الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صفات الشعوب واشتراطات الدولة

فارس تركي محمود

2017 / 4 / 10
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


لا اعتقد ان هناك امة من الامم او شعب من الشعوب عبر التاريخ الانساني كله اصابته الحيرة والارتباك ، والعجز عن تحديد ما يريد وعن معرفة كيفية فعل ما يريد مثلما اصابت الشعوب العربية من محيطها الى خليجها في المئة سنة الاخيرة ، هذه الشعوب التي جربت كل انواع الانظمة وكل اشكال الحكم من ملكي الى جمهوري الى عسكري الى حكم مستقل كامل السيادة الى حكم تابع او خاضع او واقع تحت احتلال مباشر او غير مباشر وعلى الرغم من كل هذه التنويعات كانت النتيجة واحدة وهي الفشل ، وجربت كذلك الانتفاضات والمظاهرات والانقلابات والثورات وكانت النتيجة الفشل ، واعتنقت مختلف الافكار من اقصى اليسار الى اقصى اليمين وكان الفشل بانتظارها دائما وكأنه قدرها الذي لا تحيد عنه . نعم فشلت الشعوب العربية في تحقيق حلمها بإقامة دولة عربية موحدة او عدد من الدول العربية المستقرة والديمقراطية حيث يتمتع فيها المواطن بالحرية والكرامة والامان والاستقرار والرفاهية ورغد العيش أي أن يصبح مواطنا حقيقيا يتمتع بحقوق حقيقية كباقي خلق الله الذين يسمع بهم ويراهم يوميا على شاشات التلفاز وهم يتمتعون ويسرحون ويمرحون ويعيشون حياتهم بالطول والعرض في الدول المتقدمة .
ان السؤال الذي يحير الشعوب العربية هو لماذا نفشل دائما بينما هم _ في الدول المتقدمة _ ينجحون دائما ؟ لماذا يعاكسنا ويستعصي علينا كل شيء بينما يسلس كل شيء قياده لهم ؟ كيف استطاعوا ان يضبطوا تفاعلات مجتمعاتهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا الى اقصى درجات الضبط بدون ان يؤدي ذلك الى الدكتاتورية كما يحصل لدينا ؟ وكيف استطاعوا ان يوفروا حرية غير محدودة لمواطنيهم بدون ان يؤدي ذلك الى المشاكل والفوضى وانفراط عقد الدولة كما يحصل لدينا ايضا ؟ وكيف بنوا اقتصادهم وطوروا بلدانهم وفرضوا هيبتهم واحترامهم وجعلوا حياتهم جميلة رقيقة واحبوا اوطانهم واحبتهم اوطانهم واحبوا بعضهم بعضا بل واحبوا حتى حيواناتهم واحبتهم حيواناتهم ؟ .
ومما يزيد من حيرتنا ويعمق من جراحنا ويضيف الى مرارتنا مرارات اننا في يوم من الايام وفي الماضي العتيد كنا نحن الناجحون وكانوا هم الفاشلون ، الم يكونوا ينظرون الينا كنظرتنا اليهم اليوم ؟ الم نكن نحن القدوة والمثال وهم المقلد والمحاكي؟ ألم ننجح في اقامة امبراطورية وحضارة عربية اسلامية امتدت من الصين الى الاندلس ؟ ألم نزحف بجحافلنا حتى بواتييه ؟ ألم نطرق بقوة ابواب فيينا ؟ ألم نكن سادة الدهر والدنيا لقرون طويلة ؟ الم تكن الدنيا مطواعة لنا نأمرها فتطيع نطلبها فتأتي ذليلة ترتجي رضانا ؟ ، كيف اصبحنا نتوسل بها ونستجديها وهي حرون شموس معاندة لا تبل لنا غلةً ولا تفتح لنا باباً ولا تلبي لنا طلبا ولا تعبأ بنا ولا تقيم لنا وزنا ؟ ، كيف ولماذا وما الذي حصل وما العمل وما التصرف ؟ ، اسئلة كثيرة ومحيرة تضغط بشدة على العقل العربي .
عندما يفشل انسانٌ ما أي انسان ، او شعبٌ ما أي شعب مرارا وتكرارا في تحقيق الحلم او الهدف الذي يسعى اليه ، وبعد ان يجرب كل الوسائل والاليات المشروعة وغير المشروعة ولا يصل الى نتيجة ولا يخطو خطوة واحدة باتجاه هدفه المنشود ، فان من المنطقي ان يتوقف للحظات ويهدأ قليلا ويوجه لنفسه السؤال البسيط التالي : لعل سبب الفشل يكمن في ان الهدف الذي أسعى اليه لا يتناسب مع افكاري ونفسيتي ونظرتي للحياة ؟ او لعل السبب يكمن في عدم امتلاكي للمؤهلات التي تمكنني من الوصول الى ذلك الهدف ؟ . هذا التساؤل البسيط سيوصله الى محاولة فهم افكاره ونفسيته ومؤهلات أي صفاته بشكل عام من جهة ، ومحاولة فهم الشروط والاشتراطات المطلوبة لتحقيق الهدف المنشود وتحويله الى واقع ملموس من جهة ثانية ، ومن ثم اجراء نوع من المقارنة بين صفاته من جهة وبين اشتراطات الهدف من جهة اخرى لمعرفة مدى التطابق او الاختلاف وعلى ضوء النتيجة يقرر الاستمرار في ملاحقة ذلك الهدف او تغييره واستبداله بهدف اخر او التوقف نهائيا عن ملاحقة اية اهداف لكي يرتاح ويريح ، وقديما قالت العرب اليأس إحدى الراحتين .
وفقا لهذا المنطق يتوجب على الشعوب العربية ان تحدد هدفها بالضبط وان تدرس بعمق وبطريقة علمية وواقعية الاشتراطات المطلوبة لتحقيقه ، وعليها ايضا ان تعي صفاتها ومواصفاتها وهل تتناسب مع اشتراطات الهدف الذي تسعى اليه . وبما ان الشعوب العربية كما هو واضح ومعلن تهدف وتسعى الى انتاج الدولة الحديثة العصرية المتمدنة كتلك التي انتجتها الحضارة الاوربية تصبح المهمة دراسة مدى التطابق او التنافر والاختلاف بين مواصفاتنا كشعب عربي وبين اشتراطات الدولة الحديثة . فكما هو معلوم - او ربما كما هو مجهول - فان لكل شعب من الشعوب مواصفات هي نتاج لبيئته الجغرافية ولتاريخه وهذه المواصفات لا تتغير او تتبدل بتبدل العصور والازمان بل تغير من شكلها ومن طريقتها في الظهور والفعل والتأثير بينما يبقى جوهرها واحد لا يتغير لأنها إبنة الجغرافيا التي لا تتغير ، كذلك فان للدولة – اية دولة قديمة او حديثة – اشتراطات تتميز بانها - على العكس من مواصفات الشعوب - تتغير وتتبدل باستمرار لأن الدولة في الاول والاخير ما هي الا منتج بشري وانعكاس لدرجة نضوج وتطور الفكر الانساني ، لذلك فان الشعب الذي تتطابق مواصفاته مع اشتراطات الدولة في عصرٍ بعينه هو الذي يسيطر ويزدهر ويسود ، والشعب الذي لا تتطابق مواصفاته مع اشتراطات الدولة لا يمكنه - مهما حاول او فعل - أن ينتجها ، ولا يمكنه ان يتمتع بثمراتها بل سيهزم ويتراجع امام الشعب الذي تطابقت مواصفاته مع تلك الاشتراطات .
لذلك فلا عجب باننا فشلنا اليوم ونجحنا في الماضي ، فشلنا اليوم في انتاج الدولة العصرية بكل ما تتضمنه من ديمقراطية وحريات وحقوق ونجاحات في مختلف المجالات ، ونجحنا في الماضي في انتاج الدولة التي كانت تتضمن كل مفاهيم ذلك العصر الذي نشأت فيه ، لان اشتراطات الدولة تغيرت وصفاتنا بقيت ثابتة فتطابقت تطابقا كاملا مع اشتراطات دولة الماضي وتنافرت تمام التنافر مع اشتراطات الدولة الحديثة . ففي الماضي كانت اشتراطات الدولة تتمثل بـ:
1 – طغيان العقل الجمعي : إن إقامة وتأسيس الدولة في العصور الغابرة كان يشترط وجود جماعة من الناس يسيطر عليها ويوجهها عقلٌ جمعي مسيطر بدرجة عالية جدا ، بحيث يتمكن من جعل افكار وتوجهات وسلوكيات ونفسيات افراد هذه الجماعة متشابهة ومتطابقة وكأنهم شخص واحد تم استنساخه لا تلمس فيما بينهم أي درجة من درجات الاختلاف او الشذوذ الا ما ندر ، يؤمنون بنفس الافكار والمسلمات ، وينظرون الى انفسهم والى العالم المحيط بهم النظرة ذاتها ، عاداتهم وتقاليدهم وحكاياتهم واساطيرهم واقوالهم وافعالهم وردود افعالهم واحدة ، انماطهم الحياتية من الالف الى الياء واحدة لا اختلاف فيها ، مما يجعلهم اقرب الى جيش نظامي منهم الى مجتمع انساني ، وهذا بالضبط ما يحتاجه تأسيس الدولة في الازمنة السابقة ، ففي تلك الازمنة لم تكن الدولة تؤسس عن طريق التفاوض مع الجماعات الاخرى ، ويقيناً أنها لم تكن تؤسس عن طريق الاستفتاءات والانتخابات او حق تقرير المصير او بقرار من الامم المتحدة او غيرها من وسائل وآليات لم تظهر الا في العصر الحديث ، بل تؤسس عن طريق القوة فحسب وليس هناك أي طريق اخر ، فالبشرية جمعاء لم تكن في الماضي تعرف طريقا او وسيلةً اخرى غير القوة ، وهنا تأتي اهمية العقل الجمعي الذي سيجعل من المجموعة المؤسسة للدولة تقاتل وتكافح من اجل اقامة وتوسيع دولتها وكأنها رجل واحد وليست مجموعة من الافراد مما يرفع كثيرا من نسب نجاحها في الانتصار على الجماعات الاخرى وفي تحقيق هدفها بإقامة دولة ، فلن تجد احداً من هذه الجماعة يتسائل مثلا عن مشروعية وقانونية ما يفعلونه لان العقل الجمعي قضى بانه مشروع ، ولن تجد من يقول مثلا ( اني ارى رايا مخالفا ) لان هذا غير وارد اصلا في ظل العقل الجمعي فالقبيلة والجماعة قد قضت واتخذت قرارها وانتهى الامر ، وكلما ازداد تأثير العقل الجمعي في حياة هذه الجماعة كلما ارتفعت احتمالية نجاحها حتى يصبح هذا النجاح في حكم المحتوم .
وعلى الرغم من ان كل المجتمعات البشرية كان يسيطر عليها بشكل او بآخر العقل الجمعي الا ان درجة هذه السيطرة كانت تتفاوت من مجتمع لآخر ، فالمجتمع الذي كان يتمتع بأعلى درجة من درجات السيطرة كان هو الاقرب والاوفر حظاً في اقامة وتأسيس الدولة باشتراطات الازمنة السابقة ، ومن المعروف ان أعلى درجات سيطرة العقل الجمعي تظهر في الصحراء والبادية لذلك وباعتبار اننا - كأمة عربية - ابناء للبادية والصحراء فقد كنا الاقدر على اقامة وتأسيس الدول في تلك الازمنة . بينما الشعوب التي تعيش ضمن شروط جغرافية اقل حدة وتطرف يضعف فيها تأثير العقل الجمعي حتى يصل الى اقل درجاته تأثيرا في الغابات والسهول الخضراء ، لذلك كان لدى سكان المناطق الخضراء – كالأوربيين - مشكلة في تأسيس الدول في تلك الازمنة بسبب ضعف تأثير العقل الجمعي في حياتهم قياسا الى سكان البادية والصحراء .
2 – النظام الابوي : ان ما يميز البيئة الصحراوية والقريبة من الصحراوية فضلا عن كونها البيئة المثالية لتغول وطغيان العقل الجمعي انها كذلك البيئة المثالية لظهور وتجذر النظام الابوي حيث ان ظروف الحياة في البادية لا تسمح أبداً بالخلاف والاختلاف بين ابناء القبيلة الواحدة ، والطاعة العمياء لأولياء الامر او آباء القبيلة من كهنة وسادة وشيوخ تعد شرطا ضروريا لا يمكن الاستغناء عنه لمن يريد النجاة والبقاء والتنافس في تلك الظروف الجغرافية القاسية . ان هذا النظام الابوي كان احد اشتراطات الدولة في الماضي ، حيث ان وجود جماعة من الناس يسيطر عليها العقل الجمعي - وعلى الرغم من اهميته - لا يكفي وحده لإقامة الدولة بل هو يحتاج الى من يستثمره ويوجهه باتجاه الهدف المنشود ، وهنا تبرز اهمية النظام الابوي الذي سيفرز في النهاية قيادة متسلطة مطلقة السلطة – سواء تمثلت بفرد او بمجموعة من الاشخاص – تستطيع ان تسيطر على الحشود المنقادة انقيادا اعمى وتوجهها بالشكل الذي تشاء وباتجاه الغاية التي تريدها ، واذا ما كان هدفها اقامة دولة فان فرص نجاحها ستكون كبيرة جدا ما دام قد توافر شرطان من اهم شروط واشتراطات الدولة القديمة وهما الحشد غير المفكر الذي يخضع تماما للعقل الجمعي ، والقيادة المتمتعة بسلطات مطلقة على ذلك الحشد بفضل النظام الابوي .
ان النظام الابوي الصارم الذي يظهر بأجلى صوره واكثرها تطرفا في البيئة الصحراوية يفقد كثيرا من حضوره وصرامته وتطرفه لدى سكان المناطق الخضراء ، وبالتالي يفقد الكثير من تأثيره ومن قدرته على توجيه الحشود بالاتجاه الذي يريده مما يقلل كثيرا من فرص نجاحه في تأسيس الدولة اذا كان تأسيسها هو الهدف المنشود ، وإذا ما اضفنا الى ذلك – كما ذكرنا سابقا - ضعف تأثير العقل الجمعي في البيئة غير الصحراوية تصبح المهمة اكثر صعوبة لان مشروع الدولة حينها يكون قد حظي بالحد الادنى من شرطي العقل الجمعي والنظام الابوي المطلوبين لتحقيقه .
3 – الروح الحربية : بما ان تأسيس الدول في الماضي كان يتم فقط عن طريق القوة فان الشعب الذي تسيطر عليه الروح القتالية والحربية والملتصق التصاقا بفكرة القتال ، والشعب الاكثر خشونة وقساوة والاقوى شكيمة ، والاقدر على تحمل تبعات ومشقات الحروب ، والاكثر استعدادا جسديا ونفسيا لخوض الصراعات والحروب هو الشعب الذي يمكن ان يعول عليه كثيرا في انجاح مشروع انشاء واقامة الدولة . وعلى الرغم من حقيقة ان الشعوب في الماضي كانت كلها شعوب محاربة إلا ان ذلك لا يعني انها كلها تتمتع بذات القدرات القتالية وبذات الاستعداد لخوض غمار الحروب بل كانت تتفاوت من شعب لآخر ، فالجماعات التي تعيش في بيئة قاسية شحيحة الموارد تتمتع بأعلى مستوى من القدرات القتالية ومن الاستعداد الدائم للحرب وخوض الصراعات من اجل الاستحواذ على خيرات ارضها الشحيحة فالمسألة هنا مسألة حياة او موت فأما الفوز بكل شيء او خسارة كل شيء وهنا يتجلى قانون البقاء للأقوى بأوضح صوره . على العكس من البيئة التي تتمتع بخيرات وفيرة تكفي الجميع وتزيد عن حاجتهم مما يقلل كثيرا من اسباب وفرص الصراع والقتال ويجعل الناس في تلك المناطق اميل للهدوء والدعة والسلام مما يضعف بتقادم الايام قدرتهم القتالية ويفقدهم واحد من اهم اشتراطات اقامة دولة الماضي . ومن المعروف ان العرب أمةٌ مقاتلة تاريخها برمته ليس سوى سلسلة من الصراعات والحروب المتواصلة مما رفع كثيرا من قدرتها القتالية وزودها بنفسية وروحية على استعداد دائم لخوض الحروب فأمَّنت بذلك واحدا من اهم اركان واشتراطات دولة الماضي .
4 - المنهج الخطابي الوعظي : يعد المنهج الخطابي الوعظي من اهم اشتراطات تأسيس الدولة في الازمنة السابقة ، لأنه في تلك الازمنة كان العقل البشري لا يزال عقلا بدائيا وعظيا لا يعرف مناهج التفكير والاقناع المتقدمة كالمنهج التحليلي والتجريبي ولا يتأثر بها ، بل كان يتناغم ويتسق تماما مع المنهج الوعظي الذي يركز على الاحاسيس والمشاعر ويستخدم اساليب الترهيب والترغيب والحماسة والفخر ، ويثير في نفوس من يخاطبهم معاني العزة والمجد والكرامة ، ويدغدغ عواطفهم الدينية او القومية او القبلية او غيرها من اساليب وعظية تهدف في النهاية الى اقناعهم بالفكرة التي يريدها وتحشيدهم خلف الهدف الذي يسعى اليه . وبما اننا نحن العرب كنا ولا زلنا – ونتيجة ايضا لظروفنا الجغرافية - من بين ابرز الامم في الخطابة والشعر والبيان فقد كنا الاقدر على استخدام المنهج الوعظي الخطابي مما جعل حظوظنا في النجاح بإقامة وتأسيس دولة الماضي اكثر من حظوظ كثير من الامم الاخرى .
5 – القائد او البطل : ان وجود العقل الجمعي المسيطر تماما على الحشود ووجود النظام الابوي الصارم وتوافر الروح الحربية وسيادة المنهج الوعظي لا يعني ان عملية بناء وتأسيس الدولة قد انطلقت من عقالها بل يعني ان أهم مستلزمات هذه العملية قد استكملت ولا تحتاج إلا من يعلن ساعة انطلاقها وهذه تكون مهمة القائد او البطل الذي يمتلك الشخصية القوية ، والقدرة على ادراك عناصر القوة التي تتمتع بها جماعته وما يمكن ان ينتج عنها اذا استغلت بالشكل الصحيح ، وسعة الافق ، والقدرة الخطابية الوعظية والمؤهلات القيادية الاخرى التي تمكنه من استغلال وتوظيف ميزة توافر العقل الجمعي والنظام الابوي والقدرة القتالية والمنهج الوعظي في عملية تأسيس الدولة وتقويتها وتوسيعها . ان هذا النوع من الابطال يمكن ان يظهر في أي شعبٍ من الشعوب لكن امكانية نجاحه ستكون كبيرة جدا اذا ما ظهر في شعب تتطابق صفاته مع اشتراطات الدولة في الازمنة السابقة كالشعب العربي مثلا .
ان هذه الصفات التي تمتعنا بها في الماضي وما زلنا نتصف بها في الوقت الحاضر هي التي مكنتنا من النجاح والسيادة وتأسيس الدولة المنشودة في الماضي لأنها كانت تتسق وتتطابق وتتناغم تماما مع اشتراطات الدولة آنذاك ، الا ان هذه الاشتراطات وكما ذكرنا سابقا لا تبقى ثابتة بل تتغير بتغير الازمنة والظروف والاحوال ، على العكس من صفات الشعوب التي لا تتغير وتبقى ثابتة نتيجة لثبات وعدم تغير البيئة التي انتجتها . وهكذا فان ذات الصفات التي مكنتنا من بناء دولة الماضي تمنعنا اليوم من بناء الدولة الحديثة التي اختلفت بل وتناقضت اشتراطاتها مع صفاتنا . وعلى الرغم من تعدد وتشعب اشتراطات الدولة الحديثة الا انه يمكن حصرها وبشكل مختصر في التالي :
1 – النظام الرأسمالي : ان الدولة الحديثة بكل تجلياتها وتفاعلاتها وانشطتها وبكل ما انتجته وما سوف تنتجه ليست الا احدى منتجات النظام الرأسمالي فهذا النظام هو الذي انتجها وهو الذي صاغها ووسمها بميسمه ودمغها بختمه وأحل فيها صفاته ، ولا يمكن تصور انتاج او اقامة الدولة الحديثة بمعزل عن النظام الرأسمالي او بعيدا عنه فهو أمها وابوها ، بل يمكن القول ان الدولة الحديثة اشبه ما تكون بشركة او مؤسسة اقتصادية هائلة يتحكم بها منطق السوق وفلسفة الربح والخسارة . ان هذا النظام الرأسمالي القائم على فكرة الربح والخسارة والذي انتج الدولة الحديثة لا ينشأ ولا ينمو ولا يتطور ولا يتحول الى اسلوب حياة الا في بيئة جغرافية بعينها تتميز بكثرة وتنوع خيراتها ، وبقدرتها على تحفيز الجهد الانساني العقلي والبدني لمزيد من العمل والاجتهاد وتبادل المنفعة مع الاخرين ، وترسيخ اهمية فكرة التعاون مع الاخرين لتجنب الخسارة وتحقيق الربح ، وتحويل هذا كله الى سلوك انساني فطري تلقائي . إن الشرارة الاولى لخلق وترسيخ هذا السلوك الذي سيتحول بمرور الايام والسنين الى ما بات يعرف اليوم بالنظام الرأسمالي لا يمكن ان تنطلق في بيئة الصحراء والبادية إذ سيمنع انطلاقها عقلٌ جمعي ونظام ابوي وروح محاربة ومنهج تفكير قائم على الخطابة والوعظ ، لذلك لم نستطع نحن العرب ان ننتج مثل هذا النظام الرأسمالي الذي بدونه يستحيل انتاج الدولة الحديثة ، بينما انتجته وطورته الشعوب التي عاشت في بيئة الوفرة والخيرات . وهكذا فقدنا واحدا من اهم اشتراطات الدولة الحديثة .
2 – الحرية : ان حرية التفكير والتعبير والنشر والحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية تعد شرطا مهما واساسيا لإقامة واستمرار الدولة المدنية الحديثة التي تمثل مشروعا اقتصاديا جماعيا تعاونيا واقعيا يحتاج الى تضافر كل جهود الجماعة المنشأة له ويحتاج كذلك الى انتاج استجابات واقعية وحلول منطقية لما يواجهه من تحديات ومعوقات ومشاكل لكي يستطيع الاستمرار والتطور وهذا لا يمكن ان يتم أبداً بدون توافر سقف مفتوح من الحرية غير المقيدة تمكِّن افراد المجتمع من الابتكار والابداع في مختلف المجالات ، كما تمكنهم من نقد الذات وتشخيص الاخطاء والاختلالات وايجاد الحلول لها ودفع المجتمع في مدارج التطور ، والتطور في الدولة الحديثة ليس مطلبا ترفيا بل هو حاجة اساسية لا يمكن الاستغناء عنها لان العصر الحديث لا يقبل التوقف او الجمود بل هو في تغير وتطور مستمر وعلى الدولة الحديثة ان تسايره والا تراجعت واندثرت ، ومن المعروف ان الحرية شرط التطور فالشعب الذي يتمتع بأعلى قدر من الحرية هو الاقدر على انتاج الدولة الحديثة والعكس صحيح .
ان تغول العقل الجمعي واستبداد النظام الابوي الذي انتجته بيئتنا وظروفنا الجغرافية والذي كان خير معين لنا في انتاج الدولة في الماضي اصبح اليوم من اهم اسباب تراجع وانكفاء مناخات الحرية عندنا ، بحيث اصبنا بعوق ذاتي في هذا المجال أحبط كل محاولات الداخل والخارج لرفع سقف الحرية لدينا للمستوى الذي يسمح بإنتاج الدولة الحديثة وبذلك خسرنا شرطا أو إشتراطاً آخر من اشتراطات الدولة الحديثة . بينما الشعوب التي عانت وبسبب الجغرافيا أيضا من ضعف سيطرة العقل الجمعي والنظام الابوي مما منعها من اقامة دولة الماضي اصبحت اليوم وللسبب ذاته الاقدر على رفع سقف حرياتها - بطريقة تلقائية وبدون قسر - بما يسمح بإقامة الدولة الحديثة .
3 – الديمقراطية : ان ما ينطبق على فكرة الحرية ينطبق كذلك على فكرة الديمقراطية التي اصبحت السمة الاكثر وضوحا للدولة الحديثة ، فكما ساعدت الجغرافيا على ظهور بدايات فكرة الحرية في مناطق بعينها ومن ثم نمَّتها وطوَّرتها لتصل الى ما وصلت اليه في العصر الراهن ، بينما قضت على اية امكانية لظهورها في مناطق اخرى . كذلك كان للجغرافيا الدور الحاسم في بذر البذور الاولى لفكرة الديمقراطية لتتركها تنمو وتتدرج في اكتساب المزيد والمزيد من القوة بشكل تلقائي حتى اصبحت الركن الاساس الذي تشاد عليه الدولة الحديثة ، بينما حرمت الجغرافيا مناطق اخرى من اية بذرة من بذور الديمقراطية . ولا يخفى على احد ان الديمقراطية تمثل اليوم واحدا من اهم اشتراطات الدولة الحديثة فبدونها لا معنى لهذه الدولة فالديمقراطية تمكن جميع افراد المجتمع من المشاركة في بناء الدولة وفي تحمل مسؤولية بقائها واستمرارها وتطورها ، وتمكنهم من مراقبة الحكام والنظام السياسي برمته والقضاء على اية توجهات دكتاتورية ، كما انها تساعد على نشر ثقافة التسامح وعدم التزمت وقبول الرأي والرأي الآخر والاعتراف بالآخر المختلف وغيرها من مفاهيم تسهم مساهمة فاعلة في بناء الدولة الحديثة . إن مشكلة الديمقراطية انه لا يمكن استيرادها فهي لا تظهر ولا تنمو ولا تزدهر الا في البيئة المناسبة ، البيئة التي لا تؤهلها ظروفها الجغرافية لإنتاج نظام ابوي صارم ولخلق القائد والزعيم الاوحد وثنائيات الخير والشر والاسود والابيض والحق والباطل وبشكل مطلق ، أي ان بيئتنا يستحيل عليها انتاج الديمقراطية ليضيع علينا بذلك واحدا من اهم اشتراطات الدولة الحديثة ، بينما غيرنا ممن يمتلكون بيئة مخالفة لبيئتنا نجحوا وبدون جهد بل وبدون ان يقصدوا ذلك في انتاج الديمقراطية التي يتمتعون بها الان .
4 – المنهج العلمي التجريبي : مثلما ساعدت ظروف البادية والصحراء على خلق نمط من التفكير يعتمد على الوعظ والخطابة ، كذلك ساعدت ظروف الجغرافيا الخضراء على اضعاف قوة الخطاب الوعظي لصالح منهج تفكير علمي يتعلم من تجاربه واخطائه ، والسبب في ذلك يعود الى ان المناطق التي تتمتع بخيرات كثيرة تحتاج الى اعمال العقل وتفعيل دوره من اجل استغلال تلك الخيرات بالشكل الامثل ، كما انها تدفع الانسان الى الاحتكاك المستمر مع بيئته والى تجريب مختلف الافكار والبدائل للحصول على افضل النتائج مما يساعد على ترسيخ المنهج العلمي التجريبي ويوسع سيطرته على مختلف مناحي الحياة وتفرعاتها . ان المنهج العلمي التجريبي هو المنهج الذي تعتمد عليه الدولة الحديثة في كل تفاعلاتها وانشطتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية فترسم وتضع الخطط وتنفذ مشاريعها وتخطط لحاضرها ومستقبلها وتبني وتطور وتتخذ كل خطوة من خطواتها وفقا لهذا المنهج ، وبدون المنهج العلمي لا تقوم للدولة الحديثة قائمة وبما ان منهجنا نحن العرب هو منهج وعظي خطابي فقد اصبح احد مسببات عجزنا عن اقامة الدولة الحديثة .
هناك اشتراطات كثيرة اخرى للدولة الحديثة مثل حقوق الانسان وسيادة القانون واحترام الدستور واستقلال القضاء والحرية الفردية ومعايير النزاهة والشفافية ومستوى التعليم . . . الخ ، الا انها كلها متفرعة عن الاشتراطات الرئيسة التي ذكرناها اعلاه ومرتبطة بها وموجودة فيها ضمنا ، لان اشتراطات الدولة الحديثة مرتبطة ببعضها البعض ارتباطا وثيقا لا انفصام له بحيث يؤدي بعضها الى بعض وينتج بعضها بعضا كما هو الحال بالنسبة لاشتراطات دولة الماضي . وليست الاشتراطات فحسب بل كذلك صفات الشعوب فهي ليست صفات قائمة بذاتها ومنفصلة عن بعضها البعض انما هي صفات متداخلة ينتج بعضها بعضا ويقوي ويؤازر وينضج بعضها بعضا .
نعم يا سادة يا كرام ان صفاتنا هي المسؤولة عن نجاحنا في الماضي وفشلنا في الحاضر فعندما تطابقت تلك الصفات مع اشتراطات دولة الماضي نجحنا في اقامة دول مرهوبة الجانب سيطرت على اراضي واصقاع شاسعة وانتجت حضارة ما زلنا نتغنى بها ، وعندما تناقضت تلك الصفات مع اشتراطات الدولة الحديثة فشلنا فشلا ذريعا وعجزنا تماما عن تأسيس أية دولة او كيان سياسي يتمتع ولو بالحد الادنى مما تتمتع به دولة المدنية والحداثة ، ووصلنا بنا الامر الى حد الاستعانة بالمقولات الدينية لتبرير فشلنا من قبيل ( الدنيا جنة الكافر ) و ( الدنيا لهم والاخرة لنا ) و ( لو كانت الدنيا تساوي جناح بعوضة لما سقى منها كافرا شربة ماء ) ، ومن ثم انحططنا اكثر فتبنينا خيارات عبثية وتدميرية لذواتنا ولأوطاننا وللآخرين من حولنا كما تشاهدون وكما هو حاصل اليوم في الكثير من بقاع الوطن العربي . فهذا الكم من القتل والذبح والتفجير وسفك الدماء والصراع المجنون ما هو الا انعكاس لحجم المرارة التي شوهت حياتنا والخذلان والاحباط اللذين سرقا كل آمالنا في التغيير وطموحاتنا في الحياة الكريمة ، وما هو الا رد فعل تدميري على عجزنا في اللحاق بركب المدنية والحداثة وفشلنا في انتاج الدولة المنشودة دولة الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الانسان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق