الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحب والدين مرة أخرى

ياسمين عزيز عزت

2017 / 3 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تحدثت في مقال سابق بعنوان "الجنس علي خارطة الأديان الإبراهيمية " عن ممارسة الحب الكامل وكيف تراه الأديان الإبراهيمية لا من حيث التحليل والتحريم فقط بل أيضا من حيث فهمه واستيعابه والاعتراف به، وهنا أتحدث عن الحب، العاطفي أيضا ولكن من الجانب الشعوري الرومانسي البحت منه، فهل نجد في أحد الكتب الثلاثة شخصا تموج أعماقه بما تصوره لنا قصيدة لجاك بريفير مثلا أو محمود درويش ؟ فالعهد القديم لا يحدثني عما كان شمشون يشعر به تجاه دليلة ولا يعقوب تجاه راحيل، فهو لا يتوقف عند هذا الجانب من الأشخاص الذين يتحدث عنهم، ولا يولي هذه العاطفة القدر الذي نوليها إياه في حياتنا وأدبياتنا إطلاقا.
روت صديقة لي مرة أن حبيبها يريد الإنفصال عنها لأنه سمع الشيخ يقول أن "العشق حرام" ! وربما كان هذا أيضا رأى أغلب رجال الدين المسيحيين، استنادا لعوامل عدة، فلا ننسي ما جاء بالعهد الجديد في إحدى الرسائل حيث نهي الرسول كاتب الرسالة عن "الهوى والشهوة الجامحة .كولوسي 3: 5 "، وفي الواقع فإن كلمة الهوي في هذه الآية تترجم بالإنجليزية عن اليونانية كالآتي : lust و معناها الحرفي الشهوة الجنسية البحتة أو الشبق الجنسي فمن الواضح إذن أن المعني يختلف تماما عن المعني الذي تردده أغاني الحب عندنا عن "الهوى " أي الحب أو العشق، وبالرغم من ذلك، فانت لا تجد في العهد الجديد علاقة حب رومانسية كالتي يصفها العهد القديم في نشيد الإنشاد بل أن معظم مفسري الكتاب المقدس في كنائسنا الشرقية يرون في كلمات الحب التي يصفها النشيد مجرد إسقاط علي المحبة بين المسيح والكنيسة فمثلا عندما تقول عروس النشيد عن نفسها "أنا سوداء و جميلة يا بنات أورشليم" فهذا إشارة لبني البشر الذين بالرغم من سواد الخطية الذي قد يظهر بني البشر بصورة قبيحة إلا أنهم بالرغم من هذا، يحظون بقبول الله و محبته عن طريق المسيح الذي يمثل المحبة غير المشروطة وهذا ما يجعلهم، بالرغم من خطاياهم، مصدر سعادة لله ذي القلب المحب، فهو القائل في العهد القديم "ولذتي مع بني آدم .أمثال 8 :22-31"، كذلك يحكي الكتاب المقدس في العهد القديم عن قصة حب يعقوب لراحيل واستعباد أبيها له، بموافقته، حتي ينال قبوله علي الزواج، لكننا نجد العهد الجديد يتمحور حول نوع من أنواع الحب يطلق عليه agape باليونانية وهي تعني الحب الإلهي، فهو يسعي لتكريس كل مشاعر الفرد نحو الله ونحو الآخرين أيضا ولكن "في الله"، ولذلك تجد المسيحي المتدين يستخدم عادة كلمة "محبة" بدلا من "حب" .
يرى البعض أن حب مريم المجدلية للمسيح كان حب امرأة لرجل، ربما في محاولة يائسة للعثور علي هذا النوع من الحب في العهد الجديد وهناك مسرحية شهيرة عرضت في امريكا وأوربا أطلق المؤلف فيها العنان لخياله فجعل المجدلية تترنم بأغنية تقول "انا لا أعرف كيف أحبه !"، لكن الكتاب واضح للغاية في إظهار كيف أن المجدلية رأت في المسيح مخلصا روحيا، فقد حمل إليها رسالة الغفران و التطهير، ويظهر المسيح، وهو، حسب اعتقاد المسيحيين، استنادا للكتاب المقدس، الله الظاهر في الجسد، كرجل كامل من الناحية الجسدية ولكنه لا يعبر عن أي نوع من المشاعر إلا المحبة الإلهية، فهو يتبادل الحب مع الله الآب "وقد تعرضت لموضوع الثالوث المسيحي في مقال آخر"، ولبني البشر من خلال المحبة الإلهية أيضا التي تصل لذروتها في بذله ذاته من أجل العالم.
لا يوجد في المسيحية مفهوم الحلال و الحرام الموجود في الإسلام , حيث لا تقدم المسيحية الحقة الموجودة بالكتاب المقدس نفسها كديانة منظمة، بل هي، في إحدى جوانبها، رسالة روحية، وبالطبع تنهي عن الشر وتدعو للخير الذي يتحقق تلقائيا بدون تعمد بالتصاق الإنسان بللله عن طريق الإيمان، ولذا لا يمكن وصف الحب العاطفي أبدا بأنه "حرام" ! لكن يبدو للكثيرين أنه لا وجود له بشكله الكلاسيكي الذي نجده عند شكسبير مثلا أو يوسف السباعي في ظل غلبة الحب الإلهي علي روح العهد الجديد .
يعزو أفلاطون الحب لفضيلة حب الجمال "جمال الروح و الجسد"، ويرى أن أرقي أنواع الحب هو حب الحكمة "الفلسفة"
و التقسيم التقليدي لمشاعر الحب كان كالآتي : agape الذي ذكرناه , philia وهي مشاعر الصداقة أو الود، ثم eros وهي الشهوة .
و هناك تقسيم أكثر تفصيلا و يحتوي , إلي جانب الثلاثة أنواع من الحب المذكورة بأعلاه علي الأنواع الآتية : storge وهو التراحم، حب العائلة . ludud اللهو، كحب الأطفال للعب، وكذلك المغازلة. Pragma الحب المتبادل بين الزوجين و هو الحب الباقي علي مر الأعوام .وأخيرا philautia وهو حب الذات سواء بالمعني الإيجابي أو السلبي.
يعرض لنا العلماء ما يحدث للجسد من تغيرات نتيجة وقوع المرء في الغرام، فمثلا يفرز المخ هرمونا يسمي "الدوبامين" عند وقوع المرء في الحب، وهو الهرمون نفسه الذي يفرزه الجسد عند تعاطي مخدر ! و كذلك يفرز الجسم هرمون الأدرينالين؛ ولذلك تتسارع دقات قلب المرء عند رؤية الحبيب. ولكن إذا كان العلم بمقدوره أن يصف "ماذا" يحدث لنا عندما نحب، إلا أنه لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال الذي حاول الفلاسفة علي مر العصور أن يجيبوا عنه وهو: "لماذا" نقع في الحب ؟ أي لماذا نحب هذا الشخص بالذات ؟ وهناك بالطبع عوامل عدة تسهم في وجود تلك الكيمياء بين شخصين، كالتوافق بين العناصر، المعروف للمهتمين بالفلك astrology و احتياج المرء لمشاعر معينة افتقدها في طفولته مثلا، والتدفق بالحياة في بداية الشباب الذي يعانق المرء فيه الوجود والطبيعة من خلال شخص يجد فيه، لا شعوريا، تجسيدا لمعان تشعر نحوها روح المحب بالإنتماء والولاء.
يظل الحب شعورا ميتافيزيقيا من الصعب تفسيره، لذاتيته الشديدة، فهو يختلف من شخص لآخر، كبصمة الصوت وبصمات الأصابع . وفي اعتقادي الشخصي، أنه لا توجد تجربة شعورية تقتحم الروح الإنسانية كتجربة الحب العاطفي الحقيقي إذ تعانق هذه الروح بالحب جوهر الوجود والحياة للمنتهي، فتحترق بما في الحياة والنفس البشرية من قبح عندما يظهر غدر المحبوب أو سوء طويته أو سطحيته والعكس صحيح بالطبع.
وما أرقني في سنوات شبابي الأولي هو، كيف يكون للحب هذه القوة النفسية الهائلة و كيف تتفتح الروح الإنسانية إذا أصابها مس من هذا الشعور السحري إذا كان الحب مجرد شعور لا طاقة إيجابية كالإيمان مثلا أو الأمل، فالروحانيون بل الكثير من الناس يؤمنون بقوة التفكير الإيجابي، أي انعكاس الشعور الباطني علي العالم الخارجي و أثره في إحداث فارق في الحياة، وكذلك المشاعر السلبية كالتشاؤم التي يعتقد الكثيرون أن الإغراق فيها يؤدي إلي استدعاء أمور سيئة، والحسد كذلك الذي يؤمن الكثير من المسلمين بقوة تأثيره السلبي علي الأشخاص و الأشياء، وقد عبر أحدهم عن ذلك بمصطح قانون الجذب الشهير، والذي نجد ما يشابهه في الكتاب المقدس أيضا حيث نجد في الأناجيل عبارة قالها السيد المسيح لأحد الأشخاص وهي " كما آمنت ليكن لك"، وتحدث في مواضع أخري عديدة عن قوة الإيمان فهو يشبه الإيمان القوي بحبة الخردل التي و إن كانت صغيرة فهي صلبة و لذلك فهي قادرة علي نقل الجبال و الجبال هنا رمز للصعاب، إذن لماذا لا نجد للحب العاطفي (حيث أتحدث عن الحب الشاعري لا المحبة agape أو philia)، هذا الشعور الإنساني الذي نجده أحيانا أشبه بحالة الوجد الصوفي و الذي يسمو به المرء علي ذاته وعلي الحياة، مردودا في العالم الخارجي . فكيف يمكن ان يحلق الإنسان الباطني في تلك الآفاق السامية، ولا يتجاوب الكون معه، بل يظل صامتا، وكأنما العاشق يغرد وحيدا، بل و قد يتآمر ضده، بمعاونة المحبوب أحيانا فيسقطه من السماوات العلي لأسفل سافلين؟
ربما يكون هذا أحد الأسباب التي تدفع أهل الدين لنبذ ما نسميه بالعشق حتي الأفلاطوني منه، وإن كان عدم تفهمهم يوحي بافتقارهم لهذه المشاعر من الأساس .و إن كان الشيخ الإسلامي في رواية "عمارة يعقوبيان " قد خير الشاب بين حب امرأة وحب الله أو حب امرأة و حب الجهاد، فقد سمعت بعض رجال الدين المسيحي، عند محاولتهم إقناع فتاة صغيرة بنبذ تلك المشاعر "الخطرة" يوصونها بالإكتفاء بحب المسيح حتي يأتيها من يستحقها ! ويطلق الكثير من المسيحيين الأنجيليين علي "القسمة والنصيب" في الزواج لفظ "الشخص المعين"، رغم رفضهم الرسمي لفكرة القدر، فهناك شخص قد اختاره الله لك و يجب عليك قبوله ! لكن بالطبع هناك قسوس أكثر تطورا و أكثر احتراما لهذه المشاعر . وأيا كان الأمر، فلا يجب علي رجل الدين أبدا أن ينظر لهذا الشعور علي اعتباره شرا، فلو كان أسامة بن لادن أو أحد قادة داعش قد عرف الحب الحقيقي، لكان قد رأي العالم بشكل مختلف، لكان قد تعلم عزف الموسيقي بدلا من الذبح. و زرع الورود بدلا من إحراق البشر . كما أن التجاهل والتعالي المبالغ فيه علي المشاعر الإنسانية الذي يسم الكثير من القادة الروحانيين المسيحيين و محاولة التسامي المبالغ فيها قد تدفع البعض للإبتعاد عن الله، هذا الإله البعيد الذي لا يشعر بهم ويكلفهم ما لا يطيقونه، بدلا من الإقتراب منه .
ولو كان سائقو التاكسيات والمواصلات العامة قد استبدلوا شرائط عذاب القبر وما علي شاكلتها، بأغاني عبد الحليم حافظ وموسيقي جورج ديلور، ورأي الشاب المسلم في كل فتاة جميلة تمر أمامه أوفيليا هاملت أو كاثي في مرتفعات وذرنج، لا عورة و فتنة من الشيطان، لكانت الحياة قد أصبحت جميلة وعذبة وتستحق العناء، و لما احتجنا الثورات لإحداث تغيير لا يحدث، فالحب ثورة، وإن خلت الحياة من فتاة تعشقها فهناك الكثير الذي إذا بحثنا عنه بداخلنا وحولنا، سيمنحنا سعادات كثيرة صغيرة، فأنا مثلا أعيش في مدينة بلا خضرة ولامسطحات مياه، لكني لا أمل من البحث عن صور الطبيعة التي تشعرني بالسعادة، أو البحث عن قصة أو قصيدة تبعث في داخلي الدفء، و أنت أيضا ابحث عما تحبه وعمن تحبه، حتي تعود الألوان للحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تقارير عن ضربة إسرائيلية ضد إيران وغموض حول التفاصيل | الأخب


.. إيران وإسرائيل .. توتر ثم تصعيد-محسوب- • فرانس 24 / FRANCE 2




.. بعد هجوم أصفهان: هل انتهت جولة -المواجهة المباشرة- الحالية ب


.. لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا




.. نار بين #إيران و #إسرائيل..فهل تزود #واشنطن إسرائيل بالقنبلة