الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكائن المعطوب: ملاحظات أولية بخصوص رواية المغاربة

خالد العارف

2017 / 4 / 5
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


الكائن المعطوب: ملاحظات أولية بخصوص رواية المغاربة
"لا أحد يحيا هنا" خوان رولفو
"لا شيء يكتمل هنا" عبد الكريم جويطي

بفراغي من قراءة رواية المغاربة للروائي المغربي عبد الكريم جويطي، خرجت بهذه الخلاصة الأولية: يبدو أن المغاربة كلهم عميان. بعد ذلك، أدرت الفكرة في رأسي فوجدتها لا تستقيم لأسباب عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: استحالة سحب صفة العمى على شعب، لأن العمى مرتبط بالأشخاص، اللهم إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار معنى الجهل المتضمن في كلمة العمى كما نجد عند ابن منظور، أو نظرنا إلى العمى باعتباره تصوراً أنطولوجيا يتجاوز المؤقت والهارب لينصت إلى القارّ عبر الزمن. أضف إلى ذلك أن العمى في الرواية يرتبط بشخوص بعينها، وليس بكل شخوصها. صحيح أن العمى يشكل ثيمة ناظمة في الرواية، ولكن هناك أشياء أخرى تعضد هذه الثيمة وتتضافر معها مثل حالة الغافقي الأكبر، معطوب الحرب. ومن جهة أخرى هناك حالات أخرى من العته وقلة العقل التي يستقطرها السرد استقطاراً من رحم التاريخ المغربي. لذلك كله، ارتأيت أن أقارب هذه الرواية من جهة تشابكها مع العطب الكامن (بحسب منطوق الرواية ومفهومها) في هوية المغاربة. انطرحت لدي هذه التساؤلات وتركتني مقيداً. كيف السبيل إلى الخروج بفكرة تلخص العمل؟ للقيام بذلك، لابد للقارئ أن يختزل الحكايات إلى أصغر مكوناتها، ويضيف هذه إلى تلك حتى يصل إلى الفكرة المرتجاة، تلك الفكرة التي من خلالها يمكن الربط بين السرد (الرواية هنا) والواقع دون عسف؛ العلاقة التي حددها الناقد الأمريكي فريدريك جيمسون انطلاقاً من تصور مفاده أن السرد يشكل فعلا رمزيا على المستوى الاجتماعي باعتباره لاشعورا سياسياً، يجمع الحاضر والماضي. بطبيعة الحال، يعني ذلك أن السرد الأدبي عامة، لا يمكن أن يكون خارج الواقع السياسي. في رواية المغاربة، ينهض السرد على التجميع والتشتيت والفصل والوصل بين أجزاء الرواية، ذاهبا بالشكل الأدبي إلى حوافه؛ إلى أقصاه. وكل ذلك يخدم العلاقة الوثيقة بين الواقع السياسي في شتى تجلياته، ومنها على الخصوص تجلياته التاريخية كما وصلتنا من خلال الإخباريين والرحالة الأجانب على حد سواء من جهة، وبين تصور هذا الواقع السياسي وإعادة صوغه في قالب روائي من جهة أخرى. لكن هناك عقبات أولها هي بداية الرواية. لا أتحدث هنا عن البداية اللغوية أو السردية والتي تتشكل في هذه الحال من توطئة تمتد عبر نحو أربع صفحات؛ إن البداية التي أتحدث عنها هنا هي تلك اللحظة التي حددها خيال السارد من أجل الإتيان بمحكيّ يصبو إلى أن يكون متناسقاً مع عنوان الرواية: مع الشعب المغربي؛ مع الكائن المعطوب.
الحكايات المتشابكة
من نافل القول أن الرواية تنبني على حكاية أو مجموعة من الحكايات، وهي هنا في هذا الباب حكايات متداخلة ومتشابكة. هناك الحكاية المركزية التي تدور أحداثها في مدينة بني ملال، وهي حكاية الشخصيتان المركزيتان: الأخوان محمد وعبد الهادي الغافقي، اللذان يضطلعان بمهمة السرد في الفصول المتعلقة بحكايتهما. أما حكاية محمد الغافقي، الطالب الجامعي الذي يدرس الأدب العربي، فإنها تتلخص في حادثة العمى المبكر الذي أصابه وهو بعد يافع. تتفرع الحكاية بعد ذلك إلى قصة الحب التي ربطته بصفية، الخادمة التي سيذهب لخطبتها من عائلتها في الجبل. قبل أن يتقدم محمد الغافقي لطلب صفية للزواج، سيكون قد حصل على "عمل" في قصر الباشا الصغير، عمل يتمثل في الترويح عن هذا الأخير صحبة ثلة من العميان الآخرين. لكن صفية لن تصبح أبداً زوجة محمد الغافقي رغم أنه تزوجها (عن طريق الفاتحة) ودفع مهرها واصطحبها هو وصديقه توفيق الصغير الذي يعمل معه في حلقة الترويح عن الباشا الصغير. ما سيحصل في النهاية هو أن توفيق الصغير هذا، وهو أعمى كذلك، سوف يستغل غياب صديقه محمد الغافقي/عاشور الصغير كي "يستوليَ" على صفية ويتخذها زوجة له. لن يقبل محمد الغافقي بالأمر، فيضايقُ "المحتالَ" كما يسميه السرد، إلى أن تنشب بين الرجلين معركة دامية يُحملان فيها إلى المستشفى في حالة خطيرة. أما حكاية عبد الهادي الغافقي، العسكري الذي يذكر اسمه مرّة واحدة فقط، فتتلخص في عودته من جبهة الحرب في جنوب المغرب وقد أضحى معاقاً بعد أن خضع لعملية جراحية بُترتْ ساقه على إثرها. حين يعود العسكري من الصحراء، سيتكفل بأخيه الصغير محمد في محاولة لتجنيبه آفة العمى، ولكن كل المحاولات الطبية ستبوء بالفشل. هاتان الحكايتان تلقيان الضوء على الواقع الاجتماعي لطبقة من المغاربة، و تتشابكان في عدة مواضع مع التاريخ السياسي للمغرب. تنضاف إلى هذه الحكاية، حكاية تاريخ مدينة بني ملال من خلال القواد والبشوات الذين تعاقبوا على حكمها قبل الاستعمار وبعده: حكاية الباشا بوزكري وولده وحفيده؛ الأخير الذي يطلقُ عليه السردُ اسم الباشا الصغير. وهي حكاية يضطلع السرد بفتحها لكي تشمل رمزياً وفعلياً حكاية السلطة في المغرب.
العلاقة الإشكالية بين عنوان الرواية وأجزائها
عنوان الرواية مثير للدهشة على أقل تقدير، وإشكالي إلى حد كبير. كيف يمكن إطلاق عنوان بهذه الدلالة الممتدة، أو قل غير المحصورة، على مكتوب أو سرد حتى لو امتد إلى آلاف الصفحات؟ هل يمكن مثلا القبض على ماهية شعب بأكمله في سرد واحد؟ وحتى إذا سلمنا بذلك، فمن أين سيبدأ هذا السرد تاريخياً؟ هل هناك بداية تاريخية محددة يمكن أن تفي بالغرض، بحيث يكون هناك اتفاق ضمني، أو قلْ نسبة قليلة منه، بين السارد والقارئ من أجل المضي في القراءة؟ هذا الطرح لا يستقيم لأن فعل الكتابة (أي نوع من الكتابة كان) هو أساساً شكل من أشكال التمثيل، وليس إظهار حقيقة ما قد تكون غائبة عن قراء محتملين. إن الرواية باعتبارها فناً، لا يمكن أن تُحشر في باب إستثيقا العبقرية كما قال بذلك كانط؛ فالرواية بهذا المعنى تشكيل لوعي يبغي ترميز الواقع وتقطيره في قالب فني دارج له قواعده؛ هذا التشكيل يتكئ على تصور الروائي الصائغ، وهو التصور الذي يتخذ دلالة له في اللحظة التي يصبح فيها شيئاً قابلا للتداول باعتبار تأويلنا له من خلال اللغة التي يفصح بها عن ذاته؛ تلك اللغة التي هي وسيط في خدمة الروائي والقارئ على حد سواء. أما المنهج المتبع (لأن هناك منهجاً صارماً يحكم تطور الرواية) فهو الحفر الاركيولوجي في النفس المغربية، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الهوية الأنطولوجية للمغاربة.
لكن هذه المسألة المعقدة قد تجد لها تفسيراً في إطار يتجاوز الرواية بما هي كتابة أدبية قد يُنظر إليها بشكل مختزل باعتبارها حكاية أو مجموعة من الحكايات (التي يُفترض فيها الحد الأدنى من الاتساق). سأحاول أن أبرهن على أن رواية المغاربة تفتقد للبداية، بل تحاول تقويض فكرة البداية؛ وهي من هذا المنطلق تؤسس لكتابة مغايرة في مجال الرواية العربية. إن المغاربة تعوض الحكاية بالحكايات التي يبدو ظاهرياً أن لا رابط يربط بينها غير ذلك الرابط الواهي الذي يتحدد في فكرة الوطن وعنوان الرواية على حد سواء. هذه هي الحكاية الكبرى.أقصد بالحكاية الكبرى تلك الحكاية الرمزية التي تنتظم فيها كل الحكايات الفرعية التي تشكل معين هذه الرواية؛ إنها الاستعارة الكبرى إن شئنا (إذا ما استثنينا شذرات الغافقي الأكبر). سنكتفي بالقول ههنا بأن الحكاية الكبرى هي جماع البعدين الاجتماعي والسياسي ضمن الشكل الكتابي/السردي كما تشكل في رواية المغاربة. فأما الاستعارة الناظمة لكل ذلك، فهي استعارة العمى كما سأحاول التدليل على ذلك من خلال مناقشة مختلف مظاهره وأبعاده في الرواية.
في العمى
عمى الحاكم والمحكوم
تتواشج الحكاية المؤسسة للرواية—حكاية عمى محمد الغافقي—مع حكايات أخرى تشير إلى العمى من طرف خفي. هو عمى يُسحبُ على مستويات عديدة، منها الاجتماعي والسياسي والثقافي. فأما العمى السياسي فنجده في مسألتين(على الأقل): 1- في تاريخ المغاربة القديم والمتمثل سردياً في رواية المغاربة في "هذيانات مغربية". إن الهذيان هنا، باعتباره فقدانا للحصافة والعقل، يسحب على تصرفات المغاربة سواء أكانوا حكاماً (باب السلاطين) أو محكومين أو أولئك الأولياء الذين يلعبون دور الوساطة في علاقات السلطة. فالبنسبة إلى المحكومين، يتتبع السرد نقائصهم، فتجده يقول: "لا شيء يصل إلى منتهاه الطبيعي كلّ شيء يتوقف، يتكسَّر، يعطل. لن يرى المغربي أبداً حلماً يتحقق أمام عينيه." (ص. 124) يضيف السارد معلقاً على هذا "الهذيان" بالقول: "حتى وهو يبني داره يتوقّف المغربي في لحظة ما، ويترك آجراً بلا ملاط أو ملاطاً بلا صباغة أو أعمدة ممدودة في الهواء لاكتمال لن يتحقق أبداً..." (ص. 124) وأيضا، على المستوى النفسي-الاجتماعي، يميط السردُ اللثام عن ما يسميه نقائض البلد، ومنها مثلا أن كل شيء له ثمن، وهي الفكرة التي تجد أصلها الرمزي في المثل المغربي الدارج: "اللي ما يتباع ما يتشرى، حرام." إن تاريخ المغاربة وجغرافية بلدهم شكّلا وعيهم وجعلاهم يعتقدون أن لكل شيء ثمناً. (ص. 119) إنهم نتاج للجغرافيا والتاريخ. أضف إلى ذلك أن السارد يلتقط التفاصيل الصغيرة التي تميز سلوك المغاربة وتكشف عن تناقضاتهم: "كل سطح تستريح فيه بعد إخلاص طويل ومرهق أشياء فقدت شرف الخدمة. ولكن لماذا يحتفظ بها الناس؟ لماذا يكوِّمونها في سطوحهم؟ أيعتقد المغاربة بأن قيامة خاصة بالأشياء ستحدث، وآنذاك ستُبعث جديدة صالحة ومتأهبة للخدمة من جديد؟ أم أنه التقليد الذي يعتصر البلد في قبضته ويجعل المغاربة يخافون من أن يفطموا عن ماضيهم بما فيه من خردة وحثاث وعفر؟ ألا تتكوم الأفكار البالية والمتجاوزة في أذهانهم كما تتجمَّع الخردة في سطوحهم؟" (ص. 129) أما في ما يخص التاريخ المعاصر، فإن السارد يسحب صفة العمى على الحاكمين حين يقول: "لكن هل قاد الأعمى حقاً السفينة؟ أم أنه يتحدث عن عميان عتاة غلاظ بأجهزة دعاية ضخمة، وأجهزة أمنية سرية وعلنية رهيبة، وحشود تساق لعبادتهم، والهتاف لهم، القادة الضرورة، الملهمون، الخالدون؟..عميان يسوقون سفن شعوبهم إلى حتفها." (ص. 48.) وكل ذلك يسير في اتجاه تقويض ركائز الاستبداد والحكم المطلق الذي عانى منه المغاربة.
عمى النخبة السياسية: اليسار والإنصاف والمصالحة
تزيد الرواية في تعميق فكرة العمى لتسحبها على النخبة السياسية في المغرب من خلال إعادة كتابة تجربة الإنصاف والمصالحة الشهيرة. إعادة الكتابة هاته تمر عبر الربط بين العمى باعتباره الرؤية الأساس التي تسند التصور الكلي للرواية. هكذا يخيط السرد مزق الحكايات ويجعل عضواً من "اللجنة" أعمى كذلك، ليضطلع العمى بربط الحكايات رمزياً في ما بينها. لكن العمى لا يتجلى فقط من خلال فقدان القدرة الفعلية على النظر، ولكنه أيضاً يجثم بكلكله على التصور السياسي لليسار بكليته؛ تلك التجربة التي وصفها عبد القادر الشاوي ب"تجربة الحلم والغبار". ففي المغاربة، تصبح تجربة الإنصاف والمصالحة مسرحية تم تدجين اليسار من خلالها؛ اليسار الذي أضحى في الخدمة بعد أن كان على مسافة أكثر من نقدية مع السلطة. هكذا يتواشج عمى محمد الغافقي مع عمى محمد البركة، الخبير الأركيولوجي الذي أتى من الرباط ليتفحص الجماجم. إضافة إلى ذلك، حتى التقني الذي يساعد الخبير الأعمى يوصف بهذه الكلمات: "في عينيه وتقاسيم وجهه بلاهة متأصلة" (ص. 148)؛ هو أعمى بشكل من الأشكال إذاً.
عمى التبعية
يفتح العمى الطريق أمام محمد الغافقي للتأمل بمساعدة أخيه الأكبر؛ عليه أن يختار عماه، لأن العمى ليس واحداً حتى لو بدا كذلك. يجد الغافقي نفسه أمام "نموذجين" للتعامل مع العمى: إما "نموذج" طه حسين أو "نموذج" سيدي الصاحب، أي عمليا إما تحدي الإعاقة والانتصار على الحياة ولها بواسطة العقل، أو استعمال "العمى" للغوص في عالم القلب. في كلا النموذجين، يصبح الأعمى قائداً ملهما للجموع مستعملا لها في حياته، ولكن الأعمى يضل دائماً مزدريا للحياة غير قابلٍ للوضعية "الدونية" التي وضعته فيها. فبخصوص حالة طه حسين يحاول السارد تلخيص مساره بهذه الكلمات القوية: "كانت حياته مرثيّة طويلة، ونقمة على الأسباب التي قادته إليها، والتي لو كانت رجلا لقتله." (ص. 49) أما في حالة سيدي الصاحب، فإن حكايته تنتهي مثل نهاية حكاية طه حسين، مع حفظ الفوارق؛ يقول السارد على لسان سيدي الصاحب: "كيف لمن لا يعرف بماذا ستر عورته أن يهديكم، انتهى الأمر.." من خلال هذين النموذجين ينتقد السارد العقل والقلب كليهما. غير أن ما يذهب في اتجاه نقد السارد للشرق هما شيئان اثنان: أولا، العلاقة الملتبسة التي تربط المغاربة بالمشرق، وهي علاقة تنبني على التراتبية والسلطة الرمزية المبنيتان على السبق والريادة. فحينما تتم المناداة على محمد الغافقي (الذي فقد بصره كلياً في هذه المرحلة) للانضمام إلى حلقة الترويح عن الباشا العائد من مصر، يشرح الحاج فرح، السكرتير الشخصي للباشا، الأمر بالطريقة التالية: "كان من عادة حضرة الباشا في مصر أن ينظّم سهرات فكرية يحضرها ثلة من الأصدقاء...شبه نادٍ مغلق للترويح المفيد عن النفس". يذكر الحاج فرح بعض الشخصيات التي كانت تحضر السهرات في مصر، ومن بينها "عاشور بيه الطبيب، وفهمي بيه الأزهري...وتوفيق بيه الموثق.." (ص. 178) يتجلى السبق والريادة رمزياً على مستوى السرد في أن العميان الذين سيشكلون حلقة الترويح عن الباشا، سيسمون من جديد؛ إنهم سيعطون حياة وهوية جديدتين تتماشيان مع وضعهم في حلقة السلطة. فمحمد الغافقي سيطلق عليه اسم "عاشور الصغير" وهي نفس الحال بالنسبة لأعضاء الحلقة: كلهم صغار. يلخص السارد هذه المسألة على لسان محمد الغافقي بالكلمات التالية: "ودخلت وأنت محمد الغافقي، وخرجت وأنت عاشور الصغير لأن الحاج فرح—أو ربما هو الباشا نفسه—قد تشبّع بذلك السخاء المشرقي في توزيع الألقاب، والبحث لكلّ شيء عن أشباه ونظائر، من زمن كوكب الشرق والعندليب الأسمر حتى سلاطين وملوك وأمراء الطرب التافهين الآن.." (ص. 182) إضافة إلى هذه التفاصيل، فإن نقد التوجه نحو الشرق يتخذ شكلا رمزياً في النقد اللاذع الذي يوجَّه إلى فكرة "الليالي" سواء أكانت ليالي ألف ليلة وليلة أو ليالي السمر والأنس التي تنظم في كنف السلطة وبمباركتها والمنسوجة على منوال سابقتها التاريخية. يرسم السارد معالم "ليالي الباشا" بأجزائها الأربعة باعتبارها مسرحية كبيرة (بالمعنى السلبي للكلمة)؛ إنها مسرحية من حيث أن العميان الذين يشكلون الحلقة، لا يتحدثون إلى الباشا، ولكنهم يستمعون إلى صوته مسجلا. إضافة إلى ذلك، فإن عاشور الصغير يقول في ما يشبه التأسي: "وأنا مستغرق في تأمل وضعيتنا نحن الستة إزاء حضرته، لا يمكن أن نتوهّم مجرد الوهم بأننا أصدقاؤه"، و"لا نحن بخدم له"، "وإنما [نحن] كومبارس لممثلين أضاعهم البُعد، وشتتهم الزمن والموت." (ص. 235). إنها مسرحية على مستويات السياسة والفن كذلك.
في البداية كان عمى الحية
الحكاية الأولى التي يفتتح بها السرد الحديث عن العمى، هي حكاية المواجهة بين جد السارد والحية. ما يهم في هذه الحكاية هو التساؤل الذي يطرحه الصبي محمد الغافقي حول العلاقة بين عمى الحية والخلق إذ يقول: "ولماذا وضع الله في وجهها عينين ولا حاجة لها بهما؟" (ص. 16) يخفق الجد في إرواء عطش الطفل المعرفي، لكنه يستدرك بعد أيام ليجيب الطفل بأن السر في ذلك هو الجمال. غير أن محمد الغافقي لا يقتنع بالجواب، حتى بعد سنوات من التفكير في الأمر؛ يقول: "كان عليّ أن أبذل وطيلة أعوام جهداً كبيراً لأقتنع بوجود عين كاملة لا ترى، وبتصالح الجمال الإلهي، والسمّ القاتل في وجه أفعى متهيِّجة. لكنني عجزت.." (ص. 17) لا تشير هذه الحكاية إلى العلاقة الملتبسة بين العمى والحكمة الإلهية إلا من طرف خفي، هذا الطرف الخفي الذي يصبح واضحاً في الفكرة الثاوية وراء تصوير السارد لحياة طه حسين باعتبارها نوعا من الغضب وعدم قبول القدر الذي جعله أعمى؛ يقول السارد عن طه حسين: "ولأنه لم يرد أن يقف وجها لوجه مع الخالق الذي يقف وراء القدر الظالم الذي أصابه هو بالذات، فإنه خاض وطيلة حياته حرباً تنكرية ضده." (ص. 50)
التزمين كأفق لكشف كينونة المغاربة
علينا أن نقرّ بالالتباس الكبير الذي تغرف منه كلمة المغاربة وتغرق فيه في آن معاً؛ ليس جلياً أنها تحيل على شعب محدد الأوصاف إلا تلميحاً، ثم إنها لا تحيل على فكرة الوطنية بمعناها المعاصر لأن الأخيرة لم ترَ النور إلا مؤخراً (العروي). أيمكن أن نتلافى التفكير في فكرة الأمة، أو فكرة الوطن أو حتى فكرة الدولة حين نتحدث عن المغاربة أو حين نقرأ رواية المغاربة؟ رواية المغاربة هي كل ذلك في وقت واحد؛ إنها تفكك مكونات جزء من الشعب المغربي وتشير من طرف خفي إلى العنف الرمزي الذي تأسست عليه الدولة في اللحظة نفسها التي اعتمدت فيها على "الثقافة" المحلية المتاحة آنئذ في بناء آلية للحكم. إذا كان صحيحاً أن فكرة الوطن قد انبنت على قبولٍ مؤسس تم نسيانه بعد ذلك (رينان)، فإن رواية المغاربة تحاول تذكّر تلك اللحظة التأسيسة واستعادتها نقدياً من منظور أونطولوجي يتكئ على الحفر الاركيولوجي (إن صح التعبير ههنا) في أفق تسريد الأزمنة التاريخية كما تشكّلت، وسكْبها في زمن متعال هو زمن الرواية المنكتبة. هكذا تكون هذه الرواية قابضة على المبدإ المؤسس لفكرة الوطن/الأمة باعتبار أن الأخيرة هي "روح" تتأسس على الماضي والحاضر في آن معاً.
العمى: إعادة الكتابة وتزكية الواقع
لا يمكن لقراء المغاربة ألا يتذكروا روايات أخرى تسير في نفس المسار في استبطان فكرة العمى أو في نسج تصور عنه. لا يتعلق الأمر هنا فقط بتصور ينهض على رؤية تناصية تختزل العلائق بين الروايات في تعالقات نصية تبقى حبيسة النظرة التشكلية للنصوص من داخل النصوص نفسها إعمالا لتصور دريدي مؤداه أن ليس هناك شيء خارج النص؛ إن الإشارة إلى ما سبق من النصوص هنا يصبو إلى ربط السابق باللاحق في إطار مفهومين محددين: أولا، مفهوم التزكية /التعديل (تزكية الواقع أو تعديله) الذي يعتبره إدوارد سعيد واحداً من الدوافع التي تسند الكتابة الروائية في الغرب. (انظر، بغينينز، ص. 81)؛ وثانيا، مفهوم الخطاب عند فوكو. لا يمكن، إذن، تجاهل روايات مثل العمى (1997) لجوزي ساراماغو والقوس والفراشة (2010) لمحمد الأشعري والعميان (2012) لعبد العزيز آيت بنصالح، خصوصاً أن المغاربة تشير إليها ضمناً أو تدمج التصورات التي أتت بها في نظرة مقولِبة تسحَبُها على المغاربة؛ على شعب بأكمله. فرواية المغاربة باعتبارها إعادة كتابة تصبو إلى الاستدماج والمجاوزة في أفق تسريد كينونة المغاربة. هي لا تقتصر مثلا على انتقاد السلطة السياسية عن طريق خلق تقاطب بين مدينتين وواقعين ماديين يكادان يكونان مختلفين (فاس ومراكش) كما في رواية العميان، ولكنها تذهب بفكرة العمى إلى أبعد حد ممكن إذ تستقرئ أبعاده في ما قد يسمى أنطولوجيا المغاربة عبر التاريخ كما ألمحتُ إلى ذلك من قبل. ولذلك فإن المغاربة لم تركّز على مرحلة بعينها (كما في رواية العميان)، بل تحاول تسريد الأزمنة التاريخية منذ بداية حكم الأدارسة. يقول السارد في هذا الباب: "حين كان شيوخ أوروبا، القبيلة الساذجة، يبايعون إدريس ابن عبد الله الأعزل والهارب من الشرق رفقة مولاه راشد. ويقولون: هو سيدنا ونحن العبيد. وحين بايعوا ابنه وهو طفل في سن إحدى عشر سنة، كانوا يضعون لبنات تاريخ طويل لاحتقار الذات والعبودية المختارة." (الرواية، ص. 214) وبعد ذلك يقفز السرد مباشرة إلى مراحل أخرى من الحكم في المغرب (المرابطون والموحدون والمرينيون) في محاولة لتبئير السرد على الهذيانات، أي عمليا على استراتيجية السلاطين في الحكم التي يوجزها السارد في "الذكاء والكلْبية" (ص. 242). كلّ ذلك (وغيره كثير) يشكّلُ الخلفية التاريخية التي انبنت عليها هوية المغاربة التي يصبو السرد من خلال الربط الرمزي بين الحكايات إلى جعل البعد الأنطولوجي للهوية المغربية يبدو كفسيفساء انتقشت عبر الزمن الماضي (الذي لا يكف عن الحضور بأشكال متعددة) لتجد تجسيدها الحكائي والسردي في حكاية العمى؛ في حكايات المغاربة.
هناك على الأقل أربعة قواسم مشتركة بين المغاربة والقوس والفراشة: الحفر الأركيولوجي في بنيات السلطة وزحف العمران و العمى وحوار الموتى والأحياء. في الروايتين يتموقع الساردان في الزمن الحاضر في ورطتين تبدوان مختلفتين ظاهرياً. يمكن تلخيص ورطة الفرسيوي الشخصية في الاستقالة من العالم بعد "الموات الحسي" الذي أضحى ضحية له. أما ورطة السارد (وبعض الشخوص) في المغاربة فتتلخص في العمى، وهو نوع من الموات الحسي. غير أن العمى في كلتا الروايتين يتخذ أبعاداً أنطولوجية. ففي رواية القوس والفراشة، يتطور السرد في اتجاه الحفر الأركيولوجي في الطبقات التي غطت مسار آل الفرسيوي حتى يصل إلى المرحلة الرومانية (من خلال المرشد/الأب). أما في ما يخص المكان، فنجد القوس والفراشة تحاول تعرية التهافت العمراني والعقاري في الرباط ومراكش؛ أما في المغاربة، فمدينة بني ملال هي ضحية هذا التهافت. وهكذا يتواشج العمى الفعلي مع العمى السياسي في كلتا الروايتين. إضافة إلى ذلك، فأن الروايتان معاً تتفقان على "بداية" واحدة: مرحلة الأدارسة. ففي رواية القوس والفراشة لا نعدم تعليقات تسير في اتجاه تقويض فكرة البدء وتغليفه في صور أقل ما يقال عنها إنها شبه كاريكاتورية، ومنها ما يقوله الفرسيوي الأب لمجموعة السياح: "هذا هو الحمام الإدريسي الذي اكتشف مؤخراً[...]إنه كل ما استخرجه البحث الأثري حتى الآن، من المرحلة الإسلامية. لم يكن يهم إدريس الأول سوى تشييد حمام لأداء الوضوء الأكبر قبل الشروع في تشييد الدولة، وكذلك كان. هذه دولة تتوضأ منذ فجر الخليفة دون أن تدرك الطهارة المنشودة." (ص. 168) في مقابل ذلك، يحاول السرد في القوس والفراشة أن يثير الانتباه إلى الإمكانات الضائعة قبل الأدارسة بنوع من الأسى؛ يقول السارد على لسان الفرسيوي الأعمى: "هنا كان يمكن لدولة الأمازيغ أن تكبر وتملأ الدنيا، فلا يكون هناك إدريس أول ولا ثاني ولا ثالث..." (ص. 168) ولكن الخيانات قضت على الأمازيغ؛ الخيانة هي في آخر المطاف نوع من العمى السياسي، عدم القدرة على اجتراح رؤية سياسية واضحة.
أما النقطة الثالثة التي تلتقي فيها الروايتان، فهي حوار الموتى والأحياء (وهي ثيمة أو تقنية ظهرت لأول مرة مع الروائي المكسيكي خوان رولفو في روايته بيدرو بارامو). في المغاربة، إذا استثنينا "شذرات الموتى أحياء"و"عودة الموتى"، حيث يتم الحديث بصراحة عن علاقة حقيقية أو مفترضة بين الموتى والأحياء، فإن الحوار بين الموتى والأحياء يتخذ شكلا آخر أكثر إيغالا، أقصد شكل استنطاق للواقع باعتباره أثراً مادياً للتاريخ ومنبثقاً منه، ومن هنا تبدو فكرة الحفر الأركيولوجي في طبقات النفس المغربية التي يتبناها السرد. فالموتى دائماً حاضرون في خضم الأنطولوجيا المغربية التي تنبني على التردد بمعنييه: العودة إلى (الشيء) وعدم الحسم؛ أي عدم القدرة على الحسم (المغاربة، ص. 158). أما في رواية القوس والفراشة، فإن الحوار بين الأحياء والأموات يتخذ أشكالا متعددة ليس أقلها أهمية حوار الأب المكلوم مع ابنه ياسين، وهي العلاقة المؤسسة للتدافع السردي في الرواية. يقول ياسين (الميت) لأبيه، من بين ما يقول: ""ماذا جرى لكم لتعتقدوا أن المستقبل يمكن أن يكون مثل عباءة المتسول، تجميعاً لقطع من ألوان وأزمنة مختلفة؟ !" (ص. 79) هذا سؤال يتوجه به ياسين إلى أبيه، ياسين الميت الآن. إن هذا السؤال يكاد يكون الأساس الذي يشد النظرة التي أتت برواية المغاربة: هي عباءة متسول، تجميع لقطع من ألوان وأزمنة مختلفة، على مستوى الشكل وعلى مستوى الموضوع، ولكنه تجميع تسنده رؤية جمالية تتكئ على تصور أونطولوجي صارم.
فقط في إطار تصور يجمع السابق باللاحق (بدون علاقة سببية واضحة) إن على مستوى الوحدات الحكائية أو على مستوى النصوص الروائية السابقة ذات الصلة، يمكن قراءة رواية المغاربة باعتبارها رواية تُعدم فكرة البداية؛ إنها بهذا المعنى رواية تتكئ على البتر لتقوّض فكرة البداية (الخطية) في كثير من تجلياتها: بداية الدولة وبداية الأمة، من بين بدايات أخرى مكنة. إنها في هذا الجانب، تحاول النسج على منوال روايات سابقة مثل رواية العمى لجوزي ساراماغو، الذي يحضر بشكل متنكر في شذرات الغافقي التي تمثلت شذرات فيرناندو بيسوا. غير أن ما يجعل رواية المغاربة تختلف عن رواية العمى هو كونها تشخص العمى، أي تربطه بشخوص بعينها وبأحداث تاريخية في محاولة للتنصل من سلطة المرجع (رواية العمى) الذي ترك شخوص الرواية بدون أسماء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوروبا تسجل أعلى ارتفاع في درجات الحرارة | #نيوز_بلس


.. 10 قتلى في اصطدام مروحيتين عسكريتين بماليزيا




.. تشييع مُسعف استشهد إثر اعتداء مستوطنين على قرية بنابلس في ال


.. خلال 200 يوم من الحرب ظهرت أسلحة المقاومة الفلسطينية في العد




.. الخارجية الأمريكية: لا توجد طريقة للقيام بعملية في رفح لا تؤ