الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -1-

جميل حسين عبدالله

2017 / 2 / 24
سيرة ذاتية


ابن الفقيه

سيرة ذاتية تعبر عن بركان متفجر بلحن حزن، وحرف ألم، وحكاية غربة.
‏"ما خلقت الرجال إلا ‏لمسايرة الأهوال، ومصادمة ‏النوائب. والعاقل يتلذذ ‏بما يراه من فصول تاريخه ‏من العظمة، والجلال، وإن ‏كان المبدأ صعوبة، وكدرا ‏في أعين الواقفين عند ‏الظواهر".‏

‏ ‏عبد الله النديم، الشاعر ‏المفلق، والخطيب المصقع.‏


مقدمة

‏ لا أدري لم حبسني الشوق على كتابة ما انطوى في عمقي من سؤر الذكريات التي عاندت الزمن ‏الكاسر، وبقيت وإلى ما أجتازه من شطط المناكب آخذة بتلابيب عقلي، لا تبرحه إلا لماما، ولا ‏تفارقه إلا لتغير عليه خلسة، بل لا تكاد تجد لها متنفسا إلا في هذا الحرف الذي يكتب لواعجها، ‏ويدون آلامها، ويطلق صوتها المكتوم فيها، والممزوج معها، وكأنه سبيلها الأوحد الذي لا ترى فيه إلا ‏ضوء حياتها المدبر لكثير من نهوضها، وسقوطها. لا أدري لم صار اليراع سلاحها الذي لم تتدرب على ‏مداعبة شيء سواه، ولم غدا مأمولها في الحياة أن تشم رائحتها من مداد المحابر التي عكف على إجادتها ‏حين كان صغيرا، ثم استحالت مع غدو الزمن ورواحه خمرة يشربها على مهل، وأحيانا يخاف من قناص ‏يرقب غفلته، فيتجرعها على عجل، لعله يستهدي بين الظلم بما ينزف في قاعه من أوجاع، وأوضاع. ‏
إنني وعلى الرغم من كل ما أحس بألمه، وأشعر بحزنه، لن أنزل عن علو المقام الذي وضعني فيه القلم، ‏وأن أخضع لملتمس يريد تغيير لبدة حياتي، لعلي أنفذ إلى عقول تألبت على حشو وضيع، ولغو ‏رديء، فخالوه عجلا له خوار، وما هو إلا سقط المتاع. وأنى له أن يكون مدادا يكتب بصدق ‏الاستعارة ما يعري الطيش، ويفصح عما في الذات من غبش. بل أنى لهذا القلم أن ينزف بما كمن في ‏العمق، ويرشح بما شرف به العقل من ذوق، وهو سر يكتب الأسرار، ويحمي الأسوار. فلا غرابة ‏إذا كان القلم عنوانا نعرف به بين الأقران، وبطاقة هوية توضح ما فيها من مكامن مكتومة، ومرامي ‏مكبوتة، لأنه ومهما كان صديقا، فإنه عدو، إذ يفتك بصاحبه، وهو وفي له. وكم جرى على الألسن ‏من حكايات خداعه، وغدره.! وكم نطق به لسان الحق، فكان مبتورا، ومفصولا.! لكن هل يمكن ‏لي أن أخشى من صولة مكره، وغدرة خيانته، وهو رفيقي في درب منكوب، ورزق معطوب.؟ لن ‏أنزل عن مصارعته، ولن أتخلى عن مدافعته، لكي أتخذ لي وقاء أتستر بغشائه، وأحتمي بظلاله، ‏فأتوه في ظلمة أقود بها حلما أدبر عناءه، وأرتب صفاءه، عساي أن أكون موجودا بما يطفح على ‏ظاهري من نياشين الوفاء، أو لعلي أكون قادرا على جر ذيلي بين الحظوظ الوافرة. إذ لو فعلت، لما ‏كنت وفيا بعهدي لهذا الحرف الذي ينطق بصوت ذاتي، ويعبر عن كل الحروب التي نلت منها هزيمة، أو ‏انتصارا، وهي كثيرة في زمن لا تشترى فيه الذمم إلا بأخس ما بخل به الناس من الهشيش، والحشيش. ‏فالوفاء لعهد الذات،والبرور برسم العقل، قبل أن يكون إخلاصا للمبدأ الذي تركبت لدينا صورته ‏البريئة في زمن النقش على الذاكرة، هو الذي يقوي عزمتنا على كتابة ما توارى وراء صورة أحدث ‏القدر حركتها في زمن محدد، وربع معين، لا لأنها قد سمعت أناشيد المدح بين ربوع الكون، ولا لأنها ‏شوهدت على قمم الجبال الشاهقة تالية صك الأمان، وهي ترسل شعاع زفيرها إلى الأعين المحدقة، ولا ‏لأنها خاضت في يم الرزق، والكسب، فنالت رياشا يمتع بهاءه ظلمات النفوس المحترقة. كل ذا، وذاك، ‏لم يكن موجودا بين اليد، ولا مقرور للعقل، ولا معلوما في الكيان، حتى تحس الذات بأنها قادرة على ‏عده، وحصره، بل كان هناك شيء واحد يتوانى في التعبير عن حقيقته، وهو الكينونة التي أرادت أن ‏تصرح ببعض أحزانها، وتلوح إلى جزء من أغلالها، لعلها تشهد قلبا رحيما يبكي معها فوق جدث حلم ‏غائر، لم يجد لها مهدا، فدفن حيا وهو ثائر. تلك هي القصة البسيطة التي تعاركت مفرداتها في الذاكرة، ‏وهي تريد أن تبرز صولتها في محل الفتوة. ‏
ومن هنا، فإنني حين أكتب غرة غفلتي، أو نكبة حظوظي، لم يكن هدفي أن أصافح يدا هنا، أو نظرا ‏هناك، بل قصدي أن أعانق القلوب التي تكد في بلوغ تلك اللمسة الندية، والنفحة الذفرة، وهي صراح ‏قلب تفشى فيه السؤال المبكر، ثم استحال حربا على متعلقات الذاتية البرانية. فإن وفقت إلى ‏الإعراب عن طيات الصدر، فما أحوجني إلى استنشاق ذلك العبق الأزلي، وإن لم تكن كلماتي وافية ‏بروح حرفي، فحسبي أنني كتبت سطورا لمن يريد أن يعرفني، أو لمن يرغب في أن يعالجني، أو يرسم ‏شباك زوالي، لأن ما نكتبه، هو الوسيلة التي نتصل بها مع غيرنا عن طريق الرموز، والإشارات، ‏والعلامات، وما لم يكن ذلك وافيا بدرك المراد، أو تقريبه إلى من يرغب في تحصيل الأرقام السرية بين ‏أعماق ذات استوطنها الوجع، واسترابها المجمع، فيكفي أن يقرأه من يريد تقديم نصح للمبتدئين، ‏والمتوسطين، أو من يريد أن يجسد بذاته الوسيط الذي لا محيد عنه في بلوغ النهايات المترعة بحجال ‏الجمال، والكمال. ‏
لكن ما يموج في عمقي، ليس هو ذلك الحد الأدنى الذي تدخل به الحروف بين فكي طاحونة الوجود، ‏أو العدم، بل هو أمر آخر لا احتياج إليه في وضع لا استقامة مع هدفه، ولا عدالة في حكمه، لأن ‏الهدف لو كان كسيرا إلى هذا الحد الذي يبدو به عليلا، وكليلا، لما أثمر رغبة في بقاء الذات بحركة ‏حرفها، وجمود جرمها، بل الهدف الذي نرمي إليه سلال صيدنا، هو ما يشهده الأقربون قبل الأبعدين، ‏فيرون أمورا لا يجدون لها تفسيرا، وربما يمعنون فيها تأويلا، وهم أحوج الناس إلى شرحها، أو إلى ‏فهمها، لأنهم أولى الناس بها، بل هم حملتها، ووارثوا سرها، وهم الطالبون بحصر الكلام في معنى ‏يكشف عن سبب الحزن الذي تعزفه هذه القيثارة بأنغامها الشاحبة، والراغبون في وصال الحقيقة التي ‏أنهت بسمة اللحظة الباهرة، لكي تخلف من ورائها حطام شخصية عاث فيها القلق سنين طوالا، فلم ‏تبلغ مناها بين الأحراش التي استكانت إلى الولوغ من سؤر المعاناة المحجفة، ولم تهتف بهتاف الانتصار ‏الذي فشلت عن رسم نهاياته الأكيدة. وهنا يكون النظر القريب إلى من حُزنا به شرف الأبوة أولى من ‏النظر البعيد إلى من عشق الحكاية، واستحلى ما فيها من أنواء، وأرزاء، لأن هؤلاء الأبناء الذين ‏أتعبهم القرار بين حياض تفجر منها ينبوع الحسد، والحقد، هم حبل الوصل بيني وبين الزمن الممتد في ‏الفضاء، وفي الأمداء، إذ هم خلاصة ما رعته الأم، وعصارة ما نزف من الأب، وأخشى أن يمتد زمن ‏القلق في ذات تغرف من فوضى الأماكن عبثا، وتلبس من التباس الحقائق فراغا، ثم أجتر الغصة بين ‏حدي الموت، والحياة، فيضيع سر الأبوة الذي أجبر الذات على الكمد، والبدد. ولذا يكون أبنائي ‏أحوج من غيرهم إلى قراءة أبيهم قراءة متأنية، ومتمهلة، والاستفادة منه إن شاهدوا عليه ما يجعله أهلا ‏للقدوة، والأسوة، لأنهم في زمني لا يحملون عبء ما يموج بباطني من قوى متناقضة، تتقاسم معي لحظة ‏حرجة على بساط هذا الحلم الذابل، لكنهم في الغد سيحلقون بين الأفنية التي اجتزنا على نيرانها ‏بوجل، وانجررنا إلى وطيئها بلا أمل، وسيحتاجون حينها إلى تجربة لم تطق أن تدفن خارجها في باطنها، ‏فيكون سرها هو قاتلها، وأمرها هو فناءها، بل سيدركون أنني ما أدميت الذات في تجشم وعثاء ‏السفر، وشحوب المنظر، إلا لأنها شنقت بصراع عنيف، لم يحطه الطبع المكشوف بالكتمان، فكان ‏حربا ضروسا بين الطرق الفاقدة للوعي. ‏
ولعلي إذا أفلحت في رص هذا الحرف بما يتناسب مع مشاربهم، ومسالكهم، فإني سأكون بدلالة ‏التضمين، قد تواصلت مع من يريدون أن يفتحوا تابوت حياة بشرية افتعلت فيها مؤثرات شتى، ‏ومنغصات حرى، لأنني لا أخال ما أكتبه سيتعطش إلى عقدة الظهور، أو سيغرم بنقش صورة الكمال ‏على السطور، بل ما فيه من وضعيات مختلفة الأبعاد، تتشبث أحيانا بقناع التورية التي تسبل علينا ‏إزار الأمان، وأحيانا تبدو كائنا غريبا، وحوشيا، يقسو على ذاته، أو على غيره، وأحيانا ترشح منها ‏آيات اللطافة، والوداعة، هو الذي يميز بين هذا المدار، وذاك الأفق، ويبين كيف تعيش الذات في جب ‏الأحلام، والآمال، وكيف تهدم في سيرها كل الروابط، والصلات، لكي تعبر عن سخطها، ويأسها، ‏وكيف تكون محتارة في العثور على رق ابيض، تكتب عليه اضطراب الرياح بين فضاء عالمها المثالي. ‏وإذا أفلحت في وجوده، وانطوى فيه ما يشير إليه باطني، وانطبع عليه الوجه الحقيقي لذاتي، فإن ‏النظر الحصيف سيعثر على لغز ابن الفقيه الذي غالى في لزوم لواعج حياة تسرق من كيس العناء متعة ‏الحرف، والكلمة، وغامر في السير على دروب تلفها ظلال مظاهر مزيفة، وخرافات مزينة. ‏
قد يتكفل ما أكتبه من رثاء لأسئلتي بتبيين بعض اللحظات التي نازلني فيها الأسى، وجابهني فيها الدوى، ‏وغاضني فيها الضنى، لكن ما يزيدني وثوقا بأن ما يزيح غلالة الهم، ويمسح دموع الألم، ليس هو ما ‏نحكي من قصص قد تقع اطرادا بالفطرة، والجبلة، أو ما نكتبه من ذكريات تسمو بنا بين اللدات، ‏والنظراء، بل هو ما يصدق علينا في القول، ويحيط بنا في الفعل، لأن تدوين الذات في إقدامها الآهل ‏بالبشر، أو إحجامها الآيل إلى صبر، لا يصير مغنما لمن جرى في سبيله، إلا إذا كان سلطان الصدق ‏حاكما بالعدل في الكيان. وإلا، فإن ما سينحسر عنه القلم من توقد الاندفاع، وتوهج الانفعال، وتجرؤ ‏الانصهار، وتجشع الامتزاج، هو الذي يمتلك سر الشخصية الممزقة على جلاميد الحقيقة، ويستحوذ ‏على تصدع الذات بين الموارد الشقية. ومن هنا، فإن بزوغ شفق فجر آت من المجهول، ينير المكان، ‏ويضيء المكين، فيغدو الزمن طافحا بما كمن في الأعماق من رونق، وبهاء، لن يتأتى لنا بموفور الهوى، ‏وسابغ المنى، إلا إذا أيقنا بأننا لا نرتعد فرقا من دخيل يحاصرنا على أرض الغيل، ويعادينا في مكنون ‏الذات بالنكال، ويقاتلنا على لحظة ننتشي فيها بحماس الحر الطليق المنال. وما دامت هذه البذرة لم تزرع ‏على أرض لم تزدرد أشلاء المقتولين بسيف السماء، فإن ما نكتبه من استعارات نكني بها عن التبرم، ‏والتألم، لن يستوعب جزئيات إحساس انطلق فجأة بين الديار، فرأى أرضا بارضة بين الأغوار، وما أن ‏جلس على صخرة متأملا لآلئ الندى، حتى نزا منه بصر مصوب نحو النجوم الصادعة بالمنى، وما أن ‏استيقن بأنه موجود بين زوايا ذاته العاقلة، حتى هبت عليه عاصفة جبارة، فتركته شلوا ممزقا بين ‏صحارى مصوتة بعزيف الأشباح المخيفة، والوجوه الموحشة.‏
إن من صريح الشجاعة أن نعترف بأننا في كثير من رغباتنا المتسمة بالضجر، والإخفاق، والبشاعة، لا ‏نكاد نكتب حقيقتنا، ولا نرغب في حكايتها، لأنها تحتوي على زمن ميت، أو وقت ضائع، لا نجعله ‏عنوانا علينا، إذ القيمة التي نريد أن يعترف بها غيرنا، ليست في معرفة ما هو قائم بنا، بل فيما يحب أن ‏يراه فينا، ومن هنا تستحيل الكتابة تزلفا، وربما تلبس سافر ثيابها، لكي تكون فتنتها إغراء، وإثارة، ‏إذ الكتابة تتقمص شخصية كاتبها، وما لم يصن عرضه عما يلطخه من عفن، فإنه لن يكون حرفا ‏ساريا في الوجود، وإلا، فإن مغازلة جنوح القارئ، ورغبته في المثيرات الجسدية، والمحفزات ‏العاطفية، قد تصير فعلا مستساغا لمن خال الكتابة دعارة، فإذا به يقيم حفلات الرقص الماجن بالحرف ‏المقدس. وربما قد يلتبس هذا المعنى على القارئ، فيزعم أنه عثر على نفس جديد، يحرره من سورة ‏الأماكن الغضة بعنفوان الضياع، والفراغ، لكن متى كان الكاتب مجافيا لذاته، ومخالفا لناموس ‏الكلمة.؟ لو تقدم الحرف بهذه المراهقة الناضجة بالغلمة، والصولة، فإن صوغ حكايتنا لطبيب نفسي ‏أولى من عرضها على ذوق رديء، لأن ما توافر في الطبيب من خصائص، سيغدو مع الشعور بالعفوية ‏والأريحية محلا للأمن، والسلام. وإلا، فإن عدم المبالاة بتحقيق المتعة للقارئ بنقيض ما هو عهد بين ‏كتاب الكلمة، هو العقد الأصح الذي يغدو أكثر التزاما بشاعرية الكتابة، وجمال الحكاية، لأن انتظار ‏الزمن الطويل لولادة لحظة الانصهار مع الحرف، لا يفي بحقها إلا من رأى بريق الكلمة نورا ينبجس من ‏ظلام يجلل الأماكن بغبن، ونتن. قد يبدو هذا عنيدا، وربما غريبا، لكن شعور الكاتب بالمعنى في ‏الكتابة، هو الذي يحرره من قيود الآلام المحيرة للإنسان. وما لم تكن بهذا المعنى، وهو الوجع المتدفق في ‏الذات، فإن ما أكتبه من كمد، لن يكون مفاتيح تعين على تشخيص ابن الفقيه الذي احتاج في لحظته إلى ‏من يشاركه غربته. فهل سيفهمه قارئه كما حكى عنه سارده.؟ أم سيزج به على سرير الألم المنتفش بين ‏مجامع البؤس، ومجاثم اللؤم، عساه أن يجد لذة لحياته التي دمرتها أفكار، وأسرار.؟ ‏
‏ إنني لا أدري إلى ما سيؤول إليه قرار القارئ في تفسير ما تناثر على صقيع هذا الحلم المتورم بين ‏الذات، والفكر، وتأويل ما ينمو بين الأحشاء من انطواء، والتواء، لكني أطيق بأن أكتشف من ‏الكاتب قدرته على صناعة الموت، أو الحياة، لاسيما إذا واتته الفرصة، ووافقته لحظته في إبراز ‏مكامن قلقه، ومجالب حزنه، لأنه في دفين شعوره الدافئ، يمكن له أن يحتوي لحظات الغضب في ‏ساعات الانفجار، كما يجوز له أن يضعفه زمن الانحسار، والانكسار، فيغدو غامض حدسه تحقيقا لما ‏التهمت الحلوق حريقه، واستطابت الديار صمته. ومن هنا، يرنو بصري إلى ذلك الكاتب الذي لم ‏يكتب سعار الذوات العليلة بمعنى مبتذل، ورخيص، ولم يجعل مثار إثارة عنفوان الغرائز همه الأوكد، ‏وعشقه الأوحد، لأنه لا يرغب في أن تقع قدمه على موقع يغرس بين طيات العقول عناد الاستحواذ، أو ‏الاستلذاذ، بل رغبته أن يركب سفينه على يم متموج بغوائل الأفكار، والمبادئ، والقيم، لكي يطعم ‏غيره كعكة منقوعة بماء ذاته، فإما أن يكون كلامه يلتقم ثدي الأمل، فيعصر منه حليب اللفظ الجميل، ‏والمعنى الأثيل،وإما أن يكون زفيره صيحة تبدد هوس الانصياع لفتنة الاغترار، وطعم الاجترار. ولذا ‏يكون الكاتب المحبوب عندي، هو ذاك المتمرس في فنون القول كلها، فيجيد الغوص بين بحار المباني، ‏وصوغ الجواهر بين سماط المعاني، لأن المبنى في جزئيته غير متناهي الحدود، لكن حقيقة الكلام في ‏تجاوزه عتبة المدرك من لفظه، والبارز على سطحه، وذلك ما يغذيه بشذوه، ولحنه. وإلا، فإن ما ‏يكتب في كل دقيقة تمر من ساعة الكون، يربو على عدد أنفاس الخلائق، ولكنه لم يسمح له باللبث، ‏والمكث، لأنه لا يتضمن روح من يخضب نحره بدموع قلق الوجود، وضجر المورد، ونكد المعهد. ‏
‏ تلك هي خصوصية الكاتب الذاتية في ملامسه كيانه المعنوي، والروحي، وثوابته النفسية التي تعرب ‏عن انزعاجه من وحدته، وعزلته، ومواقفه العقلية التي يحترمها حين يكره أن تصير كلمته تهريجا في ‏حلقة الأوغاد الحقراء، ومراميه الأخلاقية التي ترسم خط عودته إلى خرافة طفولته البريئة، لكي ‏يسكن بها من هوج لذته، ويهدئ بها من وجفة بدنه حين ينتفض في مواجهة قواه الخفية بين جوانح سره، ‏لئلا يسيطر عليه وسواس الضعف، والعجز، وملكاته الإنسانية حين يهتز لمنظر يسوقه إلى الحزن على ‏تعب الإنسان، ومرضه، وفقره، ويتبرم من واقع يغله منظر رهيب، ومصير كئيب. ومن هنا، فإن ‏الانتصار لعقيدة الكاتب الذي يبدد روْح ذاته في حرفه، وهي خِطة عظماء الدواوين في الأكابر، ‏والأماثل، هو الذي يؤدي إلى إبداع عالم من الرموز، تجلله غمامة الغموض، وهو الذي يدفع إلى صناعة ‏كائنات هلامية، وسطحية، تتحول إلى معان مشخصة في سرده، ومفاهيم تتسم بعرق الكاتب في ‏كسب رهان استجلائه لمخبر الحقيقة، وتنضج بسوداويته المرعبة، أو بأريحته المفرحة. وإذا لم يكن ‏الكاتب قادرا على نفخ الروح في أنظار تجاربه، وأسرار ملاحظاته، فإنه لن يتوج بتاج التأثير على ‏المقربين، والأصدقاء، وهم أقرب الخلق إليه في دوائره الضيقة. وما دام الحرف لم يؤثر في الذات التي يفور ‏منها دمه، فأنى له أن يكون رقية لعقول كلت من الانكسار، وملت من الانتظار.؟ ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا