الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول مفهوم تأويل النص القانونى - بول ريكور

سعيد العليمى

2017 / 4 / 10
دراسات وابحاث قانونية


النص القانوني بين التأويل و /أو التدليل*

بول ريكور

تستند هذه الدراسة إلي محاضرة ألقيتها في حلقة بحث عقدت في المدرسة القومية للقضاء تحت عنوان جلي لالبس فيه وهو "التأويل"، Interpretation. ما أقترحه هنا، تحت العنوان المزدوج الذي اخترته، هو تحليل للتأويل عند اقترانه علي سبيل الافتراض بعملية مناقضة، هي التدليل argumentation. ما الذي يمكن ان يبرر هذا الاستقطاب الذي يبدو كأن أثره الاول هو تعقيد الموضوع، في الوقت الذي يحاول فيه الفلاسفة والفقهاء، وعلماء الأخلاق والقضاة، أن يطوروا مفهوما موحدا للحجة argument ؟
أعنى تلك المرحلة من المحاكمة التي بينت آنفاً أنها تتكشف بين لحظة عدم اليقين التي تميز افتتاح المحاكمة ولحظة إعلان القرار حين ينتهى عدم اليقين الأولى بفعل كلامى يصرح بالقانون. وعلي ذلك فإن التماسك الابستمولوجى لمثل هذه الحجة، بالمعنى القانوني للكلمة، هو موضع المناقشة هنا. إنه سؤال أولي طالما وضعنا في اعتبارنا المعنى الواسع الذي استعملت فيه فكرة التأويل في حلقة البحث هذه ، فإذا أخذناها كمرادف (لتطبيق القاعدة القانونية علي قضية ما في خصومة قائمة ) يمكن لنا أن نعزو لهذه الفكرة دلالة أكثر تقييدا تبرر معارضتنا لها علي الأقل كمقاربة أولي، مقاربة التدليل argumentation. للسؤال صلة وثيقة بالموضوع بالقدر الذي وصفت فيه الحجة من بين أوصاف أخرى بأنها معركة لفظية بغير عنف، وبشكل أكثر دقة، صراع الحجج، الذي يوضع التأكيد بواسطته علي المغزى اللاأدرى المشهور للحجج فى إطار محكمة عدلية. السؤال الرئيسي، إذن، هوما إذا كان يتعين علينا أن نتشبث بمفهوم تناقضي محض لقطبية التأويل والتدليل أو ما إذا كان يتعين علينا، كما أعتقد، أن نسعى لأن نطور بدقة طبعة جدلية من هذه القطبية.
في الواقع، لا يبدو للوهلة الأولي أن الحالة الراهنة للنقاش، تتجه نحو مثل هذا التناول الجدلي. تناولت قراءاتنا في حلقة البحث المذكورة، من ناحية مُؤلِفا مثل رونالد دوركين Ronald Dworkin،الذي يضع كامل القسم الثانى من مؤلفه مسألة مبدأ تحت عنوان "القانون كتأويل "، ومن الواضح أنه لم يخصص موضعا لمقارنة فاصلة بين التأويل والتدليل( ) من ناحية أخرى، فقد تناولنا نظريي التدليل القانوني مثل روبرت ألكسي( )Robert Alexy ومانويل أتينزا( ) Manuel Atienza الذي لابد وأن يُعتبر التدليل القانوني بالنسبة لهما اختصاصا مميزا، بلي، غير انه اختصاص ثانوي، ضمن نظرية عامة للتدليل العملى، حيث لم يُعترف أبدا بالتأويل كمكون أصلى للخطاب(Diskurs) القانوني.
برغم هذا الوضع الواقعى، الذي سوف نكشفه علي مهل، فقد فكرت أن بمقدوري أن أستخلص حجة من النواقص الداخلة في كل من المواقف المطروحة مما قد يدعم أطروحتى بأن الهرمنيوطيقا القانونية المتمركزة حول موضوع الحجة تتطلب مفهوما جدليا للعلاقة بين التأويل والتدليل. لقد شجعني علي هذا المشروع التماثل الذي بدا لي قائما، علي النطاق الابستمولوجى، بين الزوج "يؤول " و"يحاج "، وعلي النطاق القانوني، بين " يفهم" و " يفسر " الذي سبق لي أن أظهرت بنيته الجدلية في العلاقة بنظرية النص، ونظرية الفعل، ونظرية التاريخ.

دوركين: من التأويل إلى التدليل؟
في عرض دوركين Dworkin لأفكاره حول هذا الموضوع، سوف أؤكد من جانبي علي ما سأسميه راضيا التأطير الاستراتيجى الذي يُحتكم فيه إلي فكرة التأويل، بغرض معلن وهو البحث عن الحدود الكامنة لهذا الإطار، وأسباب إقصاء إشكالية التدليل التي سوف تحتل لأسباب عكسية كامل المشهد في نظريتى التدليل القانوني عند كل من ألكسى Alexy وأتينزا Atienza.
من الجدير بالملاحظة أن دوركينDworkin يطرح مسألة التأويل انطلاقا من مناقشته الصارمة الدقيقة تماما للمفارقة التي تشكلها القضايا الصعبة hard cases للممارسة القانونية الأكثر عينية. وهكذا فإننا نتعامل مع استراتجية تتخذ نقطة انطلاقها في التعقيد الناشئ عن موضوع الممارسة الفعلية للقاضي، ونرتقى منها إلي الاعتبارات العامة التي تتعلق بتماسك الممارسة القانونية.
يواجه مؤلف مسألة مبدأ A matter of principle عبر هذا المسار مسألة العلاقة بين القانون والتأويل.
إن الوضع المتميز الذي أضفى علي القضايا الصعبة في مسألة مبدأ ليس أمرا عرضيا. لقد شكلت القضايا الصعبة بالفعل محكا في كتاب دوركين النظر إلي الحقوق بجدية( ) . وفي مقال سوف أشير إليه أدناه، هل القانون نظام من القواعد ؟،، الذي تضمنه مصنف حرره دوركين تحت عنوان فلسفة القانون( )
متى يواجه القاضى ما يسمى بالقضية الصعبة ؟ عندما لا يبدو أن أيا من الاتجاهات المستخلصة من القوانين القائمة يتضمن القاعدة التي يمكن ان تنطبق علي المسألة موضع البحث. قد نقول في لغة كانطية ما ان القضايا الصعبة تشكل اختبارا للحكم التأملى/ الانعكاسى reflective judgement. لم إذن الصراع مع التماسك وحدة الذهن التي ابداها دوركين ضد أطروحة "لا إجابة"؟ ذلك من أجل هزيمة النظرية الوضعية في القانون وهي هدف دوركين الدائم. وفقا لهذه الأخيرة، إذا ما اختزلناها لهيكلها العظمى، يقال إن القوانين هي تلك التي يصدرها أحد ما له سلطة الأمر، حيث يتم التعرف عليها من خلال أصلها، ويؤلف قصد المشرع لازمة ضرورية لتلك البديهية الأولي. ما هو أكثر من ذلك، فقد قيل إنها تحكم الاتجاهات الواضحة (يمكن أن نرى السؤال الهرمنيوطيقى يتخايل عبر هذا بقدر ما يصمم علي غموض النصوص غير القابل للاختزال). البديهية الثالثة: إذا لم تكن هناك إجابة على السؤال المطروح يبدو أن القانون النافذ يحتويها، إذن فحكم القضية متروك للسطة التقديرية للقاضى.
إن دحض هذه الاطروحات الثلاث الأساسية هو الذي سيصنع أساساً لنظرية في التأويل. في المحل الأول، لا ينتج معنى القانون من أصله كما يمكن أن يقال بمصطلحات النظرية غير القصدية للنص الأدبي، إن معنى القانون، إن كان له معنى، يتعين أن يبحث عنه في النص وارتباطه مع النصوص الأخرى (التناص)، وليس في إرادة المشرع، يتماثل هذا قانونيا مع القصد المنسوب لمؤلف النص الأدبى. أيضا، كما اعترف النظريون الوضعيون مثل هـ. ل. أ. هارت H. L. A. HART، فإن أشد القوانين وضوحا لها بنية مفتوحة "بمعنى نص مفتوح لتأويلات منشئة غير منظورة". ولكن دحض الأطروحة الثالثة التي تتعلق بدور البديل الممنوح للسلطة التقديرية للقاضي هو الذي سوف يفتح الطريق مباشرة إلي نظرية في التأويل. إذا كانت حرية القاضى في التصرف هي الإجابة الوحيدة علي صمت القانون، فإن البديل يكون خطيرا لكل توصيف قانونى لقرار ما. فإما أنه تحكمى، بمعنى أنه خارج القانون، أو أنه ينطوى ضمن القانون بفضل الزعم التشريعى وحده الذي يُقنَّع به ذاته. إن القدرة علي الاستناد إلي سابقة فقط هو الذي يحفظ الوصف القانونى للقرار الصادر من أي سلطة تقديرية.
وعلي ذلك فإن المشكلة كما يراها دوركين هي: كيف يمكن تبرير فكرة أن هناك دائما إجابة صالحة، دون الوقوع فيما هو تحكمى أو فى زعم القاضى بأنه يصنع من نفسه مشرعا؟
إنه لفى هذه اللحظة الحرجة تلتقى النظرية القانونية بنموذج النص الأدبى، والنموذج الفرعى للنص السردى، الذي سوف يغدو تحت يراع دوركين، نموذج النص الأدبى.
دعنا نتوقف قليلاً عند نطاق النظرية العامة للنص الأدبي. إن الفصل الذي استخدم في النقد الادبى بين المعنى المحايث لنص ما وقصد المؤلف يجد نظيره في النظرية القانونية في الفصل الذي يعمل بين معنى القانون ومرحلة القرار التي تعينها الوضعية القانونية بوصفها مصدراً للقانون. يتخذ المشروع الأدبى طابعا قانونياcanonical بالنسبة للنظرية القانونية حالما يجد التفسير سندا فيما يتيحه النص، ويقدمه إلي سلسلة قراءه. لا يغدو ما أسمى بتشوش أو غموض النص الأدبى بعد مظهرا للضعف وانما القوة، لما يمكن أن نسميه علي وجة التماثل "المشروع القانونى".
يضطلع النموذج السردي الآن بتقديم دعم نوعى الي المدى الذي يتطلب فيه التأويل طريقة ملموسة في إعادة بناء معنى نص، استنادا علي علاقات الملائمة، والصواب، والتوافق بين التأويل المقترح للمقطع الصعب والتأويل الكلى للعمل. سوف نتعرف في هذا التوافق علي المبدأ الهرمنيوطيقى المشهور حول التفسير المتبادل للاجزاء والكل. سوف نرى خلال لحظة في ظل أية وجهة نظر يتيح المشروع القانونى لذاته أن يؤخذ بالاعتبار بشكل أفضل كعمل يشكل كلا. ولكن دعنا نقول إن تقويم علاقة الملائمة، والصواب، والتوافق تتفادى البديل بين القابلية للإثبات والتحكمية. نحن في نطاق يحتمل الجدال بالتأكيد، ولكن حيث يمكن لناقد أن يدعى أن تأويلا أفضل من الآخر هو أمر أكثر احتمالا، أكثر معقولية، أكثر قبولا (حيث تحتاج كل هذه المصطلحات إلي جلاء معناها أكثر ). ما يبدو الآن هو أن أطروحة "لا إجابة" قد ترافقت مع أطروحة القابلية للإثبات، أي كما يقول دوركين، سوف تفرض أطروحة حكم تدعمه الحجج حقيقة ذاتها علي من يفهم اللغة التي أعلنت بها المسألة القانونية.
ربما بهر دوركين عند هذه المسألة بالأطروحة المنافسة حول القابلية للإثبات، حتى تغاضى عن اللحظة التي قد يتطلب فيها التأويل نظرية للتدليل تتفادى هى ذاتها بديل القابل للإثبات والتحكمى. يمكن لنا أن نعزو تلك الفجوة في التعليل إلى ما قد يكون استغراقا مفرطا مرتبطا بدحض أطروحة "لا إجابة" التي تنتهى بإقامة رابطة شديدة الصرامة بين حل القضايا الصعبة وأطروحة قابلية المسائل القانونية للإثبات. ولكن دعنا نمضى في استغلال النموذج الأدبى في شكله السردى الأكثر دقة. فى أي سياق يجب علينا أن نضع أنفسنا حتى نعاين البحث عن "توافق"، تأويلي جرى التحقق منه بواسطة ما يسميه دوركين، وقائع التماسك السردى؟ علينا أن ندع وراءنا القضية المعزولة لأحد الأحكام المحددة ونضع أنفسنا في منظور تاريخ المشروع القانونى، ومن ثم أن نأخذ في اعتبارنا البعد الزمنى لهذا المشروع.هنا يلجأ دوركين إلي خرافة سلسلة الرواة التي يضيف فيها كل واحد فصلة لتنقيح القضية، حيث لا يحدد راو بمفرده المعنى الشامل، الذي علي كل واحد أن يفترضه علي أية حال، إذا ما تبنى كقاعدة البحث عن أقصى درجة من التماسك. استباق التماسك السردى هذا المتحد مع فهم الفصول السابقة للقضية التي يجدها كل راو قائمة بالفعل يعطى البحث عن "التوافق" ضمانا مزدوجا: ضمان السوابق القضائية، من ناحية، وضمان الغرض المفترض للكل القانونى فى مجرى التطوير، من ناحية أخرى. بمعنى آخر هناك من جانب المحكوم فيه بالفعل، ومن جانب آخر، الصورة المتوقعة للمشروع القانونى منظورا إليها بمفهوم تاريخها. يقدم نموذج النص بهذه الطريقة، وبصفة أخص النص السردى، بديلا مقبولا لرد، "لا إجابة " التي أعطيت للقضايا الصعبة، وفي نفس الوقت، للمفهوم الوضعى للقانون.
لسوء الحظ، لم ينتهز دوركين الفرصة لينسق بين فكرته العامة عن التوافق، وبشكل أكثر تحديداً الفكرة السردية لهذا التوافق، مع نظرية للتدليل كان يمكن أن تعالج بنفس لغة معيار التماسك، بغض النظر عما إذا كان ذلك قابلا للاختزال إلي التماسك السردى أو لم يكن. لاتضيف المترادفات المقترحة مثل – التكامل، الهوية – أي تحديد خاص إلي فكرة التماسك غير المحددة إلي مدى بعيد. وهو يلجأ علي الأغلب إلى مفاهيم كتلك التي نجدها عند ستيفن تولمين stephan toulmin، مثل الأهمية، وثوق الصلة بالموضوع، البينة، الدفع، وما إلي ذلك( )، التي تصدر جميعا عن نظرية لم تكتمل بعد عن التدليل، مثلما سيقول ألكسى Alexy وأتنيزا Atienza .
لذا يمكن لنا أن نسأل لماذا لم يتطلع دوركين إلي نظرية للتدليل أكثر صقلا. من المؤكد أن ذلك لا يعود إلي افتقاره إلي حدة الذهن لأنه مجادل مهيب، وإنما لأسباب أعمق سوف نفهمها علي نحو أفضل إذا وضعنا القسم المعنون "القانون والتأويل" في كتاب مسألة مبدأ جانب مقالته "هل القانون نظام من القواعد"؟ المأخوذ من فلسفة القانون. تكشف هذه المقالة عن أن دوركين أقل اهتماماً لحد بعيد بشكلية الحجج منه بمادتها، ودعنا نقول مباشرة بمادتها السياسية والأخلاقية. يرتكز مفهوم القانون المقترح في هذه المقالة المتميزة علي مراتبية المكونات المعيارية المختلفة للقانون. إنه مرة أخرى النزاع مع وضعية هارتHart الذي يعين الطريق. ما هو مرفوض هنا هو التداخل بين الصرامة القانونية المرتبطة بفكرة حكم أحادى المعنى، والنزعة القراراتيةdecisionism التي تنتهي بزيادة السلطة التقديرية للقاضي. لقد جرى التأكيد علي أن أحادية المعنى سمة مميزة للقواعد rules. غير أنها لا توافق المبادئ، التي لها، في التحليل الأخير، طبيعة قانونية أخلاقية. إن القانون القائم، كنظام من القواعد، لا يستنفد القانون كمشروع سياسي. بأي طريقة يسهم هذا التمييز بين القواعد والمبادئ في نظرية هرمنيوطيقية للحكم القانوني؟ إنه يسهم حيث تكون المبادئ لا القواعد بالأحرى هي التي تعمل معاً بشكل أكثر يسراً لحل القضايا الصعبة. وهذه المبادئ بخلاف القواعد، قابلة للتعرف عليها، ليس بواسطة أصلها (من أعلنها؟ العرف؟ السلطة الحاكمة؟ مرجع تشريعي مراوغ؟ السوابق القضائية). وإنما بواسطة قوتها المعيارية. ثم، بخلاف القواعد الثانوية، مثل قواعد التعرف عند "هارت"، "يستبعد وضعها السياسي – الأخلاقي أحادية المعنى. عليها أن تؤول في كل حالة. وكل تأويل يمكن أن يقال إنه يحسب لصالح هذا الحل أو ذاك، "يزن" بهذا القدر أو ذاك، يميل دون أن يحتم، إذا ما تحدثنا مثل ليبنيز Libniz. علينا أن نتحدث عن وزنها، الذي يتعين أن يُقوّم في كل حالة، فوق كل شيء علينا أن نختبر (حس الملاءمة) الذي تطور في تاريخ المهنة والجمهور المتعلم. بهذا، لم يعد ممكنا أن نشرع في تعداد كامل للاستثناءات، بأكثر من إمكانياتنا عمل مسح كامل للمبادئ النافذة. أن معجم كثير من الأحكام في القانون العرفي/ العام، common law – مصطلحات مثل غير معقول، مهمل، جائر، دال – تعين مكانا للتأويل حتى نطق الحكم.
يمكن لنا أن ندرك أن هذا المفهوم المطواع للتأويل غير القابل للتقنين سوف يتمرد علي النزعه الشكلية لنظرية التدليل القانوني. إن دوركين أكثر اهتماما بكثير بالأفق السياسي الأخلاقي الذي تتفوق في مواجهته المبادئ القابلة للاختزال إلي قـواعد. إنه علي استعداد لأن يسلم بالعوائق: الطابع اللامتناه للجدال، الذي يعوضه فقط الإجماع القوي لمجتمع ديمقراطي (هنا نعيد اكتشاف راولسRawls الأخير وإجماعه المتطابق )، هشاشة الأحكام التي تسلم إلي قبول جماهير معنية مختلفة (أطراف القضية، المهنة القانونية، النظريون القانونيون ). يعيد دوركين هنا اكتشاف المصاعب التي أثيرت في النظرية الأدبية من مدرسة تلقى النص، دون أن يكون واعيا بذلك.
ولكنني لا أريد أن أدع دوركين دون أن أؤكد علي مزايا مفهومه. إنه يدين لنموذج النص بمفهوم للقانون متحرر مما يسميه أصله. من نموذج للسرد رغم سذاجة معينة قياسا بالتطور المعاصر لنظريات تقوم علي السردية وهو يعالج، "الممارسة القانونية" بمفهوم ظهورها التاريخي، وقد وضع ’التاريخ القانوني‘ بوصفه الإطار التفسيري. أخيرا، يستخلص من التمييز بين المبادئ والقواعد، مفهوما عاما عن القانون لا يقبل الفصل عن "نظرية سياسية واقعية". إن هذا الاهتمام الأساسي والجوهري هو ما يبتعد به في النهاية عن تبنى نظرية شكلية في التدليل القانوني.


من التدليل إلي التأويل
إن الاستراتيجية المستخدمة من قبل هؤلاء الإخصائيين مثل ألكسى و أتينزا في دراسة الحجة القانونية تختلف تماما. إنها من الناحية الجوهرية مسألة معالجة هذا النوع من الحجة بوصفه حالة خاصة من مناقشة معيارية عملية بصفة عامة، ومن ثم لإدراج الدائرة الصغيرة للتدليل القانوني داخل دائرة أكبر للتدليل العملي بصفة عامة. ومن ثم حين نبدأ بالأخير فإننا ننهض بمهمة Begründung، أي، التبرير أو التأسيس؟( )
وهكذا فإن نقطة التحول بين مستويين هي التي تهم، بقدر ما تنطوي ضمن القيود والإجراءات الخاصة بالتدليل القانوني الذي قد نغامر فنجد فرصة لمفصلة التأويل علي أساس التبرير، حتى ولو كان مؤلفونا يفعلون ذلك عرضا (وفي هذا الصدد يقدم أتينزا أكثر من أساس مقارنة بما فعله ألكسى بمحاولة التوفيق هذه، وكذلك اعتباره لتلك القضايا التي يسميها المقترحات التراجيدية"). ( )
دعونا إذن نبدأ بإزجاء بعض الوقت في نطاق الخطاب العملي المعياري. تستحق المصطلحات الثلاثة بعض التفسير. نعنى بكلمة " العملي" كل نطاق التفاعلات الإنسانية. وينظر لهذه الأخيرة بشكل أكثر تحديدا من وجهة نظر القواعد الني تحكمها وهي، مثل القواعد، تدعي الصواب (Richtigkeit، rectitude ، correction). إنما تفعل ذلك من خلال تبادل الحجج الذي لا يهبط منطقها إلي مجرد المنطق الشكلي، مع ذلك بدون الاستسلام لتحكم نزعة قراراتية decisionism ولا إلي حدس مزعوم للنظريات الأخلاقية الحدسية، التي تلقي مباشرة ضوءا شاكا علي مفهوم السلطة التقديرية: يفرض مفهوم الخطاب "نزعة شكلية معينة، تتعلق بالتدليل تحديدا، في النقطة التي يتجه فيها المصطلحين ’الخطاب‘، و، ’التدليل‘، إلي التوافق.
المسألة، من ثم هي كيف يمكن تحديد دعوي الصواب. إننا نستعير الإجابة من هابرماز ومدرسة إرلانجنErlangen : الصواب هو الدعوى التي أثيرت مستهدفة الوضوح حالما تعترف بمعيار الاتصالية القابلة للتعميم. إن الحجة الجيدة هي تلك التي سوف تفهم بشكل نموذجي، وتستقبل ليس فقط بوصفها جديرة بالتصديق، وإنما بوصفها مقبولة من كل الأطراف المعنية. إننا نتعرف هنا علي أطروحة هابرماز حول الاتفاق الاحتمالي علي مستوى مجتمع غير محدد وغير مقيد. إن وضع القواعد الشكلية لكل مناقشة تدعى الصواب هو ضد هذا الأفق للإجماع العام. هذه القواعد التي سوف نراها قليلة العدد نسبيا، تشكل ما هو أساس لبراجماتيات الخطاب العامة، حيث يلزم تشديد النبر المعياري، بالمقابلة مع أي اختزال للتدليل الاستراتيجي الذي يحكم التفاوض، المكبل بمختلف أنواع القيود ويهدف إلي النجاح، وليس إلي الصواب.
بالنسبة للاعتراض الذي يقفز إلي الذهن مباشرة، حول صعوبة الوصول لهذا الإجماع، غير القابل للتحقيق، الإجابة تحديدا هي أن الطابع ضد الواقعي لفكرة الصواب يضفى الشرعية علي وضعها المتعالي الذي تتمثله في مهمة لانهاية لها. وعلي الاعتراض بأن هذا الأساس بذاته غير كاف، فإن الإجابة هي أن مهمة نظرية التدليل القانوني تحديدا أن تكمل إطار القواعد العامة للخطاب المعياري في حقل معين، هو حقل القانون. أخيرا بالنسبة للاعتراض القائل، أنه بفضل طبيعتها المثالية، فإن نظرية التدليل قد تخدم كحجة لتشويهات منهجية، والإجابة هي أن نموذج الاتفاق الاحتمالي يحتوي في داخله علي شروط نقد عقلاني للاتفاقيات التجريبية بهذا القدر أو ذاك، تعود بهذه الدرجة أو تلك إلي التمحور النابع من تحالفات المصالح، وبصفة عامة ممثل أي توازن واقعي بين القوى المتصارعة.
إذا ما سألنا عن بيان أدق عن أنماط هذه البراجماتيات التي يمكن صياغتها الآن، فإننا نعلم أن التعميم الممكن لحجة هو حيث يوجد صوابها. سوف نري أدناه ماذا يعنى هذا في النطاق القانوني هل يعنى هذا أننا منحصرون في تكرار ما يقول كانط؟ لا، يجيب أنصار هابرماز، مبدأ القابلية للتعميم مطبق هنا في وضع حواري مباشر، بينما يبقي بالنسبة لكانط مقصورا علي الحوار الداخلي monologue (وهو شيء دعوني أشير إليه عرضاً، قابل للدحض إلي حد بعيد وخاطئ بالتأكيد بصدد فلسفة الحق الكانطية).
كما قبل عاليه، فإن قواعد تلك الأمور العملية (البراجماتيات) قليلة في العدد. ولكنها تكفي لأخلاقيات المناقشة. يحكم بعضها الدخول في الخطاب، دعونا نقول، عند بداية التعبير: لكل واحد حق متساو في أن يتدخل، ما من أحد ممنوع من الكلام. تطبق قواعد أخري علي المناقشة عند حدوثها: يتعين علي كل مشارك أن يقبل الطلب الموجه إليه بأن يقدم أسبابا وأفضل حجة إذا كان ذلك ممكنا، أو أن يبرر رفضه أن يفعل ذلك. تؤلف هذه القاعدة، القاعدة العامة للتبرير. تحكم قواعد أخري ما هو مثار الخلاف في هذه المناقشة: علي كل واحد أن يقبل نتائج قراره إذا ما لبيت الحاجات التي جري الجدال جيدا من أجلها. لاحظ: أن هذه القاعدة الأخيرة هي علامة بالفعل علي نقطة التحول من الشكلي إلي الجوهري (أو المادى) بسبب الاستعانة بأفكار الحاجة أو المصلحة: ( ) يدرج هنا شيء مثل التأويل في المناقشة إذ اعتمدت الحاجات أو المصالح علي الفهم أو التقويم، أو إن (إذا كان عليها أن تفهم أو تقبل) اجتازت الاختبار الأولى لتقويم مشترك من جماعة أو جماعات من أحجام مختلفة. ( ) بالقدر الذي تكون فيه هنا مباشرة في نطاق الاتصالية، فإن الحاجات والمصالح تدخل في أي مناقشة تحكمها قاعدة بلغة الفهم المشترك. لا يمكن للمعيارية الشكلية أن تشتغل بدون المعيارية المفترضة التي يمكن من خلالها لأحد المواقف الخصوصية أن يعلن عن نفسه بوصفه قابلا للجدل، أي، بمعنى أنه جدير بالتصديق إذا ما تحدثنا بدقة. يقف هذا المظهر من القابلية للجدال وراء أفكار مثل offenheit (الانفتاح، apertura). أخيراً فإن قراراً قد اتخذ ضمن إطار ما محدد سياقيا يضع شروط المقبولية علي ما يسميه بيريلمان perelman جمهورا عاما. ( ) في الواقع، فإن سلاسل كاملة من الجماهير معنية هنا، لها صلة بالاستقبال بواسطة الحالات السياقية الأخرى، تأثرت هي نفسها بطرق عينية مختلفة بدعوى الصواب (التصحيح). في نهاية هذا التصوير الصريح للقواعد المكونة للخطاب العقلاني العملي بصفة عامة يمكن لنا بالتأكيد أن نرى أنه بسبب طابعها ضد الواقعي، تقدم فكرة وضع نموذجي للخطاب أفقا للصواب لكل خطاب حيث يسعي المشتركون لإقناع كل منهم الآخر بواسطة الحجة. لا يستبق النموذجي فقط وإنما هو قيد العمل بالفعل. ولكن يتعين علينا أن نؤكد أن الشكلي يمكن إدراجه في مجري المناقشة إذا ما تمفصل علي أساس التعبيرات العامة عن المصالح بالفعل، ومن ثم عن الحاجات التي تميزها التأويلات السائدة فيما يتعلق بشرعيتها، وبوصفها تسهم فيما أسميناه عاليه طابعها القابل للجدل. هنا يقدم ألكسى Alexy نفسه (دون أن يسهب) فكرة التأويل. عندما يشير إلي القواعد التي تحكم، تأويل احتياجاتنا واحتياجات الآخرين بوصفها قابلة للتعميم أم لا. " ( ) لا يشكل الاعتراف بذلك تنازلا خطيرا لشكلية النظرية المحضة بقدر ما يصر المرء علي حقيقة أن المناصرين يثيرون من داخل الخطاب الدعوى التي تتعلق بصحة خطابهم. وهكذا فإننا نواجه هنا مسألة ما هو ممكن سياقيا في وضع تاريخي معين. بدون هذا، لا نستطيع حتى أن نتحدث عن قدره لجعل الأشياء إشكالية، مفترضة مسبقا ومطلوبة – من قبل كل نصير في مناقشة. لقد حان الوقت لنصور الخطاب القانوني بوصفه نوعا خاصا من جنس الخطاب العملي بصفة عامة.
ينبغي أن نتذكر أولا تنوع الأماكن التي يجرى فيها الخطاب القانوني، قبل الحديث عن الحدود النوعية التي تقيد مثل هذا الخطاب. الحالة القضائية التي سأتناولها كحالة نموذجية بمحاكمها ومجالسها وقضاتها، هي واحدة فقط من المواضع التي يجري فيها الخطاب القانوني. ما وراء ذلك هناك الحالة التشريعية، التي تنتج القوانين، ومعها نظريي القانون الذين يعبرون عن أنفسهم من خلال ما يسميه القضاة الألمان العقائد القانونية وما يدخل في الإنجليزية تحت عنوان الفقه وفلسفة القانون. ينبغى أن نضيف إلي هذا متبعين في ذلك بيريلمان perelman، الرأي العام وفي النهاية at the limlt الجمهور العام الذي تنتهي إليه نظريات الفقه، والقوانين الصادرة عن الهيئات التشريعية، وأخيرا القرارات التي يصدرها القضاء. من كل هذه الحالات، فإن قرارات المحكمة هي التي تخضع لأكثر القيود صرامة، قيود تفرض بالقوة فجوة بين الخطاب العملي بصفة عامة والخطاب القانوني. إن هذه القيود هي التي أريد أن أتناولها الآن.
تجري المناقشة في المحل الأول، في وضع مؤسسي خاص (المجالس القضائية، والمحاكم). وفي هذا الوضع ليست كل مسألة قابلة للجدال إلا تلك التي تدخل ضمن الإطار المقنن لمحاكمة أو دعوى. وفي المحاكمة نفسها، ليست الأدوار موزعة بشكل متساو (المتهم ليس حاضرا طوعاً، وإنما قد استدعي). أضف إلي ذلك فإن المداولة خاضعة للقواعد الإجرائية التي هي ذاتها مقننة. دعونا نضيف أيضا أن المداولة تجرى في مدى زمني محدد بخلاف الفقه، أو إلي حد معين، مداولات الهيئة التشريعية. وأخيراً فإن المناقشة في الحالة القضائية لا تنتهي باتفاق ولا هي حتى تستهدف ذلك، علي الأقل كمقاربة أولي. يعنى الحكم قرارا ومن ثم فصلا للأطراف، مقيما كما قلت في موضع آخر، مسافة عادلة بينهما ومن ثم فلا ينبغي أن يغيب عن نظرنا الالتزام القانوني الذي يثقل علي القاضي، ليصدر الحكم.
ماذا يحدث للخطاب المعياري ضمن هذه الشروط المقيدة بصفة عامة؟ إن الكسىAlexy وهؤلاء الذين يتبنون ما هو من الملائم أن نسميه النظرية المعيارية the standard theory يؤكدون رابطة القرابة التي تبدأ من دعوى الصواب وهي الدعوى الشائعة لكل خطاب معياري، قبل أن نبدأ بوزن الطابع النوعي للخطاب القانوني. وأطروحتهم أن دعوى الصواب كحجة قانونية لا تختلف بأي طريقة عن تلك التي تميز الخطاب المعياري بصفة عامة. القاعدة العامة ضمنية. نموذجيا فإن الشخص الذي يخسر، الواحد الذي يدان، متضمن في الاعتراف بهذه الدعوى التي يفترض أن يشارك فيها كل الأطراف المعنية. هذا الافتراض الضمني المسبق قد جرى التعبير عنه في بعض النظم القانونية بواسطة الالتزام بتعجيل القرار ولكن حتى إذا لم يعجل القرار علنا فهو علي الأقل مبرر بواسطة الحجج التي وظفت. لهذا السبب لا يستطيع القاضي أن يحكم في قضية ويعلن في نفس الوقت أن الحكم غير عادل. التناقض الإنجازي صارخ مثله في ذلك مثلما يقول أحد ما إن القطة علي الحصير دون أن يعتقد ذلك بالفعل. ( ) تعتمد هذه الأطروحة نفسها علي حجة مضادة a contrario، إذا لم يكن للتدليل القانوني خطاب معياري يستهدف الصواب أفقا له بصفة عامة، فلا يمكن إضفاء معنى علي فكرة المحاجة عقلانيا. وعلي ذلك فإذا كان يتعين إضافة قيود جديدة لنظرية المناقشة المعيارية فلابد أن تتلاءم مع القواعد الشكلية دون أن تضعفها.
بعد أن قيل هذا، فأي مكان هناك للتأويل؟ يبدو لي أن الرجوع من التدليل إلي التأويل يفرض نفسه بدءا من النطاق الذي يصوره ألكسىAlexy بوصفه "تبريرا داخليا" لكي يعارضه بـ"التبرير الخارجي". للتبرير الداخلي صلة بالتماسك المنطقي بين المقدمات والنتيجة. وهكذا يصور التدليل بوصفه نوعا من الاستدلال. في رأيى، لا يمكن للقياس المنطقي أن يختزل ببساطة إلي طريقة مباشرة لتصنيف قضية وإدخالها تحت قاعدة، حيث ينبغي بالأحرى أن يلبي معيار الاعتراف بالطابع الملائم لتطبيق هذه القاعدة علي تلك القضية. ونحن نجد هنا شيئا ما مثل قاعدة ’التوافق‘ التي أشار إليها دوركين. إن تطبيق قاعدة هو في الواقع عملية معقدة حيث يشرط تأويل الوقائع وتأويل القاعدة كل منهما الآخر بشكل متبادل، قبل الانتهاء للصفة التي يقال وفقها إن بعض السلوك الإجرامي المزعوم يدخل تحت هذه القاعدة أو تلك التي يدعي أنه جرى انتهاكها. إذا ما بدأنا تأويل الوقائع، فإننا لا نستطيع أن نغالي في التأكيد علي تعدد الطرق التي يمكن بها أن نعتد بمجموعة من الوقائع المترابطة ، ودعونا نقول تقوم من جديد. يتعين علينا هنا أن نوسع البحث ليشمل كل الحقل العملي الذي يغطيه فيلهلم شابwilhelm schapp في كتابه geschichten verstrickt In ( ). اننا لا ننتهي أبدا من حل خطوط القصة الشخصية لمتهم علي نحو يقيني، بل إننا حتى نقرأها بطريقة موجهة سلفا وذلك بافتراض أن مثل هذا الارتباط الداخلي يُدخل القضية تحت قاعدة ما. أن تقول إن أ هي حالة من ب معناه أنك تقرر أن القياس القانوني ينطبق عليها. هذا القياس المنطقي قانوني وليس عمليا فحسب لأن قاعدة التصنيف subsumption موضع البحث هي ذاتها مشكلة. هل يكفي القول كما يفعل أنصار نظرية الحجة، بإنه من الضروري أن نضيف بعض القواعد التكميلية؟ يكتب ألكسيAlexy هنا: "حينما يكون هناك شك ما إذا كانت أ هي ت أو م فلابد من وضع نظرية لحل المسألة". ( ) إن حجته مؤسسة علي قاعدة التعميم. إذا لم تكن هناك بعض الوسائل للتيقن من أن أ، مثل ب، مثل جـ هي حالة من د، فإننا سننتهك قاعدة التعميم. ومن ثم فيتعين أن ننطلق تدريجياً فنفكك الأشياء حتى نجد استعمالا لتعابير القانون لا يدع تطبيقها علي حالة معينة موضعا للجدل.
ولكن هل يمكن تلبية هذا الشرط الشكلي برمته ؟ هل يمكن لقاعدة التصنيف حتى فى وضع التفكيك المتدرج، أن توجد بدون تأويل موحد للقاعدة والوقائع من خلال تكيفهما المتبادل الواحد مع الآخر ؟ سوف أقول من جانبي إن التأويل قد غدا أداة organon الاستدلال. إن وضعنا ذلك في مصطلحات كانطية نقول: التأويل هو الطريق الذي يتبعه الخيال المنتج في عملية الحكم التأملى/ الانعكاسي. السؤال الذي يطرحه هذا هو كما يلي: تحت أي قاعدة يتعين وضع قضية محددة؟ يقدم، التعميم إذن مراجعة لعملية التكيف المتبادل بين القاعدة المؤولة والواقعة المؤولة. بهذا المعنى، ليس التأويل خارجيا بالنسبة للتدليل. إنه يشكل أداته organon. حتى فكرة القضايا المتشابهة تقوم علي تأويل للتماثل: لذلك يتعين علينا دائما أن نؤول في ذات الوقت القاعدة بوصفها تغطي حالة والحالة بوصفها مغطاة إذا كان علي القياس المنطقي أن يعمل، وهو لا يختلف عندئذ بأي حال عن القياس العملي. ( ) وأخلص من ذلك إلي أن التأويل مندمج في التبرير بدء من المستوي الذي يسميه ألكسى التبرير الداخلي، حيث التماسك المنطقي للاستدلال وحده هو موضوع البحث.
أيا ما كان الأمر حول دور التأويل علي النطاق الأشد شكلية للاستدلال القانوني، فإنه علي المستوى الذي يسمه ألكسى التبرير الخارجى، أي، تبرير المقدمات، فإن تداخل التدليل والتأويل يبدو مما يصعب المنازعة فيه.
دعونا نتذكر أولا أن الحد الأساسي الأول الذي يلقاه التدليل القانوني له صلة مع حقيقة أن القاضي ليس مشرعا، وأنه يطبق القانون أي أنه يدمج في حججة القانون النافذ. هنا نعيد اكتشاف الطابع الغامض للغة القانونية، التنازع المحتمل بين القواعد، الصمت المؤقت للقانون عن "القضايا الصعبة ". عند دوركين فرصة وغالبا ضرورة الاختيار بين روح القانون وحرفه. إننا لا نتعرف عند تطبيق القانون علي القواعد بوصفها مقيدة فقط، ولكننا نختبر أيضا تغيرها، حيث يكون التفاعل Interplay بين التأويل المزدوج للقانون والوقائع الموصوف أعلاه أشد وضوحا. ( )
علينا أن نضع في المرتبة الثانية مخاطر وتجارب التحقق التجريبى الدقيق. لدينا هنا الفرصة لأن نتذكر أن تأويلا ما يمكن أن نعده واقعة، وواقعة ذات علاقة ضمن دائرة تحقيق القضية موضع السؤال له صلة بنفس الدرجة مع التبرير الذي قيل إنه داخلي وذاك الذي قيل إنه خارجي. إن الوقائع في ’القضية‘ وليس فقط تقويمها وإنما وصفها الدقيق هي موضوع جدالات قانونية عديدة حيث يتطابق مرة أخرى / تأويل القاعدة وتأويل الوقائع. هنا أيضا من المشروع أن نشير إلي دوركين حينما يكرر بشكل تأكيدي أن الوقائع في قضية ليست وقائع فظة ولكنها مشحونة بالمعني أو علي ذلك تؤول.
يمكن لنا أن نضع في المحل الثالث، ولا زلنا في نطاق تبرير المقدمات المنطقية للجوء والاستعارة من النظرية القانونية، ما يسمه ألكسى بالمعتقدات القانونيةlegal dogmatics هنا يوجد تشابه مع التمييز الذي أدخله دوركين بين القاعدة والمبدأ. لقد لاحظنا مع دوركين كيف يختلف اللجوء إلي المبادئ عن اللجوء إلي القواعد. القاعدة تقيد أما المبادئ "تستميل" إنها "ترجيح" إلي هذا الحد أوذاك في صالح فكرة ما.
يمكن لنا في هذه المرحلة أن نفهم اللجوء إلي ما أسمى منذ كتاب نظام القانون الرومانى المعاصر ( 1840 ) الذي ألفه ف. س. سافينى. "قوانين التأويل" من المؤكد أننا نستطيع أن نعطيها صيغة شكلية بالقول إنها تتألف من تأويل القاعدة (ق) بمفهوم ترجيح (ت). يمكن أن يختزل هذا التأويل إلي حجة دلالية بسيطة ولكن يمكن له أيضا أن يطلق حجة أصلية تاريخية إذا ما توسلنا قصد المشرع في صلته بالتمييز بين روح وحرف القانون. هنا أيضا يتقاطع ألكسى مع دوركين دون أن يدرك ذلك. ما من شىء أكثر قابلية للتحدى من توسل قصد المشرع. هل أرادنا المشرع أن نؤول ق بمفهوم ت ؟ هل استهدف غاية ما وراء القاعدة ق ؟ بهذه الطريقة إذا ما أشرنا إلي سبب من بين أسباب أخرى فإن حجة تحقيق نية المشرع ينبغى أن ترجح. علي أية حال إذا كان يمكن (لقصد المشرع) أن يعرف فإن مثل هذا القصد ذاته ليس أحادى المعنى. وفي هذا الصدد فإن الحجج الاصولية " أو الحجج عن الأصول كما يقول دوركين يجب أن توضع تحت نفس العنوانrubric مثل الحجج المقارنة أو التاريخية. في النهاية فإن اللجوء إلي النظرية وإلي ما يسمى بالحجج النسقية لا يبتعد بنا عن الهرمنيوطيقا وانما بالأحرى يعود بنا بطريقة غريبة نحوها بسبب الجوانب الكثيرة لتعددية المعنى ( ) .
في التحليل الأخير فلابد أن ينسب حاصل معين للحجة السالفة بمعنى من المعاني فليس له صلة بالتبرير الخارجي بقدر ما هو سابقة إذا ما اعترف به بوصفه قضية مشابهة تبرز معياراً ليس سوى القدرة علي التعميم (معاملة القضايا المتشابهة بشكل مشابه) علي أية حال فإن التعرف علي الشبه هو الذي يطرح المشكلة. أن نقول إن أحد الحلول يمثل سابقة،
أن نقوم بخيار ما في خزانة Thesaurus القرارات القانونية ونرى وفق أي جانب تتشابه قضيتان؟
لقد عدنا إلى "الترجيح" الخاص للتشابهات والاختلافات. وإذا جري التوصل إلى اتفاق بشأن هذه، يظل السؤال: أية تشابهات وأية اختلافات لها صلة بالقضية موضع النظر؟ يمكن لنا بالطبع، أن نتبنى كقاعدة توقعات من التدليل أكثر من تلك الحالة التي يجرى فيها تحدى سابقة Precedent وتلتمس استثناء. أشار بيرلمان في هذا الصدد لنوع من مبدأ العطالة الذي ينطبق على اللجوء إلى سابقة في ضوء مبدأ عطالة الأحكام المؤسسة، فلا بد أن تكون هناك أسباب جيدة للانحراف عن الطرق المكتسبة لتأويل الأشياء. تضمن السابقة `precedent استقرار وأمان وثقة القرار. هنا رغم ذلك يلاحظ الشكليون أن اللجوء لهذا التبرير السوسيولوجي المغالى فيه إلى السابقة لا يحل مشكلة البنية البرهانية للجوء إلى السابقة. وهم مصيبون. ولكنها هذه البنية البرهانية تحديدا هي التي تطلق التأويل. تحتكم السابقة إلى التشابه، الذي لم يعط أو يخترع، وإنما أنشئ في معجم دوركين، فهي حالة تأويل إنشائي Constructive Interpretation بغض النظر عما إذا جادلنا في صالح أو ضد فإننا نفترض أننا قد اختبرنا في الخيال فرضية التشابه أو الاختلاف.
أخيرا، فلا شك أننا يجب أن نعين مكانا للقضايا التي لا تحل كما يوصى بذلك أتينزا Atienza واضعين في اعتبارنا الحالة الراهنة للقانون. مما لا شك فيه أن دوركين يغالي مغالاة شديدة في تأكيد أن هناك دائما إجابة صائبة للسؤال الذي تطرحه القضايا الصعبة، لكي يمنع اللجؤء الانتهاكي للسلطة التقديرية في مفهوم وضعي للقانون. القضايا التراجيدية التي يناقشها أتينزا Atienza طوعا على إثر ذلك تتطلب حسا بالعدالة أو الإنصاف الذي يصعب إعطاؤه صفه رسمية أو قد نقول، بإحساس مطابقة للحق أكثر من العدالة.
في خاتمة هذه المناقشة ربما يوافق قارئي على أن تداخل التدليل والتأويل فى النطاق القانوني يتماثل بالفعل مع ذلك الذي يقوم بين التفسير والفهم فى نطاق علوم الخطاب والنص. مقابل مقاربة لهذا الاستقطاب المعروف بمفهوم ثنائية محضة، فقد استخلصت في مكان آخر برهاني لمعالجتها الجدلية بصيغة قول مأثور: أن تفسر أكثر حتى تفهم أفضل. في ختام مناقشتي للجدال حول التأويل والتدليل، أود أن أقترح صيغة مشابهة. سوف تستعيد الوحدة المعقدة لإبستمولوجيا الجدل القانوني. توجد النقطة التي يتطابق فيها التأويل والتدليل حيث تتقاطع طريقة دوركين الارتدادية والصاعدة وطريقة ألكسي وأتينزا المتعاقبة والهابطة. يجد الأول نقطة انطلاقه في السؤال العسير الذي تطرحه القضايا الصعبة ومن هناك ينهض نحو الأفق السياسي – الأخلاقي لـ"المشروع القانوني" منظورا إليه بمفهوم تكشفه التاريخي. وينطلق الأخير من نظرية عامة للتدليل صالحة لكل شكل من أشكال المناقشة العملية المعيارية ويواجه الحجة القانونية كفرع تابع من فروع المعرفة. تصل الطريقة الأولى مفترق الطرق العام في اللحظة التي تواجه فيها النظرية السؤال الذي يطرحه النموذج السردي لمعايير التماسك مطبقة على الحكم في الشئون القانونية، وتصل إليه الثانية عندما تجد لكي تفسر خصوصية التدليل القانوني، إجراءات التأويل مرة أخرى علاقتها بوصفها أداة organon القياس القانوني حيث توضع بفضلها القضية تحت قاعدة. لقد ذهبت بعيدا لحد المخاطرة باقتراح تناظر آخر إضافة إلى الجدل بين التفسير والفهم، أي المتعلق بالحكم التأملي، بالمعني الموجود عند كانط في نقد ملكة الحكمjudgment Critique of ، يغدو التأويل الطريقة التي يتبعها الخيال المنتج إذ لم تعد المشكلة هي تطبيق قاعدة معروفة على قضية موصوفة جيدا على سبيل الافتراض، كما هو حال الحكم التحديدي، ولكن ’إيجاد‘ قاعدة يكون من الملاءم أن توضع تحتها واقعة هي نفسها يتعين أن تؤول. عندئذ تصبح مسألة إظهار أننا لا نغير فعلا الإشكاليات عندما نعبر من التناظر الزوج (يؤول/ يدلل والزوج يفهم/ يفسر إلى التناظر مع الحكم التأملي/ الانعكاسى. سوف يكون هذا موضوع مناقشة أخرى يمكن أن يوجد صداها في مقال آخر في هذه المجموعة.( )


* The Just, Paul Ricoeur pp 109-126, translated by David Pellauer, the university of Chicago Press, 2000.
(1) رونالد دوركين مسألة مبدأ ( كامبريدج، مطبعة جامعة هارفارد، 1985 ).
( 2) (Robert Alexy , Theorie Des juritischen Argumentation (FrankFurt suhrkdmp1978
وقد ترجم إلي الانجليزية بعنوان نظرية التدليل القانونى ( أوكسفورد،مطبعة كلارندون، 1989 )
(3) Manuel Atienza las razones del derecho: Teorias de la argumentacion juridcd ( Madrid: centro de Estudios(3) constitucioales 1989)
( 4) رونالد دوركين / النظر إلي الحقوق بجدية ( كامبريدج، مطبعة جامعة هارفارد، 1977.
(5 ) رونالد دوركين، فلسفة القانون ( نيويورك، مطبعة جامعة أكسفورد، 1997 ).
( 6) ستيفن إدلستون تولمان، استعمالات الحجج. (كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج، 1969
( 7) إختار المترجم الإنجليزي كلمة " تبرير " أما الأسباني فتحدث عن Fundmentacion
( 8) دعنى أقول شيئا عن المعجم هنا. في الألمانية خاصة عند هابرماز ومدرسته تدل Diskurs علي الخطاب بشكل عام، أي ربط الحجج معا. نجد في الترجمة الإنجليزية discourse في الأسبانية discurso وفي الفرنسية فإن مصطلح.discours يتخذ معنى المناقشة المؤسسة علي الحجج لذلك يمكن لنا أن نتحدث عن أخلاق الخطاب أو المناقشة.
( 9) نجد هنا موقفا يمكن مقارنته بذلك الذي يوجد عند جون راولس في كتابه نظرية العدالة إذا ما كانت المسألة تخص توزيع، ’السلع الاجتماعية الأساسية‘.
( 10) نجد هنا ما يكافئ الفكرة الكانطية عن المبدأ الأساسي maxim التي تتوافق مع حقيقة أن الرغبة التجريبية قد اتخذت مظهر عمومية معينة، دعونا نقول لخطة عمل، وحتى لخطة حياة،إذا كانت قادرة
علي أن تخضع نفسها لمعايير التعميم.
( 11) شايم بيريلمان المعقول وغير المعقول في القانون ( يروكسل: مطبوعات جامعة بروكسل، 1984 ) رسالة حول التدليل. البلاغة الجديدة (1988 )، الأخلاق والقانون (1990 )
( 12) ألكسى، نظرية في التدليل القانوني، 113.
( 13) يخطر في ذهني واحد من التطبيقات المباشرة هنا. علي النطاق العقابي، ما من مشروع تعليمي، ولا اهتمام باعادة تأهيل المحكوم عليهم اجتماعيا سوف يكون مبررا، وربما لا شيء يمكن أن يكون مؤثرا إذا لم يعامل الشخص المحكوم عليه ككائن عقلاني جدير بالحد الأدنى من فهم الحجج المناقضة لسلوكه الإجرامي.
(14) wilhelm schapp, In Geshichten verstrickt ( wiesbaden: B. heymann , 1976 , vittorio kostermann 1983 ) Empêtré dans histoires , trans.jeanGreisch (parts: cerf , 1992 ).

( 15) ألكسى، نظرية التدليل القانوني، 226.
( 16) مؤلفون مثل إنجيش Engish ولارنز Larnez اقتبسه ألكسي (نفس المصدر، 228، هـ44) يؤكد دور ’الكشف‘ في عملية التبرير ويتكلم في هذا الصدد عن هرمنيوطيقا قانونية. يضع ألكسي لحظة الكشف هذه إلى جانب وصف سيكولوجي للمحاكمة يفصلها عن التأويل. ولكن اليست أولى سمات للتدليل القانوني هي ألا يفصل الكشف عن التبرير؟
( 17) يمكن لنا، بالطبع، أن نعزل ما يسميه بعض المؤلفين " الحجج القانونية الخاصة" مثل القياس، وحجة الضد contrario a ومن باب أولي fortiori ومنافاة العقل وما إلي ذلك. ولكن إذا كانت هذه تشتغل علي الحدود بين الشكلي والواقعي فليس هناك من شيء نوعي عنها فيما يتعلق بالقانون نحن نجدها أيضا في مجالات أخري للخطاب. وحتى كذلك، فإن الكسى ومؤلفون آخرون يعيدون صياغتها بمفهوم إطار استدلال منطقي. في هذا الصدد، ما يحدث للقياس نموذجي بصفة خاصة: إنه يعتمد علي مبدا القابلية للتعميم وهو المكون للخطاب القانوني والعملي العام ( نفس النص، 283
( 18) انظر: المصدر نفسه، ص ص 274 – 79
( 19) أنظر. الفصل السابق " الحكم الجمالي والحكم السياسي عند حنا أرندت Hannah arendt. هناك أقترح أن النظرية الكانطية عن الحكم التأملي التي صورت في النقد الثالث بواسطة تحليل حكم ملكة الذوق وتلك التي تخص الحكم الغائي يمكن أن تحظى بتطبيقات أخرى غير تلك التي اقترحها كانط، باتباع الطريق الذي فتحته أرندت Arendt في مؤلفها الذي لم ينته عن الحكم. قد تشكل إبستمولوجيا الجدل القانوني واحداً من تلك الامتدادات الأخرى ما وراء إطار كانط ذاته، وبجانبه، على سبيل المثال الحكم التاريخي، والحكم الطبي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق مستقل: إسرائيل لم تقدم إلى الآن أدلة على انتماء موظفين


.. البرلمان البريطاني يقر قانونا مثيرا للجدل يتيح ترحيل المهاجر




.. كاريس بشار: العنصرية ضد السوريين في لبنان موجودة لدى البعض..


.. مشاهد لاعتقال العشرات من اعتصام تضامني مع غزة بجامعة نيويورك




.. قانون ترحيل طالبي اللجوء من بريطانيا لرواندا ينتظر مصادقة ال