الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وماذا عن الشتات العراقي..؟

عبد الحسين شعبان

2017 / 2 / 24
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة



مقدّمة
إذا كان الجاحظ - وهو الجدّ الأقدم للمثقفين العرب والمسلمين - قد دوّن في رسالته الشهيرة "الحنين إلى الأوطان" مأساة المهاجرين والمهجّرين والمنفيين، فلنا أن نتصوّر اليوم معاناة الملايين من اللاّجئين العراقيين في أصقاع الأرض المختلفة مشرقاً ومغرباً وشمالاً وجنوباً، بالاندماج أو بالاحتجاج، أي بالتكيّف أو الانكفاء.
فبعد أن كانت وسائل الهجرة واللّجوء في الماضي محدودة، إلاّ أن العولمة جعلت منها واقعاً تعاني منه المجتمعات المصدّرة والمستقبِلة، والأساس هو المعاناة الإنسانية الفائقة التي يعيشها اللاجئون. وغالباً ما تنشأ مشاكل اجتماعية وقانونية وثقافية ودينية بين الهويّات المختلفة وتتخذ أحياناً طابعاً صدامياً أو عنفياً.
- I -
الهجرة العراقية وإنْ لم تكن قديمة مثل الهجرات اللبنانية أو السورية (أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر)، إلاّ أنها كانت هجرة كثيفة وجماعية، في حين كانت الهجرات العربية فردية أو عائلية. وسواء كان الشتات العراقي يندرج في أحد الأسباب الستة التي ذكرها جون سمبسون في كتابه "تأمّلات المنفيين" والمقصود بها الأسباب السياسية أو الدينية أو القومية أو القانونية أو الاقتصادية أو النفسية، أو يحمل أسباباً إضافية، فإنه في الوقت نفسه لم يكن فردياً، بقدر ما كان أقرب إلى تهجير أو ترحيل، وسواء كان قسرياً أو طوعياً أو "منزلة بين المنزلتين"، فقد كانت عوامل داخلية وأخرى خارجية قد ساهمت فيه ولعبت دوراً مهماً في حدّته واستمراره.
وتعود أسباب الهجرة الداخلية إلى عوامل بعضها تاريخي يتم تأجيجها بين حين وآخر وبعضها إلى الصراعات السياسية التي تتخذ أحياناً طابعاً عنفياً، كما حملت معها في العقود الأخيرة فايروساً طائفياً، خصوصاً في فترات احتدام صراعات إقليمية، أو ما بعد الاحتلال، حيث تم استهداف فئات سكانية كاملة لأسباب طائفية وثأرية وانتقامية، أو حين احتلال داعش للموصل ولنحو ثلث الأراضي العراقية واستهدافه مجموعات سكانية بأكملها كما هو بالنسبة للمسيحيين والإيزيديين.
أما الأسباب الخارجية، فقد كانت الحروب، ولا سيّما الحرب العراقية - الإيرانية 1980 - 1988 وحرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991 بعد غزو الكويت 1990 وفيما بعد الاحتلال في العام 2003، حيث شهدت المنافي اكتظاظاً لم تعرفه من قبل بهذا الاتساع.
وارتفع منسوب الهجرة واللجوء خلال فترة الحصار الدولي الجائر الذي فرض على العراق (1990 - 2003) وكان سبباً في ذلك لتردي الأوضاع الاقتصادية، الأمر الذي اضطرّ مئات الألوف من العراقيين إلى مغادرة العراق واللجوء إلى المنافي.
- II -
يمكن القول إن العراق شهد ستة حقب زمنية لهجرات واسعة هي الآتية:
الهجرة الأولى - بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 وقد غادر بعض رجالات العهد الملكي البلاد لأسباب سياسية، وامتدت هذه المرحلة لتشمل من غادر العراق بعد انقلاب العام 1963، ولكن الهجرتين كانتا محدودتين. وفي أعوام الستينات ومطلع السبعينات جرت عمليات تهجير محدودة شملت الكرد الفيليين في العام 1965 والعام 1969 - 1971.
الهجرة الثانية - كانت في نهاية السبعينات، حيث شملت عشرات الآلاف من العراقيين، بمن فيهم بضع مئات من خيرة المثقفين بسبب حملة القمع التي تعاظمت في تلك الفترة والخلافات السياسية الحادة، وكانت غالبيتهم من اليساريين والإسلاميين.
الهجرة الثالثة - وقعت خلال الحرب العراقية - الإيرانية 1980 - 1988، وكانت عملية التهجير الجديدة قد شملت عشرات الآلاف من العوائل العراقية إلى إيران وقد انتقل قسم غير قليل منهم إلى البلدان العربية ومنها إلى المنافي البعيدة، والقسم الآخر استوطن إيران إلى اليوم. وخلال هذه الفترة شهدت هجرة إعداد كبيرة من المسيحيين والأكراد.
الهجرة الرابعة - حدثت بعد غزو القوات العراقية للكويت وحرب قوات التحالف ضد العراق، وبالأخص خلال فرض نظام العقوبات الدولية ضد العراق 1990 - 2003، وشملت مئات الآلاف من العراقيين، وكانت الأسباب متنوّعة ومختلفة، والفئات المهاجرة كذلك.
الهجرة الخامسة - وكانت أوسع هجرة جماعية وبأقصر فترة زمنية، وقد بدأت بعد الاحتلال، حيث اصطبغت بطيف طائفي وبألوان مذهبية، مع أنها شملت مئات الآلاف من العراقيين من جميع الفئات السكانية والعمرية بما فيهم آلاف من المثقفين والأدباء والعلماء والأكاديميين والأطباء والمهندسين والعسكريين، خصوصاً في الفترة التي كان يتم فيها "القتل على الهويّة"، ولكن الغالبية من السياسيين كانت من البعثيين الذين استهدفهم "قانون اجتثاث البعث"، ولا سيّما بعد تفجيرات سامراء لمرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري العام 2006.
الهجرة السادسة - بدأت بنزوح داخلي، لا سيّما للمسيحيين من البصرة وبغداد وكركوك، باتجاه كردستان واستقرّ القسم الأكبر منهم في عينكاوة (المسيحية)، ومنها نحو الخارج، واتسعت هذه الهجرة بعد احتلال داعش للموصل في 10 حزيران (يونيو) العام 2014، حيث هاجر ما يزيد على نصف المسيحيين العراقيين، وتظهر بعض الأرقام (غير الرسمية) أن عددهم قبل الاحتلال كان نحو مليون مسيحي وكان عدد السكان حينها نحو 23 مليون إنسان، أما حالياً فيقدّر عددهم بأقل من 350 ألف، في حين أن عدد السكان يزيد على 35 مليون عراقي.
والأمر كذلك بالنسبة للمجموعات الثقافية الأخرى، فلم يبق من الصابئة المندائيين سوى 6 آلاف، في حين كان عددهم يربو على 60 ألف في السبعينات من القرن الماضي، وهناك هجرات شملت التركمان والأكراد الفيلية بشكل خاص والأكراد بشكل عام، إضافة إلى الإيزيديين الذين تعرضوا لتنكيل جماعي عقب احتلال داعش للموصل وسُبيت نساءهم، وشمل الأمر الأرمن والكلدانيين والسريان والشبك والكاكائية وغيرهم.
- III -
بقدر ما يرتبط موضوع الهجرة بالخصوصية الثقافية، (الدينية والقومية واللغوية والسلالية)، فإنه يطرح موضوع الهويّة، ولا سيّما مسألة الاندماج وتفرّعاتها، وهو الأمر الذي يرتفع الحوار والسجال حوله بصوت عال في الغرب اشتباكاً مع الإرهاب الدولي وانخراط مجموعات من أصول عربية ومسلمة وإنْ كانت تحمل جنسيات أوروبية أو أمريكية بالجماعات الإرهابية والتكفيرية، سواء ما تقوم به من استهدافات في الغرب أو دعمها للنشاط الإرهابي ورفده بعناصر جديدة في البلدان التي تعاني من الإرهاب.
ومثل هذا الأمر أصبح بنداً يكاد يكون ثابتاً في مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الغربية: العسكرية والأمنية والثقافية والاجتماعية والتربوية والنفسية، وفي دراسات الهجرة وتأثيراتها وعلى أساسه صاغ صموئيل هنتنغتون نظريته المعروفة باسم "صدام الحضارات".
وأصبح البحث عن عدو خارجي، لا سيّما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية أمراً مطلوباً، ولم يكن ذلك سوى "الإسلام". ومثلما انطلق هنتنغتون من صراع الحضارات، فإن فرانسيس فوكوياما استند إلى فكرة "نهاية التاريخ" التي حاول تعميمها مشيراً إلى خطر اللاجئين من بلدان الجنوب الفقير إلى دول الشمال الغني، ارتباطاً بخطر الإرهاب الدولي العابر للقارات والمُعَوْلَم.
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت إلى النظريتين، فإن الموجة الشعبوية اليمينية في أوروبا وأمريكا، ولا سيّما بعد وصول الرئيس دونالد ترامب إلى دست الحكم تدفع بمثل هذا الاتجاه الذي تبلور بشكل كبير بُعيد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة، وما تبعه من أعمال إرهابية أخرى لا تزال مستمرة في فرنسا وألمانيا وبلجيكا والعديد من دول أوروبا والعالم، بما فيها بلاد العرب والمسلمين ضحايا الإرهاب قبل غيرهم، لكن الرئيس جورج دبليو بوش وجد في "الإرهاب الدولي" ذريعة لاحتلال أفغانستان (العام 2001) وفي أسلحة الدمار الشامل حجة لاحتلال العراق (العام 2003).
- IV -
إن الشتات العراقي اليوم يشمل نحو أربعة ملايين عراقي وهو موزّع على النحو الآتي (الأرقام تقريبية): (الولايات المتحدة) 360 ألف و(بريطانيا) 450 ألف و(السويد) 280 ألف و(ألمانيا) 190 ألف و(هولندا) 150 ألف و(بلجيكا) 90 ألف و(الدانمارك) 150 ألف و(سويسرا) 40 ألف، والدول الاشتراكية السابقة 20 ألف و(أستراليا) 50 ألف، و(نيوزيلاندا) 25 ألف و(كندا) 70 ألف و(فرنسا) 10 آلاف و(النرويج) 35 ألف و(فنلندا) 20 ألف و(مصر) 150 ألف و(الأردن) 400 ألف و(دول الخليج) 40 ألف و(اليمن) قبل الحرب الأهلية 70 ألف و(لبنان) 50 ألف و(ليبيا) وشمال إفريقيا عموماً 30 ألف، و(إيران) 300 ألف، وبلدان أخرى متفرقة 100 ألف.
وبين هؤلاء المهاجرون كفاءات عراقية نادرة، حيث يزيد عدد الأطباء في بريطانيا لوحدها على 7 آلاف طبيب وأكثر من هذا العدد في أوروبا وأمريكا، وفي تعليق لأحد البريطانيين قال: لو قرّر الأطباء العراقيون مغادرة البلد وبينهم اختصاصيون نادرون، فستحدث أزمة طبية حقيقية في بريطانيا، إضافة إلى شتى الاختصاصات العلمية، مثلما بينهم عدد كبير من المستثمرين وأصحاب مشاريع في مختلف الفروع.
وستكون استعادة هؤلاء كلياً أو جزئياً بمعنى عودتهم النهائية أو زيارتهم لبلدانهم وتقديم خبراتهم ونقل تجاربهم، له فائدة عظيمة وسيكون عامل تفاعل وعنصر تسامح بالاتجاهين، لا سيّما ما اكتسبوه من ثقافة ومعرفة وخبرة.
ولكن ذلك يحتاج إلى استقرار سياسي وتوفّر إرادة سياسية وتوافق وطني، ووضع حد للإرهاب والعنف وتشريع قوانين لتحريم الطائفية وحظر الدعوة للكراهية وكل ما له علاقة بالعنصرية والتعصّب والتطرّف، خصوصاً والأمر يحتاج إلى إنهاء نظام المحاصصة الطائفية والإثنية الذي يقوم على الزبائنية والغنائم.
وهذا يعني العمل على تعزيز الهويّة الوطنية العراقية الجامعة، مع احترام الهويّات الفرعية، وتقديم الوطن والمواطنة على ما غيرهما من الانتماءات الأخرى، خصوصاً بإعادة النظر بالدستور وفيما يتعلق بما سمّي بـ"المكوّنات" التي وردت في الدستور ثماني مرّات، فالدولة ينبغي أن تقوم على اتحاد مواطنين أحرار وليس اتحاد مكوّنات التي أوصلت البلاد إلى حالة من الفوضى والفساد السياسي والإداري والمالي والهدر.
إن توفير الشروط الموضوعية للاستفادة من أصحاب الكفاءات من اللاجئين والمهاجرين يعزّز من استعدادهم لخدمة بلدانهم (الأصلية) وتعاطي كلّ من موقعه - وبحسب ظروفه وإمكاناته - بما يمكن أن يعزّز مسيرة التنمية في العراق، خصوصاً إذا ما ساد الشعور بأن الوطن للجميع ولا أحد يعلو على القانون الذي ينبغي أن يحكم الجميع ويحتكم إليه الجميع، فالقانون على حد تعبير مونتسكيو "مثل الموت يسري على الجميع ولا استثناء فيه".
وعلى الدولة العراقية - أياً كانت الحكومة - الاهتمام ليس بجيل المهاجرين أو اللاجئين فحسب، بل بالجيل الثاني والثالث وشدّهم إلى الوطن والإبقاء على علاقاتهم والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم ومن العلوم التي حصلوا عليها في بلدان الشتات، ومن المواقع المهمة التي يشغلونها في البلدان المستقبلة وتقديم حوافز مادية ومعنوية لهم، وحسبي هنا أن نستفيد من تجارب "عدوّنا" بتكوين "لوبيات داعمة لحقوق العراقيين والعرب" والدفاع عنها في بلدان الشتات العراقي.
إن أمر استعادة اللاجئين قد يصبح صعباً وحتى غير منطقي مع مرور الأيام، لكن أمر الاستفادة من وجودهم سيكون ممكناً بسياسة مرنة وجاذبة وبإعطائهم ما يستحقون من تقدير ومكانة لتعزيز الارتباط بالوطن الأم وإقامة علاقات معه وزيارته بين حين وآخر، والاهتمام بهم وشدّهم لقضايا وطنهم وأمتهم العادلة بجعلهم يشعرون أنهم حتى بالهويّات الجديدة اللقاحية، هم امتداد لوطن وحضارة وثقافة ولغة جميلة وجزء من كونية مستمرة ومتواصلة، وستكون المسألة أكثر حساسية للمثقفين والمبدعين منهم بشكل خاص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غارة إسرائيلية تقتل 3 عناصر من -حزب الله- في جنوب لبنان


.. عملية -نور شمس-.. إسرائيل تعلن قتل 10 فلسطينيين




.. تباعد في المفاوضات.. مفاوضات «هدنة غزة» إلى «مصير مجهول»


.. رفح تترقب الاجتياح البري.. -أين المفر؟-




.. قصف الاحتلال منزلا في حي السلام شرق رفح