الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة التحولات الفجائية 7

نعيم إيليا

2017 / 4 / 1
الادب والفن


ثم التفتت ديالا إلي وقالت:
- طب نفساً! لن أعذبك، أمي تفهم الأمور على نحو مقلوب، سأروي لك كل شيء دفقة واحدة، ولكن عليك قبل ذلك أن تشرب الشاي الأخضر. الشاي الأخضر دواء نافع، اشربه فستجد نفسك بعد شربه في أحسن حال.
ما حكاية الشاي الأخضر؟ ها هي ذي تعود من جديد إلى الشاي الأخضر! تأمرني بكياسة، بحنان أخت أن أشربه: تأمرني، كياسة، حنان أخت... غريب! لماذا تأمرني ديالا؟ ما معنى تصرفها؟ وماذا وراء عاطفتها؟ أوَتحسبني مريضاً؟
لم يكن للشاي وجود واقعي، أدركت لا وجوده الواقعي، ومع ذلك تظاهرت بأني أحس بوجوده، وأن لي رغبة بشربه.لم أدع لها أن تشك في أنني لا أحس بوجوده. اتقدت في نفسي لهفة نارية إلى أن أعرف تفاصيل حكاية راغبها، حتى إني لو قد كانت طلبت مني أن أنكر وجودي في اللحظة مقابل أن أعرف حكاية راغبها، لأنكرت وجودي:
- وعدتكِ أن أشرب الشاي، وهأنذا أشربه موفياً بوعدي، وماذا بعد....؟
- كان لراغب نشاط في جمعية المغتربين السوريين.
- في باريس؟
- في باريس. فأين إن لم يكن في باريس؟ نعم في باريس، وفي احتفال لهذه الجمعية بعيد الاستقلال، تعرف بالصحفية اللبنانية حلا زغيب.
- حلا زغيب!؟
- أتعرفها؟
- ومن لا يعرفها. حلا زغيب... ؟ ولكنها ماتت.
- في نفس اللحظة التي مات فيها راغب أبو خليل.
- في نفس اللحظة!؟ كيف؟ ما معنى في نفس اللحظة؟
وابتلعت دهشتي، انفعالي المتأجج. فقالت وقد غشى الحزن على صوتها وتقاطيع وجهها:
- كانت حلا زغيب بصحبته، عندما قام بزيارته الأولى والأخيرة للوطن. كانا اتفقا معاً على القيام بهذه الزيارة لمقابلة الكاتب وفيق بشارة الزحلاوي قبل وفاته بما يقرب من عام في منزله بمدينة طرطوس لانتزاع حديث صحفي منه للمجلة التي تعمل بها حلا زغيب. لم يهبطا من الطائرة في الشام، تابعا رحلتهما بها إلى حلب. تخيل! فلأجل أن يراني، أصر راغب على النزول في حلب والمبيت فيها يومين. كان اشتياقه إلي أقوى من اشتياقه لأهله. انظر الهدايا التي جاءني بها.
وانقشع حزنها وهي تريني هداياه الثمينة. ابتسامة ازدهاء بهداياه تختال على ثغرها. ولكن اهتمامي بها سرعان ما باخ.. سرعان ما انصرف عن الهدايا التي بسطتها أمامي، وتركز بشغف مريض على نسخة قصة التحولات الفجائية التي كانت ما تزال قابضة عليها. سألتها محققاً بنبر ارتعش غصباً عني:
- وهذه النسخة من قصته، هل أرسلها لك بالبريد قبل الزيارة، أم أعطاكها في أثناء الزيارة؟
قالت وفي عينيها معنى يشبه المكر:
- يسرني أن تكون اقتنعت أخيراً أن صاحب هذه القصة هو راغب أبو خليل لا وفيق بشارة الزحلاوي.
حيرني قولها! كيف خطر لها أنني اقتنعت بروايتها؟ الحق أنني لم أكن مقتنعاً بروايتها.. لم أكن مقتنعاً بها. إن فكرة ألا تكون القصة من تأليف الزحلاوي، لم تخطر لي في بال. قد كنت إلى الآن واثقاً ثقة أعرم من شراسة الأحمق بأن القصة من تأليف الزحلاوي، وأن ما ترويه عن صاحبها راغب أبو خليل، لا يعدو كونه محض التباس.
- متى حصلت منه على هذه النسخة... قبل الزيارة عن طريق البريد، أم في أثناء الزيارة؟
كررت سؤالي. أجابت:
- في أثناء الزيارة، لماذا تسألني؟
قفزت على سؤالها، سألتها:
- في أي فندق نزلا؟
- في فندق بارون. كنت حجزت لهما غرفتين فيه.
في أقل من غمضة عين، كنت بخيالي أقف أمام موظف الاستقبال في فندق بارون ببستان كل آب (بستان كلِيب بالحلبية الدارجة). رد العامل المهندم الأنيق على سؤالي بجفاء:
- آسف! نحن لا ندلي بمعلومات عن نزلائنا.
أبرزت له هويتي الصحفية. ولكنه لم يتناولها، لم يعرها نظره. رمقني بجفائه البارد مردداً قوله كآلة ناطقة:
- آسف نحن لا ندلي بمعلومات عن نزلائنا.
- ولكني لا أسألك معلومات عن نزلائك أيها المحترم، أسألك عن شخص اسمه راغب أبو خليل، وعن صديقة له صحفية تدعى حلا زغيب، هل نزلا بتاريخ... في فندقكم؟
- آسف! نحن لا ندلي بمعلومات عن نزلائنا.
وانزلقت بي قدمي إلى الحبوط. ولكن الحظ يواتيني في آخر لحظة، فتمتد إلي يدٌ قبل أن أبلغ قاعه. كانت يد رجل حسن الطلعة، تنطق حركاته بالنفوذ والسيادة، يوشك أن يكون بديناً، لم تؤذ طلعته سمرةُ بشرته الخفيفة ولا صلعته، انشق عنه باب سري في الطرف الأيمن من مكتب الاستقبال، جذبني الرجل إليه بلكنة أرمنية، فتنحى له موظف الاستقبال بأدب واحترام.
- تمهل من فضلك! في أي عام؟
- في عام...
أرخى رأسه على لوحة المفاتيح، داعبها بأصابع رشيقة، ثم رفع رأسه إلي معلناً بلهجة وقور:
- نعم، أقام المذكوران عندنا في هذا التاريخ ليلتين.
ثم سألني وهو يبتسم لي ابتسامة مقتضبة ولكن سمحة:
- هل (أنتِ) الكاتب سليم مارديني؟
أراد بسؤاله أنه يعرفني، ولم يخطئ في استخدام الضمير بصيغة المؤنث، فالأرمن لا يميزون المذكر من المؤنث. سمعته وأنا أهم بالمغادرة يدعوني إلى الجلوس في الصالة:
- سعيد بالتعارف... كوكتيل جامايكا؟
وقالت ديالا معاتبة إذ رأتني أعود - دون أن أكون غادرت مكاني - من الفندق بنفس السرعة التي انطلقت بها إليه:
- ظننتك اقتنعت بصحة ما حدثتك به عن راغب أبو خليل. والآن، أما زلت في شك من ذلك؟
همهمت همهمة المقهور المغلوب على أمره:
- ديالا، راغب أبو خليل حقيقة، أنت صادقة! لست في شك من ذلك بعد، ولكن النسخة التي بين يديك لا يوجد عليها توقيع راغب أبو خليل أو أي إشارة أخرى تدل على أنها له؛ فكيف لي أن أقتنع بأن القصة من تأليفه لا من تأليف الزحلاوي؟ إن زيداً وعبيداً وعمراً وغيرهم من الناس يستطيعون أن ينسخوا القصة المطبوعة على حواسيبهم، ثم يطبعوها على الورق بطابعاتهم.
- لم تسمع بقية الحكاية، لو كنت انتظرت حتى أنهي حكايتي، لربما كنت عثرت على علامة تستدل بها على أنها له بلا ريب. اسمع يا أستاذ! كان راغب أحضر معه نسختين من قصة التحولات الفجائية، أهداني واحدة هي هذه التي في يدي، ونسخة ثانية مثلها تماماً تطابقها في كل شيء حتى في هذه النقطة السوداء تحت العنوان، قال لي إنه سيقدمها للكاتب وفيق بشارة الزحلاوي ليبدي رأيه فيها. وقد يكون قدمها له.. ألا تحب أن تعلم تفاصيل الحادث الذي أودى بحياة راغب أبو خليل، وحلا زغيب؟
صرختُ صرخة مجنونة:
- فكرة...!
واختطفت النسخة من يدها. كانت حركة مني فظة همجية. ذعرت جراءها ديالا. سمعت الأم فينوس لورا تنادينا للعشاء ثانية بصوت ممطوط. أقفلت سمعي، أغمضت عيني، وامتطيت بوثبة نافر مدرب جنح خيالي.
طرطوس الكورنيش. العمارة رقم 22 مقابل جزيرة أرواد. منزل الكاتب وفيق بشارة الزحلاوي. الساعة الثانية عشرة ظهراً. طرقت الباب. مرت دقيقة ثم فتح. أطل علي شاب في سني بشارب متدل وسكسوكة، طويل القامة نحيف، أبيض البشرة يشبه ممثلاً أعرفه، بعيد الشبه بالزحلاوي، يرتدي ربطة عنق كحلية رغم الحرارة والرطوبة.
- أهلاً وسهلاً!
- الكاتب الصحفي سليم بطرس مارديني.
- تشرفنا، تفضل بالدخول
- هل يمكنني أن أتحدث إلى السيدة وردة الزحلاوي؟
- كلا، مع الأسف، أمي في الضيعة، فوق، بالجبل. أنا ابنها، كيف لي أن أسدي لك الخدمة؟
- قصة التحولات الفجائية...
قاطعني، قال بلهجة مهذبة:
- آسف، لا شأن لي بمخلفات والدي وأعماله. شقيقتي سلوى هي المسؤولة عن أرشيف والدي وتركته الأدبية.
- أين أجدها من فضلك؟
- في الضيعة، تقيم مع أمي. هل لديك سيارة؟
- كلا
- اعذرني! لدي موعد لا أستطيع تأجيله وإلا كنت أوصلتك بسيارتي إليها. ولكن لا بأس، في الشارع الموازي لشارع الكورنيش ستجد مكتب سفريات الجبل، خذ سيارة إلى قرية (بْمَلْكِه) أتعرفها؟ هل أنزل معك لأدلك على المكتب؟
- لا داعي، شكراً! أعرف الطريق إلى الضيعة
- فنجان قهوة؟
- أشكرك، في مرة قادمة.
ساحة قرية ( بْمَلْكِه ) المرصوفة بالصخر في أعلى الجبل المطل على طرطوس. مقهى أبي ربيع. في الظل طاولةٌ خارج المقهى تحت الطنف، جلس إليها أربعة كهول يلعبون الورق، وشاب متفرج في ثياب العمل. رد الرجل الذي يغطي رأسه بقبعة من القش، على سؤالي بلهجة أهل الجبل. هو أغلب الظن مغترب من الأرجنتين؛ فلهجته لم تكن نقيَّة:
- خلف المقهى تماماً، دارة الزحلاوي يا سيد.
ونهض الشاب لخدمتي، إذ رآني واقفاً أردد نظري في اتجاهات عدة. قادني بلطف عبر زقاق ضيق معبد مظلل يمر بين أدوار حجرية متلاصقة على الجانبين إلى دارة الزحلاوي.
قالت سلوى الزحلاوي وهي ترحب بي:
- دعنا نجلس في الحديقة تحت فيء العريشة، ستلحق بنا الوالدة، لن تتأخر. ماذا تحب أن تشرب؟
ونادت آمرة قبل أن تسمع ردي:
- يا ألبيرا، القهوة!
- الجو عندكم في الجبل جاف منعش!
- رطوبة البحر في طرطوس، تؤذي صحة أمي، كيف الجو في حلب؟
- لا يطاق!
- واضح، أرى آثاره على وجهك.
وابتسمت عن معنى من معاني الشفقة. جاءت ألبيرا. وضعت صينية القهوة مع لوازمها أمامنا، سلمت علي وانصرفت. فقالت سلوى الزحلاوي:
- كنت عند عمتي في جونيه، عندما زارت الصحفية حلا زغيب – رحمها الله – والدي. علمت بذلك بعد وقوع الحادث. ولم أسمع شيئاً عن هذا الرجل. من هو راغب أبو خليل؟ لا أذكر أنني سمعت اسمه، قد تكون أمي تعلم شيئاً عنه.
خيبت السيدة وردة أرملة الزحلاوي، تكهناتي المسبقة عن صورتها الخارجية. ظننت أنني سألتقي عجوزاً هرمة تدب دبيب سلحفاة، فإذا أنا أمام امرأة نياف تدب فيها الحيوية دبيب النسمة بين أفرع سنديانة. لا بد أن يكون فارق العمر بينها وبين زوجها عشرون عاماً، إن لم يكن أزيد. كان هذا أول ما انطبع في خاطري، وأنا أنحني على يدها.
- لا أدري إن كانت هذه النسخة مطابقة للنسخة التي عثرتُ عليها في درج مكتب المرحوم زوجي، أو غير مطابقة لها.
ردت علي السيدة وهي تتحرى النسخة التي ناولتها إياها، فقلت:
- ولكن المرحوم – كما جاء في آخر تصريح له لمجلة أدب الحياة – ظل يكتب أعماله على الآلة الكاتبة، ولم يستخدم الحاسوب في كتابتها قط، فلا محالة إذاً أن تكون النسخة التي عثرتِ عليها في الدرج مختلف خطها عن هذه النسخة، أليس كذلك؟
- نعم، هو كذلك. ولكن ما هي النتيجة التي تروم بلوغها من ذلك؟
- جارتي ديالا التي وجدتُ هذه النسخة لديها، تؤكد أن القصة للرجل الذي كان في صحبة حلا زغيب، راغب أبو خليل، أتذكرينه؟
- نعم، أذكر أن شاباً كان في صحبتها، ولكنه لم يترك في ذاكرتي انطباعاً عميقاً. ما مكث إلا ريث أن شرب فنجان القهوة، ثم استأذن ليتجول في طرطوس ويزور أرواد، على أن يعود في نهاية المقابلة.
- هل قدم نسخة مطابقة لهذه النسخة للمرحوم زوجك كي يقيّمها له؟
- لا أعلم.
- هل أستطيع أن أرى النسخة التي عثرتِ عليها؟
- كلا، هي عند الناشر صاحب (دار السماء) السيد إيلي البستاني، أعطيتها إياه لما جاءني معزياً في الأربعينية، ولم يعدها إلي. قد يجب أن أطالبه بإعادتها.
وفجأة أجهشت السيدة وردة الزحلاوي بالبكاء، انخرطت فيه وذرفت ندباً متقطعاً موجعاً مع دموعها:
- ماتت حلا، أيا حسرتي على شبابك الغض وعقلك الكبير يا حلا! لماذا ماتت حلا؟ لماذا ماتت وهي في زيارتنا؟ كان يوم شؤم! لن يحررني أمهر الأطباء من شعوري بالذنب!
قالت سلوى بجد صارم، وهي تربت على ظهر والدتها:
- أستاذ سليم، حاولت أمي أن تستبقيها في ضيافتنا. أمي أحبتها كثيراً، أمضت أمي ساعتين في المطبخ مع ألبيرا، لإعداد أكلة قالت حلا إنها تحبها وتشتهيها. ولكن حلا بعد انتهاء المقابلة مع والدي وتناول الغداء، أصرت على الذهاب مع الشاب الذي كان بصحبتها إلى اللاذقية لزيارة أسرة صديقة لها تقيم في باريس. في منتصف الطريق إلى اللاذقية اصطدمت السيارة التي كانت تقلهما بشاحنة متهورة.
طرت بخيالي، حلقت مع الضوء. لبنان، الحازمية، دارة الناشر إيلي البستاني. ضغطت على زر الجرس. امرأة بثياب المطبخ لا ملامح مميزة لها، فتحت الباب. سألتني في غضب: „ ألديك موعد؟” قلت: „لا” قالت بعبوس مكفهر: „ انتظر لحظة”. انتظرت لحظة، ثم انتظرت لحظة، ثم لحظة... الانتطار يقرضني! خمس وثلاثون دقيقة وأنا أنتظر، والانتظار يقرضني، ينهش أعصابي.لم أكن أعلم أن بي جلداً إلى هذا الحد. ثم فتح الباب ثانية، على وسعه. فوح عطر صافح أنفي. رجل ربعة بالباب، متين البنية، عريض الوجه، حليقه، كث الحاجبين، خفيف شعر الرأس، يرتدي قميصاً أبيض قصير الأكمام أظهر قوة ساعديه المشعرين، وبنطالاً أسود، وحذاء رياضياً، قد يكون في منتصف الخمسين. قطب إذ رآني:
- خير؟ أنا إيلي البستاني...
- الكاتب الصحفي سليم مارديني.
بان التفكير بين حاجبيه المربعين، تذكر، ثم ابتسم:
- آاا.. لماذالم تقدم بطاقتك للطاهية؟
- لم تترك لي فرصة لتقديم نفسي.
- لا بأس. اعذرني! لم أتوقع أن تكون بالباب. كلمتني السيدة وردة الزحلاوي بالتلفون قبل خمس دقائق، قالت إنك كنت في زيارتها، وحدثتني عن اهتمامك بقصة زوجها، قصة التحولات الفجائية. ولكن قل لي كيف قطعت المسافة من طرطوس إلى الحازمية بمثل هذه السرعة؟
- خيالي أسرع من الضوء.
- فلم لا تكتب روايات إذاً؟
- حاولت ولم أنجح. ليس بالخيال وحده تكتب الروايات.
- على فكرة، الروائي أغصان الموزِّع في انتظاري بمكتبي داخل المطبعة مع روايته الجديدة (الأباتشي). كنتُ أظنك متقدماً في العمر. أنت شاب يافع، ماشاء الله!
أمام بناية متواضعة في الدكوانة ببيروت، ركن البستاني سيارته. مررنا بالمطبعة: قبو نظيف، أكداس من الكتب، رائحة خاصة لا أعرف لها شبيهاً، آلات حديثة تؤز، عمال بثياب زرق. تناول البستاني من كُدْس رواية مطبوعة حديثاً معدة للتوزيع:
- هذه رواية للكاتبة رندا جبرائيل، كاتبة مكينة حديثة عهد بالنشر، خذها، خذ الرواية، سيسرني أن تعلق عليها. في هذه الأيام لا تروج الأعمال الأدبية إلا إذا عرضها نقد النقاد من أمثالك في سوقه. أليس لديك اهتمام بأدب العولمة؟ فيما مضى كنا نسميه أدب المهجر.
(امرأة من فوكوشيما) صورة الغلاف للرسامة زينة عبد الله شلهوب، أخذتها من غير أن أشكره. كان الروائي أغصان الموزع جالساً في المكتب ينتظر، على عينيه نظارة جديدة، صلعته تلمع، جبينه يشرق ذكاء عجيباً، إلى جانبه حقيبة جلدية سوداء، وفي يده جريدة. لم ألتق به من قبل.
- أنت الناقد سليم مارديني! لا تقدمه إلي يا إيلي، أعرفه، أعرف تلميذ الكويفاتي هذا. هل أنت مريض يا سليم؟
بادرنا وهو جالس بنبرة تكاد تكون عدوانية. لم أستغرب تصرفه... طور من أطوار عبقرية نرجسية على شفا جنون. استغربت شبابه المتجدد وزيه الذي ربما تحرج منه حتى صاحب الأربعين. والدي في بداية الستين توكأ على عصاه، ولولا منطق العصر يلزمه إلزاماً، لارتدى في هذه السن جبة وقفطاناً أو شروالاً بأذنين. في الثامنة والستين تغمد الله أبي وفي نفسه أنه شبع من الأيام.
- لم يكتب روائي من قبلي ولن يكتب روائي من بعدي رواية عظيمة مثل روايتي الأباتشي. روايتي هذه لا تضاهيها في روعتها رواية لا في الشرق ولا في الغرب.. ! هي الرواية التي ينبغي على النقاد طراً أن يحبسوا عليها أقلامهم المدببة. فمن يعكف دونها بقلمه على روايات كروايات الزحلاوي القروسطية المثقلة بالغريب الجافي، فقد عكف على أدب سقيم رخيص بليد. اسمع يا سليم، اسمع ما يقوله الجاحظ في الزحلاوي وفي أستاذك الكويفاتي في بيانه وتبيينه: (( ورأيتهم يديرون في كتبهم أن امرأة خاصمت زوجها إلى يحيى بين يعمر فانتهرها مراراً، فقال له يحيى بن يعمر: أإن سألتك ثمن شَكْرها وشَبْرك، أنشأت تطُلُّها وتضْهَلُها؟ (قالوا: الضَّهْل: التقليل. والشَكْر: الفرج. والشَّبْر: النكاح. وتُطلُّها: تذهب بحقها؛ يقال دمٌ مطلول. ويقال بئر ضهولٌ، أي قليلة الماء).
قال: فإن كانوا إنما روَوا هذا الكلام لأنه يدل على فصاحة فقد باعده الله من صفة البلاغة والفصاحة. وإن كانوا إنما دوّنوه في الكتب وتذاكروه في المجالس لأنه غريب، فأبيات من شعر العجَّاج وشعر الطّرمَّاح وأشعار هذيل، تأتي لهم مع حسن الرصف على أكثر من ذلك. ولو خاطب بقوله: أإن سألتكَ ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلها وتضهلها الأصمعيَّ، لظننت .أنه سيجهل بعض ذلك. وهذا ليس من أخلاق الكتاب ولا من آدابهم
قال أبو الحسن: كان غلام يقعّر في كلامه، فأتى أبا الأسود الدؤلي يلتمس بعض ما عنده، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ قال: أخذته الحمى فطبخته طبخاً، وفنخته فنخاً، وفضخته فضخاً، فتركته فرخاً. (فنخته: أضعفته. والفنيخ: الرخو الضعيف. وفضخته: دقته) فقال أبو الأسود: فما فعلت امرأته التي كانت تُهارُّه وتشارُّه وتجارّه وتزارُّه؟ قال: طلقها فتزوجت غيره، فرضيت وحظيت وبظيت. قال أبو الأسود: قد عرفنا رضيت وحظيت، فما بظيت؟ قال: حرف من الغريب لم يبلغك. قال أبو الأسود: يا بني، كل كلمة لا يعرفها عمُّك فاسترها كما تستر السنّورُ جَعْرها. (تزارُّه: تُعاضُّه. والزرُّ: العض. وحظيت: من الحُظوة. وبظيت: اتباع لحظيت))
لا تقاطعني يا سليم، اسمع بقية الحديث ففيه لك عبرة ، فائدة:
((قال أبو الحسن: وهاج بأبي علقمة الدمُ فأتوه بحجّام، فقال للحجام: اشدُد قصب المَلَازم، وأرهف ظُباتِ المشارط، ولا تُكرِهنَّ أبيَّاً، ولا تردَّنَّ أتيّاً. فوضع الحجام محاجمه في جونته ثم مضى. فحديث أبي علقمة فيه غريب، وفيه أنه لو كان حجاماً مرة ما زاد على ما قال. وليس في كلام يحيى بن يعمر شيء من الدنيا إلا أنه غريب، وهو أيضاً من الغريب بغيض)).
قد كنت أسمعه وهو يقرأ من ذاكرته العجيبة. ولكني كنت أتابع حركة البستاني بترقب يلهث عطشاً.. ألتهم بنظري النهم حركةَ يديه وهما تقلبان إضبارة ضخمة. لقد حزّ في أذني رأيه فيهما، فاستيقظت رغم الذي كنت فيه غريزة الناقد في صدري، فإذا أنا – وإن بفتور - أدفع تهمته عنهما:
- تطعيم لغة السرد بألفاظ غير متداولة، إثراء لمعجمها، تزيين لها، خروج بها عن الرتابة، تخلص مما تبعثه سهولة الألفاظ الجارية في النفس من الملل.
- بل تقليد بعيد عن روح العصر. أنت تشاكس على الفاضي يا سليم. الفكر الجديد وطُرز الحياة الجديدة تقتضي لفظاً جديداً سهلاً يفهمها، يلائمها لا لفظاً وحشياً يباينها. فإذا كان القدماء ينكرون اللفظ الغريب ويعدونه بغيضاً، فما بالك بالمحدثين؟
- ولكن صنيعهما ليس على هذا الذي تراه. أإذا أدخل صانع الأزياء خيطاً من (مودة) الماضي في نسيجه، عد صنيعه تقليداً؟ أإذا زين المرء صالونه بتحف من آثار الأقدمين، عد ذلك خروجاً على روح العصر وذوقه؟
- عنيد، محال إقناعك! اذهب عني يا فتى، إلى صالون جارتك فينوس لورا الأنطاكي، اذهب وسلم عليها، بلغها أن شوقي إليها، لما ينقض بعد.. قبّل عني مؤخرتها الفاتنة، وقل لها إني ما زلت على استعداد للزواج بها ولو على ضرة.
رأيت الأم فينوس لورا تضحك، ثم سمعتها تقول:
- على ضرة؟! على ضرة يا أغصان الموزع! أنسيت يوم انطرحت على قدمي ذليلاً ؟ أنسيت؟ والله، لولا قيل لي حينذاك أنك أديب مجنون، وإن المجنون لا حرج عليه، لهشمت أنفك بحذائي.
- ومتى كان ذلك؟
أجابت الأم لورا على سؤالي:
- في زمن ما، لا أحسب أنك كنت ولدت فيه. حدث ذلك ونحن خارجون من حفلة ساهرة للمطربة صباح في بيت الدين، وكان هذا العجوز المتصابي يومها غراً طويل الشعر.
- ها هي!
ندت عن البستاني، فنط قلبي بين أضلعي.
- يا إلهي!
هتفتُ من دهشة صدمتني كالسيل. فتساءل البستاني
- وبعدُ؟
- النسختان متطابقتان، ألا ترى؟ انظر... يا إلهي، تمام التطابق! حتى النقطة السوداء تحت العنوان موجودة في النسختين.
قال الروائي الموزع بلهجة ساخرة مناكدة:
- وماذا يفيدك أن تكون النسختان متطابقتين؟ هل ستستطيع بذلك أن تقنع أحداً بأن القصة ليست للزحلاوي؟ تطابق النسختين يا سليم أفندي، ليس بدليل. كل حقيقة بلا دليل باطلة. اقرأ روايتي (السيدة أوديت في برلين) لتدرك ما معنى أن تكون كل حقيقة بلا دليل باطلة.
اعترضت ديالا، قالت:
- أنا الدليل على الحقيقة.
- ومن أنتِ يا صغيرتي لتكوني الدليل!؟ أأنت قادرة أن تحيي صاحبك راغب أبو خليل ليشهد لك ولنسختك؟ أنت ونسختك دليل فالصو...
وخاطبت الأم فينوس لورا ابنتها ديالا قائلة:
- ديالا، عجّلي.. اصعدي إلى الدكتور جوزيف خوَّام، لا بد أن يكون عاد من المشفى، ثم أخبري لينا.. لا فائدة في الشاي الأخضر!

انتهت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - دوختني استاذي الفاضل نعيم
رويدة سالم ( 2017 / 4 / 1 - 22:49 )
برافوا عليك وعلى جمال قلمك وتخريجاتك العجيبة التي جعلتني اشك في ما بقي في عقلي من الفصول السابقة
أيعقل أن الكاتب يعاني من فصام او ذهان او ما شابه
مضطرة لاعدة القراءة من الاول
شكرا على المتعة سي نعيم
خلص لمودة والاحترام ولا تنسى الخابية


2 - نهارك سعيد يا عزيزتي
نعيم إيليا ( 2017 / 4 / 2 - 09:49 )
أنا ولا أنت. بعيد عنك الدوخة!
اكل شي بهالدني معقول.، ليش لا؟ وإلا ما كان موجوداً. كل موجود معقول. ولكن ليس كل معقول موجوداً
أستطيع أن أعقل في ذهني إنساناً في صورة سنبلة قمح. ولكن هل يوجد في الواقع إنسان في صورة سنبلة قمح؟
إيه، هذا الناقد المسكين المدعو سليم، ما هو سليم، اسم على غير مسمى. هادا يا ستي مثل صاحبتك في قصتك الرائعة ذهان. ما أنا استلهمتك، تأثرتك.. أنت رائدة يا رويدة وإن كنت بعدك صبية. هذا المسكين ، وبعيد عنك، أصيب - يمكن من الإجهاد والظروف المناخية بحلب والشك- بذهان هذياني. صار يتوهم ويهذي بعد أن ارتاب في صحة نسبة قصة التحولات الفجائية إلى الكاتب الكبير وفيق بشارة الزحلاوي.
لن أنسى يا عزيزتي، لن أنسى
لو كان عندي ناقة كنت حملتها سلامي إليك. سلامي حمله تقيل. غير ناقة متل ناقة طرفة بن العبد ما بتحمله.


3 - تداخل الواقع بالخيال
ليندا كبرييل ( 2017 / 4 / 3 - 16:33 )
تحيةوسلاما أديبنا القدير الأستاذ نعيم إيليا

قرأت دفعةواحدة الحلقات الأربع الأخيرة،ذلك أني كنت مشغولةفي الانتقال من بيت إلى آخر،فانقطعت عن الحضور
أحزنني أن تذكر للأستاذةرويدة سالم أنه لولا متابعتها لقصتك لاعتراك الاكتئاب وفكرت برميها بسلة النسيان لتستريح منها
أستاذ نعيم
الأدب والفن ميل ومزاج،له عشاقه،تماما كأي نشاط آخر في الحياة
هذه القصةبالذات تداخل الواقع بالخيال في حلقاتها الأخيرة بشدة،قد تجعل القارئ يبتعد عن متابعةالأحداث
ليس كل كاتب قادرا على تحقيق هذه التقنيةالصعبة

أشبّه هذا الأمر ولا أدري إن كان تشبيهي سليما؛بالغناء بالصوتين معا في وقت واحد: الصوت الحقيقي والمستعار،ولا يتقنه إلا المحترفون
هذه التقنيةمعروفة عند الجبليين في هنغاريا وفي منغوليا أيضا،فيتحكم المؤدّي بتثبيت أحد الصوتين والغناء بالآخر ثم الانتقال بسلاسةوليونة إلى تداخل الصوتين

شكرا لبلدنا الذي حافظ بقوة على إحياء اللغة العربيةونشطها فكان لها حماة كرام
وشكرا للطبيعةالتي أسبغت عليك بالعقل والميول التي فجرت عشقك للغة إبداعا أدبيا وفكريا
قدمت لنا بعد شبح الطحان شمس الدين التحولات الفجائية وأنتظر الكنز في الخابية
احترامي


4 - شكرا لك
نعيم إيليا ( 2017 / 4 / 3 - 20:47 )
شكرا جزيلا يا عزيزتي شرفت
وأرجو أن تكوني عثرت على بيت على ذوقك. ما في متل البيت ! ذكرتيني بغنية صباح
يا بيتي يا بويتاتي
وأهديها لك ولكل اللي شرفوني وصوتولي مع أصدق المشاعر وأحلى التمنيات

اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل