الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا تكتبين؟

عايدة الجوهري

2017 / 3 / 5
الادب والفن


لماذا تكتبين؟

سألني أحدهم ذات يوم: لماذا تكتبين؟
هو سؤال استفزازي، عدواني، لأنّ فعل الكتابة للكاتب المكرّس، بات بمنزلة غريزة ثانية، وطبيعة ثانية، لا مفرّ من إشباعها، والسؤال عنها هو سؤال عن هذه الطبيعة الثانية، عن ماهيتها، عن هوية وجودية، حميمة، محقّقة، وبديهية.
بيد أنّ هذه الممارسة الهوياتية، الحميمة، تحمل في متنها مفارقةً، فهي من أكثر الأشياء عمومية، إذ إنّ النص المكتوب بمتناول الجميع، وهو يزداد عموميةً مع شيوع الإنترنت، وبصفته هذه يحضّ على النقد، والقبول والرفض، والتساؤل، والاستفسار، والتدخل، وأحيانًا الاستهجان المحض.
وماذا عن جدوى الكتابة أمام هذا الكمّ من العنف المحيق بنا؟
حقيقةً، ثمة عنف ما كامن وراء كل فعل كتابة، عنف مادي، رمزي، عقلي، شعوري، بصري، سمعي، لمسي، أخلاقي، وجداني، ذاتي، نكون موضوعه، وضحيته، نحن أو الآخرون. ثمة عنف بيِّن وآخر خبيث، لا يفضح خبثه سوى بالقول، الشفوي أو المكتوب...
هذا العنف، بكلّ ضروبه، هو الذي يستفزّك ويحضّك على إفراغ ما يضجّ به عقلك ويجيش به وجدانك، وينوء به خيالك، لئلا ترتدّ عليك هذه الأفكار، والمشاعر، والخيالات، والصور، وتعيث قلقًا وكدرًا في ثنايا روحك، ومهاد دماغك.
نحن نكتب لأجلنا أولاً، من أجل «أنا» ترفض أن تتوارى وتنحسر، وتنكفئ على ذاتها، فالكتابة بحدّ ذاتها عملية ذاتية فردية، والكائن – الكاتب يحدس بذاتية عالية، ويجرؤ على إنتاج معنًى، ومخاطبة عقل، واستثارة وجدان، ولمّا كان كذلك، فهو، وعندما يكون إنسانويًّا، مستنيرًا، يصرخ ضدّ العبودية، عبوديته وعبودية الآخرين، ويحرّضهم على التعبير عن أنفسهم، والمرأة الكاتبة الإنسانوية، والمستنيرة، تشجّع سائر النساء على عدم التواري، والانكفاء، والسكوت، وعلى الإعلان عن أنفسهنّ على الملأ، ومن ثمّ على التمرّد والمواجهة.
أمّا أن تكتب تحت ربقة العنف، فإنّ ذلك يُعدّ، للوهلة الأولى، تخلّفًا عن الحدث، عن الحدث الذي يستقوي على الكلام، ويسخر من حق التفكير والشعور، والإدانة، نافيًا، نفيًا قاطعًا، ما عداه.
إنّ نصيب المرأة من العنف في الحروب العربية لا يفوق نصيب الرجل، فالرجل يتعرّض هو الآخر للتشريد والاعتقال والتنكيل، واليتم، والترمّل، والشهادة، أضعافًا مضاعفة، هي لا تنفرد في المظلومية، ولا يُنتظر استثناؤها من طاحونة العنف، والمبادرة إلى تمييزها تمييزًا إيجابيًّا، لمصلحتها، وأن يحكم عليها بالبراءة لمجرّد أنّها امرأة!... فالعنف السياسي العسكري لا يعترف بالهويات الجنسية، إلا عرضًا، وعندما يقود هذا العنف ذكوريون عتاة.
أمّا ما تتعرّض له المرأة من إيذاء مفجع، على وجه الخصوص، بصفتها أنثى، آثمة مدى الدهر، وتستحقّ الترويض، والتدجين، والاقتصاص منها، بأوخم الأساليب، فهو واقع يفضح أزمة الرجل العربي المسلم، والمسلم غير العربي، على حدٍّ سواء. هذا الذكر المأزوم يدأب على التشفّي، والانتقام من ذاك الكائن الأنثوي الغامض، الذي ما فتئ يُبهره، بخروجه من القمقم النصّي، الأيديولوجي، وما فتئ يُكذّب أسطورة النقصان والضعف، مقابل أسطورة التفوّق الذكري الواهنة. هو يقتصّ من هذا المخلوق المؤنث، وكلّما اقتصّ منه يقتصّ من نفسه، ووهنه، وخيبته.
هو يحتاج إلى من يكتب ضدّه ولأجله، إلى من يحرّره من ذعره، ومن أسطورة تفوّقه، وقوّامته، كي يجرؤ، ويتماسك، ويكفّ عن التنقيب عن «كبش محرقة»، لا تزيده التضحية به، إلاّ تأزُّمًا وحرقة.
إنّ الكتابة بلا كلل هي مشروع سرمدي، راهن ومستقبلي، يستغيث به النساء والرجال، من أجل مزيدٍ من الفهم والمعرفة، والسيطرة على واقعٍ، لا يلبث يفلت من أيديهم، وأيضًا من أجل التخفيف من قلقهم الوجودي، الذي يتفاقم كلّما ازداد قلق الآخرين، وتحلّلت ذواتهم، وتذررت عنفًا.
ذاك العنف يحرّضك على استجماع قواك وملكاتك، واسترجاع أسئلة قديمة، كدت تظنّها فائتة، منتهية الصلاحية، وإنّ ما اختُبر وقيل وكُتب وتمأسس، كافٍ لإبطالها. وما وظيفة الكتابة سوى توثيق العنف ووصفه وتحليله وشجبه وبيان فظاعته، كي لا يُمسي سنّةً طبيعية.
إنّه عود على بدء، لأنّ العقول المشوّهة لا تشفى بمجرد التعاويذ والتمائم والمواعظ، بل بثورة ثقافية، لا تلوح سوى في أفق نخبة متنوّرة، معزولة عن العامّة، ومضطهدة.
نعم أكتب، تكتب، ونكتب، من أجل لعن العنف، وعدم تطويبه قدرًا بشريًّا، لا محيد عنه، سواء نال هذا العنف من النساء أو الرجال.
عايدة الجوهري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/