة الذي يشمل فيما يشمله تصفية الشخص المستهدف أو إصابته بإحدى الإعاقات المستديمة في جسده أو عقله أو محاصرته عبر تضييق الخناق حول تحركاته الطبيعية في مجاله الحيوي أو فبركة أية خلفيات زائفة لتثبيته وتقييده بالحبس أو تحديد الإقامة، كما يشمل محور الإزالة النظيفة أيضاً فيما يشمله منع الشخص المستهدف من مغادرة مصر سواء كانت مغادرته بهدف الهجرة الدائمة أو المؤقتة وسواء كانت اختيارية أو اضطرارية، وبصرف النظر عما إذا كان مسافراً للقيام بجولة سياحية أو للمشاركة في أنشطة سياسية أو ثقافية أو علمية خارجية أو لتأدية واجباته المهنية والتزاماته العائلية وشعائره الدينية أو حتى للحصول على فرصة علاجية أخيرة لإنقاذ حياته، ورغم استمرار مقاومتي بضراوة لكافة محاور استهدافي فقد حصل محور منع سفري ومغادرتي على المساحة الأكبر من اهتمام الرأي العام ومتابعة الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي، لأنني كنت ومازلت أحمل جواز سفر خاص بالدبلوماسيين يفيد بأن وظيفتي الرسمية في الدولة المصرية هي السفر، وفي يوم 24/2/1998 أصدر مجلس الدولة حكمه التاريخي في الدعوى المقيدة تحت رقم 7904 للسنة القضائية رقم 51 بالإزالة الفورية لكافة العراقيل التي تمنع سفري ومغادرتي إلا أن هذا المنع لم يزل قائماً بشكل عملي حتى اليوم، عبر العديد من الالتفافات الملتوية والماكرة التي بدأت سنة 1998 خلال محاولتي السفر لتقديم أوراقي في إحدى المسابقات المعلنة لشغل وظيفة مستشار إعلامي لدى الأمانة العامة للاتحاد الأفريقي الكائنة بالعاصمة الأثيوبية "أديس أبابا"، عندما تم إنزالي من داخل الطائرة بواسطة ضباط أمن مطار "القاهرة" على ضوء تعليمات أصدرتها الأجهزة السيادية بحجة كاذبة مفادها عدم تأديتي الخدمة العسكرية الإلزامية، واستمرت تلك الالتفافات لمنع سفري حتى كان آخرها الامتناع عن تنفيذ حكم مجلس الدولة الصادر لصالحي في الدعوى رقم 3556 للسنة القضائية رقم 67 مع تجميد قرار وزير الصحة رقم 779 لسنة 2014 الصادر تنفيذاً للحكم المذكور، بسفري إلى "ألمانيا" لعلاج عمودي الفقري السابق كسره خلال محاولة اغتيال فاشلة دبرتها ونفذتها ضدي جهات مجهولة أثناء عملي كمستشار إعلامي في السفارة المصرية بالسودان، وذلك عقب شهور قليلة من إصدار "عدلي منصور" رئيس الجمهورية المؤقت الموالي لقيادة المجلس العسكري قراره رقم 657 لسنة 2013 بسحب وإلغاء قراره هو نفسه السابق رقم 644 لسنة 2013 بسفري إلى "نيويورك" للعمل كمستشار إعلامي في البعثة الدبلوماسية المصرية لدى الأمم المتحدة، وذلك عقب شهور قليلة من إصدار الرئيس الإخواني "محمَّد مرسي" القرار الجمهوري رقم 170 لسنة 2012 بنقل تبعية قطاع الإعلام الخارجي الذي أعمل فيه من وزارتي الإعلام والخارجية إلى رئاسة الجمهورية، بعد أسابيع قليلة من صدور قرار وزير الداخلية رقم 1212 لسنة 2011 بصفته المسئول التنفيذي الأعلى عن كل مخارج السفر والمغادرة والذي ينص على منع جميع العاملين التابعين لرئاسة الجمهورية من السفر والمغادرة ما لم يحصلوا على موافقة مسبقة من الأجهزة السيادية، ليظل منع مغادرتي طوال عشرين سنة سواء بالأساليب القهرية أو الالتفافية مؤرقاً لي بنفس الدرجة التي كانت مغادرتي للوطن في حد ذاتها تؤرقني رغم إيماني كغيري بفوائد السفر السبع!!.
(12)
اتفق أصدقائي من أطباء علم النفس على أنني مصاب بنوع من الأرق يسمونه "الحنين الانفعالي للوطن" تبدأ أعراضه قبيل مغادرتي باسترجاعي لأهم أغاني ومواويل الهجرة الحزينة واستمراري في ترديدها على نحو متواصل كالنائحات الثكالى، ثم تتصاعد الأعراض بنفوري العدواني تجاه العاملين في مخارج السفر والمغادرة وكأنهم هم المسئولون عن رحيلي، لتأتي آخر الأعراض بمجرد هبوطي إلى أرض المهجر وتتمثل في خلوة بكائية على وطني المفتقد لمدة نصف ساعة وهي نفس المدة التي أمضيها جالساً على الأرض في صمت جليل عقب عودتي إلى الوطن، وبينما فسر بعض الأطباء أرق الحنين الانفعالي للوطن بالإفرازات الكيميائية الموجودة أصلاً في دمي منذ مولدي فقد فسره أطباء آخرون بالمضاعفات النفسية لذكريات شخصية مؤلمة ارتبطت بأحداث مبكرة وقعت لي خارج الوطن لاسيما بعد استماعهم إلى تلك الذكريات، حيث كان عمري ست سنوات عند ذهابي لمحل مجمدات في دولة عربية مجاورة بهدف شراء دجاجة وبعد شرحي التمثيلي عرف البائع طلبي فصرخ بأعلى صوته قائلاً ما لم أفهمه من كلام هو: "اليوهال – يبي – دياية – أكو – يوبا – حاشيني"، لينفتح أحد الأبواب كاشفاً عن عملاق بشري غاضب عاري الجسد باستثناء منشفة صغيرة تتدلى أسفل بطنه الضخم الذي ظل يهتز بشدة أثناء صراخه مخاطباً البائع بما لم أفهمه أيضاً من كلام هو: "أكو – وايد – كلش – بالبراد – إنطيه - ياتشلب"، أصابني سوء فهمي لما يقولانه بخوف دفعني للإمساك بدجاجتي والخروج مسرعاً إلا أن ارتباكي قادني نحو الباب الخاطئ المؤدي إلى المخزن لأجد نفسي وجهاً لوجه أمام حيوان زاحف ضخم يشبه التمساح اسمه "الوَرَلْ"، أخذ يتشممني بأنفه المنتفخ ويلعقني بلسانه الطويل تمهيداً لالتهامي بعد أن ابتلع دجاجتي فور سقوطها من يدي لولا مسارعة البائع وأبيه بجذب سلسلة ذلك الوحش تاركين لي فرصة الفرار نحو الشارع، ولما كان عمري عشر سنوات قامت إحدى فتيات دولة عربية مجاورة أمام عيني بمغازلة شاب مصري مهاجر لا أعرفه فأمسك أقاربها به ليضربونه بقسوة وهم يسبون كافة المصريين الذين يغازلون "بنات أسيادهم" حسب قولهم، مما اضطرني إلى التدخل لشرح الحقيقة فاعتبروني شريكه ومنحوني نصيباً وافراً من الضرب المبرح الذي كاد يقتلني لولا وصول الشرطة بعد فترة زمنية طويلة لفض المعركة، ولما أصبح عمري أربع عشرة سنة اختطفني بعض المشايخ الملتحين بمجرد وصولي إلى دولة عربية مجاورة ليقتادوني عنوة نحو ساحة المسجد الكبير مع ترديدهم عبارة لا أفهمها هي: "عاين – يال – وَلَدْ – هالحين – عانجص – راس"، فإذا بهم يجمعون المارة لإجبارهم على مشاهدة عملية وحشية لقطع رأس مهاجر مصري بالسيف عقب تقييده بالسلاسل في العمود الذي يتوسط ساحة المسجد، ثم عاد نفس هؤلاء المشايخ الملتحين وأمسكوا بي مرة أخرى بعد أيام قليلة ليقتادوني عنوة نحو ساحة المسجد الكبير ذاتها حيث قيدوني بالسلاسل في نفس العمود الذي يتوسط ساحة المسجد مع تكرارهم لذات عبارتهم المرعبة "عاين – يال – وَلَدْ – هالحين – عانجص – راس"، طال انتظاري لقطع رأسي وأنا في حالة من الفزع والهلع الشديدين حتى تبين لي أنهم يجمعون المارة لإجبارهم على مشاهدة عملية عبثية لقص شعر رأسي الذي يرونه أطول مما تسمح به بروتوكولاتهم الرجعية التسلطية، وعندما أصبح عمري ثماني عشرة سنة تصادف جلوسي على مقعد ملاصق لأحد جناحي طائرة تابعة لدولة عربية مجاورة وأنا في طريقي إليها كما تصادف سقوط نظارتي الطبية عن وجهي بينما كان مضيف الطائرة المتجهم يسلمني بغلظة ورقة عنوانها "جزاؤك الموت"، وقبل ارتداء نظارتي لأستكمل قراءة الورقة التي تحذر المهاجرين الوافدين من ارتكاب عدة أفعال إجرامية عقوبتها الإعدام رغم سلامتها حسب قوانين بلدانهم الأصلية، كانت أسراب كثيفة من الجراد الصحراوي الضخم تطاردها بعض الجوارح المتوحشة الجائعة قد اخترقت محركات الطائرة عبر المراوح المدلاة أسفل الجناحين فاشتعلت النيران في المحركات، مما أجبر قائد الطائرة على الهبوط الاضطراري بها فوق أقرب مستنقع مائي ليواجه الركاب الذين لا يعرفون السباحة مثلي "جزاء الموت" حرقاً أو غرقاً أو تسمماً بعضات ولدغات ولسعات الأفاعي والعقارب والعناكب التي تسللت من المستنقع إلى داخل الطائرة، لولا هطول مفاجئ لأمطار موسمية غزيرة أطفأت النيران فأبقت على حياتنا لحين وصول السباحين من السكان المحليين لإنقاذنا، ورغم قسوة تلك الأحداث المرتبطة بهجراتي المؤقتة العديدة خارج مصر إلا أنها تبدو مجرد مداعبات طفولية عند مقارنتها بما أصاب كثيرين غيري من الأجانب المهاجرين إلى الداخل المصري سواء كانت هجراتهم دائمة أو مؤقتة!!.
(13)
خلال احتلالها للصفوف الأمامية في المعسكر الرأسمالي الاستعماري العالمي أبرمت بريطانيا وفرنسا سنة 1916 مع الإمبراطورية الروسية القيصرية اتفاقية سايكس – بيكو السرية من أجل إعادة توزيع مستعمرات إقليم الشرق الأوسط فيما بينها، على حساب الدول والشعوب التي ساندت ألمانيا وإيطاليا ودولة الخلافة الإسلامية العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1919)، وهي الحرب التي كانت تطوراتها قد تواكبت مع انهيار الإمبراطورية الروسية القيصرية حيث قامت على أنقاضها سنة 1917 أول دولة شيوعية في العالم تحت اسم الاتحاد السوفيتي، الذي كشف اتفاقية سايكس – بيكو السرية أمام وسائل الإعلام والرأي العام العالمي والإقليمي والمحلي معلناً انسحابه منها باعتبارها تكرس الاستعمار مع رفضه للامتيازات التي كانت الاتفاقية تمنحه إياها، فأعاد البريطانيون والفرنسيون في سنة 1918 تعديل بنودها على نحو يمنحهما مناصفةً حق الاحتلال الحصري لمستعمرات الشرق الأوسط المنزوعة من أيدي دولة الخلافة الإسلامية العثمانية بعد بترها، وبموجب بنود وملحقات اتفاقية سايكس – بيكو الأصلية والمعدلة فقد تمت معاقبة الشعب الكردي البالغ تعداده آنذاك عشرة ملايين نسمة ليس فقط بسبب مساندته للمحور الألماني – الإيطالي - العثماني خلال الحرب العالمية الأولى ولكن أيضاً لأسباب موروثة من مرحلة التاريخ الأوسط، حيث تحمل بريطانيا كراهية تاريخية للأكراد باعتبارهم أحفاد "صلاح الدين الأيوبي" الذي كان قد هزم جيوشها الغازية للشرق الأوسط قبل خمسمائة سنة، بينما تحمل فرنسا كراهية تاريخية للأكراد باعتبارهم أحفاد "سليمان الحلبي" الذي كان قد اغتال قائد جيوشها الغازية للشرق الأوسط قبل مائة وعشرين سنة، وتمثلت معاقبة الأكراد في تشتيتهم بين عدة دول أبرزها تركيا التي قامت على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية العثمانية سنة 1924 واعترف بها العالم بعد خضوعها لموازين القوة الجديدة وتراجعها نحو موقع جغرافي ضيق نسبياً وموقع اقتصادي غير تنافسي يتوسط المعسكر الاستعماري والمستعمرات، إلى جانب العراق وإيران اللتان أصبحتا تحت الاحتلال البريطاني والشام الذي أصبح بدولتيه سوريا ولبنان تحت الاحتلال الفرنسي، بالإضافة إلى بعض الأقليات الكردية التي كانت موزعة أصلاً على أراضي قوقازية تابعة لدول أذربيجان وأرمينيا وجورجيا الخاضعة للاتحاد السوفيتي، لتتم معاملة الأكراد بقسوة كمواطنين من الدرجات الأدنى في كل الدول المذكورة على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية رغم اختلاف أشكال تلك القسوة وتفاوت درجاتها من دولة لأخرى بين الدمج القهري والعزل القسري والنفي الإجباري وإنكار الوجود الأصلي، حتى أن آلاف العائلات الكردية قد عاشت وتزاوجت وتكاثرت بلا أي هويات رسمية توضح ماهية الدول التي يتبعها هؤلاء وأولئك لمعرفة واجباتهم وحقوقهم سواء تجاه بعضهم أو تجاه الآخرين، لذلك فقد شكل الأكراد أغلبية قوائم المهاجرين خارج بلدانهم في مرحلتي التاريخ الحديث والمعاصر باستمرار هجراتهم الاضطرارية دون انقطاع حتى اليوم، سواء عبر البر إلى وسط وشمال أوروبا وشرق أفريقيا أو عبر البحر إلى جنوب وغرب أوروبا أو عبر الجو إلى العالم الجديد في أستراليا والأمريكتين، ومن بين المهاجرين الأكراد كانت الصبية الجميلة "ماجدة" ذات الستة عشر ربيعاً التي اتجهت سنة 1988 صوب أوروبا وهي تمسك في يديها شقيقها الأصغر الطفل "مجدي"، باعتبارهما الناجيان الوحيدان من عائلة كردية تمت إبادتها بالكامل خلال قصف الجيش العراقي لمدينتهم "حلابشة" الكردية بمجموعة منتقاة من أقذر أنواع الأسلحة الكيماوية التي شملت فيما شملته غازات الكلور والخردل والسارين والتابون، على مظنة من الرئيس العراقي آنذاك "صدام حسين" بمساندة أكراد "حلابشة" لإيران في حربها الممتدة ضد العراق بين سنتي 1980 و1988، واضطرت الصبية الجميلة "ماجدة" إلى تسليم عذريتها وجسدها لأفراد عصابات تهريب البشر الذين تناوبوا على معاشرتها مراراً وتكراراً مقابل اقتيادها مع شقيقها الطفل إلى المنطقة الحدودية الواقعة بين تركيا وسوريا، ومنها اتجها براً نحو ساحل البحر الأبيض المتوسط حيث حملهما أحد القوارب الصغيرة لجزيرة "قبرص" ومن هناك حملهما قارب صغير آخر إلى "فرنسا"، وسرعان ما التحقت "ماجدة" كعاملة نظافة مقيمة في المجمع السكني المخصص لاستضافة طلاب الدراسات العليا من المهاجرين الأجانب الوافدين على جامعة "السوربون" الكائنة بالعاصمة الفرنسية "باريس"!!.
(14)
حصل "نبيل" على منحة دراسية لنيل درجة الدكتوراه في مجال الكيمياء النووية بجامعة "السوربون" الباريسية، عقب إتمامه النموذجي لدرجة الماجستير سنة 1988 من جامعة "القاهرة" عن رسالته المتميزة حول الاستخدامات العسكرية القذرة لغازات الكلور والخردل والسارين والتابون، فترك أمه المسنة وشقيقته الكبرى العانس وحدهما داخل منزل العائلة القديم الكائن في حي "الدقي" القاهري واتجه صوب "باريس" حيث أقام بالمجمع السكني لطلاب جامعة "السوربون" وهناك التقى عاملة النظافة الكردية المقيمة "ماجدة" التي حدثته عما سبق أن أصابها هي وعائلتها خلال وجودهم في مدينتهم الأصلية "حلابشة" من أضرار ناجمة عن الاستخدامات العسكرية القذرة لغازات الكلور والخردل والسارين والتابون، فاتفق معها على أن تساعده فيما يجريه من أبحاث علمية وتجارب تطبيقية لنيل درجة الدكتوراه حول الموضوع ذاته بمقابل مالي يساوي ربع قيمة منحته الشهرية، ونظراً لأن الغربة تؤجج المشاعر والغرائز البشرية الطبيعية بين المهاجرين فقد اندفعا سريعاً نحو إعجاب متبادل ثم حب تلاه زواج، فانتقلا إلى شقة سكنية صغيرة خاصة بهما وأنجبا ثلاث بنات قامت السفارة المصرية بتسجيلهن تباعاً لتحصل أمهن "ماجدة" بذلك على التصريح الدائم لدخول "مصر" والإقامة فيها، واستمر "نبيل" يحقق النجاحات المتتالية بانجازاته المتميزة على الصعيدين العلمي والتطبيقي في مجال الكيمياء النووية مما أسعد أساتذته وزملائه ولكنه أزعج الجهات السيادية العالمية والإقليمية الكارهة لتحقيق أية إنجازات عربية لاسيما لو كانت في المجالات غير التقليدية، فوقع اختيار تلك الجهات على "أنجيلينا نيز" ضابطة الخدمة السرية الخارجية الفرنسية ذات الخبرات المتنوعة في مختلف التخصصات الكيميائية والنووية إلى جانب الفنون الغرامية والجنسية، لتخترق بمهارة فائقة الأسرة الصغيرة المكونة من "نبيل" وزوجته "ماجدة" وبناته الثلاث وشقيق زوجته المراهق "مجدي" الذي يحظى بمرتبة الابن البكر داخل الأسرة، وبحلول سنة 1992 نجحت "أنجيلينا" في توجيه ضربتها المزدوجة المتزامنة لسرقة وإتلاف الأبحاث العلمية والتجارب التطبيقية الخاصة بالكيمياء النووية سواء كانت موجودة في الشقة السكنية أو المعمل الجامعي أو التخزين الإلكتروني، مع حقن "نبيل" قسراً بجرعة مضاعفة من منشط جنسي محظور تداوله لقوة مفعوله وكثرة تأثيراته الجانبية السلبية الأمر الذي أدى إلى مصرعه، على نحو تم إخراجه درامياً ليبدو أمام زوجته قليلة الخبرة والحيلة وسلطات التحقيق الفرنسية المتواطئة والسفارة المصرية المتراخية بشكل مريب، وكأن الضحية الخائن لزوجته هو الذي أفرط في تعاطي المنشطات الجنسية المحظورة بكامل رغبته استعداداً لعلاقة غرامية عابرة خارج نطاق الأسرة، وبمجرد إغلاق ملف التحقيق في القضية دون توجيه أية اتهامات مصرية أو فرنسية لأي طرف حصلت "أنجيلينا" على رتبة "كولونيل" كترقية استثنائية لتفانيها في تأدية عملها، مع الترتيب لانتقالها خلال السنة التالية إلى "السودان" بهدف لملمة بعض عبوات الكيمياء النووية السابق ضياعها قبل عدة سنوات فوق الأراضي السودانية، أثناء تسليمها من بائع جنوب أفريقي إلى مشتري عراقي عبر وسيط سوداني لاسيما وأن الثلاثة قد تم قتلهم جميعاً في مكان التسليم بواسطة قاتل محترف مأجور تمت تصفيته هو أيضاً فيما بعد دون معرفة مواقع المخابئ السرية المودع بها العبوات، فلم تصل أبداً إلى "العراق" الذي انتظرها طويلاً لاستخدامها ضمن مشروعه النووي السري الطموح والمستمر تحت الإشراف الفرنسي رغم أن التواطؤ المعلوماتي بين فرنسا وإسرائيل كان قد أسفر عن تدمير مفاعل "تموز" النووي العراقي بواسطة الطائرات الحربية الإسرائيلية سنة 1981، كتمهيد مبكر من قبل المعسكر الرأسمالي الاستعماري العالمي لتدمير "العراق" كله عبر العمليات العسكرية المتواصلة والممتدة ضده منذ سنة 1991 حتى احتلته القوات الأمريكية سنة 2003 بما صاحب ذلك من انشغال عراقي تام إلى درجة نسيان عبواته الضائعة في "السودان"، واستعانت "أنجيلينا" باثنين من ضباط الخدمة السرية الخارجية الفرنسية الشباب هما الكابتن "نيقولا" والكابتن "بيتر" مع مندوبة سودانية شابة هي أستاذة الأدب الفرنسي "ياسمين"، لتشكيل الساتر الأسري اللازم من أجل اختراق المجتمع السوداني المحافظ بهدف جمع المعلومات المطلوبة حول العبوات المستهدفة حتى تستطيع لملمتها ثم شحنها إلى فرنسا، إلا أن "أنجيلينا" سرعان ما اكتشفت بذكائها الحاد صعوبة مرور هذا النوع المعلوماتي في السودان آنذاك سوى بمعرفتي، ليس فقط نظراً لوظيفتي الدبلوماسية ولكن أيضاً بصفتي أقرب جامعي المعلومات إلى عمق المجتمع السوداني!!.
(15)
راودتني المخاوف المشروعة من احتمال أن يؤدي حصول خلية "أنجيلينا" على المعلومات المستهدفة إلى وقوع عبوات الكيمياء النووية المفقودة في حوزة أي طرف ينوي استخدامها بشكل يهدد سلامة "مصر" أو حقوقها أو مصالحها، فأحاطت شبكة المعلومات العاملة معي بخلية "أنجيلينا" الرباعية عن بعد من كافة الجوانب تمهيداً لالتصاق ثلاث مجموعات مختلفة تابعة لي بأعضاء الخلية الثلاثة "نيقولا" و"بيتر" و"ياسمين" كل واحد على حدا لجمع والتقاط وفرز وتصنيف جميع المعلومات الواردة عنهم ومنهم وإليهم، تاركين لي مسئولية الاقتراب الشخصي من رأس الأفعى الفرنسية "أنجيلينا" بالإضافة لمسئولياتي الأخرى عن ربط وتشغيل المعلومات وإبلاغها أولاً بأول إلى قياداتي في "القاهرة" الذين استمروا يتابعونني بردودهم واحتياجاتهم وتكليفاتهم اليومية، وبمجرد الاطمئنان لاكتمال سيطرتنا على تدفق المعلومات التي ترسلها الخلية أو تستقبلها بشأن عبوات الكيمياء النووية وفرنا لعملها الميداني الحماية والمساعدة اللازمتين طالما أننا سوف نشاركها الحصيلة المعلوماتية النهائية في الوقت المناسب لمعرفة خيرها من شرها، وبعد سنتين كاملتين من الجهد الشاق والشيق أصبح بحوزتي شريط فيديو يحوي مادة فيلمية تتضمن ملفاً تفصيلياً لجميع العبوات المخبأة، من حيث مواصفات كل عبوة ومحتوياتها وحالتها التقنية ونسبة المواد الفعالة إلى بقية مكوناتها ومكان إيداعها والبدائل المدروسة جيداً للحصول عليها والمسارات المتاحة لإخراجها بأمان من السودان، ليصل شريط الفيديو فوراً من يدي عبر قنوات الاتصال السرية شديدة الإحكام إلى أيدي قياداتي في "القاهرة" فإذا بهم يكلفونني بإغلاق الملف وإنهاء المهمة وتفكيك شبكة المعلومات العاملة معي فيها والانسحاب بعيداً عن خلية المعلومات الفرنسية لاسيما رئيستها "أنجيلينا"، التي سرعان ما تم ترحيلها من "السودان" إلى "فرنسا" مع مساعدها "نيقولا" دون المساس بمساعدها الآخر "بيتر" لكونه كان قد تزوج الشابة السودانية "ياسمين" بعد أن أشهر إسلامه وأصبح من دراويش الطرق الصوفية، إلا أن "أنجيلينا" التمست من قائد وحدة الحراسة العسكرية السودانية المخصصة لمرافقتها حتى مطار "الخرطوم" السماح لها بالمرور على صديقها الوحيد في المدينة لوداعه قبل سفرها فوافق واصطحبها إلى باب منزلي، حيث وبختني بقولها إن مباراة معلومات كتلك التي قامت بيننا كان يمكن أن تنتهي على أي وجه نموذجي سواء لصالحها أو لصالحي أو لصالحنا معاً بالاستفادة المشتركة لدولتينا من الحصيلة المعلوماتية النهائية، ولكن لا يمكن لكلينا القبول بما جرى فقد لعبناها سوياً بأداء مهني نموذجي فخسرناها سوياً بتدخل غامض عبثي لصالح طرف ثالث مجهول لم يشاركنا اللعب أصلاً ولا علم لكلينا بكيفية استخدامه لحصيلتنا المعلوماتية الثمينة بما تكشفه من تفصيلات دقيقة حول عبوات الكيمياء النووية، التي اتضح لاحقاً أنها كانت قد اتجهت إلى "إيران" حسب بيان الوكالة الدولية للطاقة النووية المعلن سنة 2003 والمتضمن تفاصيل الاعترافات الإيرانية بشأن انتهاكاتها المتعددة لمعاهدة منع الانتشار النووي، والمرفق به قائمة لمواد ومكونات واستشارات تكنولوجية في مجال الكيمياء النووية كانت إيران قد حصلت عليها تباعاً منذ هزيمتها أمام العراق سنة 1988 عبر بعض الوسطاء الدوليين مع إثبات التواريخ المتتالية لحصول إيران على كل منها، حيث أوردت تلك القائمة عبوات الكيمياء النووية المنقولة إلى الحيازة الإيرانية عبر وسيط مجهول بعد أن كانت تحت أيدينا حتى سنة 1995 في "السودان"، الذي شهد بمجرد أن غادرته "أنجيلينا" سلسلة عمليات اختفاء غامضة اختطفت "بيتر" ثم "ياسمين" ثم كل المتبقين من أعضاء الخلية الفرنسية الواحد تلو الآخر، وانتقلت تلك العمليات بعد ذلك إلى زملائي أعضاء شبكة المعلومات الذين شاركوني المهمة سواء كانوا مصريين أو سودانيين أو أجانب لتختطفهم تباعاً حتى اختفوا جميعاً، وتزامنت عودة "أنجيلينا" إلى فرنسا مع اقتراب الشقيقين الكرديين "ماجدة" و"مجدي" من معرفة بعض المعلومات التفصيلية الهامة المتعلقة بعملية اغتيال "نبيل" وسرقة وإتلاف أبحاثه العلمية وتجاربه التطبيقية عقب تفكيك وإعادة تركيب وقائع العملية ثم تجميعها وربطها معاً لحل ألغازها، الأمر الذي دفع بالسلطات الأمنية والقضائية المتواطئة هناك إلى توجيه تهمة الدخول غير الشرعي قبل عدة سنوات للأراضي الفرنسية ضد الشقيقين مما أسفر عن اعتقال "مجدي" وترحيل "ماجدة"، التي وصلت بصحبة بناتها الطفلات الثلاث إلى "القاهرة" للإقامة مع جدتهن المسنة وعمتهن العانس في منزل العائلة القديم الكائن بحي "الدقي"!!.
(16)
تم تكليف "أنجيلينا" بإعادة متابعة وملاحقة "ماجدة" مجدداً لاختراق منزل العائلة القديم الكائن في حي "الدقي" القاهري، حتى يتسنى لها سرقة أو إتلاف كل ما تبقى من مسودات خاصة بالأبحاث العلمية والتجارب التطبيقية التي سبق أن أجراها "نبيل" خلال دراسته لدرجة الماجستير بجامعة "القاهرة" في مجال الكيمياء النووية، منعاً لاحتمال وقوع تلك المسودات بين أيدي زملائه وتلاميذه من الوطنيين المصريين النوابغ، فانتحلت الأفعى الفرنسية صفة مهندسة ديكور مبعوثة ضمن مشروع أكاديمي مشترك لبحث كيفية الحفاظ على الثروة المعمارية المصرية الموروثة عن العهد الخديوي والمنتشرة في مدن القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والسويس وبورسعيد، وسرعان ما افتعلت بذكائها الحاد مقابلة مدبرة بدت وكأنها تصادفية مع "ماجدة" لمعاودة الاقتراب منها تمهيداً لاختراق منزل العائلة القديم الذي يحوي المسودات المستهدفة، وكان "مجدي" قد أكمل مدة عقوبته داخل السجون الفرنسية ليتم ترحيله إلى سجون إقليم كردستان العراقي حتى تفرج عنه بمعرفتها مع إدراج اسمه ضمن القوائم الدولية السوداء التي تمنع منحه لاحقاً أية وثائق أو جوازات أو تصريحات أو تأشيرات سفر، بعد أن ساعده رفاقه من السجناء السياسيين الفرنسيين ليفهم حقيقة اغتيال زوج شقيقته "نبيل" ومنحوه بعض المعلومات الصحيحة بشأن "أنجيلينا"، وهكذا فإنه لم يجد عقب الإفراج عنه سوى استخدام الطريق الجبلي غير الشرعي مرة أخرى ليبلغ أنفاق "غزة" الفلسطينية الحدودية ثم يعبرها وصولاً إلى "مصر" حيث تقيم شقيقته "ماجدة"، فأرسل لها خطاباً يشرح فيه خط سيره إلى جانب عدة عبارات تحذيرية لم تفهمها بوضوح حول "أنجيلينا" بالإضافة إلى بياناتي الشخصية بعد حصوله عليها من مسئول كردي كان موظفاً بالسفارة العراقية في "الخرطوم" أثناء عملي هناك، ولما كانت أنفاق "غزة" التي هي الشبيه الإقليمي المعدل بأنفاق "برلين" تخضع لسيطرة ثلاثية من قبل أعضاء عصابات تهريب البشر التابعة للأجهزة السيادية الإسرائيلية والذين أغضبهم "مجدي" لخلو طرفه من أية أموال أو أغراض ثمينة أو معلومات أمنية هامة يمنحها لهم، مع كوادر حركة "حماس" الفلسطينية التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين" وأولئك غضبوا منه لكونه لا يحفظ آيات قرآنية غير قوله تعالى: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، مع قادة الأجهزة السيادية المصرية وهؤلاء أغضبهم إصراره على وجوب معاملته باعتباره حفيد "صلاح الدين الأيوبي" و"سليمان الحلبي" اللذان لا يكرههما سوى البريطانيون والفرنسيون وعملائهم، لذلك فقد انتهى عبور "مجدي الكردي" لأنفاق "غزة" باعتقاله وإيداعه أحد السجون الجهنمية المشددة في مدينة "العريش" بشمال سيناء حيث تعرض للاستجواب عبر الصعق الكهربائي المكثف والمتتالي بمختلف المناطق الحساسة في جسده، مما أفقده النطق والوعي والذاكرة فاتهمته إدارة السجن بالتمارض على غير الحقيقة وقررت إرساله إلى مستوى جهنمي أشد في السجن العمومي المركزي لمدينة "الإسماعيلية"، وكانت مهمتي الدبلوماسية المعلوماتية كمستشار إعلامي بالسفارة المصرية في "السودان" قد انتهت لتوها مع عودتي النهائية إلى منزلي القاهري محاطاً بترصد انتقامي عدواني كريه مصدره قادة وكوادر وأعضاء وتوابع التحالف الفاشي الحاكم بفريقيه السيادي والإخواني، ليس فقط بسبب ما أتاحه لي عملي المهني مع الفريقين من معلومات سرية خطيرة يحرصان معاً على إخفائها بما يستتبعه ذلك من رغبة محمومة لاستئصال حائزيها، ولكن أيضاً بسبب فشل محاولاتهما المتكررة السابقة الرامية إلى احتوائي أو تطويقي أو تشتيتي أو إنهاكي أو تقييدي أو حتى التخلص مني على أي وجه، خضوعاً لحماية إلهية نافذة تجلت في عدة مواقف مبدأيه أخلاقية اتخذها بعض الشرفاء المثاليين الذين كانوا لا يزالون موجودين داخل مؤسسات الدولة وأروقة المجتمع آنذاك!!.
(17)
تناولت "ماجدة الكردية" معي إفطاراً مصرياً خالصاً يتكون من الطعمية والفول بزيت السمسم الحار ومقليات البطاطس والباذنجان والفلفل إلى جانب رؤوس وأوراق الجرجير والبصل الأخضر كعادتي المنزلية صباح كل يوم جمعة، حيث أطلعتني تحت وابل من البكاء العاجز على حكاياتها ومخاوفها مع ألبوم كبير يحوي صور العائلة والأصدقاء بمن فيهم "مجدي" و"أنجيلينا"، لتحصل مني على تعريف تفصيلي دقيق لما غاب عنها من معلومات حول عملية اغتيال زوجها كانت قد وصلتني أثناء تحرياتي السابقة عن خلية مطاردة عبوات الكيمياء النووية المخبأة في "السودان"، مع وعد مزدوج بمحاولة تخليصها من الأفعى الفرنسية الملتفة على عنقها وتخليص شقيقها من تهمة الدخول غير الشرعي للأراضي المصرية، ثم غادرت منزلي وهي لم تزل تبكي بعد أن تركت لي مجموعة منتقاة من صور الألبوم، ليفاجئني القائد الذي كان مسئولاً عن متابعة مهمتي المعلوماتية السابقة حول عبوات الكيمياء النووية بزيارة منزلية غير مألوفة لاسيما يوم الجمعة، وإزاء تخميني لسبب زيارته الحقيقي مع تلميحاته السخيفة عن إضاعتي لفرصة معاشرتها جنسياً خلال وجودها في منزلي بمفردها والتي كان يقصد من ورائها توضيح أن توابعه قاموا بتصوير وتسجيل زيارة "ماجدة" لي، فقد تلقى القائد مني وبتوقيعي الرقمي بلاغاً رسمياً طارئاً تحت بند حالات التلبس حول وجود ضابطة الخدمة السرية الخارجية الفرنسية "أنجيلينا نيز" في "مصر" لتنفيذ مهمة تجسس نووي غير معروفة التفاصيل بعد ولكن الأرجح أنها ذات طابع دموي قذر، كما تسلم القائد صور عائلة "نبيل" التي كانت بحوزتي حتى يتسنى لتوابعه اتخاذ إجراءات الفحص والتحري باستثناء صورة عائلية واحدة يظهر فيها وجها "مجدي" و"أنجيلينا" بوضوح وهما يضحكان ظلت ومازالت معي من باب الاحتياط المعلوماتي، وعند حلول فجر اليوم التالي اشتعلت النيران فجأةً في مختلف جنبات المنزل القديم الكائن بحي "الدقي" القاهري وتأخر وصول فريق الإطفاء حتى التهم الحريق كافة محتويات المنزل وعلى رأسها المسودات المطلوب إتلافها، إلا أن الحريق قد التهم أيضاً البنات الثلاث الصغيرات وجدتهن المسنة وعمتهن الكبرى العانس بالإضافة إلى أمهن الأرملة الشابة الجميلة "ماجدة"، لتسارع السلطات الأمنية والقضائية المصرية بإغلاق ملف التحقيق في الحادث على اعتبار أن تسرب الغاز الطبيعي خارج إحدى المواسير الهالكة هو المسئول عن الحريق، وقبيل حلول الظهيرة أطلت "أنجيلينا" على شاشات التليفزيون الرسمي في بث مباشر من مطار "القاهرة" وهي تغادر عائدة إلى بلادها، حيث كانت تزف التهنئة إلى مسئولي وزارة الإسكان بنجاح المشروع المشترك في الحفاظ على الثروة المعمارية الخديوية الموروثة، وكذلك أيضاً كان ضابط السجون الذي اقتاد "مجدي" لإيداعه السجن العمومي المركزي في مدينة "الإسماعيلية" بدون أية أوراق أو مستندات ثبوتية يزف التهنئة إلى زملائه أطباء السجون بوصول فأر تجارب ومخزن قطع غيار بشرية مجانية، ويزف التهنئة إلى توابعه من عتاة المجرمين الجنائيين الشواذ جنسياً المودعين داخل السجن بحصولهم على "حلاوة" كعشاء ترفيهي وهي شفرة معناها في لغة السجون المصرية التصريح لهم باغتصاب الوافد الجديد الذي كان فاقداً للنطق والوعي والذاكرة والأوراق الثبوتية، لذلك فإنني عقب استعانتي بالوسطاء الرشاة والمرتشين من موظفي وزارات الصحة والعدل والداخلية لتوصيلي إلى ثلاجة حفظ الموتى في مشرحة "زينهم" التابعة لمصلحة الطب الشرعي، لم أجد من بقايا الشاب "مجدي الكردي" سوى كومة لحم مسلوخ جلدها وشعرها ومنزوع عنها العينان والأظافر ومسروق منها كل الأعضاء الداخلية والخارجية ومدون أسفلها عبارة "مهاجر أجنبي مجهول"، بينما لم أجد من بقايا الجميلة "ماجدة الكردية" سوى كومة فحم أسود مهترئ محاطة بحفنات متناثرة من الرماد المبعثر ومدون أسفلها عبارة "مهاجرة أجنبية من كردستان"!!.
طارق المهدوي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير