الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إدوارد سعيد..الكتابة لديمومة الذكرى ومواجهة الفناء...مفكر يحلم بتجسير المسافة بين الزمان والمكان

شكيب كاظم

2017 / 4 / 12
سيرة ذاتية


بعد صراع طويل ضد المرض امتد اكثر من اثني عشر عاما، غادر المفكر العربي الفلسطيني الكبير ادوارد سعيد، الحياة في احد مشافي مدينة نيويورك، يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر ايلول، سبتمبر/2003 بعد اصابة بنكرياسه بالسرطان، وهو الذي كان يعاني مرض سرطان الدم (اللوكيميا) منذ عام 1991 الشخصية البارزة في دنيا الفكر والثقافة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والمدافع الصلب عن القضية الفلسطينية، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1978 على الرغم من عدم انتمائه الى منظمة التحرير الفلسطينية، والمنتقد لبعض تصرفات القيادة الفلسطينية، وخاصة اتفاقات اوسلو التي ابرمها السيد محمود عباس (ابو مازن) بسرية مطلقة مع الجانب الصهيوني، من خلال مؤلفه (المسألة الفلسطينية) ومؤلف العديد من الكتب الثقافية والفكرية العميقة، والمثيرة للجدل والنقاش وخاصة كتابه الرصين والعميق (الاستشراق: المعرفة. السلطة. الانشاء) الذي قام بنقله الى العربية الناقد الدكتور كمال ابو ديب، الذي ناقش فيه سعيد طروحات العديد من المستشرقين، المناوئين للاسلام والعرب والشرق عامة، والحاطين من شأنه، مقارنة بالغرب، الامر الذي يدفع لطرح فكرة مفادها لماذا تاخر الشرقيون عن دراسة الاخر، الغرب، ولم يظهر حتى الان ما يمكن ان نطلق عليه الاستغراب في مواجهة الاستشراق، بمعنى الغرب منظورا اليه من الاخر، الشرقي، ولماذا بقينا نقتات على افكار الاخر، الغربي ناظرا الى الشرق من منظاره الخاص القاتم غالبا تجاه كل ما انتجه العرب خاصة وما جاء به الاسلام من مبادئ وافكار، اما آن لنا ان نطلق (الاستغراب) دراسة الغرب من وجهة نظر الشرقي، الذي تاخرنا فيه عن الغرب قرونا عدة؟!!

ولعل البداية اذنت بالانطلاق من خلال الندوة الدولية التي عقدتها الجمعية العربية بشأن (صورة الاخر) المنعقدة في مدينة الحمامات التونسية عام 1993? حيث شارك فيها باحثون ومفكرون عرب ومن بلدان غربية – يراجع كتاب (صورة الاخر. العربي ناظرا ومنظورا اليه) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، واشرفت عليه الجمعية العربية لعلم الاجتماع. الطبعة الاولى، اب/اغسطس1999? وما دمنا قد ذكرنا كتاب (الاستشراق. المعرفة. السلطة. الانشاء) للمفكر ادوارد سعيد فأود ان اقف عند لغة الترجمة التي جاء بها الدكتور كمال ابو ديب، فهو يقترح ترجمة لعديد المصطلحات والمفردات التي جاءت في ثنيات الكتاب، لكني وجدت كثيرا من اللغة المقترحة من ما لا يأتلف مع سنن العرب في كلامها بل يختلف معها اختلافا كبيرا خاصة ونحن نعد اللغة العربية والحفاظ عليها، مهمة قومية اصيلة ونبيلة ونرتفع بها الى درجة القداسة والاحترام التام، وان اغراق اللغة بطوفان من المصطلحات التي جاء بعضها من الترجمات غير الدقيقة للفكر البنيوي النقدي والفلسفي واللغوي – الذي استعاض عنه التراجمة المحدثون باللساني واللسانيات والالسنية!! – الذي تولاه النقاد والتراجمة المغاربة الذين لا يحذقون – غالبا – لغة الاصل لتأثرهم بلغات اوربا عامة، والفرنسية خاصة، فأغرقونا بطوفان من المصطلحات النقدية، ولعل من المفارقات المؤسية ان اقرأ في نهاية كتاب (في اصول الخطاب النقدي الجديد) الصادر في ضمن سلسلة المئة كتاب الذي احتوى على مجموعة من الدراسات النقدية لعدد من النقاد: تزفتان تودوروف، رولان بارت، امبرتو ايكو، مارك انجينو، الذي قام بترجمته الكاتب المغربي الدكتور احمد المديني، ان اقرأ جدولا بالمصطلحات النقدية الواردة فيه ومحاولة تقريب المصطلح من افهام القراء او تفسيره!! وهذا ان دل على شيء، فأنما يدل على شك المترجم في فهم القراء للغة التي جاء بها والمصطلح الذي دونه!!

صور المثقف

كما كتب ادوارد سعيد مؤلفه (صورة المثقف) الذي يمثل محاضراته الفكرية العميقة التي كلفته هيئة الاذاعة البريطانية بالقائها عام 1993 والمعروفة باسم محاضرات (ريث) التي اسهم اساطين الفكر والثقافة في العالم امثال برتراندرسل الذي بدأ سلسلة المحاضرات عام 1948 والمؤرخ البريطاني الشهر آرنولد توينبي عام 1950 فضلا على ابي القنبلة الذرية روبرت اوبنهايمر وجون كينيث كالبريث وجون سيرل، اذ تكلف الهيئة سنويا باحثا شاخصا بالقاء احدى عشرة محاضرة خلال السنة تتناول مختلف نواحي الفكر والادب والثقافة في العالم وقام بترجمة هذه المحاضرات الاستاذ غسان غصن وقامت (دار النهار) البيروتية بنشر الطبعة الاولى من هذا الكتاب الفكري الممتع عام 1996 الذي يمثل سياحة جميلة في نواحي ثقافية وفكرية شاملة يجدر بكل مثقف وباحث قراءته ومدارسته، والوقوف عند الطروحات الفكرية الغنية للمفكر الشاهق ادوارد سعيد، من ذلك وقوفه طويلا لمناقشة مفهوم المثقف، عارضا لآراء المفكر الايطالي انطونيو غرامشي في المثقف العضوي معرجا على اراء جوليان بندا الذي يرى المثقفين عصبة ضئيلة من الملوك والفلاسفة من ذوي المواهب الفائقة والاخلاق الرفيعة الذين يمثلون ضمير البشرية. واقفا عند رأي الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي يقول ان المثقف العالمي، قد اخلى مكانه للمثقف المتخصص، مناقشا اراء عالم الاجتماع الامريكي. سي. رايت ميلز، الذي يرى ان المثقفين او المفكرين المستقلين، قد يواجهون لونا من الاحساس المؤسف بالعجز، بسبب وضعهم الهامشي وقد يواجهون خيار الانضمام الى صفوف المؤسسات او الشركات او الحكومات التي تصادر الى حد بعيد حرياتهم في الكتابة والتعبير عن ارائهم ويصبح جزءا من المؤسسة الرسمية وبذلك يتلاشى مفهوم المثقف المستقل.

خارج المكان

ودرجا على عادة الكتاب في تدوين سيرهم الذاتية، وترجمة حيواتهم وتقديمها للقراء، فلقد كتب ادوارد سعيد سيرته الذاتية التي اسماها (خارج المكان) –OUT OF PLACE- الذي اهداه الى الدكتور كانتي راي، وهو طبيبه المعالج من سرطان الدم والى مريم قرطاس سعيد، زوجته وصدرت طبعته الاولى عن دار الاداب اللبنانية عام 2000 بترجمة فواز طرابلسي ودار الاداب العتيدة سباقة في تقديم كل جديد ورصين ويقع في ثلاث مئة وتسع وخمسين صفحة، وعنوان الكتاب (خارج المكان) يمثل موقفا طِباقيا مغايرا، وانا هنا استعير من البلاغة مصطلح الطِباق، مغايرا لكل الحياة التي عاشها “ادوارد سعيد” التي كان يريدها داخل المكان والزمان داخل الارض التي عانق الحياة على اديمها،، وسمعت صرخاته الباكية الاولى.لم تكن الكتابة السيرية الذاتية ترفا كما لدى بعضهم، انها محاولة لابقاء شيء من الذكرى في ذهن القارئ فادوارد لم يكتف بهذه الدراسات كي تبقى خالدة حية في ضمائر الدارسين والباحثين بل حاول تقديم بعض صور حياته، خاصة بعد ان اخبره الطبيب المعالج بحقيقة المرض الخبيث الذي استوطن جسده النحيل، يقول “هذا الكتاب هو سجل لعالم مفقود او منسي منذ سنوات عدة تلقيت تشخيصا طبيا بدا مبرما،فشعرت باهمية ان اخلف سيرة ذاتية عن حياتي في العالم العربي، حيث ولدت وامضيت سنواتي التكوينية، كما في الولايات المتحدة حيث ارتدت المدرسة والكلية والجامعة والعديد من الامكنة والاشخاص التي استذكرها هنا لم تعد موجودة، على الرغم من اني اندهش باستمرار لاكتشافي الى اي مدى استبطنها، وغالبا بأدق تفاصيلها، بل بتشخيصاتها المروعة). ص19 من الكتاب

لقد ظل يعيش هاجس العودة الى الوطن، والعيش فيه، وها هي سنواته التكوينية تلح عليه لتسجيل صورها وذكرياتها، والالتحام بالمكان والزمان الفلسطينيين، ولقد دفع كتابه هذا ببعضهم، لمحاولة النيل منه ومحاولة نزع هويته العربية الفلسطينية، اذ واجه الكتاب حتى قبل صدوره هجوما مذهلافي مجلة (كومنتري) الشهرية الامريكية اليهودية اليمنية المتطرفة، تولاه محام امريكي اسرائيلي مغمور – كما يقول سعيد في مقدمته العربية – انه امضى ثلاث سنوات بكاملها، ينقب في حياتي المبكرة مجريا مقابلات مع عشرات الاشخاص … وقد مول دراسته (نصاب) عالمي امريكي يهودي معروف، امضى وقتا في السجن، لتعاطيه الاجرامي بما سمي “سندات خزينة مزورة” ص10 من الكتاب لقد حاول هذا الشخص البرهنة على ان ادوارد: لم يدرس في كلية سان جورج بمدينة القدس العربية، ولم يغادر الارض الفلسطينية مع من غادرها بعد النزوح الفلسطيني الواسع عام 1948 وانه لهذا السبب، عاش مدة دراسته وشبابه في مصر، ودرس في كلية الملكة فكتوريا في مدينة الاسكندرية وتخرج فيها.

حقيقة اصول ادوارد سعيد

يبدو ان هذا المحامي الامريكي الممول الذي اعلن انه امضى ثلاثة اعوام في محاولة تقصي المعلومات عن طفولته، قد اراد من خلال مشاكسته لفت الانظار اليه، والدخول الى عوالم الاضواء والشهرة مع ان كل الدلائل تشير، الى لا بل تؤكد، ان سعيدا ولد في مدينة القدس، لاب متمكن ماديا ومعروف في اوساط المدينة واسمه وديع سعيد، وكذلك ولدت اخواته روزي وجين وجويس وغراي، وانه عُمِّدَ في الكنيسة الانجليكانية في القدس، وانه درس في مدارسها، ودرج فيها وواصل الدراسة في كلية القديس جورج، اذ يقول: كنت امضي كل صباح الى مدرسة القديس جورج، معظم الاحيان برفقة ابني عمي التوأمين – الصحيح التوأم – روبرت والبرت وكأن القيادة معقودة اللواء لالبرت فهو رئيس الفريق الرياضي، والنجم اللامع، في المدرسة يسبق توأمه روبرت بصف واحد.. ص146 حتى اذا ما اغلقت بعد قيام الكيان الصهيوني في الخامس عشر من ايار (مايو) 1948 غادرت الاسرة مدينة القدس تباعا نحو الشتات الذي عاش فيه الفلسطيني واستقربه المقام في القاهرة ثم الدراسة في كلية الملكة فكتوريا بالاسكندرية.

يقول: “يغمرني الان ادراك لهول التفكك الذي عانته عائلتنا واصدقاؤنا (…) وحين كنت صبيا في الثالثة عشرة والنصف في القاهرة، غالبا ما كنت الاحظ امارات الحزن والحرمان على وجوه وفي حيوات اناس عرفتهم سابقا” ص153

على الرغم من كل هذا المجد الباهر، الذي حازه المفكر ادوارد سعيد والشهرة المدوية التي يطمح كثيرون الى نيل عشر معشارها، فهو المؤلف لعديد الكتب الفكرية المثيرة للجدل والنقاش والاستاذ في العديد من جامعات امريكا، هارفارد وبرنستون اللتين كان فيهما طالبا، وكان آخر ما شغله، استاذ الادب المقارن في جامعة كولومبيا الامريكية، لكن ظلت احدى عينيه شاخصة نحو ارض الاباء والاجداد، الارض التي شهدت خطوات طفولته الاولى، لذا جاءت مذكراته ربطا بين الماضي والحاضر، الزمان والمكان، يقول: “ان الدافع الرئيس لكتابة هذه المذكرات، هو حاجتي الى ان اجسّر المسافة في الزمان والمكان، بين حياتي اليوم، وحياتي بالامس، ارغب فقط تسجيل ذلك بما هو واقع بديهي، من دون ان اعالجه او اناقشه” ص22. انها محاولة لتقويم صورة حياته كما هي من دون رتوش او اضافات، ومن دون تدخل منه في لي عنق الاحداث وتراكماتها الزمانية والمكانية.

الثقافة والامبريالية

لقد كانت المقدمة التي كتبها الاستاذ كمال ابو ديب للطبعة العربية الاولى لكتاب culture and imperialism التي صدرت عن دار الاداب البيروتية عام 1997 وصدرت الثانية في العام التالي واهداه الى اقبال واحمد التي تقع في اربع مئة واحدى عشرة صفحة، كتابا في الكتاب، او دراسة للكتاب شاملة، جاءت الى اهم الطروحات الفكرية الواردة فيه، ومناقشتها، وطروحات ادوارد سعيد المنبثة في عديد كتبه، كلها طروحات جديدة في عوالم الفكر والثقافة والادب، ولعل نظريته في نشأة الرواية لتعد فتحا جديدا في النظريات التي تتناول هذا الفن السردي الجميل، فهو يرى ان نشأة الرواية عالميا، وارتفاع شأنها قد جاء مصاقبا وملازما لنشأة الدول الاستعمارية وعلو شأنها، وما رافق ذلك من حركات التوسع الاستيطاني والاستعماري كما ان دراسته الرائدة لفن الاديب الفرنسي المولود بالجزائر البير كامي، والتوصلات التي افصح عنها وابان لتعد وثيقة مهمة لتوصلات هذا العقل المبتكر الجوال والمقدم لكل جديد ورائع من الافكار والاراء فهو يقف موقفا طباقيا مضادا، لكل الاراء التي حاولت تبجيل هذا الروائي واضفاء صفات ايجابية عليه، ليست فيه ومنه بأي حال، فاظهره على حقيقته داعية من دعاة الاستعمار الاستيطاني لارض الجزائر.ان البير كامي وببساطة متناهية وبرودة اعصاب ينكر كل تاريخ الشعب الجزائري، الذي سبق بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 ولا ادل على ذلك من قول كامي: “في ما يتعلق بالجزائر فأن الاستقلال القومي، صيغة من العاطفة المشبوبة الخالصة، لم تكن هناك امة جزائرية ابدا وان من حق اليهود والاتراك واليونانيين والايطاليين والبربر ان يدعوا، لانفسهم حق قيادة هذه الامة الكامنة في الواقع، لا يشكل العرب وحدهم الجزائر كلها (..) وان جزائر عربية محضا تعجز عن تحقيق ذلك الاستقلال الاقتصادي، الذي لا يعدو الاستقلال السياسي من دونه ان يكون وهما..” ص15

ان ادوارد سعيد يقدم للقارئ تشريحا جديدا لأدب البير كامي، المقتول في حادث سيارة يوم الاحد 3/1/1960 الذي كان يخفي وجهه الصريح خلف براقع معاداة الاستعمار من خلال تأييده لبعض مبادرات الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر بشأن حق تقرير المصير للشعب الجزائري، وما كان كامي في حقيقة الامر الا داعية من دعاته.

في رواية (الغريب) لالبير كامي يُقُتَلُ شخصٌ عربي جزائري على يد (ميرسو) وهذا القتيل لايسميه كامي وهو في اكثر اعماله الروائية والقصصية لا يطلق اسماء على شخوصه من العرب، اهذا محض مصادفة؟ ام انه محاولة لتغييب الغير على وجه ادق، وهناك فرق في المعنى بين الغير والاخر وطمس هويته؟

إنه لا يحبهم الى الحد الذي يأنف فيه ان يسميهم باسمائهم. في رواية (الغريب) يتشاجر (ميرسو) مع احد العرب، كان صديق (ميرسو) الفرنسي على علاقة بشقيقة هذا العربي يتشاجران ثم يذهب كل منهما الى سبيله وينتهي الامر.

بعد وقت قصير، يتلاقى (ميرسو) على شاطئ البحر مع شقيق الفتاة، يستل (ميرسو) مديتَه في محاولة لقتل العربي، واذ يجد هذا نفسه في مواجهة خطر محدق قادم، يستل هو الاخر مديته للدفاع عن النفس، يجد (ميرسو) ان كفة العربي، اصبحت موازية لكفته، مدية مقابل مدية، فيسحب مسدسه ويطلق النار عليه. وعندما يُسأل عن سبب فعلته، يقول:”الشمس كانت هي السبب. لم يستوعب (ميرسو) ان يجد العربي يرفع رأسه، ويدافع عن نفسه لذا اطلق عليه النار، فارداه قتيلا في الحال.وما دمت بصدد الحديث عن ادب البير كامي، فأرى ان اشير الى الدراسة القيمة التي كتبها الاستاذ كاظم سعد الدين والموسومة بـ(شخصية العربي في ادب البير كامو) والتي نشرتها مجلة (الموقف الثقافي) العدد الثامن لسنة 1997 حيث درس مجموعته القصصية (المنفى والملكوت) ففيها اضاءة لاراء البير كامي المبثوثة في قصصه، التي وصم بها عرب الجزائر بكل ما في قاموسه من الفاظ الحقد والكره، لابل انه تطاول على القرآن الكريم، ففي قصته (الزانية) من مجموعته (المنفى والملكوت) تسافر (جانين) وزوجها الى مدينة من مدن الجنوب الجزائري، وينزلان في احد الفنادق، في قاعة الفندق النادل العربي المسن، يقدم اليهما الطعام، في الطعام شرائح من لحم الخنزير، قال (مارسيل) لزوجته (جانين):”انهم لايأكلونه لأن القرآن يحظر اكله، ولكن القرآن لا يعرف ان لحم الخنزير اذا اجيد طهيه لا يسبب مرضا”. واقول اذا لم يُجَدْ طهيه فقد يسبب مرضا لآكليه وهذا هو الذي دفع القرآن لتحريم اكله على المسلمين وثبت ذلك علميا، فلماذا يتهكم مارسيل، وهو الذي يؤكد طهْيُه انه يجب ان يجاد طهيه؟!!ان مؤسسات الدولة كلها، ومرافق الحياة العامة فرنسية وليس للعربي اي شيء منها، وانها وجدت لتقديم خدماتها لهؤلاء، الذين لا يستحقونها كالمدارس والمستشفيات ومراكز الشرطة وغير ذلك!!

الموت نصيبنا

في روايته (الطاعون) – كذلك – هناك الموت دائما من نصيب العربي، ان مثل هذه الادارة للحدث الروائي التي تنتج موتا للعرب ليست مصادفة فرضها فن السرد الروائي بل جاءت مقصودة لغرض الاستهانة بنا والحط من شأننا فقبل قليل كان النادل في قصة (الزانية) عربيا!!

في كتابه (الثقافة والامبريالية) يتناول المفكر ادوارد سعيد مسألة التصادم بين الشرق والغرب او على وجه التحديد بين العرب واوربا من خلال رواية ممتعة كتبها الروائي السوداني الطيب صالح، هي (موسم الهجرة الى الشمال) ان هذه الرواية حَوَتْ تصويرا دقيقا لهذا التصادم ممثلا بانتقام بطل الرواية (مصطفى سعيد) من نسوة انكليزيات عن طريق مضاجعتهن، والانتقام لنفسه واهله، وتركيع كل الجباه الأنِفَة المترفعة، وجعلها تتمرغ في وحل الشبق الايروتيكي، لقد كان (مصطفى سعيد) هذا السوداني القادم من ارض العرب سببا في انتحار ثلاث نساء شغفن به حبا: آن همند، شيلا غرينود، وايزابيلا سيمور، كما انه يقتل زوجته (جين مورس) المترفعة عليه، والتي بذل جهودا للاستحواذ عليها والزواج منها، واستمر يلاحقها اكثر من ثلاث سنوات حتى اذعنت له وتزوجته وكان قبل ذلك قد نال منها في حديقة عامة، وهذا رمز من رموز التصادم، واهانة الاخر والاقتصاص منه، كما اهانه واقتص منه.

يرى ادوارد سعيد ان فعلة الطيب صالح في روايته (موسم الهجرة الى الشمال) مصادرة لشكل روائي غربي استخدمه الغربيون للقيام باكتساح الفضاء الجغرافي للعالم الاخر واستعماره وامتصاصه واستغلاله لتشكيل حركة مضادة تقتحم الفضاء الامبريالي نفسه وتغزوه وتقلب الادوار فيه بلغة جديدة وابطال منتقمين وبنية روائية محولة ومعدلة لكي تخدم اهداف كتاب العالم الثالث ذاتها. وبودي ان اذكر ان هناك العديد من الروايات العربية التي تناولت قضية التصادم بين الامة العربية واوربا منها: (كتاب خالد) لأمين الريحاني، (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، (اديب) لطه حسين، (قلب على سفر) للدكتور يوسف عز الدين، (قنديل ام هاشم) ليحيى حقي، و(الحي اللاتيني) للدكتور سهيل ادريس. ويظل المفكر ادوارد سعيد يرود آفاقا باذخة في عوالم الفكر والثقافة والادب، وهو – بدون ادنى شك – احد عمالقة عصرنا المجلين، غير اني بودي – وبتواضع – ان اقف عند اكثر من نقطة جوهرية اثارها في كتابه (الثقافة والامبريالية) مبديا تحفظا ازاءها، فادوارد سعيد يرى ان كل الثقافات مولدة وهجينة، وليست هناك ثقافة اصيلة، كما انه يفصح عن كره غير مسبب ولا مقبول للهوية، ونعني بالهوية ويعني، انتماءات الانسان الدينية والعرقية والجنسية والاثنية، فهو يرى مفهوم الهوية ساكنا هامدا، وهو الباحث عن الطاقات الكامنة والظاهرة التي تثور في النفس وتحررها يقول: (..ان الفكرة الوحيدة التي لم يكن يمسها التغيير اطلاقا،عبر التبادلات التي بدأت بانتظام قبل اكثر من نصف الف سنة من الزمن بين الاوربيين (وآخريهم) هي ان هناك شيئا جوهرانيا هو (نحن) وشيئا هو (هم) وكل منهما مستقر تماما جلي بين لذاته وشاهد على ذاته (…) نحن لا نزال ورثة هذا الاسلوب الذي يتحدد المرء تبعا له بالامة، الامة التي تستقي هي بدورها سلطتها من تراث يفترض انه مستمر دونما انقطاع..).

اقول: لقد بحث الانسان منذ البدء، بدء الخلق، ومنذ ايام فجر الحضارات وبزوغها عن اليوتوبيا، عن المجتمع الفاضل المتكامل من دون جدوى، فمنذ ان كتب افلاطون جمهوريته، وفيها قسم مجتمعه المثالي الى طبقات، جعل على رأسه الفلاسفة، في حين لم يسمح للشعراء بدخول جمهوريته تلك!! مرورا بمشروع المعلم الثاني ابي نصر الفارابي في (المدينة الفاضلة)، والانسان باحث دائم دائب خائب عن المجتمع الفاضل، وانتهاء بالنظريات الشمولية التي تحتكر احقيتها بالحقيقة التي قدمت هي الاخرى حلولا اثبتت وقائع الحياة طوباويتها وبعدها عن الواقع، لذا سرعان ما تهاوت وانهارت لسبب واضح، هو انها حاولت قتل نوازع الانسان ورغباته ووأدهما، وان هناك الكثير من الاراء التي تحمل صوابها فكرا لكنها لدى التطبيق نجد بعدها عن ارض الواقع، ونجد البون شاسعا بين حساب الحقل وحساب البيدر، كما ان هناك من دعا الى ترك اللغات القومية والاستعاضة عنها بلغة واحدة موحدة، الا وهي لغة (الاسبرانتو) لكن على الرغم من مضي عقود من السنوات لم نجد لهذه الفكرة ظلا او اثرا في واقع الحياة والاشياء، وظلت لغة (اسبرانتو) حبيسة ادراج بعض الجامعات والمكتبات ودماغ ذلك الضابط البولندي الذي ابتكرها، وظلت اللغات القومية، هي السائدة وهي الباقية لا بل ان الكثير من الشعوب ممن ليست لها لغات قومية ظلت تعاني ثلمات نفسية وكذلك الامم التي ليس لها حرف خاص بها، حتى وان بلغت ما بلغته في مراقي التقدم الحضاري والتقني، ولو كان لتلك الامة حرف خاص بها لما ذهبت الى الحرف اللاتيني، يوم تركت الحرف العربي بداية العقد الثالث من القرن العشرين.

ليس قولي هنا نداء للتقوقع والانغلاق، بل انها فطرة الله التي فطر الناس عليها من حب الذات وما تمثله من مقومات الدين والقومية والوطن والعرق.ان امما ضربت في مراقي التقدم، اضحت فيها اللغة هاجسا مؤرقا ولعل من اوضح الادلة اصدار فرنسة عام 1994 قانون حماية اللغة الفرنسية، التي تخوض صراعا خفيا ضد اللغة الانكليزية، حتى انها حظرت انعقاد المؤتمرات التي تتخذ الانكليزية لغة لها، لابل وصل الامر الى افلام الدعاية والاعلام، فحظرت فرنسة مثل هذه البرامج الدعائية التي تنطق بغير الفرنسية، كما انها خصصت الجوائز للفرانكوفونيين، للكاتبين بالفرنسية من غير الفرنسيين، ولعل من اوضح الامثلة جائزة (غونكور) التي فاز بها اكثر من عربي ممن يكتبون بالفرنسية، ففاز بها المغربي الطاهر بن جلون عام 1988 عن روايته (ليلة القدر) والجزائري محمد ديب عام 1994 عن ثلاثيته الروائية (الدار الكبيرة، النول، الحريق) واللبناني امين المعلوف عن روايته (ليو الافريقي) وكذلك تأسيس فرنسا لمنظمة الدول الناطقة بالفرنسية لموازة او منافسة دول الكومنولث البريطاني.ترى هل هي مصادفة ان تقاتل التوتسي والهوتو في بوروندي ورواندا وزائير عام 1994 هل سيتقاتلون لو كانوا يتحدثون لغة مشتركة؟!! ان الدلائل تشير الى ان قتالهم يحمل صفات لغوية، انه قتال لغوي بشكل من الاشكال فالهوتو ينطقون بالفرنسية في حين يتكلم التوتسي الانكليزية!!

لذا فأن كل التمنيات والدعاوت البراكماتية الذرائعية شيء، وواقع الحياة شيء آخر، فما كل ما يتمنى المرء يدركه، وما كل ما يدعو اليه يجد صداه في الواقع العملي، في هذا الكون الضاج بالآراء والافكار ومن عجب ان تصدر مثل هذه الاراء محاولة الغاء الهوية ونزعها، من فلسطيني عانى محاولات التغييب والتذويب من قبل دولة العبرانيين.

ان تكون حَمَلاً وديعا في عالم يضج بالذؤبان الكاسرة ليعد تجذيفا ضد التيار، كما ان كسر العصا التي بين يديك للبرهنة عن حسن نيتك تجاه الاخر والغير المدجج بالسلاح، لتعد غرابة في الاطوار، ان محاولة جعلنا زجاجا في عالم صخري التوجهات والتطلعات سيعرض تطلعاتنا في البقاء والديمومة الى اشد الاخطار، ولِمَ نحاول نزع هويتـ(نا) في وقت تعميق الهوية وحفرها بالازميل والسكين من قبل (الآخر) وان محاولة ترك الـ(انا) والـ(نحن) يجب ان يقترن بترك الاخر لنا(هم) ونحذ (هم) فكما لا تعيش النبتة بلا جذر، كذلك لا تحيا الامم بلا جذور تمدها بنسغ الحياة والنماء ومواجهة عمليات الجفاف والتصحر والتآكل..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت