الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فكرة داروين الخطرة

محمد زكريا توفيق

2017 / 3 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نظرية التطور يمكن أن نقسمها إلى جزئين. الجزء الأول يقول أن كل الأحياء على هذا الكوكب تربطهم صلة قرابة. كلنا أقارب، أهل وحبايب. وكل نوع من هذه الأحياء، جاء من كائنات سابقة، يمكن أن تكون قد انقرضت منذ مدة وأصبحت في خبر كان.

الجزء الآخر من نظرية التطور يبين كيفية تغير الأنواع مع الزمن، حتى تستطيع المواءمة مع البيئة ومواصلة الحياة. هذه المواءمة تستخدم أسلوب أو مبدأ "البقاء للأصلح".

الجزء الأول من نظرية التطور الذي يقول أننا وباقي الكائنات أقارب، أهل وحبايب، هو ما يعرف بالتطور. نحن وقرود الشمبانزي والغوريلا أولاد عم نأتي من جد واحد مشترك. الحيتان وأفراس النهر أقارب أتت من أصل واحد أيضا. وهكذا.

فكرة أن الأحياء تتطور ليست جديدة علينا. فقد نادى بها الفيلسوف اليوناني القديم إمبيدوكليس قبل الميلاد بعدة قرون. وكانت فكرة مقبولة عند العلماء والفلاسفة في أيام داروين.

لم تأت عظمة داروين من قوله "نحن والشمبانزي أقارب- أهل وحبايب"، ولكن من الجزء الثاني لنظريته. أي من تفسيره للسيناريو والميكانزم الذي يحدث عن طريقه التطور. الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح.

البعض يرى نظرية التطور مجرد عمل شرير من صنع الشيطان. أما إبليس نفسه، فقد ظهر متخفيا في صورة داروين لكي يعطينا هذه النظرية الرهيبة. الهدف منها هو لخبطة المؤمنيين وإبعادهم عن الدين القويم. لكن هناك ليبراليون وعلمانيون متدينون لا يرون أي تعارض بين نظرية الخلق، كما جاءت في الكتب المقدسة، ونظرية التطور .

التطور في نظرهم، هو طريقة الله في خلق الأحياء. وما آدم وحواء إلا مرحلة متأخرة من تطور الإنسان وانفصاله عن عالم الحيوان.

لكن نظرية التطور لداروين تقول بصراحة إن الإنسان لم يأت عن فكر مسبق أو غرض ما. الإنسان وباقي المخلوقات جاءت وليدة الصدفة المحضة. ليس هناك هدف طبيعي، كما يقول أرسطو، يقود عملية الخلق بصفة عامة، وخلق الإنسان بصفة خاصة. بالتالي، التطور كما طرحه داروين، لا يحتاج إلى طبيعة إلهية لكي ينجح. مبدأ البقاء للأصلح لا يحتاج إلى طبيعة إلهية.

فكرة الخلق الميكانيكي كما جاءت في نظرية التطور لداروين، أصابت معاصريه في القرن التاسع عشر بالرعب الشديد. مما جعل الفيلسوف الأمريكي المعاصر "دانيال دينيت" يسميها، "فكرة داروين الخطرة".

في القرن السابق لداروين، كان البرهان على وجود الله يعتمد على مقارنة عملية خلق العين للإنسان أو الحيوان مثلا، بعملية تصنيع الساعة.

تصنيع الساعة لا يمكن أن يكون قد أتي بمحض الصدفة. هذا التصنيع وراءه عقل مفكر، قام بالتصميم والتصنيع. هذا العقل هو الصانع أو المهندس. وكانت الفكرة في رأسه قبل أن ينفذها.

كذلك العين. قام بتصميمها وتصنيعها صانع قدير. هو الله نفسه. العين بلغت من التعقيد والدقة والتخصص حدا، جعل تصنيعها بمجرد الصدفة البحته أمرا مستحيلا.

لكن نظرية داروين توضح بالتفصيل كيف تكونت أعضاء بالغة التعقيد مثل العين بالصدفة البحتة. أو بتراكم أخطاء جينية مفيدة عبر الدهور، جاء كل منها بالصدفة البحته.

بعض الأمثلة التي توضح كيف يعمل الاختيار الطبيعي، هي قصة فراشات إنجلترا (Moth) ذات اللونين، الأبيض والأسود. قبل القرن التاسع عشر، كانت الفراشات البيضاء هي السائدة كثيرة العدد. بينما الفراشات السوداء، كانت نادرة صغيرة العدد، على وشك الانقراض.

لماذا؟ لأن الفراشت السوداء عندما تقف على جذوع أشجار الحور البيضاء (Aspen) ، تكون واضحة جلية للعيون الحادة للطيور. بعكس الفراشات البيضاء التي يصعب رؤيتها.

في القرن التاسع عشر، انتشرت المصانع وسط إنجلترا. وانتشر معها التلوث والدخان وتراب الفحم في الهواء. وصبغت بسبب هذا التلوث سيقان الأشجار باللون الأسود.

ماذا حدث بعد ذلك؟ أصبحت الفراشات السوداء مخفية عن أعين الطيور الجارحة، فتكاثرت بكميات كبيرة وأصبحت هي السائدة. بينما باتت الفراشات البيضاء واضحة الرؤيية تماما لعيون الطيور الجائعة، مما تسبب في نقص عددها وندرتها.

لون الفراشات هنا لم يأت عن تخطيط مسبق. إنما مجرد عمل ميكانيكي محض. في الحالة الأولى، سيقان الأشجار البيضاء مع الطيور الجائعة، هي المسئولة عن انتشار الفراشات البيضاء. في الحالة الثانية، التلوث والطيور الجائعة هي التي تسببت في تغير لون الفراشات السائدة من اللون الأبيض إلى الأسود.

جاء في كتاب داروين "سلالة الإنسان": إن الشواهد القوية تحتم علينا القول بأن الإنسان ينحدر من سلالة أدنى في سلم التطور. هذا بالرغم من عدم عثورنا على الحلقة المفقودة التي تثبت ذلك. الإنسان ما هو إلا نوع آخر من الحيوانات، شئنا أم أبينا.

بذلك لا تختلف طبيعة الإنسان عن طبيعة الحيوان. فأي فروق خلقية أو بيولوجية يمكنها أن تميزنا عن باقي الحيوانات؟ وما هو تأثير فكرة داروين الخطرة على حياتنا وأخلاقياتنا.

يرى البعض داروين كأعظم عقلية ثورية في تاريخ البشرية، ويرى آخرون أن داروين هو أحد ثلاثة، قاموا بتدمير ونسف الاعتقاد بعظمة الإنسان وكبريائه ومكانه المميز على سطح هذه الأرض.

أما الثلاثة المشار إليهم فهم: الأول هو العالم الإيطالي "جاليليو جاليلي" الذي أثبت بتلسكوبه المتواضع، عندما رصد أقمار الكوكب المشتري من أعلى برج بيزا المائل، أن الكرة الأرضية ليست مركز الكون كما كنا نعتقد سابقا. إنما هي مجرد كوكب صغير يدور مثل باقي الكواكب حول الشمس.

ثم يأتي داروين بنظريته، ليثبت أننا مجرد حيوانات لا أكثر ولا أقل. أما ثالث الثلاثة، فهو "سيجماند فرويد"، الذي يقول إننا حيوانات مريضة نفسيا نحتاج إلى علاج. أنظر إلى صفحات الحوادث في الصحف اليومية. وانظر إلى ما نفعله بالبيئة. أو إلى ما يفعلة الإسرائليون بالشعب الفلسطيني الأعزل. أو إلى ما تفعله داعش، أو إلى ما يفعله حكامنا بنا. ألا يدل ذلك على أننا نحتاج إلى علاج نفساني؟

بالنسبة لعلاقتنا بعالم الحيوان، كتب داروين في كتابه "سلالة الإنسان" ما معناه: "هناك شئ يجمع الإنسان والحيوانات العليا، مثل القرود والغوريلا. كلنا لنا نفس الحواس، ونفس البديهة، ونفس الشعور، ونفس الإحساس والعواطف التي تظهر الغضب والانفعالات.

نحن والحيوانات العليا، نشترك في صفات الخداع والانتقام والدعابة. الحيوانات تحب وتكره، وتشعر أيضا بالنشوة وتمارس حب الاستطلاع. تختار هي أيضا بين الخيارات المختلفة، وتستخدم ذاكرتها، وتحلم وتتخيل أشياء غير موجودة .

يرتقى الفرد منها داخل مجتمعه من مرتبة دنيا إلى مرتبة عليا. وتصاب بعض أفرادها بالغرور والجنون وحب السلطة، مثلنا تماما ولكن بدرجات متفاوته، أقل منا بالطبع نحن البشر."

يعترف داروين بأن الحيوانات ليس لها وعي بالذات أو القدرة على الكلام بطلاقة والقراءة والكتابة كالإنسان. كما أنها ليس لها دين أو كتاب مقدس. لذلك، تنجو من هذا الكم الهائل من الخرافات التي تسمم العقل البشري وتقف حجر عثرة في سبيل تقدمه ورقيه.

أنظر كم دين وكم فرقة وكم مذهب، ظهرت وسوف تظهر في التاريخ الإنساني عبر العصور. كم عددها؟ مئات الألوف؟ أكثر أو أقل؟ كل منها يجزم ويحلف أتباعه ومريدوه بالطلاق أن دينهم هو الصح والباقي ركش. مستعدون أن يضحي كل منهم في سبيل هذا الدين القويم بحياته وعياله وأمواله.

هل معقول أن تكون كل هذه الأديان، التي يعض عليها أتباعها بالنواجذ، مبنية على عقيدة حقيقية؟ بالرغم من تعارضها مع نفسها وتعارض بعضها البعض، وعدم منطقيتها، وما بها من أساطير وخرافات تخالف العقل والعلم؟ أم كلها أوهام لا توجد إلا في عقولنا المريضة؟

الأديان عند داروين، عبارة عن أوهام، صدقناها وآمنا بها بسبب الخوف من الموت وطمعا في الخلود. تبيع لنا الوهم وتعدنا بالجنة والحور العين، وترهبنا بالنار التي لا تطفأ والدود الذي لا يموت.

الأديان كما يعتقد داروين، لا توجد إلا في عقولنا فقط. مثل الغول والعنقاء والخل الوفي. مثل الدائرة والخط المستقيم وكل القوانين. هي أيضا لا توجد في الطبيعة، ولكن من إنتاج العقل البشري ليس إلا.

أنظر إلى الحروب التي قامت بسبب الأديان، وملايين الأبرياء التي قتلت باسم الرب الغفور الرحيم. أنظر إلى ما يقترفة الإسرائيليون من بشاعة لتحقيق وعد الرب بأرض الميعاد. وإلى ما تفعله داعش والعقيدة العمياء بالعقل البشري وقدرة الإنسان على التفكير.

أنظر إلى ما يفعله الدعاة الجدد بنسائنا وعقول شعوبنا. مما جعلها غير صالحة للبحث والابتكار، وغير قابلة للحضارة والحياة الحرة الكريمة، وغير قادرة على الثورة على الظلم والاستبداد.

الحيوانات تحس أيضا بالجمال والموسيقى، ولها قدرة على فعل الخير والأعمال الأخلاقية. قرود الشمبانزي والبابون تقوم ببعض الأعمال البطولية لإنقاذ رفاقها في حالة الخطر.

لا تتصارع ذكور الحيوانات مع بعضها حتى الموت طلبا للأنثى، وإنما تتصارع لاختيار الأقوى فقط. حتى تأتى الذرية قوية. الثعابين، لا تستخدم أنيابها السامة في الصراع بين الذكور.

المهزوم يترك الساحة ويذهب لحال سبيله دون أن ينقض عليه المنتصر ويقتله كما نفعل نحن. الحيوانات لا تقتل إلا طلبا للطعام أو دفاعا عن النفس. الحيوانات هي أيضا لها أخلاقياتها.

لذلك ينتهي داروين إلى النتيجة التي تجعله يفضل أن يكون من سلالة قرد شجاع، على أن ينتمي إلى جنس بشري يؤمن بالخرافة والكذب. يقدم الأضاحي والقرابين لآلهة خفية غير موجودة. يستعبد المرأة، ويجد متعة غريبة في تعذيب أعدائه من البشر ومخالفيه في الرأي. يسفك الدماء، ويمتلئ قلبه بالقسوة والحقد والغل على أقرانه وأبناء جنسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لماذا يلحد الداروينيون ؟
يوسف منصور ( 2017 / 3 / 1 - 15:17 )

كما قال الكاتب الفاضل .. من الممكن أن تكون ليبراليا مؤمنا بنظرية التطور وفى نفس الوقت تعتقد بأن الله اختار ميكانيزم التطور ليخلق به مملكة الكائنات الحية بكل ما بها من كائنات .. ولن يكون هذا متعارضا أبدا مع النصوص السماوية المقدسة

وتسألنى كيف ؟

أقول لك .. الله خلق البشر عبر سلسلة طويلة من العمليات امتدت عبر ملايين السنين .. لكنه خلق آدم وحواء بالذات بمعجزة إلهية وجعل لهما سلطان على سائر المخلوقات الأخرى .. حدث هذا منذ ستة آلاف سنة فقط !!
أى ان آدم وحواء ليسوا أول البشر بل سبقتهم أجيال من بنى الانسان ظهرت بناموس التطور

وعملية خلق آدم بمعجزة من تراب الأرض وحواء بعد ذلك من ضلعه ليست أمرا صعبا على الله .. فالمسيح مثلا صنع نفس الشىء أمام الناس - عندما خلق للمولود أعمى عيونا من الطين !!


2 - لماذا يلحد الداروينيون ؟ - 2
يوسف منصور ( 2017 / 3 / 1 - 15:18 )

هناك أدلة متعددة فى سفر التكوين على وجود بشر قبل آدم وحواء أطلق عليهم الكتاب المقدس اسم (أولاد الناس) بينما كانت ذرية آدم تسمى (أبناء الله) .. ولما حدث الطوفان هلك كل بنى البشر ولم يبق سوى أبناء نوح وهو من ذرية آدم (أى أبناء الله) .. وبالتالى فكل البشر الموجودين حاليا هم بنى آدم وليسوا من بنى الانسان القديم الذى ظهر بالتطور العضوى واندثر بالطوفان ونرى اليوم حفرياته التى تعود الى عشرات ومئات الآلاف من السنين.

ان كان القارىء مهتما بهذه القضية وغيرها من مشكلات التعارض بين العلم والنص المقدس فأنا مستعد للمناقشة والإجابة على تساؤلاته

مع خالص التحية للكاتب العزيز


3 - الطفرات الواسعة
محمد البدري ( 2017 / 3 / 1 - 16:07 )
اهلا بك العزيز الفاضل أستاذ زكريا، ثراء مقالاتك بالموقع يعمنا بالفرح ويجدد النشاط العقلي للقارئ.

أما بشأن بعض من يرى نظرية التطور مجرد عمل شرير ومن صنع الشيطان فلا تفسير له الا بطفرة واسعة تنقل الرخويات المائية البدائية الي مجتمعات الرمل العربية دون اي ميكانيزمات حياتية بينهما.

تحياتي واحترامي وتقديري


4 - ردا على كلام عبد العظيم الطيب على الفيس
يوسف منصور ( 2017 / 3 / 1 - 16:18 )

ردا على تعليق سيادتكم على الفيس بوك أقول

أنا لم اعارض النظرية ولم أحاول نقضها ولا دحضها كما تدعى فى كلامك .. بل أشجعها وأتحمس لكل ما هو علمى ليس فقط كمتفرج أجلس على المقاهى كما تفضلت وإنما أيضا بحكم تخصصى .. عليك بقراءة كلامى أولا قبل الحكم عليه وشكرا لذوقك وأدبك


5 - من اجمل ما قرأت
ركاش يناه ( 2017 / 3 / 1 - 21:50 )

من اجمل ما قرأت
__________

إننا حيوانات مريضة نفسيا نحتاج إلى علاج.
أنظر إلى صفحات الحوادث في الصحف اليومية.
وانظر إلى ما نفعله بالبيئة.
أو إلى ما يفعلة الإسرائليون بالشعب الفلسطيني الأعزل.
أو إلى ما تفعله داعش،


أو إلى ما يفعله حكامنا بنا.
أو إلى ما يفعله حكامنا بنا.
حكامنا
بنا
بنا ، بنا .. نا ... نا !

ألا يدل ذلك على أننا نحتاج إلى علاج نفساني؟

رائع استاذنا ..

....


6 - ده بس عشان أأول لك:
أفنان القاسم ( 2017 / 3 / 2 - 04:46 )
ني قرأتك... محبة.


7 - Darwins dangerous Idea
أحمد عبدالله ( 2017 / 3 / 2 - 19:39 )
مقال رائع لباحث رائع ، عنوان المقال مأخوذ من كتاب الفيلسوف الأمريكي الرائع دانيال دنيت
Darwins dangerous Idea
أتمنى على كاتبنا القدير مواصلة الكتابة في هذه النظرية العظيمة التي صارت حقيقة واضحة اعترف بها حتى البابا (الحبر الأعظم) رئبس الكنيسة الكاثولوكية

اخر الافلام

.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah


.. #shorts -75- Al-baqarah




.. #shorts -81- Al-baqarah