الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موسم الهجرة الى الشمال... والتخلي عن الذات

منير ابراهيم تايه

2017 / 3 / 21
الادب والفن


تعتبر رواية "قلب الظلام" لكونراد من اشهر الروايات العالمية، كما يعد كونراد احد اشهر الكتاب الانجليز وربما احد الكتاب الاربعة الاوائل في تاريخ اللغة الانجليزية، وترجع شهرتها كونها وثيقة ادبية وتاريخية وريادتها في في إدانة الإستعمار الإوربي..
وتنبع أهميتها من انها تمثل شهادة أدبية لرجل أبيض شكك في المهمة الحضارية المزعومة التي اعطت اوروبا بموجبها الحق في استعمار الشعوب التي كانت تصفها بالبربرية والتوحش، فقد اعتقد الااروبيون ان لديهم مهمة حضارية ورسالة انسانية تبرر حكم هذه الشعوب واخصاعها لسيطرتهم وهي اخراج هذه الشعوب من ظلام الجهل والتخلف الى نور الحضارة والمدنية. هكذا كانوا يبررون توسعهم الامبريالي، فجاءت رواية "قلب الظلام" لتفضح زيف هذه المهمة الحضارية..
"تلفت يمنة ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة"
مجاز لخص به الراوي في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، حالة الضياع، الانقسام والصراع التي يعيشها المواطن في دول العالم الثالث..
اذا فان الهوية الوطنية والمواجهة بين الثقافات والتأثير على الهوية الأصلية هي من المواضيع المتكررة في الادب، وخاصة ادب ما بعد الاستعمار. هذا الأدب يتناول الاتصال الحضاري والجنسي بين المواطنين والمستعمرين وتأثير هذا التمازج الثقافي على الهوية الوطنية. ومن خلال هذا الاتصال الثقافي، غالبا ما تصبح الهوية الأصلية عرضة للضياع والتفكك، انها تقدم صورة من صور التوتر بين الثقافة الأوروبية الغربية والثقافة الأفرو ـ عربية الشرقية.
ان هذا الاتصال الحضاري بين المستعمر الأوروبي والمستعمر يتجلى في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، فبعد خمسين عاما تقريبا من ظهورها، لا تزال الرواية طازجة، كيوم ولادتها، وربما لم يكتب عن رواية عربية كما كتب عن "موسم الهجرة إلى الشمال" ولم يدخل كاتب عربي التاريخ بعمل كما فعل الطيب صالح، فالرواية أسطورته الشخصية التي عجز هو ذاته عن مجاراتها، لتكون رواياته الأخرى مجرد ظلال للعوالم التي خلقتها موسم الهجرة، فما زالت تثير الكثير من الجدل في الأوساط الأدبية العربية، سواء من خلال الكتب النقدية التي خصصت لتناول هذه الرواية، أو تلك الكتب والدراسات التي منحتها حيزا مهما فيها.
الرواية مبنية على ركنيين أساسيين، يتمثلان بالبعد التاريخي والسياسي، خاصة بين المستعمِر "بكسر الميم" والمستعمَر "بفتح الميم" الذي اختبره الكاتب واعتملت في نفسه تجربة التمزق، الأحلام والأوهام ذاتها التي يعيشها "مصطفى سعيد"، بطل الرواية الذي عاصر الاستعمار البريطاني للسودان ودرس في مدارسهم وتعلم لغتهم وبعد أن برز نبوغه العلمي أرسلوه ليكمل دراسته في لندن، وفي عمر 24 عين محاضراً اقتصاديا في جامعتها، ليعده الاستعمار ليكون تجسيدا لرمزية الأرض القابلة لأن تكون مصدرا لتغذية المصالح الامبريالية المخبوءة، ليؤكد الطيب صالح في هذه الرواية الكذب والخداع الكامن في الأيديولوجيات الاستعمارية الاوروبية ويبين أثر الاستعمار المدمّر على المستعمر. ويصرّح وبصورة واضحة أن "المهمة الحضارية" للاستعمار البريطاني في السودان تحوّلت إلى أن تكون كذبا لاستغلال الأراضي الأصلية وأناسها. أثناء محاكمة مصطفى سعيد في لندن قال له بروفسور ماكسوول فستر كين أحد أساتذته في جامعة أكسفورد "أنت يا مستر مصطفى سعيد خير مثال على أنّ مهمّتنا الحضاريّة في إفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تنفيقك كأنّك تخرج من الغابة لأوّل مرة...
إن صالح جعل الشخصية الرئيسة في روايته "مصطفى سعيد"، ينتقم لعذابات الجنوب/ الشرق من الاستعمار على المستوى الجمعي بما ظنه إنجازا على مستوى فردي، بأن جعله ينتقم من العدو في عرضه بإغواء النساء في المجتمع البريطاني، وإيقاعهنّ في شراكه، وممارسة الجنس معهنّ، وانتحار ثلاث منهنّ بسببه، وقَتْله للشخصيّة النسائية الرئيسة (جين موريس) في نهاية علاقته بها انتقاما لكرامته، أو هكذا أراد أن يصوّر المسألة وقد كان لهذا كلّه تأثير واضح في القرّاء بما مثّل شيئا من التّعويض عن الهزيمة، والانتقام للكرامة، فماضي مصطفى سعيد في لندن هو ماضي المنتقم من الاستعمار، انتقام من خلال النساء اللواتي استدرجهن واوقعهن في غرامه وساهم ولو بطرق غير مباشرة بدفع بعضهن الى الانتحار وقتل واحدة منهن والنص في الرواية يعترف أكثر من مرة بمقولاته "اني أسمع صليلا في قرطاجة.. خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس.. وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف .
المسألة ليست فردية تخص بطل الرواية وحده، وتنتهي بنهايته، كما أنها ليست مرحلية جيلية، يتراجع الإحساس بها مع مرور الزمن، وتعاقب القراء، بل الرواية أشد عمقا فمصطفى سعيد، واحدة من الشخصيات التي يعمد المحتل والمستعمر لتبنيها وبنائها كما يجب، كي تخدم مصالحه في مرحلة من المراحل، لذلك، فهو يختار الأفراد الذين يتمتعون بالذكاء ويملكون الشخصية القوية والجرأة والشجاعة، ويرسلهم للتعلم ورفع كفاءتهم ومستواهم، على الصعيد العلمي والعملي، ولا يبخل في الصرف عليهم وإغداقهم بالمال والامتيازات المادية، وعلى الصعيد الشخصي، ناجح ومتفوق، تجمعه صداقات وعلاقات وثيقة مع صفوة المجتمع الإنجليزي، ويحظى بوظيفة محاضر للاقتصاد في جامعة لندن، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ينشر كتبا مثيرة للجدل باللغة الإنجليزية، وتتهافت عليه النساء، ويعيش حياة أقرب إلى الرفاهية والرغد، وتنبئ المؤشرات بمستقبل مرموق ينتظره ويصعد به إلى القمة، شريطة أن يقبل الذوبان في نسيج المجتمع الإنجليزي، اذا، الأمر ليس شخصيا والصدام مع الغرب لا ينبع من خيالات ذاتية، تصنع التوتر والضيق والاضطراب.
انها إشكالية الهوية التي تطرحها أوروبا ؟
اوروبا التي تعيش هذا الصراع الان وتريد ان تحافظ على قيمها بان تفرض على المهاجرين والقادمين اليها أسلوب حياة قد لا يتفق مع ما يراه هؤلاء طريقة مناسبة للعيش حسب قناعاتهم. والسؤال: أليس من حق أوروبا أن تحافظ قيمها التي رسّختها على مدار السنين؟ أليس من حق فرنسا مثلا أن تظل فرنسا؟
موسم الهجرة تقدم جوابا: كلا، ليس من حق فرنسا ولا أوروبا ذلك. ليس من حقك أن تكون مستعمرا لسنين طويلة وتغير العالم ثم تطلب من العالم أن يتركك وحدك. هذا هو الجواب الذي تقدمه الرواية، اختفاء الهوية النقية،. الجاليات الجزائرية والمغربية في فرنسا ليست موجودة هناك بناء على صدفة تاريخية، ولا لمجرد السعي نحو حياة أفضل، بل هي موجودة نتيجة للاستعمار الذي بدأته فرنسا في الجزائر، وهذه الجاليات، في فرنسيتها، لا تقل شأنا عن أي فرنسي آخر: فرنسا هي المكان الذي يحتضن الجميع، بشروط من حق الجميع المشاركة ديمقراطيًا في وضعها، وإلا فإن الاضطهاد هو النتيجة. ولا يمكن لفرنسا التعامل مع بعض مكوّنات المجتمع باعتبارها حالات طارئة لا تنتمي إلى فرنسا النقية. فما هي فرنسا النقية؟ انها فرنسا يصنعها الفرنسيون، ويعيدون صناعتها دوما، والفرنسيون اليوم أجناس وأعراق وأديان شتى، لذلك فان قضية اللاجئين والجاليات في أوروبا تشير إلى مشكلة أوروبا ذاتها: أوروبا التي تصر على أنها ذات هوية ثقافية تفصلها عن الآخر، ونفس اللحظة تريد أن تعيش عصر ما قبل وما بعد الاستعمار. تريد أن تكون "أوروبا" عصر النهضة بمميزاته، و"أوروبا" الاستعمار ، بمكتسباته.
تعد الرواية من أهم الروايات العربية التي تعرضت إلى الصدام الثقافي والحضاري بين الغرب والشرق، وإلى المهاجرين من الشرق، لغة السرد أنيقة ومتينة، لغة الراوي سلسة تمتاز بثراء المفردات وقوتها وأسلوب السرد كان مزيجا بين المباشر والرمزي، وربما تتفاوت الاراء من قارئ إلى اخر حول مغزى الرواية..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة