الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة المخاتلة

هيثم بن محمد شطورو

2017 / 3 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


ذاك الرجل العاري تماما في قلب ساقية الزيت إبان 11 جانفي 2011، في تلك الأيام الأولى للميلاد الجديد الزاهي العطر برائحة جديدة على الأرض بمجملها، في ذاك السحر الخلاب، الرجل العاري الذي لم نعرف له اسما و لا نسبا في منطقة يعرف بعضهم بعضا. سألنا عنه فلم نجد له معرفا، و الشرطة أيامها شبه منعدمة في الشوارع التي نظمتها روح الثورة النبيلة قبل أن تـتراكم عليها الأوساخ من كل حدب و صوب..
الرجل العاري تماما طويل نسبيا و ممتلئ الجسم قليلا و ذو وجه وسيم و إيره لم يكن محجوبا و إنما الخجل من النظر إليه جعله محجوبا إلا في بعض اللحظات التي يسرق فيها النظر نفسه عن كوابحك فتجده فحوليا.. الرجل لم يكن يقوم بأي حركات متـشـنجة و كان نظيفا و كان لا يكلم أحدا و لا يهاجم أحدا و لا يقف أمام احد و إنما يمشي بخطوات سريعة هنا و هناك.. كأنه مبعوث الأكوان الأخرى قد تجسد في بشر ليرسل رسالة بليغة كنت قد عبرت عنها في حينه و اليوم يقـفـز من جديد إلى الذاكرة.. الرجل العاري تماما قال أن الثورة فعل تعري تام.. الثورة تعري الجميع أمام أنفـسهم و أمام الجميع.. يا لرعب صدمة العري الكلي.. الكل العاري من كل حقيقة أو ماهية.. جميع الأردية السابقة بالية و قبيحة أمام لحظة العري المقدسة..
الإنسان العاري الوحيد كان طيفا و لكنه واقعي رآه الجميع و شبه مخدر عام جعل الجميع لا يستـنكرونه. انه فعلا عبر عن اللحظة الثورية في كليتها بما أنها عراء تام و تعرية تامة.. لم يهجم عليه احد ما.. و إنما انسحب من المشهد بعد بضعة أيام من ظهوره المتلاحق.. الإنسان العاري كأنه نداء من التاريخ السحيق قبل آلاف و آلاف السنين الذي كان يعيش وحيدا حرا مستـقلا بين الأشجار..الفردوس المفقود.. الثورة نداء الفردوس المفقود..
***
و تصور أن لهذا الحدث الجليل و الجرس الكوني الرهيب الذي دقت ضرباته المزلزلة في تونس ليزلزل الأرض برمتها، أن يأتيك دجال من اكبر دجالي النظام النوفمبري لمحوه بجرة لسان قائلا أن الحدث الهام في تاريخ تونس هو انقلاب الجنرال "بن علي" في نوفمبر 1987، و أن المرحلة الحالية شبيهة بالحرية التي عرفتها البلاد من ذاك التاريخ إلى أواخر 1989. فكأننا لم نعـش تلك الأيام و أي حرية شهدتها البلاد حين تغلق جريدة "الرأي" لمقال كتبته الصحفية المناضلة "أم زياد"؟
و يسترسل البوق النوفمبري السيد "برهان بسيس" ليقول أن التاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلة، أي أن الانـقلاب على الحرية سيأتي و انه احد عناوينه بعدما قبل صفقة دخوله لحزب "نداء تونس" لتـبـيـيض وجه رئيسه ابن الرئيس "حافظ قايد السبسي". المنصب الذي عرض قبله على الكاتب " الصافي سعيد" و رفضه. من الأكيد أن الأخير أكثر ذكاء. فهذا الحزب انتهى و ما "برهان بسيس" إلا مخاتل بالأفكار و الكلمات فخاتله العقل الكلي ليسارع إلى المقبرة ليس لحضور جنازة و إنما ليكون مع المدفونين لهذا الحزب المهترئ، الذي لم يتبقى له سوى استيراد الشيخ "فريد الباجي" مقابل شيوخ حركة النهضة، و البوق النوفمبري "برهان بسيس" مقابل اليساريـين..
"برهان بسيس" في حضوره التلفزي الأخير ما هو إلا محاولة بائسة في قلب جميع القيم التي أفرزتها الثورة. يعلن نهاية الثورة.. ما علاقته أصلا بالثورة ليعلن نهايتها، و هل لأي كان مفاتيح الثورة ليغلق أبوابها؟ يبدو بوضوح أن السيد "برهان" لم يبرهن إلا على الاضمحلال النهائي لتاريخ العدمية السياسية في تونس.
كان بإمكانه الامتـناع عن أكذوبة "نداء تونس"، لكن تاريخ الثورة التونسية يخاتـلنا لنظهر عراة. تونس قـلب الثورة لذلك لم تـنحرف عنها. الثورة تجادل نفـسها و تـنـفي نفـسها ثم تـنـقـلب لتعترف بنفسها و هكذا دواليك.. صدمة الثورة على السيد "برهان بسيس" يعرفها الجميع حيث الاعتكاف و استرسال اللحية و السجن، ثم فجأة يظهر في قناة تلفزية ثم منـشط لبرنامج حواري سياسي فيلعب بما لديه من مهارات، و كاد أن يصدق و كذب المنجمون و لو صدقوا، و تماهى مع الأحداث ثم فجأة الإعلان عن مغادرة الساحة الإعلامية التي خاتلته الثورة عن طريقها، ليعلن انضمامه إلى الحزب الميت بالقوة "نداء تونس" ليوحي انه أتاه مبشرا بفك التحالف مع حركة النهضة الميتة بالقوة و بالفعل بدأت جميع أطرافها تتآكل، و بالتالي صراع الأموات لا يحفزنا إلا إلى تأثيث جنازة مناسبة تليق بالعار السياسي الذي أفصحت عنه الثورة دون رتوش..
صراع على السلطة لأجل النهب و الغنم دون أدنى ذكاء في كونهم على شفى الهاوية لأرض غير مستـقرة بعد.. كان بالسيد "برهان بسيس" يريد بإرادة اقـتدار طموحة جدا و فضيعة جدا في نفس الوقت ليس أن يسرق نار الآلهة بل أن يكون إلاها يوقف الثورة و يعدمها في الوقت الذي أعدمته و أوقـفته بمخاتلة عظيمة أغرته فأنـشـته فأماتـته.. كأننا به ينتـقم من لحظة الصدمة.. كأننا به ينتـقم من اضمحلاله الأول تحت وقع خطوات الثوار الأجلاء..فأي غرور هذا؟
أي خطاب شعبوي بائس؟ انه يخاطب الناس العاديـين اللذين لا يؤخرون و لا يقدمون في مسرح التاريخ أو الثورات.. يرفع راية "النوفمبري" لأولئك اللذين أعجزهم فهمهم البسيط للأمور فاخذوا يتـنادون بعودة "بن علي". غبار الأفراد لان الفرد الحقيقي هو مسار وعي و هؤلاء في السياسة و الأفكار و ميادين المعارك التاريخية الكبرى ليسوا حتى متـفرجين بل هم خارج المسرح تماما.. تصور أن السيد "برهان" أشاح بنظره عن جميع الكلاب الشرسة و جميع الأنياب البارزة لليوث الوغى، و كأنه في لحظة سكر هائمة لا يخاطب إلا نفسه متمنيا عودة الذي كان و إن كان في شخص "حافظ قايد السبسي" اليوم. و كأنه لم يستمع إلى "أم كلثوم" حين قالت بنبرة ساخرة "عايزنا نرجع زي زمان، قل للزمان ارجع يا زمان"، و رجوع الزمان مُحال.. و "إن رأيت أنياب الليث بارزة، فلا تضنن أن الليث يبتسم"، عن المتـنبي يا سي برهان..
***
و انك في حضرة الثورة العظمى لا يمكنك أن تـقـف بإجلال في تجليها السياسي إلا أمام "الاتحاد العام التونسي للشغل". فهو قائدها و فاعلها السياسي أو هو محراثها و جرارها و موقد أيقوناتها.. ذاك أن الاتحاد تركيبة عجيبة و غريبة و قدرة مذهلة على رص الصفوف و على الزحف على الشوارع و إن كان في يوم حار و في رمضان مثلما حدث مع حركة النهضة أثـناء زحف طردها من الحكم.
اللحظة المتعرية للثورة أفصحت عن اضمحلال جميع الأحزاب السياسية و جميعهم ترعبهم الثورة بمن فيهم الأقرب إليها و هم من يكونون اليوم عنوان "الجبهة الشعبية". العاري تماما كم هو مرعب للمزيفين المتعلقين بأهداب الحضارة و الثـقافـة و التـقاليد و الثوابت و المزايا بما فيها المزايا النضالية. الثورة تصفعهم جميعا. الثورة اكبر منهم كثيرا و عرت قـزميتهم و صغر حجمهم و عجزهم عن تمثيلها و تمثلها. و إلى اليوم الجميع يدور في فلك الرداءة السياسية..
تصور يا لغباء من يأمل في السيطرة على اتحاد الشغل. الأقـزام تـتهافت على المطحنة الكبرى و هي في حركة دائبة و ستطحنهم جميعا.. ماذا تعلموا من الثورة؟ كيف يرونها؟ من خلف ثـقوبهم الصغيرة التي تخفي أفكارهم الميتة البالية؟
سقط البعث العربي ليس أمام جحافل الأمريكان أو الروس و إنما أمام جموده الفكري و تحنطه فأعلنت الثورة التونسية كلحظة تعرية تامة عن قـزميته امام التمايزات بين العرب و مطلب الحرية الفردية و الديمقراطية. سقط "ماركس" كذلك، و أمام معضلة تحكم قوى الإنتاج و امتلاكها لوسائل الإنتاج لم تحقق امتلاك العمال لجهدهم و وسائل الإنتاج و الأموال المترتبة عن الربح و إنما أفصح عن عقم في النظرية فتم الوصول بها إلى أقصى ما يمكنها و هو تأسيس رأسمالية الدولة و ليس دولة البروليتاريا...
عبد الناصر نظام مخابراتي عسكري و زج بنا في مخاضات أوهام هائلة و كذبة كبرى أفـقـنا منها على وقع صفعة رهيبة مدوية لازال وقعها إلى اليوم.. ليست المسألة مسألة هزيمة عسكرية بل هزيمة روحية و عقلية الانهزامية و الانتكاس...
الثورة التي خرجت من الأعماق لتضرب دكتاتورية بن علي في لحظة أولى و لكن يا لانهائية لحظاتها.. انها ضربت الإيديولوجيات الثورية نفـسها أو التي تعتـقد في نفـسها ثورية.
قامت الثورة و لم تجد من يعبر عنها سياسيا سوى دمها و شريانها النابض و هو الاتحاد العام التونسي للشغل.. لماذا؟
لأنه ثوري و لا ثوري بمقاسات الإيديولوجيات التي تدور في صلب حركته. ثوري في النهاية بما هو قوة جذب للمناضلين الشعبيـين حول مطالبهم الملموسة التي ينقادون من خلالها إلى ما هو ابعد..
و الآن، فإلى متى يتحمل الزمان الرداءة السياسية الموجودة و طموح الدجالين الى دكتاتور نوفمبري جديد؟ إلى متى تسافر الثورة على مستوى مربعات السلطة فيما ينفيها و يناقضها؟ السلطة التي ركبت لا يمكن أن تـفكر إلا بمنطق إرادة الاستـفراد و إن كانت تخاتل فإنها تخاتل نفسها. الثورة تصفعهم و تميتهم فعلا.. الموت الأحق تاريخيا هو رمزيا..
و هنا. فالسياسي البحت الذي مثل الثورة في مسرح الثورة هو "شكري بالعيد" لأنه مفكر و مثـقـف كبير نام على عتبات الكتب فابدع الكلمات المتجددة المزلزلة التي نفتقدها اليوم. منذ أن غاب شكري أصبح الجميع خارج المسرح و هو الآن فارغ إلا من بعض الأدوار التي يقوم بها الاتحاد العام التونسي للشغل..
و هذا لا يكفي. الاتحاد كذلك مرتبط بفكرته كذلك. هل يمكن له أن يحكم؟ إذا حكم فانه سينتهي. الحل في إيجاد جسم سياسي مرتبط بالاتحاد و ليس جسما يريد السيطرة عليه لان ذلك محال أولا، و لان الوقت لذلك مهدور من عمر الثورة..
فالمطلوب إذن تعبير سياسي عن الديمقراطية الاجتماعية. هذه الديمقراطية التي تكسر تلك المقولات البالية للصراع الطبقي الأجوف الذي لا نجده بالفعل. إضافة إلى أن السيد "ماركس" المخاتل الكبير ادعى انه قلب الجدل الهيغلي ليمشي على قدميه و الحقيقة انه لم يقلب إلا نفسه ليقع على رأسه. فالتـنوع و التمايزات الواقعية الكبرى لدى "هيغل" حولها هذا الصغير إلى تماثل لأعواد الثـقاب فيما سماه الطبقة. لم يقم إلا بإخراج الإنسان من إنسانيته و حياته الروحية الصاخبة إلى مجرد عود ثـقاب في علبة و ذاك هو سر الرعب الكبير للثورة البلشفية.. ثم ان اليسار التونسي انساني و محمل بعاطفة الشفقة و التراحم لانه تونسي و ما حمل مقولة الحقد الطبقي الا اغترابه هو نفسه عن نفسه لذلك لا يتجسد و لا تكون تلك المقولات الا معرقلا عن الحركة المرنة و السلسة في الواقع الحي.. ادرك "شكري بالعيد" ذلك فأعـلنها بكل وضوح أن "نضالنا هو نضال سلمي ديمقراطي لأجل الديمقراطية" و ليس لأجل دولة البروليتاريا الموهومة..
و لمن يحلمون في تجاويفهم أن مسار الثورة التونسية هو متماثل زمنيا مع لحظة أكتوبر 1917، لنكون على موعد مع أكتوبر 2017، ما هم إلا واهمون أولا، و معدومي الرؤيا التاريخية العقلانية ثانيا، و معطلي الحيوية المطلوبة للانفتاح على مختلف القوى الاجتماعية لتكوين جسم سياسي قوي يعبر عن المطالب الفعلية للذين يهمهم أن تكون الدولة دولة المجتمع الديمقراطي المنـتج..
و لمن مازال يسعفه الزمن لعدم تعريته بالكامل فان الثورة ستعريه حتما. الفاشلون و النبلاء الفاضلين ستكشف عن كونهم ليسوا سوى طاحونة هواء لكلام في كلام.. من قبيل.. عدم الانتهازية.. الشرف الثوري.. الثورة القادمة عبر الحمر الميامين..
و الواقعية الاتجاه نحو حياة سياسية أخلاقية مع التحاور الفعلي مع الواقع بما هو من حرفيين مأزومين و مراكز إنتاج متأزمة و عملية إنتاجية برمتها و على جميع المستويات مختـنـقة نتيجة النظام النوفمبري إضافة إلى الهجوم التتاري لإخوان الغنيمة و خنازير التهريب و إغراق البلاد بالسلع الأجنبية و المتهافتين من السياسيين على النهب لما يمكن نهبه..
على الجبهة الشعبية ان تتبنى مطالب ما يسميه الحمر بالبورجوازية في اتجاه المنتجين الصغار و الكبار و تدافع عن مصالحهم التي هي مصالح الشعب..
الثورة ثورة عقل و ما كان "شكري بالعيد" إلا عقلا سياسيا وحيدا يزمجر في مسرح الثورة.. مسرح الثورة الشاغر الآن من الممثلين و المشاهدين السياسيـين..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن