الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة التسويغ -8-

جميل حسين عبدالله

2017 / 3 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عقيدة التسويغ
منعرجات فكرية
‏-8-‏
يتبع
ومن هنا، فإن التسليم بالإرادة الأزلية، والإنكار لمقتضى المشيئة، ولم يصرح به اللسان الناطق بما في في الجنان من عقائد، وعهود، ولكن ‏ثبت عليه العزم في الإصرار، ورسخ عليه الفعل في الإثبات، هو ما يفرض الخوف من الأشياء المفارقة للذات، والأمنَ معها إذا لبست لباس ‏النفس، وتحويرها، وتحريفها، لأن الخوف من زوال قيم الأعيان بين الأذواق، هو الذي يحولنا إلى لاهوتيين ماديين، ويحكمنا بناموس يقبل ‏الاستعباد، والاسترقاق، إذ العبودية، هي ما انتزع منك إرادتَك، وصيرك محكوما بإراداته. وهنا يكون منزع كثير من الصراع الموجه في ‏أوطاننا العربية بمقتضى الدين بائسا، لأنه تسويغ لصور نمطية اختزنت في الذهن، وتوطنت العقل، وصارت حاكمة على السلوك المختل، والفعل ‏المتناقض، وهي التي رسخت للتصارع بين الموارد، والتحارب بين المعابد، وهي التي دفعت الإنسان في نهاية مقاماته إلى حماية ذاته، ولو ‏أنجر في واقعه ما يخالف عقيدته، لأن قتل الإنسان بدعوى مخالفته لنمط سلوكي معين، ولو لبس لبسة الدين، والطهرانية، وتجمل بالمعنى ‏الإنساني، والأخلاقي، لم يكن مسوغا إلا حين اعتقد القاتل بأنه يهدي دم القتيل إلى عالم السماء، لكي يحتفي أهل الملأ الأعلى بعرس الشهيد، ‏وزفافه الميمون. ‏
وذلك مبني على كون القاتل لم يظفر في حياته برغباته المتعسرة عليه، والمتبرمة منه، لأن سعة الأشياء عن ضيق امتلاكه لها، هو الذي ‏يدفعه إلى الرفض لها، والسعي إلى إفسادها، والتفاني في إهدارها. وما دام الرفض لا يحقق النتيجة المقصودة للعاجز عن كبح نزواته، وقمع ‏غرائزه، ولا يقضي على الإحساس المتألم بها، فإن رغبته ستتحول آليا إلى القضاء عليها، وهو ما يستهديه الإرهابي حين تنفجر شهوته في ‏واقعه المفعم بأنماط أخرى في الزينة، والفتنة، لأنه حين لم يطق الانسجام معها، ولا القدرة عليها، ولا التخلص منها، ابتغى أن ينسف العالم، ‏لكي يكون مالكا للكون بمقتضى النيابة عن الإله في وطن الإنسان، لأن صيرورة ما يحدث في الدول التي تفجر من ديارها الإرهاب الديني، ‏تؤكد حقيقة مطلقة يؤمن بها هذا الوحش الكاسر، وهو نزوعه إلى حقيقة الامتلاك التي يحرم منها في دائرة يحكمها نظام عام؛ وسواء كان ‏نظاما عادلا، أو جائرا، إذ ما يناله من قتل الرجال، وسبي النساء، وغصب الأطفال، وتسلط على الرقاب، وقدرة على وأد المخالف، هو ‏الذي يشعره بالوجود الذي منع عنه في فضاء يسبب له الألم، والشقاء، ويضمن له البقاء ضمن بؤرة يقبض عليها مارد جبار، ومتعنت، ‏ويسودها حاكم يرفع السيف في وجه من يعاند نظره إلى الأشياء المترامية الأنظار، ولو فاصل كل ما تواطأ عليه الناس من أعراف تحمي ‏الحقوق الطبعية في الحياة البشرية. ومن ثم يكون الإرهاب تعبيرا عن عقد النقص الكامنة في الذات المأفونة، لأنه يبرز الإطار المعرفي المتحكم ‏في الكيانات المأزومة، كما يبين لنا كيف ينشأ السلوك في دائرته، وكيف يصير فعل الإجرام مسوغا عنده باسم رعاية حق الإله في الأرض، ‏إذ الإرهاب في نتيجته الجلى، هو انحراف عن خط الحرية الإنسانية في الاختيار، والتقدير، وفرض لمناخ يقبل وزر النفاق، والكذب، ‏ويسستيغ كل فعل يقي الذات من العقاب المفروض بمقتضى آخر، لا يرحم توسل الإنسان، ولا توسطه بالنحيب، والبكاء، لأن معنى العفو ‏ممسوح في ذاكرة الإرهابي، وممنوع في عطائه. ولذا يكون فعله انتقاما لما فقدته الذات من سلطة في محيط لا يعترف إلا بما يضفي عليه القوة، ‏والجبروت.‏
إن النزاع الداخلي الذي يحدث للمتدين حين يخالف قواعد نهجه، وفرائض شرعته، لا يدفعه إلا إلى التسويغ الذي يحوز للذات أن تحوز ‏مجالا يحكمه سياق غير قابل للكدر، ولا للضجر، لأن ما يملكه الإنسان بمقتضى الطبيعة، لا يحتاج إلا إلى السلوك الضامن بأسبابه لغاياته، ‏لا إلى التوسط إليه بسبيل غير مرضي في الضمير الأخلاقي للإنسان، إذ رغبته في الأشياء الممنوحة، أو الممنوعة، لا يفسرها إلا الوسيلة ‏التي يندفع إليها عند إرادته أن يجبر نقصا يحس به. وهذه الوسيلة هي المنظور إليها في الحكم، وهي التي تطوي المسافات بيننا وبين حقائق ‏الأشياء الموجودة لنا طوعا، أو كرها، لأنها هي المحددة لنا حين يعز الافتخار بامتلاك المعاني، لأن حيازة معرفتها، واكتساب حقيقتها، هو ‏الذي يبين قيمتها، ووزنها، إذ معرفة ما يتقوم به الشيء، هو الذي يجعله مطلوبا، أو مكروها. وإذا انبطحت في المجتمع معاني الأخلاق، وصار ‏الرديء جيدا، والشريف وضيعا، شرعت الأبواب على التنصل من الحقيقة التي اختُبرنا بمقتضاها، وابتلينا بمعاناتها، لأن الالتزام الحق بالعقد ‏الذي نوقن به، ليس في تيسير السبل إليه، بل في إحياء روحه بين المحتشدين على قتله، وموته، لأن قيمة الأشياء الجميلة، لا تنال إلا ‏بالعروج على طريق القباحة، إذ هي التي تؤدي بنا إلى كل فضيل، وجميل، لأن وجود الشيء في اليد بدون اختبار لألم فقده، أو بدون ‏ابتلاء بما ينتجه ضده من ضرر، لن يصيره كاملا في العين الراغبة في زوال الآلام عن المعاني المتضادة، ما دام الحرص عليه لسبب آخر غير ‏ما وضع له عند تعاقب الرغبات في تحديد الوجه الأكمل منه، لا لسبب كونه ذاتا مرغوبة بالقول، ومقصودة في الفعل. ‏
ومن هنا، فإن ما درجت عليه عقولنا من اعتقاد تمحض الخير في الوجود، ونسبية الشر في الحدود، هو السبب في اعتبار كل طاهر غير ‏قابل للدنس، لأن توحد الصفة في الذات، ومن غير اعتبار لما يعتريها من سلب، أو إيجاب، لن يفضي بنا إلا إلى الحقيقة الواحدة. وتلك هي ‏عقدة كثير من الخطابات الدينية، بل حتى السياسية، لأنها إذا أصرت على وجود لحظة صافية في الكون، وأرغمت غيرها على النظر بهذه ‏العين التي ترى بها الحقائق، فإنها لا محالة، ستنفي ميلاد الشيء من نقيضه، وستبني مستقبل حلمها على نظرة أحادية الرأي، والموقف. ‏ولذا، فإن الضد هو الذي يمنح الشيء قوة المبنى، ويمنع من تفرده بالوحدة في المعنى، لأن وجوده معلول بخفائه، إذ لا يجوز أن نحكم عليه ‏بالعدم، وهو حقيقة في إثبات الازدواجية التي جعلت كل شيء زوجين. ومن هنا، فإن حركتنا من أجل الوصول إليه، لا بد أن تمر عبر ‏طرقه المعهودة، وهي امتزاجه من الضدين المتناظرين، لكي يحصل الخيار لأحدهما في الطبيعة، ويتم التكليف به في الإرادة، والحرية، لأنه ‏يتعذر أن يكلف المكلف باتقاء الشر في محيط لا يقبل وجود بوادره، وروافده.‏
‏ لو قيل بهذا في عقل من العقول المسطحة بهواجس الأوهام، فإنه قد أراد الوحدة بلا كثرة، والوجود بلا عدم، والحقيقة بلا خيال. وذلك ‏منسوب في الكلية إلى عالم الإله الذي لا يقبل الأضداد، لكن عالم الأشياء، وهو مزدوج الرغبات، موجود بهذه الفطرة، والجبلة، وهي التي ‏يتضمن صراعها الذاتي في الظاهر والباطن معنى الابتلاء، إذ التمحيص لا يحدث إلا بعد إحراق الذات من أجل الوصول إلى لحظة ‏الاختراق، وهي الساعة التي تُكسب للصراع معنى التألم في درك الحقيقة. وذلك هو مقتضى المجاهدة، لأنها هي الطريق الأوحد لنيل صفة ‏الوحدة غير المنفصلة عن الكثرة بالمشاهدة، إذ هي في عالم الازدواج طبع أصلي، لكنها في عالم المعنى قيمة معنوية، لأنها الدالة على تفرد عالم ‏الروح بالحقيقة. ‏
إن تشابك المعاني في دلالة النصوص على المقاصد، هو الذي يثري المجال بالرؤى المختلفة، والمواقف المتعددة، لكن ادعاء امتلاك الحقيقة، ‏والتطاول عليها بقراءة معينة، قد أدى إلى جعل موضع الغنى محلا لإنبات مسببات الفقر، لأنه نتاج الإنسان الذي يبس عود الحياة في ذاته، ‏واسودت الآفاق بين عينيه، واضمحلت الآمال في يومه، وتلاشت أنظاره عن غده. فإن نظر إلى جهة السماء أدرك لها بابا واحدا، وإن ‏أرخى نظره في منتهى قدمه، رمق أمداء شاسعة، وأبعادا غير متناهية، فيخالها عامرة بأشباح مخيفة، وغارقة في سراب لا نهاية له، لأنها ‏تدبر المجهول الذي لا سلطة للإنسان عليه، وتضع خطوطا للطريق الذي تُفنى المهج في طي طوله، وغاياتٍ تحددها العقول المتضيقة من ‏واقعها، والمتألمة في حياتها، فلا تجد لها إلا تأويلا ينزف بنتائج وخيمة، وعواقب رديئة، لأن سبل الوصول إليها غير مأمونة الغوائل، إذ ‏تصَوَّر النهايات بدون مراحل، ومنازل، وتخمَّن الغايات بمنتهى الأمل، والأمان، لأن غايتها هي النتيجة، وهي التي تنتقيها العقول من صخب ‏الأماكن، وضجر الأزمان، لكي تكون نقطة فرح تلمس فيها النفس دواءها، وشفاءها. ‏
ومن هنا، فإن هدف الإنسان فيما يختار له أعسر السبل، وأطول الآجال، هو الإحساس بما يكسو به الذات من جمال عند امتلاك عينه، ‏وأثره. ولهذا، يكثر التسويغ لدى هذا الباب المفتوح على اتجاهات عدة في التفكير، لأنه مجال تعتريه مدارات النفوس بما يكمن فيها من ‏نزوات، وشهوات. وما دام ذلك يدل على مركب الذات، ومجموعها، وهي كل فيها من إغراء، وإكراه، واشتهاء، والتباس، فإن محاولة ‏ترويح الذات بما تهديه إليها عملية استساغة تمازج الضدين في التنافر، هي التي ترفع الحرج، والكلفة، وتسرح الطاقة في ميدان الامتلاك، ‏لأنها ومهما تواطأت على التأنيب، والتقريع، فإن تآلف الإنسان مع الأشياء، وإلفها لما يحدث عنها من متعة، قد يجعلها مع عقدة الخوف ‏والحرص جزءا من الكيان. وربما قد يكون ذلك مما تقوم به من كساد، وعناد، فيستوجب الإحاطة بكل ما يمنعه من الزوال، ويدفع عنه ‏كل ما عساه أن يبدد جرمه، ويهدم لذته، ويقضي على جدواه، ويميت معناه. ‏
وهكذا، فإن التوسط إلى نيل ما ليس للإنسان بالموهبة، والقدرة، وكسبه إياه بالقوة، والجدة، وحرصه عليه بمنتهى ما تمليه عقدة النقص ‏البارزة في استعلاء الخارج بالمظهر الخادع، لن يصير حديثنا عن الإنسانية إلا نفاقا نخدع به من يألفنا، أو من يكرهنا، لأننا لم ننظر إلى ‏الآخر بالنظر الذي نحمي به ذواتنا، إذ لو شاهدناه قائما بجرمه المادي، والروحي، لما عن لنا أن نحرمه مما يحق له فيه الطبيعة، لأننا لو ‏طلبنا ما نحفد إليه بوساطة سببه الذي يصوغ ماهية وجوده، لانتهى زمن التسويغ لعقدة الخوف من مجهول الديار، والدروب، إذ ستنال ‏الأشياء بأحقية كل مهيأ لها بحكم الفطرة، أو الكسب، لأنها إما حائز له، وهو ملك لقوته، وإما نافرة عنه، وهي جهد لمن استوجبها ببذله، ‏وعطائه، لأن الأشياء الخالدة لذاتها، لو تركناها على ما هي عليه من مطلقها، ولم نتدخل فيها بالتغيير، والتحوير، لنطقت بحقيقتها، ‏وجدواها، ولقالت: روح الأشياء، لا تمنح إلا لمن أحسن الأدب معها.‏
‏ أجل، لو كان حماة المال مالكين لروحه، لانبجس من يدهم معين حقيقته على الطبيعة، لكنهم عاشوا معه بلا معنى، فكان خرابا بين الأماكن ‏المطلولة بالفقر، والمجللة بالحرمان، إذ لا يستقيم وضع محاربة الفقر في أطاريحنا الثقافية، والاجتماعية، إلا إذا كان ما نتداوله بيننا من إنسانية ‏فذة نافذا إلينا بعطائه، وسخائه، لأن روح المال التي تأسر لبنا بالجمال فيه، هي التي تجعله إنفاقا في كل ما يخصب رغبة الإنماء عند ‏الإنسان، وفعل العمارة، وسلوك الحضارة، لكن إذا ضاع منه ذلك السر الذي يحكم معناه، وهو تحصيل السعادة الفردية والجماعية به، فإنه ‏لا ينبعث منه إلا الاستكبار، والاستعباد. ومن هنا، يجب علي أن نتساءل، لم يطلب الإنسان ما ليس له، وهو موقن بذلك، ولكنه يسوغه ‏بالدين، أو بالوضعية الاجتماعية، أو بمأثرة يقدمها بحكم وظيفته الوجودية.؟
‏ إن ما يعترض سبيل الحرية في أوطاننا العربية، هو هذا العقل المسوغ للنقيض بدليل الاتفاق، والالتئام، والمجوز للخلاف فيما هو محل غير ‏قابل للعراك، والصراع. لكن أخبث شيء يمكن أن يضاف إلى ما في التسويغ من أنانية مفرطة، وهويات مفرغة، هو ما يغل به الآخرُ هذه ‏الحركة من قيود المطلقات التي حددها لنهج ذاته، ومورد حياته، وآصارِها التي تحجبه عن دروه الأساس في الوجود، والكون، والطبيعة، ‏لأنه متضارب في حقيقته، ومتناقض في غايته، فكما يؤمن بشرع الله الذي يحارب بسببه، فهو يؤمن بشرائع أخرى، تمده بالنفس الطويل في ‏اقتناء زينة ظاهره، وأقواها أثرا في صياغة كيانه، هو شرع الذات الممتحنة بأوضاعها الراكدة، ثم شرع المجتمع الممتلئ بالإرادات المتنافية، ‏والمتصارعة، إذ شرع الذات يعلمها التسويغ الذي تنال به القدح المعلى في موفور الهناءة، وشرع المجتمع يروضها على قبول النزول عن إتمام ‏ناموس الكلمة المشتركة بين الناس. وهي إقامة العدل في الحياة الفردية، والجماعية. وكلاهما يساقان في مساق واحد، وهي رغبة الذات في ‏البقاء، والحرص على كسب الصفاء. ‏
لعل ما يستساغ من أفعال سيئة باسم الدين، أو بمعنى المطلق الإلهي، لا يصير محل رضى في استمرار الصيرورة البشرية، واستدرار ما في ‏الأزمنة من رياش، ورفاهية، إلا إذا وجدت في حدود المفاهيم ثقوب قابلة لأن ينسل منها ما يغِير على سيرة المجتمع، ويغيِّر ما هو محدود في ‏شرعة التآلف، والتكاثف، إذ لو كان متمكنا في أمكنية اسمه، ومنع من صرف معناه عن حقيقته، لما استطاع منتحل لصفات غيره، وهو ‏ثعلب مخادع، ومراوغ، أن ينفذ إلى شرايين الأشياء الجميلة المبنى، والمعنى، فيهيل التراب على أساسها المنطقي، لكي يسقي شجرة أنانيته ‏المستعلية على أرض الفضيلة. وهنا، نكون أمام مجتمع يتحدث أفراده عن الإنسانية، ولكنه في سياق جماعيته، لا تحتويه ذات متوحدة حول ‏الحقائق المشتركة، بل سيصير مع نزو الحذاق على سطحه بطرق ملتبسة ميدانا لصراع الملكات، والإرادات، ونزاع الذكاء، والدهاء. وما ‏أصعب العيش في مجتمع لا تقاس فيه قيمة الأشياء بما تحققه من صيانة الإنسان نوعا، أو جنسا، وإنما تقدر فيه بما ينفرد به كل واحد من قوة ‏الامتلاك اللامع بريقه على الجباه، والهامات. إذ لو سار المجتمع بقوته إلى نيل الغايات المحمودة، لما توقف العقل عند تسويغ محدد في ‏البدايات المذمومة، لأن ذا يريد أن يكون الأمر فيه صاعدا، أو هابطا، وذا يريده أن يكون خرابا، أو بناء، لعله يفضي إلى نزوته في ‏السيطرة، والاستحواذ، وإذ ذاك يؤسس لخيمته التي تجوس حول ظلالها الظباء، والغزلان، وتعزف بين آطامها ألحان القيان، وتعاقر في ‏عمقها دنان الصهباء العتاق، لأن ما توحي به الأجساد الممشوقة من معنى في التحقيق، هو الذي يغرق في تذكر العهد الغابر، حيث ساد ‏الأدب بكل صنوفه، وضروبه، فكان غلمة، وفتوة، لأن عقل كثير من أولئك الذين عاشوا تحولات الفكر العربي، يوقنون بأن ماضيه ‏تكتسحه جاذبية مغرية، ومثرية، لأنه كان مجلسا مضمخا برائحة ما انفصل عن الإنسان من عفة، ومجون، إذ ما يطوى البساط عليه من ‏أخبارهم، وحكايتهم، ما هو إلا نزوع نحو الحرية التي تخفف عناء الحرج بما تبسطه من ساعات للتندر، والتفكه، والإحماض. ‏
شيء مما تظرف به التاريخ العباسي، والأندلسي، سيقودنا إلى حلم الدواعش، وهم يتخيلون إماما بعمامة سوداء، يخرج من سرداب الفساد، ‏والظلام، لكي يتوكأ على عصا معقوفة، ثم يعلن صوت الرب في الأرض، ويقيم الصلاة على الأشلاء المحروقة، والجماجم المدهوسة. أجل، ‏سيكون اللون معلما واضحا على رؤوس اعتمت بالسواد، وتنقبت به، وتجملت بأسماله بين الديار، فلا تكاد ترى من ورائه إلا سفعة ممزوجة ‏ببياض يذبل نوره بين ذوات شربت حميا الوجع، والوله. فيا ليت البياض كان أصلا في استحقاق جمال الألوان، لعلنا نبدد ما حولنا من ‏عتمة، وظلمة، ونجدد العهد مع بياض كامن فينا، ولا نحتاج إلا إلى فضاء لينير نجمه. لكن الغبن الذي لحق العقل عند سيطرة نزيف الماضي ‏عليه، هو أنه يسوِّد الأفق المتهلل بالآمال الحانية، لكي ينعكس ذلك على الوجوه الشاحبة، ثم يتسلل إلى أحشاء الأعماق الغائرة، فيكون ‏التظاهر بلبس السواد دينا، والتوري وراءه تقوى، والتذلل به اتزانا. فسمه ما شئت، وصفه بأي وصف أردت، فهو غلاف للعقل، وغطاء ‏على التفكير، لأنه لا يدبر أمر لازم لونه، إلا ليستبد الظلام على رسيم الذوات، فيصير الإنسان كائنا ليليا، لا ينظر بحدة إلا إذا ادلهمت ‏السماء، وبدا وجه الأرض كئيبا، وحسيرا، إذ لا يرى ستره إلا في الظلام الدامس، ولا يجد لذته إلا في السواد الداكن. وإذا لم يعش في ‏سدفته، قلقت منه الذات، والمورد. ‏
هكذا يحاول الفكر المترنح بالسواد أن تلبس الذات منظار الحذر على عينيها، وتخلع رداء الأمل عن كيانها، لأنه تداهن لذاتها، وتغازل ‏غايتها، ولو تعارك الناس في سبلها بأنجس الأسباب، وأحقر الوسائل، إذ ما نراه جميلا بأعيننا، قد لا يستحق ذلك إلا في أذواقنا، لأننا ‏إن لم نكن محاصرين بما يتمايل طربا في أعماقنا، فإننا سنبني قيمنا على المراد منها، وهو تحقيق المساواة في المجتمع، لئلا تضيع الفروض بهذه ‏الفرص التي تبتهل بأنجس النيات، وأخس الوسائط، لأن اقتناص الهدف المندفعة إليه النفس في أحط دركات وعيها بالآخر، لا يدل على ‏النظر إلى روح الأشياء بدقة، بل يدل على انتهاز الحظوظ أحيانا، وأحيانا يدل على حيل تخفى الإنسان بين خدعها، وتدنى إلى قاع ‏مكرها، لأن الماهر بمعرفة الأشياء التي وجد طِلابها بالحقيقة، لا يفتقر إلى دسيسة حتى يستكين له الطلب في ناموس الكون، والطبيعة، بل ‏جهده واثق من قيمة الامتلاك الذي هو حق وجودي، وطبعي، إذ الحق لا يمنحه إلا القوي، ولا يناله إلا مستحقه، ولو بدا في عين سراق ‏المسرة ضعيفا، ووضيعا. وإذا تجاوزه إلى غيره، أيقنا بوجودنا بين أطلال مجتمعات تحكمها الأنانية الفردية، وتغلب عليها قيم الغابة الموحشة. ‏وإذا تعالت عن أفق البصر المرخى عنانه نحو المجهول، استحوذت على ما سواها من معاني السمو، والكمال. ‏
إن أول شيء سنفقده عند سطو الرديء على الجيد، هو دور العقل الباقر للمعاني من الحقائق التي سخرت للإنسان في الطبيعة. وإذا زالت ‏عنا وظيفة التفكر في المسير، والتدبر للمصير، ولم نستطع أن نجاهر به، ولا أن نصرح بمقتضاه، ولا أن نفاخر بغايته، كان الحياء في خوفه ‏وخجله إذلالا، ومهانة. كلا، بل من أوجاع الزمن البائس، أن يعتبر الوفاء ضعفا، والخيانة عقلا، لأن لبس الأشياء لمعان غير حقيقتها، قد ‏يفضي بنا إلى النزاع، والصراع، ويدفع بنا إلى أن نتحاور على شيء لا معنى له، وأن نتناجز على حقيقة لا تستقل بالوجود، لكي تكون لها ‏معالم واضحة، وملامح ضافية. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عودة جزئية للعمل بمستشفى الأمل في غزة بعد اقتحامه وإتلاف محت


.. دول أوروبية تدرس شراء أسلحة من أسواق خارجية لدعم أوكرانيا




.. البنتاغون: لن نتردد في الدفاع عن إسرائيل وسنعمل على حماية قو


.. شهداء بينهم أطفال بقصف إسرائيلي استهدف نازحين شرق مدينة رفح




.. عقوبة على العقوبات.. إجراءات بجعبة أوروبا تنتظر إيران بعد ال