الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرافعة لم يطلبها أحد

السيد نصر الدين السيد

2017 / 3 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


يتعرض اهل بلدي من عمو م المصريين لهجمة شرسة من بعض المثقفين، وانا منهم، ينتقدون فيها ما يتبناه هؤلاء من قيم وما يمارسوه من سلوكيات. وبالطبع فان الدافع الرئيسي وراء هذا الهجوم هو قناعة المنتقدين بان كلا من منظومة القيم المُتبناة ومجموعة السلوكيات المُتبعة تشكلان عقبة امام محاولات النهوض بأحوالهم. وهي قناعة صحيحة تدعمها شواهد من الواقع من أهمها "الحداثة المنقوصة"، أو الفشل في إقامة مجتمع تحكمه قيم العلمانية والمواطنة والديموقراطية.
الا أن الاكتفاء بالانتقاد والغلو فيه، دون التعرف على الأسباب التي دعت المصريون الى التمسك بمنظومة القيم الحالية، سيحد من قدرتنا على تغييرها. فالقيم السائدة والسلوكيات الحالية تمثلا حصيلة المعاناة التي عانها الشعب المصري عبر مراحل تاريخه الطويل. وهي معاناة مركبة ثلاثية الأبعاد: "النهب المادي"، "النهب المعنوي" و"المذابح".
وبالنسبة للبعد الأول فلقد شهد المصريون عبر تاريخهم الطويل من عمليات نهب غير مسبوقة مارسها غزاة كان همهم الأوحد هو الاستيلاء على أموالهم لصالح دول الغزاة. فعلى سبيل المثال كتب ثاني الخلفاء الراشدين، عمر بن الخطاب رسالة الى واليه على مصر، عمرو بن العاص، يستحثه على تسخير المصريين في حفر خليج أمير المؤمنين بين نهر النيل وخليج السويس قائلا "اعمل فيه وعجل، أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها"!!! (الطبري, 1967) ص. 100). اما ابن أياس فيخبرنا انه لما "ولي أمام عثمان الولاية، ولى عبد الله بن أبى سرح على مصر، فلما ولي أظهر له نتيجة في خراج مصر وأورد له أربعة ألف ألف دينار، فقال عثمان لعمرو بن العاص: "لقد درت اللقحة بعدك يا أبا عبد الله بأكثر من درها الأول". فقال عمرو: "نعم، ولكنها أجاعت أولادها". فحصل لأهل مصر بسبب ذلك الضرر الشامل وكانت هذه أول شدة وقعت لأهل مصر في مبتدأ الاسلام" (أياس, 1982) ص. 113). ولم يكن قد مضى على غزو العرب لمصر إلا ست سنوات عندما دار هذا الحوار بين ثالث الخلفاء الراشدين وواليه السابق عليها. وتهل سنة 96 هـ (715 م) ويكتب الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك إلى متولي خراج مصر أسامة بن زيد التنوخي قائلا: "احلب الدر حتى ينقطع واحلب الدم حتى ينشرم" (كاشف, 1988) ص. 88). وقد كان الامبراطور الروماني تيبريوس (14 – 34 م) أكثر رأفة برعاياه من الخليفة الأموي اذ أرسل لواليه على مصر، عندما اشتط في جمع الضرائب حتى زادت عن المبلغ المقرر تحصيله سنويا، أرسل اليه قائلا: "لقد أرسلتك لتجز وبر الأغنام لا لتسلخها" (الروبي, 1984) - ص. 84).
وثاني ابعاد المعاناة، "النهب المعنوي"، فتعني في حالتنا احداث قطيعة بين المصريون وتاريخهم وذلك بشيطنته وتشويه رموزه. وقد تمت عملية النهب هذه على مرحلتين كانت بداية الأولى على أيدي مرقص الرسول الذي قدم إلى أرض مصر حوالي 40 م، وكانت بداية الثانية لحظة غزو العرب لمصر سنة 640 م. وكانت البداية الحزينة لطمس الشعور القومي المصري عندما اعتنق شعب مصر المسيحية وآمن بكتابها المقدس بعهيديه القديم والحديث. وكان للصورة المشوهة والمشوهة (بكسر الواو) للمصريين وحكامهم في أسفار العهد القديم (سفر الخروج من َالأَصْحَاحُ السَّابِعُ الى الأَصْحَاحُ الحَادِي عَشَر). آثار مدمرة على إحساس المصريون بذواتهم واعتزازهم بها. فبعد أن كان شعب مصر (الناس) هم ""الرعية النبيلة" ... "رعية الاله رع" وكان الناس (رمثو) "شعب الشمس" ... "أبناء رع آتون" ... "كلماتهم نافذة وشفاهم عارفة وحكمتهم بلغت عنان السماء"، وكانت مصر "تاميرى" ... "صورة السماء" و "معبد الكون بأسره ومقر الديانات"" أصبح شعب مصر وأصبحت أرضها هدفا لضربات رب العبرانيين. وبعد أن كان "بر-عو" (البيت الكبير أو فرعون) مصر هو "العائش في ماعت"، أى الذي تتجسد فيه ماعت والتي تعنى الحقيقة والنظام والعدالة في آن واحد، أصبح من منظور الدين الجديد حاكما ظالما لا يستحق من المؤمنين به إلا أشد اللعنات. وهكذا حدثت المفارقة الأولى بين المصريين وتاريخهم. وهكذا بدأت "قومية الدين" تحل محل "قومية الوطن" وأصبح الأجنبي المسيحي أقرب للمصر من رفيقه في الوطن الذي يؤمن بـ "سيرابيس" أو يقدس الأم المباركة "إيزه".
وكانت المفارقة الثانية عندما غزا العرب مصر واحتلوها حاملين معهم نفس الصورة المشوهة والمشوهة (بكسر الواو) للمصريين وحكامهم التي جاءت في أسفار العهد القديم. وكانت هذه الغزوة أشد وطأة على المصريين مما سبقها من غزوات فلم يكتف الغزاة هذه المرة بـ "نزح" خيرات مصر إلى باديتهم الجرداء بشكل غير مسبوق (ولعل شطر بيت الشعر "مص الغصن لخضر ونحت عضم العيدان" لأحمد فؤاد نجم في قصيدته "كلمتين لمصر" يصور هذا الوضع أبلغ تصوير) بل استجلبوا قبائلهم لتستوطن أرض مصر وتزاحم أهلها في أرزاقهم (وهو الأمر الذي تطلق عليه أدبيات العلوم السياسية المعاصرة لفظة "استعمار استيطاني"). كما فاقت عنصرية الغزاة الجدد عنصرية من سبقهم فأصبح من هو ليس عربيا ينظر اليه نظرة دونية حتى وإن اعتنق الإسلام وأصبح من "المسالمة". ومرة أخرى تتأكد أسبقية "قومية الدين" على "قومية الوطن" ليصبح الأجنبي المسلم أقرب للمصري من رفيقه في الوطن الذي يؤمن بالسيد المسيح. وما أن يحل القرن الرابع عشر حتى تسود اللغة العربية فتتبناها الكنيسة القومية المصرية وينحسر استخدام اللغة القبطية آخر ما يربط المصريين بماضيهم الأول. ولكنها، قبل انحسارها تترك بصماتها الواضحة على مفردات وقواعد لغة المصريين المحكية.
وآخر ابعاد المعاناة هو "المذابح" التي شهد التاريخ المصري العديد منها. فها هو اﻹمبراطور الروماني دقلديانوس يأتي إلى مصر سنة 284م مقسما أن تصل دماء شعبنا الى قوائم فرسه. وكان الرجل عند كلمته وأوفى بقسمه ".. ولم تكف لهذه الفظائع أيام وشهور بل كانت تستمر سنين وهي في أفظع حالاتها، وكثيرا ما كان يصدر حكم بقتل عشرة أشخاص في لحظة واحدة، وأحيانا يقتلون عشرين رجلا مرة واحدة وأحيانا ثلاثين وستين. ومرة حكم على مائة رجل بالموت فماتوا في يوم واحد مع زوجاتهم وأولادهم الصغار وذلك بعد أن ذاقوا من العذاب ألوانا.. فكان البعض تجز رؤوسهم وبعضهم يحرقون في أتون النار المتقدة حتى أن السيف الذي كانت تقطع به الرؤوس ثلم وفل حده وتحطم تحطيما لكثرة ما سحق من الرقاب. وكذلك السيافون تعبو وخارت قواهم من ذبح الآدميين فكانوا يستريحون هنية ريثما يتفسون الصعداء". وتكون هذه المذبحة بداية للتاريخ القبطى تخليدا لعصر الشهداء.
وبعد الزيارة الدموية للإمبراطور الروماني دقلديانوس بأكثر من ألف عام، تأتى زيارة الخليفة العباسي المأمون لمصر (832م / 217هـ) ".. ثم أن المأمون عين الإفشين، وكان شجاعا بطلا ...؟ فأخذ طائفة من العسكر، وتوجه الى أعلى الصعيد وحارب أهلها وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر النساء والصبيان وأحضرهم بين يدي المأمور فأمر بقتل الرجال وبيع النساء والصبيان وكان أكثرهم من القبط والحوف" (أياس, 1982). ص .148). وتمتلئ جعبة الشيوخ الرواة بأخبار الذبائح البشرية واﻹحتفالات الدموية، فما أن إستولت العثمانية على الديار المصرية (1517م / 923هـ) وتمكنت من القاهرة حتى ".. طفشت في العوام والغلمان من الذعر وغير ذلك، ولعبو فيهم بالسيف، وراح الصالح بالطالح، وربما عوقب من لاجنى فصارت جثثهم مرمية على الطرقات من باب زويلة إلى الرملة، ومن الرملة إلى الصليبة إلى قناطر السباع إلى الناصرية إلى مصر العتيقة، فكان مقدار من قتل في هذه الواقعة من بولاق إلى الجزيرة الوسطى إلى الناصرية إلي الصليبة فوق العشر آلاف إنسان في مدة هذه الأربعة أيام. ولولا لطف الله تعالى لكان السيف في أهل مصر قاطبة.." (أياس، 1982)، الجزء الخامس، ص. 156).

المراجع
الروبي, آ. 1984. مصر في عصر الرومان. جدة: دار البيان العربي.
الطبري. 1967. تاريخ الرسل والملوك: دار المعارف.
أياس, إ. 1982. بدائع الزهور فى وقائع الدهور. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
كاشف, س. إ. 1988. مصر في عصر الولاة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات