الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرتابة إعدام للحياة عن سابق إصرار !

ليندا كبرييل

2017 / 2 / 27
الادب والفن


{ جاء ذكْر الأسماء اليابانية والأحداث الواردة في النص، في المقال السابق وما قبله. }

ابتسمْ مع أبطال الحياة
https://pp.vk.me/c638718/v638718998/2a2a5/7kEOUbsMvCY.jpg
http://e.top4top.net/p_422742qe1.jpg


ألقى السيد " تاكاهاشي " * نظرة على " هيكارو "، فوجد جفنيه قد ثَقُلا، وبدأ يسْتسلم إلى النعاس . فاسْتأذنني في التغيّب لدقائق . ولما عاد وضع على الطاولة ثلاث علب عصير، وبضع قطعٍ من ال ( أونيغيري )* وتشكيلة من بسكويت ( سيمبيه )* وقال :
ــ فَلْأذهبْ .. ما دام هيكارو كونْ نائماً.
انتفض الصبي وقال بلهوجة :
ــ للل لا لست نن نائماً .. ه ه هل ففف فُزْتم .. في ممم مباراة يوك ك كوهاما ؟
ــ يجب أن تصحو، والدتك ستخرج من غرفة العناية الطبية بعد قليل . تفضّلوا وجْبة خفيفة.
ــ أأأ أريد أن أسمع تت تفاصيل .. المباراة للل لأحكي لأمي .. عنها.
ــ حسناً، سأتابع حديثي وأنت تأكل.

تابع السيد تاكاهاشي قصته، وهو يقدّم لنا الفوط المبلولة لنمسح أيادينا :
ــ كان الزهو قد اجتاح فريقنا لكرة السلة بعد النجاحَين السابقين، وظننّا أن المباريات القادمة ستمضي على هذا المستوى، فملأتْنا الآمال السعيدة بِحلم الاقتراب من الفوز بكأس المدارس الإعدادية ~ إلى أن شقّتْ الإشاعات طريقها إلى أسماعنا، أن " منافسكم القادم اسمه فريق " يوكوهاما " الذي لا يُقهَر، وعليكم أن تترفّقوا بأنفسكم، فلا ترفعوا أنوفكم فخراً بفوزين (متواضعين) على فريقين ناشئين لا تجربة سابقة لهما ولا خبرة " !

لكمْ أن تتأمّلوا خيْبة الأماني والإحباط الذي اجتاحنا، ونحن نسمع عن الذي لا يُقهَر .. والاستعدادات الجدّية للفرق الأخرى المُرشَّحة للمباراة النهائية .. وطبعاً نحن لم نكنْ من بينها ! وكلما شعرتُ بالبرودة تتسلّل إلى تدريباتنا أتذكّر قول أبي { الرتابة إعدام للحياة عن سابق إصرار } !

في نهاية يوم تدريبي شاق قال لنا مدربنا بهدوء :
ــ تَناهَى إلى سمعي أنكم تتحدثون برهْبة عن فريق يوكوهاما القوي.
سيطر علينا الحرج أمام مدربنا الذي اجتمعتْ قبضاتنا على قبضته قبل قليل، هاتفين بالنصر ! تملْملنا في جلستنا على الأرض، فبادرنا :
ــ حسناً .. لِنناقشْ الأمر . كأس المدارس الإعدادية لكرة السلة، بطولة حديثة لم تنخرط فيها كل مدارس المحافظات، نظراً لضعف الوسائل، والظروف التي مرّ بها الوطن بعد الحرب العالمية . فمنْ قال إن هذا الفريق قوة كبيرة لا تُقهَر، لم يكنْ مخطِئاً، فهذا ــ حسب قناعتي ــ يتّفق مع ( تلك ) المرحلة من تاريخه الرياضي، في ظل عدم وجود فرق مدرسية معروفة تُنافسه بجدارة على اللقب، لنختبر صلابته من طراوته !
كان المدرب يمشي ويتكلم، ثم توقّف ونظر إلينا صامتاً متأملاً وجوهنا، ليحشد الاهتمام، ثم استأنف بحرارة :
ــ فَلْيردِّدوا عشرات المرات ( الفريق الفلاني عظيم لا يُقهَر لا مثيل له ... )، و بَعْدُ ؟ البرهان في الملاعب، أليس كذلك ؟ حسب علمي لم يحصلوا على الكأس منذ عامين، وهذا يؤكد خطأ هذا القول، الذي يحتاج من الطموحين أمثالكم إلى أن يركّزوا على النهوض بمستواهم، ورصّ الجهود لإثبات البطولة الحقيقية.
شبَكَ المدرب بين أصابعه وتابع بنبرة لَوْمٍ عالية :
ــ الرهبة تليق بالفرق الضعيفة ! .. التي لا تسْعى بصدق لتكون نداً للناجح !! .. التي لا تبذل ما بوسعها من عزم أكيد لتعديل موازين القوَى !! .. هذا الارتعاش من مجرّد إشاعة قد تكون وهْمية، سيُلجِم قواكم وطموحكم إلى انتزاع الفوز.
لازم الصمت قليلاً، ثم قال بتؤدة :
ــ حتى الكائنات الصغيرة فيها من الحيلة والقوة على قدْرها يعجز عنها الأقوياء، البكتريا التي لا تُرى بالعين المجرّدة يمكن أن تهدّ حَيْل عملاق، والماء يمكن أن يحتّ صلابة صخْر، والذباب المِلْحاح يمكن أن يحْرِم مفترِساً من نوم هادئ.
ثم .. تذكّروا الحكمة الصينية { إن الضفدع داخل بئره لا يعرف وَسَاعة البحر العظيم . } يظل على ظنّه أن بئره هو الأوْسع حتى يخرج منه . فَلْينظرْ الجميع بتواضعٍ إلى الفِرَق الجديدة على الساحة الرياضية، إن كانت عقولهم مُتَعافِية من العظَمة !

نظرْنا نحن الرفاق في وجوه بعضنا وابتسمْنا خجلاً . أخذ المدرب نفَساً عميقاً وقال :
ــ نحن فريق مدرسيّ ناشئ ؟ نعم ، إنما .. قوة جديدة ! الشكر لمسْعانا الطموح إذا اجتزْنا العقبة القادمة، وإذا لم نكسبها، فإن ذلك لا يعني أن الفوز لن يُكتب لنا في المستقبل .. خوْض التجربة سيزيد من خبرتنا، وليس من جهْد يذهب عبثاً . خاض أشبالنا بشجاعة امتحاناً كبيراً في مباراتنا الأخيرة مع أشبال ( تْشيبا )، وأتوقع أننا مُقْدِمون على إنجاز رائع.
ثم سأل إن كان هناك ما يقلقنا، فتحركت الرؤوس نفياً . فهتف محرِّكاً سبابته :
ــ لا تنسوا أخيراً وأبداً .. أن قوة أي فريق مهما .. مهما كانت شديدة، فإنها تصطدم بعزيمةٍ لا تنْثني، وإرادة لا تهتزّ وضعتْ الفوز نُصْب عينيها.

في جملته الأخيرة، كان المدرب يتكلم بثبات وصلابة . وعندما لاح له أن الثقة أفعمتْ قلوبنا قال :
ــ والآن سأعلن أسماء أعضاء الفريق الذي سيخوض المباراة القادمة.
خفق قلبي وهو يقول :
ــ سأختار للمباراة القادمة ثمانية من الشباب واثنين من الأشبال.
فتح المدرب دفتره ليقرأ الأسماء، قال :
ــ الشبلان هما : الأول " فوجيتا كونْ " والثاني " مِيازاكي كونْ "، والشباب هم ......

هبط قلبي بين ضلوعي، وشعرت بضيق شديد ؛ فنظراً لإعاقتي، كنتُ حتى تلك اللحظة أعتبر نفسي من الأشبال . أخفضت رأسي وأنا أنظر نحو أقدامي، والدمعة تكاد تنفر من عيني، أسمع أسماء زملائي الشباب وكأني في عالم آخر . شعرت أن روحي تنسحِب من صدري، وتوهّمتُ أن المشهد حولي قد بَهِتَ، والقاعة خَبَا ضَوؤها واضْمحلّ، وبسرعة هائلة اختفتْ تدريجياً ألوان قمصان زملائي، وصوت مدربي بلا رَجْع، وفي اللحظة التي أحسست كأني أقف على أرض رمليّة متحركة تجذبني فأغوص فيها، امتدّ حبلٌ صوتي أنقذني من غرق وشيك :
ــ " تاكاهاشي كونْ " .. تاكاهاشي .. ما بك ؟ هل أنت معنا ؟
وبصوت مختنِق جاء من بين طَيّات أمواج الغرق، أجبتُ :
ــ نعم نعم.
ألقى شخص حبلاً صوتياً فتمسّكت به، وأصوات صاخبة تحثّني ألا أرْتخي، وما زال الحبل يجرّني، حتى وجدت نفسي وسط الزملاء على شاطئ الأمان، والأكفّ تربّت بلطفٍ على ظهري ورأسي، والكل يضحك سعيداً . عادت الأضواء والألوان والوجوه إلى الحياة . يهنّئوني ؟ على ماذا ؟
ــ تاكاهاشي كونْ، شدّ حيلك .. هذه أول مباراة لك وثقتي بك كبيرة.

رأيتُ الدمعَ يغلّف عيني السيد تاكاهاشي في تلك اللحظة . أما هيكارو فقال وقد خيّمت عليه لحظات ذهول :
ــ للل ليْتَ صديقي الأفريقي ك ك " كواندويا " معنا .. ل ليسمعك !
ــ حسناً .. سأدعوكما إلى بيتي لنتحدث كثيراً.
ارتسمت علائم السرور على وجه هيكارو، ومدّ يده شاكراً لِيأخذ من يد السيد تاكاهاشي قطعة أونيغيري أخرى.

تابع السيد تاكاهاشي قصته :
ــ قبل أيام من المباراة، ألقى مدير المدرسة كلمة تشجيع، ثم مرّ على أعضاء الفريق يصافحهم واحداً واحداً، وعندما جاء دوري وضعَ كفّه على كتفي، وقال بنبرة عالية أمام الطلاب :
ــ هذا الطالب، قدّم المصلحة العامة على الشأن الخاص، فثابرَ على التدريب، رغم حزنه على وفاة أبيه . لقد ضربتَ لنا أيها الطالب النشيط، مثلاً راقياً في نبْذ الأنانية حرصاً على مصلحة الفريق، بهمّتك العالية وتصميمك العنيد.
قال السيد تاكاهاشي ووجهه يومض بالسعادة :
ــ أعجز عن وصف مشاعري وأنا أتلقّى تهنئة من مديري أمام زملائي !
وضع هيكارو ال أونيغيري على الطاولة وأخذ يصفق بحرارة . ثم قال وقد زادت التأتأة من شدة ابتهاجه :
ــ ثثثث ثم ماذا حصل ؟ مممم ماذا .. حصل ؟ م ماذا ؟
لفّ السيد تاكاهاشي ذراعه حول رقبة هيكارو وتابع :
ــ في ذلك اليوم يا هيكارو كونْ، رافقتُ حبيبتي حتى بيتها . وفي الطريق أعربتُ عن قلقي لغيابها عن المباريات التمهيدية ؛ ذلك أن حضور المباريات الرياضية مُلزِم لجميع الطلاب، ويُعتبر من النشاط المدرسي، الذي لا يُعفَى منه إلا مَنْ له عُذْر.
فردّتْ بأسف أن والدتها قد أجرت عملية خطيرة في القلب وتحتاج إلى مساعدتها، وتمنّت لي الفوز . فعبّرتُ لها عن شكري العميق، وأني سأحمل عبارتها رُقْية في قلبي تهِبُني الحماس . ولم يفتْني وأنا أودّعها أن ألقي نظرة على الفيللا الجميلة وحديقتها المبْهِرة . واجتاحني شعور خفيّ ؛ هل مثل هذه الفتاة الغنية ستميل إلى طالب فقير ومعاقٍ مثلي ؟ دهمتْني حسرة قبضتْ على قلبي خلال عودتي إلى بيتي المتواضع ؛ الحب عاطفة جليلة دون شك، ولكن .. أليس له شروط لاستمراره ؟

تلك الليلة انكببتُ على تشكيل ورود، وطيور الكركي بالورق الملوّن (أوريغامي) * ، هديةً للمريضة، والدة حبيبتي، رمزاً للتمنّي بالشفاء.
ذهبت إلى المدرسة بنشاط . وكان أول تعبير عاطفي منها، أن سألتني عن سبب احمرار عيني .. فتحتُ صندوقاً أمامها، فاندهشتْ وأعربت عن سعادتها بلفْتتي، وتأمّلتْ بإعجاب الفن الدقيق لتشكيل الوردة، فقلت لها إني سهرت حتى الصباح حتى أنجزْتها . وقبل يوم واحد من المباراة، قدّمتْ لي موزة وعبوة حليب لتدخل في فطوري مؤكّدة أنها ستمنحني القوة، ونحن في بيتنا لا نشتري الموز ولا نعرف طعمه هههههه !!
وقف هيكارو وصاح بلهجة طالب يسمّع استظهاراً وهو يضغط برجله اليمنى على اليسرى :
ــ ع ع عمي عمي .. ااا الموز يمدّ ال .. رر رياضي بالطاقة مما .. يساعده ع ع على التغلّب على ال تت تعب وال .. تت توتّر، غ غ غنيّ بالفيتامينات وال .. مم معادن.
ــ هيكارو كونْ، ما بكَ ؟
انقبضت أسارير وجه هيكارو وقال بصوت مختنق :
ــ أأأ أريد أن .. أذهب .. إلى ال مممم مر..حاض . أأأ أرجوك أ أن .. ت ت ترا..فقني.
ــ هيا أسْرعْ ! هل يرافقك الأستاذ في المدرسة إلى المرحاض ؟
فردّ وكأن في حلقه غَصَص :
ــ للل لا .. أبداً .. لل لكني أخشى .. أأ أن .. تتابع ال .. قق قصة فف في .. غيابي.

عاد الاثنان يضحكان، وأنا أفكر بأحداث هذا اليوم، وكيف بدأ اللقاء الطريف بالرجل الصارم " السيد تاكاهاشي " في سيارة الإسعاف، ثم تطوّر إلى صداقة مع هيكارو هنا في مكتبة المستشفى . عجيبة حقاً هذه الدنيا !

تابع السيد تاكاهاشي :
ــ لم يكنْ يوم المباراة كأي يوم آخر . ذكرياتي فيه تَتيهُ فخراً على كل ذكريات حياتي.

بدأت المباراة بحماس شديد من اللاعبين والجمهور . بدا المستوى متكافئاً في البداية، ثم أخذت الكفّة تميل لصالح فريق يوكوهاما.
والحقيقة أنه فريق قوي، يتميّز لاعبوه بقامات نخيليّة ومتانة الجسد، ذوو مهارة وتكنيك عالٍ في الاسْتِحواذ على الرميات المرتدة، وتمرير الكرة للزملاء والتحكّم بها.
ما لبث يوكوهاما أن اسْتجمعَ قواه وكسرَ ببراعة محاولاتنا الدفاعية، ليتّسِع الفارق بيننا في النقاط، فيُرجِف الأمل في قلوبنا، ويُشتِّت جهود فريقنا التي أصبحت مجرد حركات آلية لا ضابط يرشدها . أما في المدرجات فأصبح الحماس صراخاً عشوائياً أجوف أكثر منه تشجيعاً .

ليس الفوْز يا هيكارو كونْ بالصراخ وبالحركة العشوائية، كذلك لا تكفي القوة الجسدية .
الفوز يحتاج إلى روح متشبِّعة بالتصميم والصمود .. والمراوغة بذكاء لا بتهوّر، والاندفاع إلى الأمام بالرويّة لا بالخبط . الرياضة تجربة إنسانية يندمجُ فيها اللاعب مع الحركة الواعية، فتحْتشِد الحواس لِترْسم لنا لوحة فنية فلسفية، تعبّر عن موقف من الحياة.
ــ ننن نعم .. ولل لكن .. ما النن نتيجة ؟
ــ في الوقت المستقطَع قام مدربنا باستبدال أحد لاعبي فريقنا، فحللتُ مكانه.
صفّق هيكارو وقال بسرور :
ــ أخيييييراً تت تحقق حلمك !
ــ نعم ! أمنية نفسي التي انتظرتُها طويلاً !
دون جدالٍ .. أُخِذ الجمهور بهذه المفاجأة ! لاعب أعْرج ؟ معاق ؟! هل هذا المدرّب بعقله ؟ هل يتسلّى ؟ إنه الهذيان !
هبّ هيكارو واقفاً وهو يصيح :
ــ إإإ إنها أروع .. لحظة ف في هذه القصة !
ــ انتبهتُ إلى الذهول الذي خيّم على الجمهور وأنا أهْرع إلى الملعب، بل تعمّدتُ الإنتباه إلى الأصوات المتبرِّمة، وأنا أجرّ خلفي رِجلاً مشلولة، ألحقَتْ الشلل ببصيص الأمل في النفوس القلقة ! ولا شك أن الفريق المنافس استهانَ بمقدرتي، ولعله ظنّ أن في الأمر عجْزاً عن التغطية، فلم يُعِرْني التفاتاً بادئ الأمر.
ولأنه يجب على الفريق التحرّك من نصف ملعبه إلى نصف ملعب الخصم قبل انقضاء وقتٍ محدد، فإن الخطة كانت تأمين تغطيةٍ لي، بالتمْويه على الخصم عن طريق إلهائه بالمراوغات، ريثما أتّخذُ موقعاً يتيح لي التسديد.
سجّلتُ هدفاً .. فعمّ الذهول .. وآخر .. فتمادَى الذهول .. وثالثاً .. فتعمّق الذهول !! ثم انفجرَ الجمهور صياحاً وزهْواً . وراح الأمل يسْري في النفوس ويعيد الدماء إلى الوجوه، والرفاق يتحرّكون برشاقة مع الهبّة الجديدة . وعندما وصلنا إلى التعادل في زمن قصير وبشكل غير متوقَّع،، تنبّه الفريق الخصم إلى خطورة تسديداتي الدقيقة، وبدأ تنافس ممتع، والجمهور من المدرج يهتف باسمي بصوت هدّار " تاكا كونْ ! تاكا كونْ ! " ههههههه ~ هو نفسه الجمهور الذي صاح استِهْجاناً قبل قليل !
لم تفارق صورة أبي مخيلتي .. ليته كان معنا .. ليرى المشهد كما وصَفَه لي بالضبط ؛ الفريقان في ذروة نشاطهما .. والناس في قيام بهجةً، في قعود خيبةً .. الأذرع تلوّح بالأعلام طرباً، تهبط باللافتات كرباً .. الصدور تشهق مع اقتراب الخطر ارتياعاً، تزفر مع ابتعاده ارتياحاً .. والمباراة تقترب من نهايتها، والنتيجة تتلاعب بالآمال، مرة لصالح فريقنا ومرة لصالح الخصم.
جمَعَنا المدرب في وقت مُستقطَع، وقال لنا جملة واحدة فقط : الصلابة حتى آخر ثانية !!

اِستحرَّ التنافس ونحن نتحرّك في ظل مراقبة ثقيلة من الخصم القوي يوكوهاما . كان يسبقنا بنقطة واحدة، عندما بقيَ من وقت المباراة عشر ثوان فقط.
هدف واحد فقط، سندخل به التاريخ أو نؤجّل دخولنا إليه.
كل ثانيةٍ تمرّ بلا حركة انتصارٌ للسُبات، وانهزامٌ للحياة . فيها قد تلِد أعجوبة يحقّقها اللاعب وهو في أعلى مراحل الوعي، تتبلْورُ فيها مقدرته على خلْقٍ بديع.

في الثانية العاشرة من الوقت سقطتْ الكرة من يد لاعب يوكوهاميّ، فسارع الداهية القصير من فريقنا والتقطَها، وأرسلها من خلف ظهره في حركة خلّابة إلى القصير الثاني في الثانية التاسعة .. تحركتْ الأدمغة النشيطة برشاقة في اتجاه ملعب الخصم في الثانية : الثامنة فالسابعة فالسادسة .. وأنا ما زلت تحت سلّة فريقنا في آخر الملعب، كالقلب العاجز عن ضخ الدم .. أدركتُ أن اللحظات الأربع الأخيرة لن تنْتشِلني من شَلَلي لمواكبة زملائي . لم يبقَ من الوقت إلا ثانيتان .. وفي لحظة أشْبه بلقطة سينمائية من أفلام الأكشن، سمعتُ صيحة هدّارة من الطويل فينا : تاكا كونْ ! تلقّتْ يداي الكرة في الثانية الأولى، في نفس الوقت الذي تراجَعَ لاعب خصم لإعاقة حركتي، لكنّي كنت الأسرع . وسددتُ قذيفةً إلى السلة من مكاني في آخر الملعب بقوة لم أعهدها في نفسي !! وما بين تسْديد الكرة وانطلاق صافرة الحكم معلِناً انتهاء المباراة، زمن كما بين إغماضة عين وانتباهتها !
سدّدتُ الكرة فانطلقتْ كسهْمٍ شاقّاً لحظة ضبابية رمادية .. لكني لم أعِ شيئاً بعدها !!
فتحت عيني فرأيت النور يتبدّد، والسقف يتوهّج باللون الأحمر رغم الظلمة، أسمع صخباً حولي، وميّزتُ صوت زميلي " فوجيتا " يصيح : إسعاف.

شعرت برائحة دواء فصحوْتُ، لأرى وجه الطبيب يبتسم ويهنّئني بالسلامة.
حدّثني زميلي فوجيتا فيما بعد بما جرى فقال :
" في لحظة التسديد، ارتطمتْ قدم اللاعب الذي حاول مناورتي بقدمي فوقعتُ أرضاً، وانفجر الدم من جرحٍ في رأسي لم يكن خطيراً لحسْن الحظ . أما في الملعب، فقد انطلقت الحناجر بالأهازيج مع دخول الكرة في سلة الخصم، في حادثة أثارت دهشة الجميع واعتبرها البعض معجزة ؛ ذلك أن التسديد إلى السلة من هذا البعْد في حكم النادر.

صاح هيكارو وقد ضاعت التأتأة على لسانه :
ــ ف.. فإذاً ؟؟ .. لم تخسروا ! ه ه هذه قصة رائعة س سأكتبها .. غداً في .. وظيفة التعبير !
ــ لا تنسَ أن تكتب أن فريق يوكوهاما الصديق، قد زارنا في مدرستنا للتهنئة والاعتذار عن المصاب الذي لحق بي، واحتفلنا بقدومهم وتناولنا الشاي والفطائر معاً.
سقط رأس هيكارو على صدره وقال بأسف :
ــ وو ماذا أكتب ع عن حبيبتك ؟
ــ هههههههه .. أنت لم تهتم إلا بحبيبتي . حسناً .. اكتبْ أننا تزاملْنا في الجامعة في كلية الصيدلة، وتزوجنا بعد التخرج . استطعتُ أن أكسب ثقتها الكبيرة خلال المرحلة الثانوية، عندما كنت أشرح لها أعْقَد المسائل الرياضية التي تستصْعِبها، بحيث أصبحتْ تطمئن إلى مقدرتي . أثبتُّ لها أني رغم إعاقتي قادر على منافسة زملائي الأصحاء . آه ~ هيكارو كونْ .. انظرْ خلفك.
كانت ممرضتان تدفعان سرير " مينامي " إلى غرفة المرضى، فسارعنا إلى الاطمئنان عليها.

وقف هيكارو قبالة أمه، فغالبتْ جفونها وهي تركز نظراتها على ابنها، ثم ابتسمت له بضُعف، فوضعَ رأسه إلى جانب رأسها ويده على خدّها، وهمس بصوت مرتعش :
ــ خ خفتُ أن .. تموتي.
فمسحتْ بيد واهنة على رأسه بحنان وقد غلبها التأثر، ولما وقع نظرها عليّ، شهقتْ ثم أطْبقَتْ جفنيها وهزّت رأسها تعبيراً عن الامتنان.
ولما انتقلتْ بعينها إلى الشخص الثالث ، تحاملت على نفسها وهمست :
ــ تاكاهاشي سانْ ؟ لماذا ؟
حملق السيد تاكاهاشي في وجهها وسألها :
ــ !!! ؟ هل تعرفيني ؟
أجابت بصوت خفيض :
ــ دريم ( Dream )
التفتَ إليّ السيد تاكاهاشي وقال متعجباً :
ــ صدفة جميلة . ( دريم ) هو مَصَحّ للمعاقين، وأنا أعمل متطوعاً فيه . يبدو أن السيدة مينامي تعمل هناك !

يتبع

أونيغيري ــ *Onigiri *
كتلة أرز، محشوة بسمك السلمون أو التونة أو الخوخ الياباني المجفف، وتُضغط بالكفّين على شكل مثلث، ثم تُلَفّ بعشب البحر المعروف بورق نوري ( Nori )، وهي ليست ما يُعرَف بال ( سوشي ).
https://www.shutterstock.com/search/onigiri

سيمبيه ــ * Sembei *
بسكويت الأرز.

فن طيّ الورق أوريغامي : Origami
http://www.rewity.com/forum/t187646.html








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أطفالا كنا، أطفالا سنبقى
رفيق التلمساني ( 2017 / 2 / 27 - 13:39 )
مهما ابتعد بنا العمر عن طفولتنا نظل دائما أطفالا تستهوينا النهايات السعيدة، رغم أن الحياة ليست دائما هكذا. حكايات ألف ليلة وليلة عادة ما تنتهي بهذه العبارة: («… إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات ومخرّب الديار العامرات وميتّم البنين والبنات»).
فلنعمل بنصيحة المتنبي إذن:
لا تَلقَ دَهرَكَ إلا غَيرَ مُكتَرِث مَا دَامَ يَصحُبُ فِيهِ رُوحَكَ البَدَنُ
فَمَا يُدِيمُ سُرُورٌ مَا سُرِرتُ بِهِ ولا يَرُدُّ عَلَيكَ الفَائِتَ الحَزَنُ
شكرا سيدة ليندا على متعة القراءة لك، خاصة عندما يتظافر جمال الأسلوب مع القدرة الكبيرة على الحكي والانتباه إلى التفاصيل مع فلسفة متفائلة في الحياة.


2 - أجمل صدفة انتهت نهاية تراجيدية
ليندا كبرييل ( 2017 / 2 / 27 - 17:20 )
تحياتي وتقديري أستاذ رفيق التلمساني المحترم

على مدى سبعة عشر عاماً،رافقتُ هذه الإنسانة ؛ البطلة مينامي
بدأت المعرفة بصدفة جميلة صنعناها أنا وهي، صناعة بشرية ممتازة
وانتهت الصدفة نهاية تراجيدية صنعتها الطبيعة

طبعا تحدثت عنها في أول مقال من هذه السلسلة التي بلغت سبع عشرة حلقة، وستنتهي قريبا مع حلول الذكرى السادسة ليوم من أبشع الأيام التي مرت على اليابان : ذكرى الزلزال والتسونامي وانفجار مفاعل فوكوشيما

ملأ هذه الأعوام(الحكي) الحكي فقط، لم ينته الحكي على لسانها،أقصد البطلة مينامي، ولو كان هناك أديب قدير يعرفها لاستطاع أن يجعل من سيرتها ملحمة

استفدت منها كثيراً .. جدا
وأستفيد في الوقت ذاته من انطباعاتكم حول الموضوع
فشكراً لمرورك الكريم، وتشرفت بالتعرف إلى شخصك الفاضل

احترامي


3 - تليق الرواية لك أيتها الرياضية القديرة
مريم نجمه ( 2017 / 2 / 27 - 21:30 )
سلمت يداك أستاذة ليندا كبرييل

تأني ومقدرة في السرد القصصي لأدق التفاصيل خاصة مع بطل الرواية أو القصة ( هيكارو ) ,وال تت ت ت
استطعت أن تجعلي من ملاعب الرياضة مسرحاً لأبطالك أدخلت الروح والحياة والحركة والتجديد في الرواية بأسلوبك المشوق الجاذب ..

مع الأسف هذا ثاني تعليق أكتبه , حيث طار الأول !
بسيطة - تعلمنا الكثير من خلال جمال السرد عن هذا الشعب الياباني الرائد
فائق المحبة والتوفيق


د


4 - الاستاذة ليندا كبرييل المحترمة
وليد يوسف عطو ( 2017 / 2 / 28 - 10:22 )
انت مبدعة في تحويل الافكار الى كلمات واحداث ودراما فعلية وصور حركية حية..

اتقدم بالاعتذار اليك لتاخري بالرد على رسالتكم حول مقالتي ( محمد الرديني طائر النورس المهاجر) لانقطاع شبكت النت يوم امس ..

كتبت لك تعليقا قبل قليل ..

اتمنى لك دوام الصحة والسعادة والتلق الادبي ..








5 - السوفيت والآمريكان
د.قاسم الجلبي ( 2017 / 2 / 28 - 12:28 )
في منتصف الستينيات كانت هنالك مباريات لنهائي بطولة كرة السلة , وانتهت النتيجة لصالح الآمريكان ب60 و59, ولكن مدرب الفريق السوفيتي اعترض على ان الوقت لم ينتهي حيث بقي عدة ثواني وتوقف اللعب واستمر اللعب بعد ان اقتنعت لجنة المحكمين على هذا الآعتراض, وتمكن السوفيت من حصول على نقطتين اضافيتين واعلنت النتيجة بقرح السوفيت بعد ان كان الآمريكان قد فرحوا في النتيجة فيى الوهلة الآولى, سيدتي ليندا قرأت مقالتك هذه وتذكرت هذه الحالة الرياضة التي تجعل المسرة الى حزن والعكس هو الصحيح , ان لعبة كرة السلة تعتبر من اصعب واسرع اللعبات الآخرى , حيث اعتبر المختصون في حقل الرياضة ان لعبة السله تحتاج الى جهد عضلي وسرعة متميزه, والسؤال هنا ان المعوق الذي ادخل الى حلبة المباراة غير مؤهل الى هذه اللعبة كان المفروض ان يلعب لعبة اخرى غير كرة السلة, على كل حال ان الطفل تقمص شخصية الراوي وكان مشدودا لها وهذه هي حيانتا عندما كنا اطفال ننجذب الى بطل القصة او بطل الفيلم ونتفمص شخصيته ونتفاعل ايجابا معه , قصة تعبر عن حالة انسانية متميزة , مع التقدير


6 - شكراً لمشاركتكم الطيبة، ولتعليقاتكم الكريمة
ليندا كبرييل ( 2017 / 2 / 28 - 16:16 )
الأستاذة مريم نجمة المحترمة

وصلتْني كلماتك الطيبة أستاذتنا،آسفة،لم يصل إلى بريدي سوى هذا التعليق
ممنونة للمشاركة الكريمة،مع المحبة والتقدير

الأستاذ وليد يوسف عطو المحترم

أهلاً بمشاركتك العزيزة،من جهتي أعاني كثيرا من انقطاع النت،ويجب دوما أن نجد العذر لغياب الآخرين
أشكرك على رأيك الكريم وتفضل خالص تقديري

الأستاذ د.قاسم الجلبي المحترم

تحية وسلاما
قصة اليوم هي تتمة لما سبق،أرجو من حضرتك التفضل بالعودة إلى مقالين سابقين،وهما

المُتأتِئ مذيع والمشلول لاعب كرة
تحت شجرة ساكورا

وليتك تتفضل بالبدء من مقال:

كدتُ أغرق في فنجان

لتتوضح لحضرتك مجريات الحدث

الراوي هو السيد تاكاهاشي وقد بلغ اليوم منتصف السبعينات من العمر، يتحدث إلى الصبي هيكارو عن ذكرياته بعد فترة الحرب الثانية عندما كان طالبا في الإعدادية

الصبي هيكارو مصاب بالتأتأة،ويحلم أن يكون مذيعا في التلفزيون، وهو الآن في بداية الثلاثينات من عمره
وأتحدث في كل هذه المقالات عن ذكرى أحتفظ بها لصديقة( والدة هيكارو) رحلت في التسونامي الذي ستمر ذكراه المؤلمة السادسة في 11 آذار مارس المقبل

جزيل الشكر للمشاركة العزيزة مع خالص الود والاحترام


7 - تحياتى لك
على عجيل منهل ( 2017 / 2 / 28 - 18:59 )
الحكمة المندائية التي تقول: -لا خير في عالم لا ينفتح على غيره، ولا خير في جاهل منغلق على نفسه- المقال رائع اثار اعجابى مع احترامى لك.


8 - الحكمة المندائية: لا خير في جاهل منغلق على نفسه
ليندا كبرييل ( 2017 / 3 / 1 - 05:30 )
تحياتي أستاذ علي عجيل منهل المحترم

الحضارات كلها تستقي المعارف من بعضها البعض
وسنجد الكثير من الحكم في ثقافتنا العربية
المشكلة فقط أننا نردد أمثالنا ولا نعيها

المهم تطبيق الحكمة لا ادعاء الفطنة ثم الوقوع في الجهالة

خالص الشكر والتقدير لمرورك الكريم


9 - وصفك للمواقف الانسانية شديد الرقة
فاتن واصل ( 2017 / 3 / 7 - 14:10 )
الأستاذة الرائعة ليندا كبرييل المحترمة، سلام مربع لقلمك الحساس والرقة التي ترصدين بها المواقف الانسانية المختلفة، وتعاطفك مع الضعف الانساني الذي عبرتي عنه بطريقة انتزعت دموعي من مآقي دون إرادة مني. تحياتي للانسان الراقي الذي هو عادة ما يكون محور اهتمامك لتستخلصي منه عصير من القيم تلاشت واختفت في زمننا الغريب. محبتي واحترامي.


10 - المواقف الإنسانية تملأ الحياة وعلينا رصدها
ليندا كبرييل ( 2017 / 3 / 9 - 05:00 )
تحياتي أستاذة فاتن واصل المحترمة

أشكرك على الحضور العزيز
وأتقدم إليك وإلى نساء عائلتك الكريمة بأطيب التهاني في عيد المرأة
تفضلي خالص الشكر والتقدير

اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى