الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة التسويغ -10-

جميل حسين عبدالله

2017 / 4 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يتبع

ومن هنا، فإن البدعة ليست فيما هو ممنوح للإنسان من حرية قراءته لنص الدين بلا وساطة تعتقد الاستقلال برأيها، والإلزام به، بل هي ‏اختراع دين في دين، يلبس لبسته، ويتحدث بلسانه، ولكنه يصنع الفوضى في المتفق عليه، والقتل في المختلف فيه. بل أجلى مظهر يحرف معنى ‏البدعة، ويمنحها معنى يفضي بها إلى الانغلاق، والانسداد، هو فرض رأي واحد في الوصول إلى تفسير الوجود، والكون، واعتباره سلما ‏للعروج إلى عالم السماء، ومظهرا للبروز بالوجه الأكمل في نيل مفتاح باب الحقيقة، لأن قيمة الدين تتجسد في تعددية الآراء، وتنوع المسالك، وإذا ‏استحال قولا واحدا، وموقفا محددا، صار أداة للاستعباد، والتدجين، والتخدير. ولذا، فإن الانحراف الديني الذي يبعد عن مسمى التقديس، ‏ليس في مسمى البدعة بهذا التحريف الذي طاله من أدعياء السلفية، بل في الرضى عن أنموذج لا يستطيع أن يخلق في حياة الإنسان أشواق ‏الاستقرار، وأتواق الأمان، لأن ما يستدعيه الدين من معان خالدة، ومفاهيم فائقة، تضيف إلى الوجود ميزة، وقيمة، هو ما يؤثر به من نتائج ‏في الحياة البشرية، وما يرسخه من مفاهيم في القيم الإنسانية، إذ هو نقطة الحركة نحو الفعل الإيجابي، والمسؤول، والموجه إلى الغاية التي جند ‏لها الإنسانَ بنصوصه، ومضامينه. ولذا يصير الدين روحا في المجتمع الذي تبنى علاقاته على التبادل بين المعلومات، والتثاقف بالخبرات، ونفَسا ‏يقود إلى استكشاف ما يتوهج به سمو ازدهاره، وتقدمه، لا سياقا يفرض أنماطا من الأخلاق الخانعة، ويوجب أنساقا من الأعراض الواجفة، ‏لأنه رأي في البداية، وموقف في النهاية. وهو كل ما يحتاج إليه الكائن البشري من وظائف معنوية، ومادية، وما يرغب فيه من سمو، وعلو. ‏وإذا تعطل جهاز الفعل فيه عن الخلق المبين لغاية مقاصده، ولم يطق أن يتجاوز لحظة تاريخية في السيرة البشرية، فإنه لن ينساب مع الزمان، ‏والمكان، ولن يغدو أثرُه حضارة تقود إلى القيم الإنسانية النبيلة، والجميلة. ‏
وإذا كان الانحراف الديني، ليس محله ما يدل عليه مفهوم البدعة بهذا الحصر الضيق لحدودها، والمحدد لفحواها، فإن موضعه في الحقيقة التي ‏يريد الدين أن يفجر سؤالها عند الإنسان، هو ما يعيشه من أوضاع تتعاقب عليه في كيانه، وتتآزر في تأليمه، فتفقده معنى الحياة التي وجد ‏لضروبها، وتعرضه للمعاناة بين دروبها، ثم يتيه بين ظلمات لا يدري كيف يقبض فيها على خيط نور، لعله أن يشعر ببصيص أمل يتحفه بلحظة ‏متسامية، يكون فيها مالكا لزمام سعادته، وبهجته، لأن إضمار هذه الصورة، أو إخفاءها، لن يمنح البدعة معنى، إذ هي صريح المضاهاة، ‏والمشابهة، لأنها في التسلسل المنطقي للقضية، تعني ولادة دين من دين، ولكنه لا يحمل إلا اسمه، ورسمه، أو ميلاد عقيدة من عقيدة، ولكنها لا ‏تتنفس برئتها، ولا تزفر بنفسها. وأي شيء أفرغ الدين من محتواه، وجعله قائما في نقوشه، لا في معانيه، فقد ابتدع شيئا ليس قائما على أصله في ‏قياس الوجود، وهو ما أوجب على الناس سلوكه من طرق لم يحبذها الإله، ولم يرضها الإنسان الحر، الكريم. ومن هنا تكون البدعة خلقا ‏لدين يضاهي الأصل في الأديان، ولكنه يحمل مفاهيم لا تسبب ما جَعل الأصلُ الالتزامَ به سببا إلى الظفر به، والوصول إليه، لأن ما في هذه ‏المشابهة من مخادعة، ومخاتلة، هو الذي يصيِّر عقولا تحكمها عاطفتها مستكينة لما أتت به التأويلات من تحريف، وتزييف، إذ لولا هذه النفوس ‏الحانحة، والعقول الكاسدة، لما أطاق أحد أن يصرف الناس عما طلب منهم بالفطرة، والدين، والعرف، والعادة، والطبع، لكي تستحوذ النفوس ‏الهشة على الذوات المائجة، فتحدث الغربة بين آهل الديار، والأماكن. لكن وجود هذا التحريف ضروري لمن أراد أن يزرع فسيلة دين متشدد ‏فيما هو مبني على المسامحة، ومتساهل فيما هو مؤسس على المشاححة، لأنه هو القادر على طمس معالم الأصل، والإبقاء على لحاه، وعضاه. ‏
ومن هنا، فسكوت هذا النوع من الدين عن أنين المحزونين، والمنكوبين، وضجهم بعويل الإنكار على زوار القبور، والضراح، هو البدعة الحقيقية ‏التي تبعد عن المقاصد المرتجاة في عالم السماء، لأن صمتنا على ما يحدث من شرك لله في تقسيم مسرات العالم، وأحزانه، وصراخنا في وجه من ‏طاف بقبر، أو من ذبح على ضريح، هو البدعة الضارة، والآثمة، إذ فيها ضرر على الإنسان، وحياته، ومستقبله، لأنه لا قيمة للأشياء في ‏الوجود البشري، إن لم يُتذوق منها معناها، ولا رغبة في امتلاكها، إن لم تدل على ذاتها. وإذا فقد الذوق، وضاع المعنى، وصارت الأشياء ‏بدون جدوى، فكيف سنطلب لما نحياه فحوى، أو طوبى.؟ قد يكون من الخداع أن لا نستظهر هذه الصورة الداكنة لواقع يعيش فيه القوي ‏على عرق جبين الضعيف، وهي الأجلى في الدين الذي رفض طيش الطغيان، والأوضح في الواقع الذي يشكو آلام الحرمان، ثم نقيم المجازر على ‏من رأى في صفاء اعتقاده أن يتوسل بميت إلى عالم الإله، أو يزور قبرا للتبرك بالآثار المعتبرة، أو للتأدب بالآداب المتبعة، وهو ليس إلا ‏استدرارا لعطف السماء بروح من وافته منيته، وهو في أعلى مقاماته، أو في أجل مراتبه، واستلهاما لتاريخ ينبض باستواء حال التدين بين ‏الديار، والأكوار. ‏
تلك هي العقائد التي درجت عليها عقول العامة في سياق فهمها للدين، والنظم التي تراكمت مع تجربة الإنسان في دركه لمعاني الموت، والحياة، ‏وهي في كليتها ليست إلا وسائل، ووسائط، وعلامات في السير نحو الأمل المرتجى من اليقين الطافح بالتسليم، والخضوع، لأنها تنقل صور عقدها ‏من المحسوس إلى المعقول، ومن المعلوم إلى المجهول، إذ ذلك التصديق المسلم لمدار الروح، هو قصارى الإدراك في فهم المطلوب من الشعائر ‏بالتقديس، والتنزيه، وإن كان اليقين المقطوع به في التصديق القلبي، هو كون الأشياء لا تتحرك إلا بقدرة من أوجدها، وإرادة من دبرها. لكن ‏احتقار الإنسان لنفسه التي تحرضه على اجتراح الآثام، واقتراف المعاصي؛ وتلك تربية نشأ عليها المتدين في مجتمعات تمدح الصفات، وتتفاضل بها ‏في المرامات، لاسيما إذا كانت متسمة بالطهارة، هو الذي أدى به إلى أن يرسم الكمال في صورة الموتى، ويزيلها عن ذاته التي لن تتطهر إلا ‏بوسخها، ولن توجد إلا في صراعها. إلا أن جعل هذا الاعتقاد قضية مصيرية في أمن الكون، وحماية الإنسان، هو عين الغباء الذي يندفع إليه ‏العقل المتحجر حين يريد صوغ طريق واحد إلى باب الحضرة القدسية، لأن أخطر أنواع الشرك الذي يتضمن سر تغير الأوضاع، والأحوال، ‏هو أن ترى رزقك محكوما بنفاقك، وتشهد صفاءك ممنوحا لمداهنتك، وتلمس نجاتك ممنوعة من حيائك. أليس هذا هو الشرك الأعظم الذي ‏حاربه الأنبياء، والأولياء.؟ ألم تجعل هذه العقيدة المتبعة في كسب الرزق للكون ناموسا آخر غير الذي صرحت به الديانات، والفلسفات.؟
‏ لو نظرنا في عمق هذه القضية التي شغلت بال الفكر الديني منذ زمن طويل، فلا محالة، سنجد كل ما يجسده العقل المتعفن بادعاء التسلف ‏من قيم معرفية للشرك، أو للبدعة، ليست إلا مسارا محرفا ابتلع مغبته من كيس التاريخ المطلي بالدماء النازفة بين الأودية، والسهول، والمبلط ‏بجماجم المسحوقين بسنابك خيول الغزاة الغائرين، والغاضبين. وكأنه في صوغه لماضيه، ومستقبله، يؤسس لنمط عقدي في الدين، يغسل بسمومه ‏معاني التعدد في الذاكرة الإنسانية، ويبني قيم الحياة على مقتضيات عنف يستحوذ على الإرادات الهشة، والعزائم الضحلة، لعلها أن تساق ‏كالقطيع إلى محرقة التاريخ الذي كتب برماد المتفحمين على عتبات الأحكام الفاشية، فتجود في أحضانه بأرواحها السامدة، وأجسادها الهامدة، ‏لأن الاهتمام بما له ارتباط قلبي بين العبد وربه، وهو حق الإله، والسكوت عن حق العبد، وهو كل ماله صلة باستقراره وسلامته من المعيقات ‏التي تحجزه عن التمتع بسعادة الكون، والطبيعة، هو التضليل للمصير الذي كلف الإنسان برفع عماده في كون متجبر الخيرات، ومتعصب ‏العلاقات، ومتطرف القدرات، إذ اهتمام العقيدة بهذا المجال الذي يعبد السبل نحو الحرية، والحضارة، هو الذي يجعلها متماشية مع متطلبات ‏العبد، واحتياجاته، وضروريات حقه في الكسب، والعمل، لأن ما عدا ذلك من حتميات لا تتناسب مع قدرة كيانه المادي، والمعنوي، لا قيمة لها ‏في اعتباره الذي يميز به بين الجيد، والرديء التافه، إذ مناقشة الإله في ذاته، وصفاته، هو الموضوع الذي لن يحدث للحقيقة الإلهية صورة ‏يقينية في إدراك الأذهان لمعاني الألفاظ، والعبارات، لأن الخوض في ذلك لضرورة الإحساس باليقين، قد جرنا في السابق إلى نيران الحرفية، ‏والظاهرية، والتأويلية، وسلك بنا مسالك مقوضة في التنزيه، والتفويض، والتعطيل. ولولا ما أحدثه ذلك من صراع دموي بين النحل، ‏والفرق، لما أدركنا أن نقاش هذه المباني، لن ينتج عنها في مزدحم طرق يومنا، إلا ما خلفه من ألم في مخاض أمسنا، إذ الدواعي هي عينها، ‏والدواهي هي نفسها، وهو صراع الأقوياء حول امتلاك مساحات شاسعة على هذا الكوكب الأرضي الذي يغرينا ببهرجه، وزخرفه، قبل أن ‏يحمل الضعفاء نفَس غروره المشؤوم بلا عقل، ولا وعي، لأن المستفيد من حوادثه التي أثمرها في الأواصر، وأوجدها في الوشائج، هو ذلك ‏الذي يرى نزاع الناس حول مطلق الإله، لن يحدث في نتيجته إلا‎ ‎احترابا بين الموارد الطافحة بالمعاني الجميلة. ‏
ولذا يكون كثير من نزاعنا سببا يفوت علينا فرصة مواكبة التطور، والتحضر، لأن تداخل القراءات، والتصورات، لن ينتج ما نتخوله من ‏اجتماع الكلمة على معنى واحد في الحقيقة، إذ هو محل لا يقبل التصديق المادي، بل موقعُ نوره الوجدانُ الذي يمهد مهاد قبول ظاهرة الغيب، ‏وهو الذي يمنح القدرة، والإرادة، والفعل الاختياري، وينفخ في الفعل الروح، والأمل، والحياة، ويجعل إتقانه نهاية الكمال، والجلال، ‏والجمال،لأن التصور محله المادة المحسوسة، أوما دل عليها من طبائعها، وخصائصها، وعالم الروح لا ارتباط له بهذا الناموس الذي تحكمه ‏الأسباب، والعلل، لأن مناطه لا يتحقق بالإدراك الحسي، بل معياره لا يستوي مع غيره في الضدية، إلا إذا كان مشاكلا له، وموازيا لحقيقته ‏المعنوية، إذ الروح لا تدرس إلا في عالمها، وهي الخفاء الذي لا ندرك له جِرما، والنسيم الذي نشهد آثار نمائه على وردة الأماني الباسمة على ‏محيا الحياة الوديعة، ونحس به في مطلق الإرادة المحدثة للحركة، والسكون. ولذا، يكون ما ينتجه القلب من معان في محيطه الوجداني، هو ‏لب العقيدة التي تحرك الذاتي في بعده السماوي، والأرضي. ‏
إن إطالة ذيل النقاش في هذه القضية التي صرفتنا عن كثير من الحقائق الوجودية، والكونية، وتسريح النظر في أسباب ما تفضي إليه من ‏عصبية مهينة، وطائفية مشينة، ومذهبية مقيتة، هو الذي يمنح للغير قوته، ويجعله قادرا على تجاوز مرحلة السؤال عن فعله المخزي، والمُردي، ‏لأنه إذا تجاوز هذه اللحظة التي تربك الصورة في الأعين، وامتنع عن مناقشة ما له ارتباط بحياة الإنسان، وسلوكه في الحضارة، ودوره في ‏العمران، لا يضيره ما قدم الناس من ثمين أوقاتهم في صراعهم حول الإله، وقتالهم حول درك مراده في الوجود البشري، ما دام الاتفاق على ‏معنى فيه متعذر الغاية، ومتنائي الحقيقة. وعلى هذا يغدو النقاش حول هذه القضية مضيعة للزمن الممنوح لنا ابتلاءه، واختباره، وتأخير لفرصة ‏سانحة، وسارحة، يمكن لها أن تكون نقطة انطلاق نحو المجهول المستحوذ على الألباب الحائرة، لأن حصر الإله في معان تلبس ذات الوسطاء ‏المحرفين، والمزورين، وإلزام الناس باقتفاء أثر ما فيها من فواجع الصراع، والاغتيال، هو الذي يضيع نجم الحرية بين سوانح الآفاق، ويغيب ‏طالع الإبداع بين جوانح الأعماق، ويقيم الحروب بين الطوائف والمذاهب بمدعى الانتصار للحقائق. وهو الذي يجتاز إلى أقذر مرحلة يجزم فيها ‏بأنها الأقدس عنده، لأنه يتقرب بها إلى مفهوم الإله الذي نقشه بالحس، لا بالوجدان، وفي ظلها الموسوم بأمارات جراحه الغائرة، يقتل الإنسان ‏أخاه حماية لرسم الدين الذي يعتقد كماله، ويهدم كل شاخص يرى كراهته، لكي يطلق لسانه على حطام الديار بالتهليل، والتكبير، وكأنه أضاف ‏إلى السماء عمادا للبقاء، والوقاء. ‏
تلك هي الصورة العقدية التي صنعها التاريخ منذ بداية الأديان، واستمرت في كل طور يجتاز مرحلة من مراحل النشوء، والتطور، لأنها الصيغة ‏البشرية المتحركة في مقابل الروح الإلهية الموجودة بين نسمات نصه، وقصده، وإن كانت تنجلى في كل مرحلة بلون، لكي تتشكل نحو ذلك ‏المستقبل الذي يرث فيه الخلف أسرار السلف، فيحدث فيه ما أوجده في حاضره من انكسار، وانحسار، وانعتاق، وسلام. ولذا يكون كثير ‏من نزاعها موجها بسيفه إلى طوق أعناق الأقنان، والعبيد، وقاتلا للأصلاء، والأحرار، ودافعا بمن خبَّر دروب المعرفة إلى الاتحاد على طراوة ‏المصلحة، وغضارة المنفعة، إذ لن يفوت علينا ما نترجاه من عمق الارتباط بالحقيقة إلا ما نخوضه من حرب حول الإله، وهو في العقد المصدق ‏به محل الوحدة، وموئل الأمان. لكن حين تلاشى الخيط الرابط بين الإنسان، وذاته، ولم يعد قادرا على استجلاء نور السماء فيها، غدا محلا ‏للخلاف، والافتراق، لأن تقنين صورة للإله، وحصرها بحدود، وحجزها بقيود، ومنعها من الالتباس بغيرها، والامتزاج بما عداها، وسجنها في ‏سرداب التجسيم، وقبو التعطيل، هو الذي يجعل فرصة ميلاد تلك الصورة بين القلوب ضئيلة، وهزيلة، لأنها لم تستوعب إلا نظرا واحدا في ‏تركيب الحقيقة، لا يجوز له أن ينوب عن كل الأنظار التي تفتقت من الإنسان حين بحث عن جزئه العلوي، ولا أن يعبر عن صوتها الذي يتضمنه ‏زفيره بين مجالب الرزق، ومنابت السعادة، ولا أن يدعي أنه امتلك الحقيقة الفذة في الصناعة، والصياغة، والمعنى الخالد الذي لا يشوبه ‏الحدوث، والتغير، ولا أن يزعم بأن غيره عدو غاشم، أو حاسد حقود، لأن تمثل المعاني الإلهية في الحياة البشرية، هو الذي يمتعنا بالحرية ‏أساسا، ويمهد السبيل نحو التجربة الرائدة في التزامنا بنظام التكليف في الكون، والطبيعة.‏
ومن هنا، فإن ما يكشف المظهر القابع وراء الإنسان المكلف بالاعتدال بين رغبات ذاته، وشهوات واقعه، ليس هو ما يسوغ به أفعاله من ‏أفكار، وأقدار، لأنها عند عجزه على طي أعسرها، لا يتجه فيها إلا إلى طرف أيسرها، إذ هو الذي يريحه من عناء الشك، ووعثاء السؤال، ‏ويمنحه أجوبة جاهزة تقضي على ورمه، وتنهي كمده. كلا، بل هو فيما يتفاعل ضمن دائرة الإنسان من مكونات عدة، تشكل بنيته الباطنية، ‏والظاهرية، وشخصيته الفردية، والجماعية، وهي التي تفسر نوع تربيته، وتكوينه، وتوضح معالم بنائه النفسي، والاجتماعي، إذ ما يشرح لنا ‏مقتضيات اختلال الموازين في عقل الإنسان المتصارع حول البقاء، والفناء، وهي التي تعبر عنه مفاهيمه المتشاكسة بين ذاته، وواقعه، هو ما ‏ينجذب إليه من صور في عمقه، وغوره، وينزوي إليه في نزاله، وعراكه. وهي التي يمحصها الواقع حين تنصهر مع مخاض نياته، وقصوده، وأحيانا ‏يمحقها، ويسحقها، فتصير قابلة لمعنى آخر، يتحول به الذهن من أدنى دلالتها على معناها إلى أقصى اتجاه في التلفيق، والتزويق، لكي تصير ‏الأشياء بدون حقيقة، ولا معنى، ولا جدوى. ‏
فلا غرابة إذا صار الدين يحمل معاني أخرى غير التي تهيأ لها أصله، ويحتوي على إفراز الذوات التي مهدت به طريقها إلى مقاصدها السالبة ‏للبه، ونظره، بل هكذا كل المكونات التي تتشكل منها ثقافة المجتمع، وخصوصياته الأخلاقية، والقيمية، لأن أثر الواقع الذي ينظر إليه بأنظار ‏مختلفة، ومهما سوغنا ضرورة الانتماء إليه بوساطة من الوسائط المعتبرة، لن يفرغ المجال إلا لما هو آني، وظرفي، لأنه هو المتحكم في الصيرورة ‏التي نتخول غايتها بكل الوسائل المباحة، والمحظورة. وإذا عاندناه بأقصى ما نملك من جهد بشري، لكي نظهر خلوه من عيوب ذواتنا الآفنة، ‏عاش كثير منا بين آسن موارد الألم، ومراقد العناء، وضاع منا كثير من الأسرار المودعة في الأشياء المغرية لنا بالفكر، والعبر، لأنها تعبر عن ‏مركبات نقص استحوذت على الذات الخائفة، والخانعة، وتوافق عليها الأقوياء، والأشداء، فجعلوها سببا في حماية ما يمتلكونه من رياش، ‏ومتعة، لئلا تفقد اليد ما فيها من مقاليد الجاه، والمال، والمراتب السنية.‏
‏ وهكذا يكون للواقع أثر في تركيب صور الذهن، وتفاعلها مع المحيط الخارجي للذات، ولو حاولنا أن نصرف عنا ما ينتجه ذلك فينا من فرح، ‏أو قرح، لأنه لا ينفي فعل الدين، ولا عمله الإيجابي في ضرورة بناء صورة الحياة الدنيوية، ولكن يؤكد وجود قوى عدة، تتفاعل في صياغة رأي ‏الإنسان، وقراره، وطريقة عيشه بين ظلمات عمقه. وما الدين إلا جزء كبير من هذا الجوهر المركب من لازميات أخرى، تتداخل فيما بينها بنسب ‏متفاوتة، لكي تنتج شخصية معينة، تكون قوية، كما تكون ضعيفة، وتكون موجودة، كما تكون معدومة، لأن ما نشتهيه من أعراض كمالنا كثير، ‏وما نخب إليه من لطف عظيم، لاسيما إذا خلبت الأشياء البصر، وأغرت النظر، إذ هي التي تحدد مناط السعادة في ذواتنا، وتحرك سلوكنا، ‏وتفجر أخلاقنا، وتمنحنا صفة خاصة بين الأنواع المشكلة لجوهر جنسنا الكامل البنيات، والمحدد التكاليف. ولذا تصير البدعة الحقيقية التي نعنيها ‏عند الاتفاق على حد معين في إشكالية الإنسان، هي أن نُخرج من عمق الدين أفكارا ملتبسة بالاتضاع، والمسكنة، تعطل دور الإنسان مع غيره ‏من الكائنات الأخرى، وتحجبه عن رؤية ما هو مخلوق له، ومطلوب منه، وتأسره بين مجاهلها الفارغة، لأن الدين الذي نتقيد بتعاليمه في قضايا ‏الكليات المحركة لنظم الطبيعة، والحياة، والإنسان، إن لم يكن تحريرا للإرادات المتعددة، واقتدارا على تمييز الاختيارات المتنوعة، فلا محالة، ‏سيتحول إلى معضد لما ينغمس فيه الإنسان من يأس بين فيافي العناء، والضياع، والفراغ. وإذ ذاك، سيصير النفاق مستساغا، والخداع ‏مستطابا، ثم تضيع القيم، ويسود المجتمع بدعة تحرف تاريخ الإنسان، وتزور الحقائق الكبرى في النفس، والعقل، والذاكرة، والقلب. ‏
وإذا كانت البدعة، هي الرضى بما يفسد علاقة العبد بربه، وبحقيقته في الوجود، والكون، والحياة، فإن ما يستلزم ذلك من اختلال في المفاهيم ‏المرتبطة بهذه المعاني المحركة لوكد الإنسان، وجهده، هو الذي يمنح القدرة لكثير على تسويغ المظاهر الجوفاء، والبحث لها عن مخارج متشعبة، ‏لئلا تذوب ملحة الحياة وبهجتها بين الذوات التائهة، والحائرة، لأن ما نراه حاصلا في واقعنا المترع بالنقاش حول ماهية الحياة الكريمة، وهو ‏الذي يضعط علينا بزحفه، وغزوه، هو ما أوجدناه من ركضنا بين أكنان عيشنا، وأفنان حركتنا، وما ارتضيناه خدنا لنا بين الدروب المكتظة ‏بالصراخ، والعويل، وأنيسا في غربة موحشة المطالع، والأنواء، لأن تآلفنا مع ما نستمرئه من مقام، وما نستبعده من مرام، هو الذي يحدث فينا ‏تسويغا لقبول ما هو ممنوح لنا بقلة، وبخل، والدفاع عنه، والجدال حوله، إذ العجز يعبد طرق اليقين باستحالة تغيير ما حقه التغير، واستبطاء ‏ما أصله التقدم، لاسيما إذا لم يكن للعقيدة دور في إعادة الروح التي تتشكل منها الأشياء إلى باريها، والنزوح بها نحو الفعل الكلي الصادر عن ‏العقل الفعال في الإنسان الكامل. وذلك ما ينفخ فينا روح المجاهدة، والمكابدة، ويدفع بنا إلى ملء فراغ الاحتياج بما تبشرنا به نصوص الدين ‏من تمكين، وتبديل لزمن الخوف إلى لحظة أمن، وأمان. ‏
وما دمنا لا نفسر ماهية الاختلال بما نقوم به من دور فيه، فإن اعتبار جزئية قدريته، لن يجعلنا إلا جبريين بالمعنى الأفسد له، لأنه إذا كان ‏تسويغا لما يقع من طفرات أحدثها العقل الذكي، فإن ما سينتج عنه من ميولات في الفكر، والرأي، والموقف، لن يكون إلا خضوعا للأعراف ‏التي تدبر سنن الكون بمقتضى الاستعلاء، والتميز. وإذا أحدث هذا فينا ذل المورد الذي يقطع دابر طلبنا للهناءة، وضعف يدنا عن صناعة ‏الريادة، فإنه لن يعلمنا كيف نحرر ذواتنا من معرة الآلام، وكيف نتخلص من سبة العناء. ومن هنا، فإن التسويغ عند عدم القدرة على إحداث ‏ما هو جميل في المطلوب وجهه لرغبة البقاء، هو بدعة البدع التي تفصح عن مكنون نفسي هزيل، وضئيل، لأنه في منتهى القصد تغيير للحكم ‏الملازم للأشياء ذاتا، أو عرضا، وتصريف له في غير حقيقته التي تظهره كامل البنى، والقوى. وهو أفحش الظواهر في الانحراف الذي يقطع ‏الصلة بين الأرض، والسماء، ويبتر كل حميمية تصل الإنسان بأخيه في الزمن البشري، لأنه يستوجب أخلاقا سيئة، وأفعالا دنيئة، وسمها بأي اسم ‏شئت، أو صفها بأي وصف أحببت، فسواء كانت مداراة، أو مداجنة، أو مداهنة، أو غير ذلك، فهي مذمومة في السلوك الجميل، ومكروهة ‏للعقول المنافحة عن كل معنى أصيل، لأنها تحرف العقيدة، والشريعة، إذ مقتضاهما أن يكون كل واحد منا حرا، لكي يكون مسؤولا عن فعله. ‏لكن إذا أغرقنا المجتمع في بركة الفساد، فكيف يمكن لنا أن ندعي اعتدال الأخلاق بين استواء الآفاق.؟
‏ إن ذلك مما يسوء به حال الخلق في جميع مكونات المجتمع، وتلاوينه، وينوء به حمل المصلحين، والمربين، بل حتى أولئك الذين يناهضون ‏الرقاعة بمنتهى ما يحملون من وخز الوجع في أعماقهم الحزينة، سيضطرون في موارد إلى مخالفة لغة العقل الذي يقيمون به الدليل على فساد ‏وضع الإنسان، وسواده، لكي يحتالوا على الغوائل بما يرون من حكمة تجرعوها من تجاربهم المحددة. أجل، هكذا يتحول الخوف إلى قلق، ‏والجبن إلى نفاق، والنقص إلى استجداء، لأن الهلع من ضياع الامتلاك بالزوال، والتباس الحظ بالفناء، هو الذي يصوغ طريقة تتمدد بها الذات ‏على أرض لذاتها الآسرة، ويبني مركب الذات من افتراضات شتى، وتناقضات تتوالى، وسواء أقرت بصواب ما تفعله من تسويغ، لكي تنجو من ‏عقاب الضمير، وعاقبة المصير، أو لم تقر بذلك فيما تحارب من أجله، ولكنها تغوص بين غيابات التواريخ البشرية، لكي تعثر على مأثرة تنجذب ‏الأفئدة إلى لونها الباهر، وتنخطف المسامع إلى صوتها الكاسر، لأنها ومهما حاولت أن تقنع غيرها بما ترسمه على ظاهر فعلها من خطوط جميلة، ‏فإن عمقها لا ينحاز إلا إلى ما تدبره من طرق باطنية في طي مسافات الخداع، والمكر. ولذا تعبر عما تخفيه من أسرار الغور الداخلي بطرق ‏مفعمة بالكياسة، والفطانة، وتفصح عن مرادها بالكناية، والتورية، لأنها وإن كانت بمقام محمود في السيرة البشرية الملتبسة بالتضليل، والتحريف، ‏فهي في حبك حيلها المستبطنة لاستعاراتها الغائرة، تقرب المسافة بينها وبين ما هو موجود، ولكنه فاقد لضرورة وجوده بين المقاصد الفضيلة.‏
ربما قد يكون هذا المقر بدهائه موسوما بما ينبر ي إليه العقل عند أول مواجهة له مع خارجه، ومجابهة له مع ظاهره، لأنه لا يريد أن يمعن ‏النظر في العواقب التي تربك مشيته إلى الملذات الجامحة، إذ تمام الصورة عنده فيما يدهمه من ألوانها بين لحظات البداية، لا فيما تتقوم به من ‏مركب يكوِّن ماهيتها بين أفق النهاية. ولذا يعتبر الالتفاف حول هذه اللمعة البراقة حدة دهاء عند من فرق بينه وبين الذكاء، وأقام الحواجز ‏بين رسوم أفعال العقل المقصودة بجمالها في الغاية، لأنها لا تقوم إلا بمن لم يميز بين روح الشيء، وجرمه، ولم يحترم ما فيه من ثابت، ومتغير، إذ ‏ما بين اليد منه زائل عنه إلى غيره، وقائم به في صيرورة بقاء النوع سليما بين الأنواع المنتهية إلى جنس الإنسان الموصول بتاريخ عريق. لكن سر ‏وجوده فيمن نفث بين روعه معنى الأمل، والرجاء، وغرس فيه بذرة اللطف، والجمال، فكان وقاء للذات الجامحة، وحماية للمعنى من جنوح ‏الإرادات الكاسدة، إذ لو كان هذا ذكاء مستجمعا لما فيه من جوهر العقل الباقر، لما انطفأت جذوته لأول اهتزاز، وارتجاج، ولما اصطرع ‏حوله جزءَا الإنسان في حيازة طبيعته، وحقيقته، لأن فعله في الذات مستمر، وأثره باق في الزمان، وممتد في المكان. وما لم يكن هكذا، فإن ‏أول ما ينقدح في العقل عن الشيء الذي ننتخبه للامتلاك الأبدي، ليس ذكاء حادا في الاعتبار العقلائي، لأن ما تختبئه الأشياء من احتمالات في ‏المغبة، وافتراضات في العاقبة، لا ينكشف إلا بعد الابتلاء، والتمحيص، إذ هو الحكم النهائي الذي تجمعت لنا أدواته بالتجربة، وتقوت لدينا ‏معرفته بالخبرة، والفهمُ الذي نعبر به عن حقيقة وعينا بالروابط التي تصل بين المادة، والروح، لأن درك هذه العلاقات في سياق بناء الحقائق ‏بين محيط الذات، والواقع، هو الذي يمد أيدينا إلى الشيء النافع بكسب حقيقته، ويدفع بنا إلى أن نصطحبه في مسيرة حياة نبني أسس قياسها ‏على ما يكمن بين الأعيان من معان جليلة، إذ ليس من الحكمة أن نقبض على الهياكل من غير معرفة بجواهرها الخفية، لأنها لا تتصل بغيرها في ‏موضوع الحوادث العارضة، إلا إذا كانت العلاقة دالة على الإحاطة، والشمول، ومستوعبة لما فيه من النسب المتناسبة، والعلل المتكاملة. ‏وإلا، فإن أي مركب وضع للبحث، والسؤال، ومهما بدا سهلا فيما ينتزع منه من صور ذهنية، لا يجوز له أن تتفاعل جزئياته إلا بتمامها في ‏الماهية، إذ هي كليته التي تكسبه معنى الجرم والحيز في الوجود، وهي التي ينظر إليها عند استيعاب ما في غوره من معانيه الأصلية. ‏
‏ ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس يبحث تمويلا إضافيا لإسرائيل| #أميركا_اليوم


.. كبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي: لدينا القدرة على




.. الخارجية الأمريكية: التزامنا بالدفاع عن إسرائيل قوي والدفاع


.. مؤتمر دولي بشأن السودان في العاصمة الفرنسية باريس لزيادة الم




.. سر علاقة ترمب وجونسون