الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل مدرستنا تحذق القراءة؟

محمد الحمّار

2017 / 3 / 16
التربية والتعليم والبحث العلمي


إنّ الفكر في تونس وفي سائر البلاد العربية في وضع يشوبُه التشتت الفضيع والتشرذم الرهيب. والحالة تلك، لا يمكن الحديث عن إصلاح تربوي إلا بشرط إقحام إصلاح الفكر والتفكير كغاية للإصلاح التربوي. و في هذا الإطار يندرج الطرح الحالي.

ما من شك في أنّ الحديث عن إصلاح الفكر والتفكير يقتضي إيلاء الفكر الديني الإنساني المكانة الطبيعية في فكر الإنسان العربي المسلم. إذن، بما أن الفكر لا ينفصل عن النص القرآني والحديث فإن إصلاح الفكر و طرائق التفكير، علميا كان الفكر أم اجتماعيا أم اقتصاديا، يعني التحيين. و يستوجب التحيين القيام بعمل تمهيدي يهدف، عبر مخرجاته، إلى تمكين الشباب المدرسي من وسائل تربوية و تعليمية ذات مرتكزات نظرية واضحة حتى يكون فكر المتعلم محينا بحسب متطلبات العصر من جهة والهوية الثقافية عموما بما فيها الهوية الدينية من جهة أخرى.

إذ أقترح تحديدا ما سأسميه القراءة العرضية (الأفقية) كتجسيد للعمل التمهيدي المطلوب فذلك لأنها كفيلة في رأيي بتمكين التقاطع بين التخصصات العلمية و بالتالي بتحقيق التوحيد في الفكر والممارسة وفي ما بينهما أي تحقيق التوازن العقلي والعاطفي للمتعلم.

ما القراءة العرضية؟ وهل هي جديدة بالنسبة لمجتمع مثل المجتمع التونسي؟ من المعلوم أن بلدا مثل فنلندا وهو المعروف بنظامه التربوي الأفضل عالميا قد قطع شوطا جديدا في الإبداع التربوي حيث إنه أدرج ما يسمى بـ "التعليم الأفقيٍ". إلا أنه إذا فحصنا هذا المنوال سنرى أنه عبارةٌ على تغيير في الرؤية العامة للعملية التربوية وفي المنهجية التي تستبطنها، لا تغييرا في المحتوى. و لِجِهةِ أنه تبديلٌ باتجاه الربط بين المواد والتشابك بينها فهو ليس غريبا عن المجتمع العربي الإسلامي بل هو موجودٌ منذ القدم. بناءً على هذا، إذا أردنا تطوير التربية والتعليم فالمطلوب ليس النقل عن فنلندا أو عن غيرها وإنما استخدام المعرفة المعاصرة لتحقيق التعددية التخصصية والتشابك في ما بينها. وأوّل ما نبدأ به هو تأسيس معرفةٍ أفقية بين مدونتين قيّمتَين: مدونة العلوم من جهة ومدونة القرآن والسنة من جهة ثانية. فمن المتوقع أن يؤدي هذا التمشّي إلى قراءة متجددة للإسلام، مما سيؤدي إلى بناء موقف جديد وإيجابي تجاه العلم.

أما ما سيسمح عمليا بتحقيق هذا التمشّي فيتمثل في تحوير المناهج المدرسية حسبما تقتضيه متطلبات القراءة العرضية للنص الديني قبالة المدونة المعرفية المعاصرة وهو كالآتي:

ما من شك في أنّ منوال القراءة العرضية سيكون حجر الزاوية للإصلاح التربوي ككل لأن توخّيه يعني تغيير نظرة المربّين إلى الواقع بكل أبعاده وبالتالي يعني تغيير الزاوية التي يرون من خلالها فحوى البرامج والمقررات الصالحة لمدرسة المستقبل. وبتغيير المنظار تتغير المناهج والبرامج تباعا.

إنّ المدرسة التونسية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بتوخي منوالِ القراءة العرضية لا سيما أنه قد سبق للمدرسة التونسية أن خاضت تجربةً تهدف إلى إصلاح منهجية فهمِ النص الديني لكنها كانت تجربة فاشلة. فالذي كان يسمى إصلاحا لبرنامج تعليم مادة التربية و التفكير الإسلامي الذي قام به محمد الشرفي (1989-1991) أفضى إلى اختزال المدونة الدينية وحصْرِها في مواضيع دون أخرى تطرَّق إليها الإسلام. وقد تم هذا الانتقاء حسب أهواء الخبراء المشرفين آنذاك أي كان انتقاءً إيديولوجيّا. وكانت النتيجة أن جنَى الشباب المتمدرس إما التغرّب أم التشدد الديني (وما انجر عنه من فكر داعشي وإرهاب).

بينما ما أقترحه على المدرسة من منهجية أفقية/عرضية كمِعولٍ لإصلاحات مختلفة في القطاع التربوي فيتسع لأكثر من مادة مدرسية واحدة، وقد يتطلب مادة خصوصية بعينها قائمة بذاتها وقائمة بمهمة تعديل فحوى سائر المواد، ثم إنه يُلغي الانتقاء إزاء النص الديني و يحرّر النظرة إلى الحياة بالاعتماد على المدونة المعرفية العلمية.

أما المرجعية التي يرتكز عليها تمشّي القراءة العرضية/الأفقية فهي القناعةُ التي مفادها أنّ التقاطعَ البنّاءَ ممكنٌ نظريّا بين المدوّنتين وذلك بفضل ميزتَي التناظر والتطابق التي بيّناها أنفا في دراسات سابقة، ما سيؤول إلى تفجير للملكاتِ العقلية والعاطفية لدى النشء وإلى الدُّربةِ على التأويلٍ المعتدل للإسلام وبالتالي على التخطيط المُجدي للواقع.

من زاوية أخرى و لكي لا يصبح هذا الصنف من القراءة تحريرا لتفسير النص المقدس وتأويله بصفة مباشرة، فالتمشي يشتمل على درع واقٍ متين يشتغل ضد كل أصناف التفكير السحري والمزايدات. و الواقي هو لا شيء غير اللغة في بعدها الهيكلي الفطري وكذلك في بعدها الأنثروبولوجي والتداولي والتواصلي حيث إن القراءة العرضية تضاهي تقريبا ما يسميه يورغن هابرماس في مدونته "ترجمة" الدين إلى لغة مفهومة من الجميع. من هذا المنظور الهابرماسي، يكون الخطاب الناجم عن الترجمة صالحا للاستخدام سياسيا في البوتقة العمومية ومن شأنه أن يقي المجتمع من مخاطر التشرذم.

إذن فالذي سميتُه قراءة عرضية /أفقية للنص بالتقاطع مع العلوم هو تمرين يهدف إلى ترجمة المعاني الدينية إلى لغة مُتاحةٍ للجميع. لكن يا تُرى أيةُ لغةٍ يتوجب توظيفها لتحقيق ترجمة معاني الدين في بلد مثل تونس؟ في هذا الصدد ما من شك في أنّ اللغة العربية هي التي يُفترَض أن تكون لغةَ الترجمة (القراءة العرضية/الأفقية) بناءً على أنها اللغة الأم في تونس (مع إيلاء اللهجة العامية مكانة في مسار تطوير الفصيحة).

لكنّ ترجمة معاني النص الديني إلى معانٍ مفهومة بلسانٍ عربي عمليةٌ عسيرة ومُركّبة. فبقدر ما يصحّ القول إنّ العربية من أثرى اللغات إن لم تكن الأثرَى، ما أنّها اليوم في حالة ضعفٍ إزاءَ اللغات الحيّة الأوروبية. فالمعجم العربي يحتوي على آلاف الكلمات والعبارات السالبة التي تلاشت بمرور الزمن بسبب فقدانها لمستنداتها العلمية التي كانت راسخة في الواقع وأيضا فقدانِها للسّند الحضاري حتى خسرت فعاليتها الوظيفية والأداتية. هذا مما يشكّل واحدا من أهمّ العوامل التي تؤشّر على المأزق الذي تعيشه اللغة العربية في الوقت الراهن.

من مخلّفات المأزق أنّ اللغة العربية تعاني من عدم استطاعة الناطقين بها إنتاجَ معرفةٍ علميةٍ مُعبَّرٍ عنها بواسطتها و الحال أنّ أية نهضة علمية وتكنولوجية تتطلب الاستطاعة. ففي الوقت الذي تتواصل فيه الممارسة العلمية بواسطة اللغات الأوروبية وعلى الأخص الانكليزية يبدو لي أنّ المجاراة والاستبدال هما الحل؛ مجاراة اللغة الأجنبية الأكثر إشعاعا في المجال المعرفي والعلمي لكن بِنيّةِ وبهدفِ تعويض المعجم العلمي الانكليزي (في العقل العربي) بمعجمٍ عربي حيّ يكون معبّرا عن العلم الحديث ومهيَّأ لإنتاج المعرفة.

ولئن تفترض المجاراة إتقان اللغة الأجنبية فإنّ التعويض الذي يتمثل في إنتاجَ معجمٍ عربي جديد، يقتضي الإبداع أكثر من اقتضائه إتقان المعجم الموروث (لاسيما الميّت منه). في هذا المستوى يتضح أنّ الترجمة المقترحة إنما هي عملية عقلية تحويلية للمفاهيم من السياق اللغوي الإنكليزي (بما أنّ الانكليزية هي بامتياز لغة العلم في العصر الراهن) إلى السياق اللغوي العربي وليست مجرّدَ تعريبٍ (عقيم) لنصوص علمية.
وبما أن الترجمة تشترط التقاطع بين النص الديني والمدونة العلمية فإن للمفاهيم العلمية الأولوية على حساب المفاهيم الإنسانية والاجتماعية. بل إنّه حريٌّ بأن تخضع هذه الأخيرة للسنن العلمية الثابتة.

في المحصلة يبقى تحويل المفاهيم (من الإنكليزية إلى العقل العربي) مرحلةً ضرورية لتنفيذ إعادة التحويل (من العقل العربي إلى اللسان العربي) من أجل أن يكون النشء قادرا على إنتاج خطاب عربي بقلبه وبعقله لا بلسانه فحسب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة